مقدمة الطبعة الثانية

يُعد هذا الكتاب طبعةً مُنقَّحة ومُحدَّثة بالكامل من كتاب «الانفعال: مقدمة قصيرة جدًّا» الذي نُشر لأول مرة في عام ٢٠٠١ تحت عنوان «الانفعال: علم الشعور». ونظرًا لحدوث تطورات كبيرة في مجال أبحاث الانفعالات منذ ذلك الحين، فقد ضمَّنَّا تلك الطبعة الجديدة بعضًا من هذه التطورات. لكن تظلُّ الخطوط الرئيسية لموضوع الكتاب كما هي دون تغيير.

يدين مجال الدراسة العلمية للانفعالات بالكثير من الفضل إلى فلاسفة عصر التنوير. فقد كتب كلٌّ من ديفيد هيوم وآدم سميث وتوماس ريد بإسهابٍ عن المشاعر والعواطف. وقد اعتقد هؤلاء المُفكرون أن الانفعالات ضرورية لبقاء الفرد والمجتمع. لم يؤسس سميث علم الاقتصاد الذي وُصِف بأنه «العلم الكئيب» فحسب، بل ساهم أيضًا في تأسيس «علم المشاعر» (علم نفس الانفعالات). ففي كتابه الأول «نظرية المشاعر الأخلاقية» المنشور عام ١٧٥٩، ذهب سميث إلى أن الانفعالات هي الخيوط التي تُشكِّل نسيج المجتمع. وعلى غرار هيوم وريد، لم يعتبر سميث الانفعال والتفكير العقلاني عدوَّيْن لدودَيْن. فقد اعتبر هؤلاء المُفكرون أن اختبار العواطف أمرًا عقلانيًّا، وأن أي علمٍ يدرس العقل لا يكتمِل دون أن يبحث أيضًا المشاعر.

لكن الرومانسيين رفضوا هذا الرأي، وأعادوا إحياء تصوُّرٍ أقدَم للانفعالات يعتبرها مُتعارضةً في جوهرها مع المنطق. فقد رأوا أن البشر يتعين عليهم الاختيار بين اتِّباع ما تُمليه عليهم انفعالاتهم وما يُمليه عليهم المنطق، والحكماء من يختارون اتباع قلوبهم بدلًا من عقولهم. ورأوا أن العودة إلى حالة البراءة تقضي أن يُصغي المرء إلى مشاعره بدلًا من استشارة المنطق. من ثَم فإن الشعر وليس العلم هو القادر على الكشف عن تلك الأسرار المخبوءة وراء المشاعر.

وأنا أميلُ بدرجةٍ كبيرة إلى وجهة نظر التنويريين عن الانفعالات. فبخلاف الرومانسيين، لا أعتقد أن الانفعالات تتعارَض في جوهرها مع العقل، ولا أن علينا دائمًا اتِّباع ما تُمليه قلوبنا بدلًا من عقولنا. إنما أتَّفق مع آدم سميث في الاعتقاد بأن الفعل الذكي هو نِتاج مزيجٍ متناغِم من الانفعالات والعقل. وأعتقد أن إنسانًا بلا انفعالاتٍ سيكون أقلَّ عقلانيةً منَّا وليس العكس، لكن لديَّ قناعة أيضًا أنه ثمة أوقات يُستحسَن فيها الاستماع إلى إملاءات العقل بدلًا من القلب. ومعرفة متى نتَّبع مشاعرنا ومتى نتجاهلها هي موهبة قيمة يُطلِق عليها البعض «الذكاء الانفعالي».

