الفصل الأول

ما الانفعال؟

إن «الانفعال» مصطلح استُحدِث مؤخرًا لكنه لا يُسهم كثيرًا في توضيح المفهوم الذي يُعبر عنه. لم تظهر أوائل الكتب التي استعملت تلك المفردة في عناوينها حتى القرن التاسع عشر. وكان أشهرها كتاب «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان» لتشارلز داروين الذي نشر عام ١٨٧٢.

بالطبع كان الفلاسفة والشعراء يكتبون عن مشاعر مثل الغضب والشفقة والخوف منذ آلاف السنين، لكنهم لم يجمعوا قط هذه الحالات العقلية تحت مظلَّة واحدة. بل على العكس، كانوا أكثر حرصًا على تمييز أوجه الاختلاف بينها؛ فصنَّفوا بعضها على أنها أهواء ورغبات، والبعض الآخر على أنها مشاعر وأحاسيس. ومن ثَم، عندما أعلن عالِم النفس الاسكتلندي ألكسندر بين في كتابه «الانفعالات والإرادة» المنشور عام ١٨٥٩ أنه سيستخدِم كلمة «انفعال» لتشمل «كل ما يُعَد من المشاعر أو الحالات الشعورية أو اللذَّات أو الآلام أو الأهواء أو الأحاسيس أو العواطف»، فقد أحدث بذلك تحولًا جذريًّا في المفردات التي نستخدِمها لوصف كيفية عمل العقل.

يقِف وراء هذا التحوُّل الاصطلاحي ثورة مفاهيمية أعمق تتجسَّد في نشأة علم النفس الحديث الذي قدَّم نفسه على أنه نهج «علمي» لدراسة العقل صُمِّم على منهج العلوم الطبيعية، لا سيما علم وظائف الأعضاء. كان روَّاد هذا النهج الجديد واضِحين في رغبتِهم في الابتعاد عن الطرق التقليدية لدراسة العقل، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعِلم اللاهوت وعلم الأخلاق.

لنتناول علم اللاهوت أولًا. لقد ارتبطت نشأة علم النفس العلمي ارتباطًا وثيقًا بتراجُع نفوذ المسيحية بين النخب في أوروبا وأمريكا الشمالية. وقُدِّم علم النفس العلمي صراحة باعتباره نهجًا جديدًا علمانيًّا تمامًا لدراسة العقل، وذلك في مقابل التراث الفكري المسيحي العريق الذي كان يُهيمن على هذا المجال ومعظم مجالات الدراسة الأخرى في الغرب على مدى الخمسة عشر قرنًا الماضية. كانت لكلماتٍ مثل الهوى والشهوة والرغبة جذور في الكتاب المُقدس أراد رواد علم النفس العلمي التخلُّص منها. وكلمة الهوى (passion) على الأخص كانت مرتبطة بروايات الإنجيل عن معاناة المسيح وموته. وحينما عمد النهج العلمي الجديد إلى الإشارة لجميع هذه الكلمات بمُصطلح مثل الانفعال، وهو مصطلح غير مُثقل بهذه الدلالات، فقد نأى بنفسه عن طرق التفكير اللاهوتية.

أما عِلم الأخلاق، فكان أقدمَ بكثيرٍ من علم اللاهوت. فقبل ظهور المسيحية بوقتٍ طويل، منح فلاسفة اليونان القدماء مكانة محورية لمشاعر مثل الشفقة والخوف والغضب في نقاشاتهم حول الحياة الصالحة. فقد قسَّم أفلاطون (٤٢٨–٣٤٨ قبل الميلاد) في نظريته المعروفة النفسَ إلى ثلاث قُدرات أو أقسام مختلفة: النفس العاقلة، والنفس الشهوانية، و«الثومس» وهي كلمة يمكن أن تُترجَم إلى النفس الغضبية. يبدو هذا التحليل غريبًا للغاية من المنظور الحديث. قد يتساءل علماء النفس المُعاصرون عن سبب تمييز أفلاطون للغضب من بين العواطف الأخرى وإفراد قُدرة عقلية كاملة لهذا الشعور بالذات. ماذا عن الحزن والخوف والذنب؟ أين موقع هذه المشاعر من نظرية أفلاطون؟ هذا يُبرِز ببساطةٍ الفجوة الشاسعة بين النُّهُج القديمة والنُّهُج المعاصرة لدراسة النفس. صحيح أن علماء النفس يُدرِجون الآن مجموعة متنوعة من الحالات العقلية ضمن فئةٍ واحدة تُسمَّى الانفعالات، لكن هذا تقسيم مُستحدَث لم يكن منطقيًّا في اليونان القديمة.

