خاتمة الكتاب: للقلب أسبابه
كتب بليز باسكال: «للقلب أسبابه التي لا يُدركها العقل.» عندما يتحدَّث الناس عن الإدراك والانفعال، أو عن العقل والعاطفة (بالمفردات المتعارَف عليها)، فإنهم يشيرون عادةً إلى مَلكتَين عقليتَين مختلفتَين. إحداهما هادئة ورزينة ومُتزنة تصِل إلى استنتاجاتها ببطءٍ عبر قواعد منطقية واضحة. أما الثانية، فهي مشحونة ومفعمة بالحيوية تندفع إلى تكوين استنتاجاتها بناءً على استفتاء المشاعر الحدسية.
لكن، كَوْن القلب يعمل مُستقلًّا عن العقل لا يعني افتقاره إلى المنطق. بل على العكس، كما حاولتُ التوضيح في هذا الكتاب، فإن هناك أسبابًا لكلِّ ما تدفعنا إليه الانفعالات — سواء كان الهروب من الخطر أو التودُّد إلى أشخاصٍ جذَّابين، أو تركيز عقولنا على أفكارٍ بعينها أو التأثير على أحكامنا — وغالبًا ما تكون تلك الأسباب وجيهةً للغاية. فكما أن هناك عاطفةً في بعض جوانب المنطق، هناك أيضًا منطق في بعض جوانب العاطفة.
لنضرب المَثل على ذلك بالعلاقة المعروفة بين الحالة المزاجية الجيدة والثقة الزائدة. فعادةً ما يميل الأشخاص الذين يكونون في مزاجٍ جيد إلى المُبالغة في تقدير فُرَص نجاحهم في أي نشاطٍ مُعين، بينما يميل الأشخاص الذين يكونون في حالة مزاجية سيئة لأن يكونوا أدقَّ في توقُّعاتهم (وهي ظاهرة تُعرف باسم «الواقعية الاكتئابية»). قد تظنُّ أن الأشخاص الذين يكونون في حالة مزاجية سيئة هم أفضل حالًا، لأن التنبؤات الدقيقة أفضل من التنبؤات غير الدقيقة في حال تساوي العوامل الأخرى. لكن المشكلة تكمن في أن العوامل الأخرى لا تتساوى. فإذا كانت فُرَصك في النجاح منخفضة للغاية وكان مزاجك سيئًا، فقد يؤدي تقييمك الدقيق لهذه الفرص إلى تثبيطك حتى عن مجرد المحاولة. أما إذا كنتَ في مزاج جيد، فقد تدفعك آمالك المُبالَغ فيها إلى تشجيعك على المحاولة، وقد ينتهي بك المطاف لتصبح أحد المَحظوظين. وإذا كانت تكلفة الجهد المُهدَر بسيطة، ومكافآت النجاح عالية، فإن التفاؤل المُفرِط قد يكون مُجديًا. وأي محاولة من جانبنا لمطابقة توقعاتنا مع الفُرَص الموضوعية للنجاح قد تؤدي إلى خفضها عن المستوى الموضوعي. وحتى عندما لا تزيد الثقة المُفرِطة من فُرَص نجاحك، فإنها قد تجلب فوائد أخرى ذات طبيعة اجتماعية، مثل جذب الشركاء أو إلهام الثقة.
يبدو أن ثمة تناقضًا في الأمر. فمن جانب، يبدو أن الحالة المزاجية الجيدة تجعل الأشخاص أقل عقلانية؛ إذ تدفعهم إلى رفع سقف التوقُّعات بالنجاح أعلى مما تُبرره الحقائق الموضوعية. ومن جانب آخر، أحيانًا تكون الثقة المُفرِطة أكثر عقلانية من الواقعية، فبعض الجوائز لا تُمنَح إلا لذوي الشجاعة والإقدام. يبدو أن الانفعالات أحيانًا قد تظهر نوعًا من العقلانية الفائقة التي تُنقذ المنطق البحت من نفسه.