في هذا الكتاب، أدعو إلى العودة لتبنِّي الرأي القائل بأن الانفعالات هي حليف العقل، وليست عدوًّا له. وعلى غرار سميث وهيوم، أعتقد أن الدراسة العلمية للانفعالات ليست مُمكنة فحسب، بل إنها ذات قيمةٍ عظيمة أيضًا. وليس ذلك لأني أرى أنه يمكن اختزال الخبرات الانفعالية في صِيَغ رياضية جافة. إنما لأني أرى أن بحث الانفعال بإمعانٍ أكبر على المستوى الفكري لا يتعارَض بالضرورة مع قُدرتنا على الشعور بها بعُمق. آمُل أن يساعدنا التعمُّق في معرفة آليات عمل الانفعالات على أن نحيا حياةً أكثر ثراءً وليس أكثر تعاسةً. قد يكون من المُثير، على أقل تقدير، التعرُّف على أحدث ما توصَّل إليه العلم في فهمنا لهذه الظواهر الغامضة.

لقد شهد الاهتمام العلمي بالانفعالات ما يُشبه الصحوة في تسعينيات القرن العشرين. فخلال معظم القرن العشرين، لم يبحث الانفعالات إلا عددٌ قليل من علماء النفس وعدد أقل من علماء الأنثروبولوجيا. لكن ذلك اختلف تمامًا في عصرنا الحالي. فقد أصبحت الانفعالات الآن موضوعًا رائجًا. وصار العديدُ من علماء الأنثروبولوجيا الآن يرفضون الرأيَ القائل بأن الانفعالات تختلف باختلاف الثقافات. ولم يعُد علماء علم النفس المعرفي يقصرون تركيزهم على التفكير والإدراك والذاكرة، بل أعادوا اكتشاف أهمية العمليات الانفعالية. كما انضمَّ علماء الأعصاب والباحثون في الذكاء الاصطناعي إلى النقاش، وساهموا في حل أجزاء أخرى من اللغز. ويحاول هذا الكتاب أن يخطو خطوة إلى الخلف لينظر إلى جميع أجزاء اللغز مجتمعة.

لا حاجة للقول إن كتابًا قصيرًا مثل هذا لا يُمكنه أن يُغطي جميع جوانب مثل هذا المجال المُعقَّد. فقد اضطررتُ إلى عدم التعرُّض فيه لبعض المجالات المثيرة للاهتمام في مجال الأبحاث الانفعالية. فلن يجد القارئ، على سبيل المثال، استعراضًا لكيفية تطوُّر الانفعالات لدى الأطفال، رغم أنه مجال دراسة يشهد تطوُّرات سريعة. ولا يوجَد أي إشارة إلى المؤلَّفات المُتزايدة عن الفروق الفردية في الخبرات الانفعالية. تعكس اختياراتي للموضوعات اهتماماتي الشخصية وتخميناتي حول ما سيثبت أنه أكثر جذبًا لاهتمام جمهورٍ عام.

إن كلمة emotion التي تعني الانفعال في اللغة الإنجليزية هي كلمة حديثة نسبيًّا. فقبل القرن التاسع عشر، كان الناس يستخدمون بدلًا منها المفردات passion (الهوى) وsentiment (الشعور) وaffection (العاطفة). يبدأ الفصل الأول باستعراض التاريخ المُعقد لتلك الكلمات. ثم ينتقل إلى استكشاف مجموعة متنوعة من الخبرات الانفعالية في إطار ثقافاتٍ مختلفة. ونظرًا لاختلاف المناخ الانفعالي من ثقافةٍ إلى أخرى، حرصتُ على الاستناد إلى الأبحاث الأنثروبولوجية التي وثَّقَت بعض هذه الاختلافات. غير أن العديد من علماء الأنثروبولوجيا يعتقدون الآن بأن التبايُنات بين الخبرات الانفعالية حول العالم لا وزنَ لها مقارنةً بأوجُه التشابُه بينها. في الفصل الأول، أزعم أن الانفعالات تُعَد «لغة عالمية» بوجهٍ ما تربط البشرية جمعاء في عائلةٍ واحدة. وأرى أن تراثنا الانفعالي المشترك يتجاوز الاختلافات الثقافية التي تُفرِّقنا.