كان الهدف الرئيسي لأفلاطون من تقسيم النفس إلى ثلاثة أقسام مختلفة هو استنتاج أفضل سبل العيش. وهو لا يندرِج تحت ما نُسمِّيه اليوم «الممارسة العلمية»، التي مِن المُفترض أنها تتَّسم بالموضوعية والحيادية تجاه القيم، إنما يندرج تحت الممارسة الأخلاقية. فالشخص الصالح من وجهة نظر أفلاطون هو الشخص الذي تعمل لديه العناصر الثلاثة في تناغُم وانسجام، ويؤدي كل عنصر وظيفته الصحيحة. وكما أوضح أفلاطون، فإن إمكانية تحقيق ذلك مرهونة بخضوع النفس الشهوانية والغضبية إلى النفس العاقلة.

تطوَّرت هذه الفكرة إلى منظومة فكرية كاملة على يد فيلسوف يوناني آخر وهو زينون الكيتوني (٣٣٤–٢٦٢ قبل الميلاد تقريبًا) مؤسس مذهب الرواقية. زعم الرواقيون أن جوهر الحياة الصالحة يكمُن في التحرُّر من جميع العواطف. وتلك العواطف، وفقًا لفَهْم الرواقيين، هي مشاعر قوية تُربك العقل مثل الغضب الشديد والفرح المُفرط. وزعموا أن العواطف مثلها مثل الآراء المغلوطة؛ إذ إنها تنشأ نتيجة منح أمورٍ تافهة وزنًا أكثر مما تستحقه. فالشخص الحكيم لا يعطي قدرًا للأمور التافهة وبذلك ينعم بما أسمَوه «الأباثيا»، أي الطمأنينة وراحة البال. هذا لا يعني انعدام المشاعر بالكلية؛ بل على العكس، فإن الرواقي الذي يُعطي الأمور حقَّ قدرِها، يشعر بالسعادة والرخاء («اليودامونيا») والمشاعر الطيبة («اليوباثيا»)، لكنه يعبر عن مشاعره بهدوءٍ ولطف بدلًا من التعبير عنها بقوة وصخب.

لقد كان لمذهب الرواقية تأثير مُستمر قوي في الفكر الغربي. فلم يؤدِّ ظهور المسيحية إلى أُفُوله، بل دمج مُفكرون مسيحيون أفكار ذلك المذهب في علم اللاهوت، بدءًا من بوثيوس (٤٧٧–٥٢٤) وحتى يوستوس ليبسيوس (١٥٤٧–١٦٠٦). لكن كانت النتيجة مُستهجنة شأنها شأن العديد من المحاولات الأخرى لدمج المسيحية مع الفلسفة اليونانية. فشخصية مؤسس المسيحية على النقيض تمامًا من شخصية الرواقي غير المُنفعل. إذ ينفجر يسوع غضبًا عندما يرى الهيكل في أورشليم مُكتظًّا بالتجَّار والصيارفة، ويطردهم من المعبد بالسوط. وحينما كان يُصلب، صرخ بحرقة: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟» أحد التوجُّهات الرئيسية في الروحانية المسيحية تحتفي بتلك المشاعر القوية، بدءًا من القديس أوغسطينوس وصولًا إلى القديس يوحنا الصليب. وكما تُعلق الفيلسوفة الأمريكية مارثا نوسباوم، فإن فكرة الحب في المسيحية تفيض دون خجل بالعاطفة، بل تصِل إلى حدِّ الشهوانية:

نسمع آهات شوق وأنات أسًى دفين. نسمع أغاني حُب وليدة اللوعة؛ يتَّقد قلب مُغنِّيها باللهفة. نسمع عن جوع لا يُسَد وعطشٍ لا يُروى وإحساس بجسد الحبيب يوقِد فينا شوقًا لا يوصَف. نسمع عن فراغ نتوق لملئه، وشوق مُتقد يُلهب الجسد والقلب. كل هذه صور لشغف شهواني عميق. وكلها صور للحبِّ المسيحي.