لكن هذا لا ينطبق على الانفعالات في جميع الحالات. ولو كان الأمر كذلك، لما ظهرت من الأساس النظرة السلبية عن الانفعالات، فضلًا عن إحداثها ذلك التأثير الواسع. فحقيقة أن الانفعالات لاقت نقدًا سلبيًّا في كتابات العديد من المُفكرين الغربيين هي دليل على أنها لا تتفوَّق على العقل دائمًا. بل إنها في بعض الأحيان تؤثر تأثيرًا ضارًّا بلا شك على تفكيرنا العقلاني. فقد يدفعنا انحيازنا لما هو مألوف إلى إنفاق أموالنا على علامات تجارية معروفة بدلًا من منتجاتٍ أرخص لا تقلُّ عنها جودة لكن صنَّعتها شركات أقل شهرة. إن تأثير الحالة المزاجية على الأحكام يعني أننا قد ننخدِع برجلٍ مُحتال لمجرد أن وجهه الودود يُثير فينا شعورًا داخليًّا إيجابيًّا يُعمينا عن ملاحظة الثغرات في حُججه. والأمثلة كثيرة في هذا الشأن.
أما النظرة الإيجابية تجاه الانفعالات، التي دافعتُ عنها في هذا الكتاب، فلا تُنكر أن الانفعالات في بعض الأحيان تؤثر على تفكيرنا العقلاني بما يضرُّنا. لكنها تؤكد ببساطة أن الحالات التي تؤثر فيها الانفعالات إيجابيًّا على تفكيرنا تفوق من حيث العدد والأهمية تلك التي تؤثر فيها الانفعالات سلبًا. إجمالًا، فالإنسان الذي يفتقر إلى الانفعالات لن يكون أقلَّ ذكاءً فحسب، بل سيكون أقل عقلانية أيضًا.
هذا يُشير إلى أننا ينبغي أن ننظر إلى العقلانية من منظورٍ مختلف تمامًا عن المنظور الذي يقترحه علماء المنطق والاقتصاد. يُعرِّف علماء الاقتصاد العقلانية اصطلاحًا بأنها محاولة الأفراد زيادة منفعتهم المتوقَّعة. وهذا يعني إجمالًا أنه في ضوء مجموعةٍ معينة من التفضيلات، فإن الشخص العقلاني هو من يتصرَّف بطريقةٍ تلبي أكبر عددٍ مُمكن من تفضيلاته. وهذا تعريف منطقي ومقبول بحدِّ ذاته، لكنه لا يذكر مصدر تلك التفضيلات، ولا ما إذا كان من المنطقي أن يكون لديك تفضيلات مُعينة دون غيرها. فالسؤال الأخير تحديدًا لا معنى له لدى علماء الاقتصاد؛ إذ يعرِّفون العقلانية فقط من حيثية تلبية الميول والتفضيلات. قد يوجَد مُستهلكون غير عقلانيين وعمليات شراء غير عقلانية (أي تلك التي لا يمكن أن تكون ناتجةً عن مجموعة «ثابتة» من التفضيلات)، لكن لا يوجَد في علم الاقتصاد تفضيل غير عقلاني (أو تفضيل عقلاني؛ إنما هي تفضيلات فحسب بغضِّ النظر عن عقلانيتها من عدمها).
لكني أختلف مع هذا الرأي. إذ أرى أنه من المنطقي تمامًا أن نتساءل عن معقولية تفضيلٍ مُعين. على سبيل المثال، أعتقد أن رغبتنا في أن نحوز إعجاب عددٍ قليل من الأصدقاء هي رغبة معقولة، لكن من غير المعقول أن نريد أن يُغرَم بنا العالَم بأسره. إذا اعتبر الاقتصاديون أن مثل هذا الكلام محض هراء، فذلك لأن فكرهم لا يتماشى مع بقية العالم، وليس لأن فِكْر بقية العالم لا يتماشى معهم. للقلب أيضًا أسبابه، لكنها ليست أسبابًا تتعلق بالتفكير في الوسائل والغايات؛ فالانفعالات لا تتعلق فحسب بكيفية تحقيق غاية معينة، إنما تتعلق أيضًا بماهية الغايات التي يجب السعي وراءها في المقام الأول. إذا أردنا تسميةً لهذا المفهوم الواسع للعقلانية، فربما نسير على خُطى عالم النفس الألماني جيرد جيجرينزر في تسميتها ﺑ «العقلانية البيئية». وثمة مصطلح آخر وهو «العقلانية التطورية» حيث تتأثر تفضيلاتنا بدرجةٍ كبيرة بإرثنا البيولوجي. إذا كان للقلب أسبابه، فذلك لأن الانتخاب الطبيعي صمم انفعالاتنا تمامًا مثلما صمَّم سائر قدراتنا العقلية ليُحقق هدفًا أسمى وهو مساعدتنا على البقاء والتكاثُر على أفضل وجهٍ مُمكن في عالَم مليءٍ بالمخاطر والإثارة.