نحن مدينون لأسلافنا المشتركين بهذا المخزون الانفعالي المشترك. فنحن جميعًا ننحدِر من بضعة آلافٍ من أشباه البشر الذين عاشوا في سهول أفريقيا منذ ١٠٠ ألف عام. وقد تشكَّلت العديد من انفعالاتنا في ذلك العصر البائد. بل إن كثيرًا من الانفعالات ترجع إلى أبعدَ من ذلك، إلى زمنٍ لم يكن أسلافنا فيه حتى من البشر. في الفصل الثاني، أستعرِض التاريخ التطوري للانفعالات، وأُبرهن على أن الانفعالات كانت ولا تزال ضرورةً لا غِنى عنها من أجل البقاء. فالانفعالات ليست مجرد رفاهيات. بل ليست عقبةً أمام اتخاذ قرارات ذكية مثلما اعتقد العديد من الفلاسفة. لقد أخطأ صنَّاع مُسلسل الخيال العلمي «ستار تريك» في افتراضهم بأن الفولكان — وهي سلالة من المخلوقات الفضائية الخيالية — صارت أذكى من البشر حينما تعلَّمَت كبتَ انفعالاتها. فبرغم مثال شخصية سبوك، لا يمكن لكائنٍ ذكي يفتقر إلى الانفعالات أن يتطوَّر.

لا شك في أننا نعيش الآن في بيئاتٍ مختلفة تمامًا عن تلك التي تطوَّر فيها أسلافنا. أعني على وجه التحديد أنه صار لدينا الآن العديد من الوسائل التي تُحفِّز شعور السعادة في أنفسنا لم يكن لأسلافنا أن يتخيَّلوها قط. في الفصل الثالث، أناقش «وسائل تحسين الحالة المزاجية» تلك التي تَعِدُنا بتقديم طرق مختصرة لبلوغ السعادة، بدءًا من العلاج النفسي والفن ووصولًا إلى العقاقير وجلسات التأمُّل. سأبحث جدوى هذه الوسائل من عدمها، وأناقش المخاطر التي تنطوي عليها بعض هذه المحاولات لتجنُّب الطريق الأكثر الْتواءً الذي رسمَه لنا الانتخاب الطبيعي حتى نصِل إلى السعادة.

في الفصل الرابع، سأشرح كيف تؤثر الانفعالات على القدرات «المعرفية» مثل الذاكرة والانتباه والإدراك. وأُبين كيف أن قوة الانفعالات في التأثير على تلك القُدرات تجعل وسائل تحسين الحالة المزاجية جذابةً للغاية لشركات الدعاية والسياسيين. وأوضح كذلك كيف أن استجداء المشاعر يُعَد وسيلةً لدفع الناس إلى تغيير آرائهم دون الحاجة إلى تقديم حججٍ أو أدلة مُقنعة. وأختتم الفصل باستعراض بعض الأبحاث الحديثة حول الجوانب النفسية والعصبية للمواجدة.

إن أحدث التخصُّصات التي دخلت ساحة النقاش عن الانفعالات هو الذكاء الاصطناعي. فمنذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، ازداد اهتمام علماء الكمبيوتر ببناء آلات انفعالية، وأحرز العاملون في مجال الروبوتات بالفعل تقدُّمات ملموسة في هذا المجال. في الفصل الأخير، أُناقش هذه التطورات الحديثة وأطرح توقعاتي عن النتائج التي ستؤدي إليها. هل سننجح في بناء روبوتات تمتلك مشاعر مثلنا تمامًا؟ وما العواقب المُحتملة لمثل هذه التكنولوجيا؟ ونظرًا لسرعة تطوُّر الأبحاث في هذا المجال، فقد أعدتُ كتابة هذا الفصل بالكامل ليعكس التطوُّرات التي حدثت منذ نشر الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام ٢٠٠١.

لا أدَّعي أن لديَّ القول الفصل في مسألة الانفعالات. قد يظل التوصُّل إلى نظرية مكتملة عن الانفعالات مستحيلًا علينا إلى الأبد. لكنني أرى أن دراسة الانفعالات من منظورٍ علمي أمر مُلهِم ومُذهل. وآمُل أن قراءتك لهذا الكتاب تدفعك إلى مشاركتي الحماس بهذا الموضوع.

ديلان إيفانز
أكتوبر ٢٠١٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