أيًّا كانت العلاقة بين الرواقية والمسيحية، فإن النهج الذي يصف نفسه بأنه «علمي» لدراسة النفس أو العقل، والذي ظهر في القرن التاسع عشر أراد التخلُّص من التراث الرواقي والمسيحي كليهما. أراد علم النفس أن يتَّخذ موقفًا مُحايدًا أخلاقيًّا ومتحررًا من الإطار الأخلاقي الذي بنى داخله الفلاسفة اليونانيون مُقارباتهم للعقل، وأن يكوِّن منظورًا علمانيًّا بحتًا متحررًا من الدلالات الدينية. ولبيان ذلك بوضوح شديد، احتاج علماء النفس إلى مفرداتٍ جديدة. فكانت كلمة الانفعال (emotion) مناسبةً تمامًا لهذا الغرض.

كانت المشكلة أن أحدًا لا يعرف ما تعنيه الكلمة الجديدة حقًّا. فعندما استخدم توماس براون، أستاذ الفلسفة الأخلاقية بجامعة أدنبرة، المصطلح في محاضراته في الفترة بين ١٨١٠–١٨٢٠، أخبر طلابه أن «المعنى الدقيق لمصطلح الانفعال يصعب التعبير عنه بأي صيغةٍ من المفردات». وبعد مرور قرنَين من الزمان، لم يتَّضح المعنى كثيرًا عما كان عليه. وظل علماء النفس مُختلفين حول تعريفهم للمصطلح. وعن ذلك علَّق الفيلسوف توماس ديكسون بتهكُّم قائلًا: «هذا ليس مُستغربًا من مصطلح جرى تعريفه منذ البداية بأنه مصطلح غير قابل للتعريف.»

ومع ذلك، قد لا تكون المشكلة كبيرة بقدْر ما تبدو. فرغم أن إيجاد تعريف دقيق أمر صعب المنال، فإن توماس براون كان مُحقًّا عندما قال في محاضراته في جامعة أدنبرة قبل ٢٠٠ عام إن «الناس جميعًا يفهمون المعنى المقصود من كلمة الانفعال.» بعبارة أخرى، يُشبه الانفعال موسيقى الجاز، بمعنى أنك تعرفه عندما تنتبِه إليه أو تشعر به، حتى إن لم تتمكن من وضع تعريفٍ له. أو، كما قال عازف الجاز الشهير لويس أرمسترونج مازحًا: «إذا اضطررت أن تسأل ما هي موسيقى الجاز، فلن تعرف أبدًا.»

الانفعالات الأساسية

عوضًا عن محاولة تقديم تعريفٍ مختصر للانفعال، قد يكون من الأجدى تحديد بعض الأمثلة النموذجية. يصعب أن يُنكر أحد أن الغضب والخوف والفرح انفعالات. لكن يصعب أن يُجمِع العلماء على قائمةٍ واحدة تحصر جميع الانفعالات. فقد حدد العالم النفسي البريطاني سايمون بارون-كوهين ما يقرُب من ألف كلمة تُعبر عن الانفعالات في الحصيلة اللغوية الإنجليزية للبالِغين، وصنَّفها في ثلاثٍ وعشرين فئة منفصلة متفردة. بينما ذهب باحثون آخرون إلى وجود عددٍ أقل من الفئات.

وفي محاولةٍ لفهم هذه النُّهج المختلفة إلى حدٍّ كبير، يقسِّم الفيلسوف بول جريفيث الانفعالات إلى ثلاث مجموعات مختلفة: الانفعالات الأساسية، الانفعالات المعرفية العُليا، والانفعالات الخاصة بالثقافات. تشمل الانفعالات الأساسية الفرح، والضيق، والغضب، والخوف، والدهشة، والاشمئزاز (انظر المربع ١). تُعد الانفعالات الأساسية عالمية وفطرية. هذا يتَّضح من حقيقة أن الأطفال الذين وُلدوا مكفوفين يُظهرون تعبيرات الوجه النمطية لهذه الانفعالات، مثل الابتسام والعبوس، وغيرها. فالتعبيرات الانفعالية ليست مثل اللغة في اختلافها من ثقافة إلى أخرى؛ إنما هي سِمة فطرية أقرب ما تكون إلى التنفُّس الذي يُعَد جزءًا لا ينفكُّ عن الطبيعة البشرية.

في أغلب القرن العشرين رفض العديد من علماء الأنثروبولوجيا فكرة أن الانفعالات عالمية أو فطرية؛ لأنهم كانوا يتبنَّون وجهة نظرٍ تُعرَف بنظرية تبايُن الانفعالات وفقًا للثقافة. وفقًا لهذه النظرية، فإن الانفعالات هي سلوكيات مكتسبة تُنقَل عبر ثقافةٍ ما مثلما تُنقَل اللغات. ومثلما يتعين عليك أن تسمع الإنجليزية أولًا قبل أن تتمكَّن من التحدُّث بها، يجب أولًا أن ترى تعبير الفرح على الآخرين قبل أن تتمكن من الشعور به. وبناءً على هذه النظرية، ينبغي أن يشعر الأشخاص الذين يعيشون في ثقافاتٍ مختلفة بانفعالاتٍ مختلفة.

في أواخر الستينيات، بينما كانت هذه النظرة إلى الانفعالات لا تزال هي المُعتقَد السائد، بدأ عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي بول إيكمان في البحث عن دليلٍ علمي قوي يؤيدها. وعلى عكس ما توقَّع، أفضى بحثه إلى إثبات النقيض. قدمت دراسات إيكمان أول دليلٍ عِلمي يُثبت أن نظرية تبايُن الانفعالات وفقًا للثقافة بعيدة تمامًا عن الصواب.

المربع ١: الانفعالات الأساسية

تُعَد الانفعالات الأساسية عالميةً وفطرية. وهي تظهر سريعًا وتستمر لبضع ثوانٍ في كل مرة. اختلف الباحثون حول عدد الانفعالات الأساسية، لكن قد يُدرِج أغلبهم الانفعالات الآتية في قوائمهم:

  • الفرح

  • الضيق

  • الغضب

  • الخوف

  • الدهشة

  • الاشمئزاز

يُطلِق بعض الباحثين أسماءً مختلفة على هذه الانفعالات. فمِن الشائع، على سبيل المثال، أن نرى «السعادة» و«الحزن» في قائمة الانفعالات الأساسية. أعتقد أن أفضل استخدامٍ لهاتَين الكلمتَين هو لوصف الحالة المزاجية بدلًا من الانفعالات (انظر الفصل الثالث)، لذا أستخدِم في هذا الكتاب كلمتي «الفرح» و«الضيق» للإشارة إلى الانفعالات الأساسية، وأحتفظ بكلمتي «السعادة» و«الحزن» لتمييز الحالة المزاجية الجيدة والسيئة.

كانت منهجية إيكمان بسيطةً لكنها ذكية. لقد سافر إلى ثقافة نائية بدائية (قبيلة «الفور» في غينيا الجديدة) حتى يضمن أن الخاضِعين للدراسة لم يسبق لهم مشاهدة صور أو أفلام غربية، ومن ثم لم يتعلَّموا الانفعالات الغربية. ثم أخبرهم إيكمان بقصصٍ مختلفة، ومن بين ثلاث صور لأمريكيين يُعبرون فيها عن انفعالات مختلفة، طلب إيكمان أن يختاروا أقرب صورة تتماشى مع القصة.

على سبيل المثال، تضمَّنت إحدى القصص مصادفة شخصٍ لخنزيرٍ بري أثناء مكوثه وحيدًا في كوخ، وهو موقف من شأنه أن يُثير الخوف عند الغربيين. وبالفعل اختار أفراد قبيلة الفور نفس التعبيرات التي ربطها الغربيون بالقصص. وحتى يزداد يقينًا، طلب إيكمان من بعض أفراد قبيلة الفور أن يُظهروا تعبيرات الوجه المناسبة لكل قصةٍ وسجَّلها على شريط فيديو. وعند عودته مرةً أخرى إلى سان فرانسيسكو، أجرى التجربة بالعكس، فطلب من الأمريكيين أن يربطوا تعبيرات وجوه قبيلة الفور بالقصص. ولمرةٍ أخرى، تطابقَت الأحكام.

عندما قدَّم إيكمان نتائجه لأول مرة إلى الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا، قوبل بصيحات الاستهزاء. فقد كانت نظرية تبايُن الانفعالات وفقًا للثقافة متأصِّلة حينها لدرجة أن أي انتقاداتٍ لها كانت تُقابَل بسخريةٍ وازدراء. ومع ذلك، نجح إيكمان في النهاية في أن يفرض نظريته. بل صار متعارفًا الآن بين نطاق واسع من الباحثين في المجال أن بعض الانفعالات على الأقل ليست مُكتسَبة، إنما فطرية.

بالطبع، فإن المؤيدُ المتعصِّب لنظرية تبايُن الانفعالات وفقًا للثقافة، يمكن أن يردَّ بحدةٍ بأنَّ دراسات إيكمان لم تُثبِت سوى أن تعبيرات الوجه المُرتبطة بالانفعالات الأساسية هي عالمية وفطرية (انظر الشكل ١-١). فهي لا تُخبرنا بأي شيءٍ عن المشاعر الشخصية وراء تلك التعبيرات. وهذا صحيح تمامًا، لكن ينطبق نفس الشيء أيضًا على كل الخبرات الخصوصية والذاتية. فعلى سبيل المثال، أنا لا أستطيع الجزم بأن إدراكك للون الأحمر أو إحساسك بحلاوة السكَّر، هو نفس إدراكي أو إحساسي. لكن إذا كانت تجاربنا الشخصية تختلف اختلافًا جذريًّا، فمن الصعب معرفة كيف يُمكننا التواصل. قد نتمكَّن من استخدام الكلمات نفسها مُتَّبعين تركيبًا نحويًّا مُماثلًا، ولكن إذا كنا نستخدِمها لتمثيل مفاهيم مختلفة تمامًا، فسينتهي بنا الحال، لا محالة، في دائرة مُفرغة من سوء الفهم. ولن نتمكَّن أبدًا من التوصُّل إلى اتفاقٍ حول أي شيء.
fig1
شكل ١-١: تعبيرات الوجه الخاصة بالانفعالات الأساسية.

ورغم أن الخلاف وسوء الفهم شائعان بالتأكيد، فإنهما ليسا شائعين بالقدْر الذي يُعيق التواصل الفعَّال. يبدو أن معظمنا ينجح في إيصال رسالته في أغلب الأحيان. عندما نقرأ قصائد ورواياتٍ كتبها مؤلِّفون من ثقافاتٍ أخرى، نتعرَّف على الانفعالات التي يصفونها. لو كانت الانفعالات وليدة الثقافة، وتطرأ عليها تغيراتٌ سريعة مثل اللغة، لبدَت هذه النصوص غريبةً وغير مفهومة.

كما أن التواصُل ممكن حتى دون الاستعانة بالكلام. وذلك يرجع إلى الانفعالات الأساسية التي نتشارك فيها جميعًا. عندما يلتقي علماء الأنثروبولوجيا لأول مرةٍ بمجموعة من الأشخاص المُنعزلين، فإن وسيلتهم الوحيدة للتواصُل هي تعبيرات الوجه والإيماءات الجسدية التي يُعبِّر الكثير منها عن الانفعالات. قد يبتسم علماء الأنثروبولوجيا، وهو تعبير سيتعرَّف عليه في الحال أفراد القبيلة المُنعزلة. وقد يُبادلهم أفراد القبيلة الابتسامة، مما يُظهِر لعلماء الأنثروبولوجيا أنهم يتشاركون الشعور نفسه.

إن إرثنا المُشترك من الانفعالات يربط بين أفراد البشرية جمعاء على نحوٍ يتجاوز الاختلافات الثقافية. يتشارك البشر في كل زمانٍ ومكان مجموعةً واحدة من الانفعالات الأساسية. لكن الثقافات المختلفة طوَّرت هذه المجموعة؛ فمجَّدت كل ثقافة انفعالات بعينِها وقلَّلت من شأن انفعالات أخرى، وأضفت على المشاعر المشتركة فروقاتٍ دقيقة مُميِّزَة لها، لكن هذه الفروقات أشبه بتلك الموجودة بين أداءين مختلفين لنفس المقطوعة الموسيقية، وليس بين مقطوعتَين موسيقيتَين مختلفتَين. فتمامًا مثلما قد تؤدي فرقتان موسيقيتان السيمفونية نفسها بطريقتَين مختلفتَين قليلًا، قد تُعبِّر ثقافتان عن مجموعة انفعالات لكن بأسلوبَين مختلفَين. ولكن لن يخفى على أحدٍ أنَّ جوهر الانفعال واحد.

إن عالمية الانفعالات الأساسية تُعَد دليلًا قويًّا على أنها ذات أساسٍ بيولوجي. فلو كانت الانفعالات الأساسية ابتكارًا ثقافيًّا، لكان انتشارها مُستغربًا للغاية. لكن إذا افترضنا أن تلك الانفعالات الأساسية هي جزء من الإرث البيولوجي المُشترك للبشرية، فسيُصبح من السهل تفسير وجودها لدى جميع البشر في شتَّى أنحاء العالم. ومثلما يشترك جميع البشر في نوع الجسم، لكن مع بعض الاختلافات الطفيفة، فإننا جميعًا نشترك في نوع العقل. هذه الطبيعة البشرية العالمية مُشفرة في الجينوم البشري الذي هو نتاج تاريخنا التطوري المشترك.

الآن بعد أن ساد الاعتراف بأن البشر يتشاركون طبيعة نفسيةً واحدة، يُصبح من الصعب فهم كيف اكتسبت نظرية تبايُن الانفعالات وفقًا للثقافة مثل هذا القبول الواسع. ربما يكمن الجواب في النزعة البشرية (العالمية أيضًا) إلى المُبالغة في تضخيم الاختلافات الطفيفة بين مجموعاتٍ مختلفة من البشر. ففي رحلة البحث عن هويتنا الثقافية، نركز تلقائيًّا على الاختلافات التي تُميزنا عن الآخرين، وليس على الأشياء التي تربطنا بهم. وعندما يتعلق الأمر بالانفعالات، غالبًا ما نُولي اهتمامًا للاختلافات الثقافية الطفيفة، ونتجاهل أوجُه التشابُه الطاغية.

أحد أبلغ الأمثلة على ذلك هو النظرة الأوروبية لشعوب جنوب شرق آسيا. لقد ذاع لفترةٍ طويلة في إنجلترا ومناطق أخرى من أوروبا وصفُ شعوبِ اليابان والصين ودول جنوب شرق آسيا عادةً بغموضهم وصعوبة سبر أغوارهم. يُعزى جزء كبير من السبب في هذا التصوُّر النمَطي عن «الشرقي الغامض» إلى حقيقة أن المسافرين الأوروبيين استعصى عليهم قراءة انفعالاتهم. وتساءلوا ما إذا كان الوجه الياباني الجامد الذي لا يُظهِر تعبيرًا قد يُخفي انفعالاتٍ مختلفة تمامًا عن انفعالات الأوروبيين.

لكن في الواقع، يبذل اليابانيون جهدًا مضاعفًا لإخفاء انفعالاتهم مقارنةً بشعوب أوروبا وأمريكا الشمالية. فكل ثقافة لدَيها قواعدها الخاصة التي تُحدِّد أشكال التعبير الانفعالي المقبولة اجتماعيًّا. في أوروبا وأمريكا الشمالية، تشجع «قواعد إظهار الانفعالات» على إظهار تعبيرات الوجه بوضوح شديد؛ بينما يُنظَر إلى الوجه الجامد الخالي من التعبيرات عادةً بأنه مُمِل أو خادع. أما في اليابان، فغالبًا ما يُعتبَر الإظهار المُفرط للانفعالات وقاحة، ولهذا يبذل اليابانيون جهدًا مضاعفًا للتخفيف من تعبيراتهم الانفعالية.

لكن وراء هذه القواعد المُنظِّمة لإظهار الانفعالات، نجد الانفعالات واحدة. ففي تجربةٍ مثيرة للاهتمام أجراها بول إيكمان ووالاس فريسن، جرى تصوير أمريكيين ويابانيين بالفيديو أثناء مشاهدتهم لمقاطع من أفلام. كانت بعض المقاطع تعرِض أحداثًا مُحايدة أو سارة مثل رحلةٍ بالزورق، بينما عرضت مقاطع أخرى أحداثًا مُثيرة للاشمئزاز مثل ممارسة الختان باعتباره طقسًا، وولادة طفل باستخدام جهاز الشفط، وجراحة في الأنف. في أحد العروض، شاهد الخاضعون للدراسة المقاطع على انفراد، بينما في عرضٍ آخر شاهدوا المقاطع في حضور المُحاوِر. أثناء المشاهدة مُنفرِدين، لوحظت تعابير وجه مُماثلة لدى كلٍّ من الأمريكيين واليابانيين الخاضعين للدراسة. لكن في حضور المُحاوِر، ابتسم اليابانيون أكثر من نظرائهم الأمريكيين وأظهروا درجةً أقلَّ من الاشمئزاز.

لكن لم تظهر الملاحظة الأكثر إثارةً للاهتمام في هذه التجربة بوضوح إلا عند مشاهدة تسجيلات الفيديو بحركة بطيئة. فحينها فقط أمكن ملاحظة أن اليابانيين المُشاركين في الدراسة قد بدأت تظهر عليهم تعبيرات الاشمئزاز نفسها التي أظهرها الأمريكيون، في حضور المحاور، لكنهم نجحوا في إخفاء تلك التعبيرات بعد بضعة أجزاءٍ معدودة من الثانية. بعبارة أخرى، اختبر كلٌّ من الأمريكيين واليابانيين الانفعالات الأساسية نفسها. كانت هذه الاستجابات البيولوجية تلقائيةً وخارجة عن التحكُّم الإرادي. والعقل الواعي لا يُدركها إلا بعد بضع مئاتٍ من الأجزاء من الثانية، فيُطبِّق على ردِّ الفعل البيولوجي الأساسي الفطري قواعد إظهار الانفعالات المكتسَبة.

ومن ثَم، فإن «الشرقي الغامض» لا يُخفي انفعالاتٍ مختلفة تمامًا، إنما هي الانفعالات نفسها التي يَختبرها جميع البشر على وجه الأرض. لكن تلك الاختلافات السطحية بين قواعد إظهار الانفعالات هي التي ضلَّلت المسافرين الأوروبيين وجعلتهم يظنون أن ذلك الوجه الشرقي الأقل تعبيرًا عن الانفعالات يُخفي وراءه عقليةً مختلفة.

توضِّح التجربة التي أُجريت على الأمريكيين واليابانيين أن الانفعالات الأساسية مثل الخوف والاشمئزاز هي ردود فعلٍ تلقائية، مثل الاستجابات الانعكاسية التي يكون تحكُّمنا فيها ضئيلًا. ومثل الاستجابات الانعكاسية، فإن الانفعالات أسرع كثيرًا من أي فعلٍ إرادي. وبالتالي فإن قواعد إظهار الانفعالات المُحدَّدة بثقافةٍ ما تظهر دائمًا بعد ظهور الاستجابة الانفعالية الأساسية. فالانفعالات الأساسية هي انفعالات فطرية مُترسِّخة في دوائرنا العصبية بفضل الجينات وليس الثقافة، وبذلك تُعَد جزءًا من البِنية الأساسية للعقل البشري التي نشترك فيها جميعًا.

الانفعالات المعرفية العُليا

المجموعة الثانية من الانفعالات التي حدَّدها بول جريفيث هي الانفعالات المعرفية العُليا. هذه المجموعة لا تُعَد من الانفعالات التلقائية السريعة كما هو الحال في الانفعالات الأساسية ولا هي مُرتبطة عالميًّا بتعابير وجه واحدة. وخير مثال عليها هو الحُب. فعلى الرغم من أن الحُب من النظرة الأولى أمر وارد، فإن الأكثر شيوعًا هو أن ينموَ الحُب تدريجيًّا على مدى عدةِ أيامٍ أو أسابيع أو حتى شهور. وهذا بخلاف انفعال الخوف الذي يُصيب الإنسان عادةً في غضون جزءٍ من الثانية. وبينما من السهل التعرُّف على الخوف من تعبير الوجه النمَطي له، ليس هناك تعبير وجه مُحدد مرتبط بانفعال الحُب.

تنطوي الانفعالات المعرفية العُليا على عملياتٍ معالجة تحدث في القشرة المُخية أكثر من الانفعالات الأساسية. ففي حين أن الانفعالات الأساسية مرتبطة ببُنًى تحت قشرية تقع عميقًا تحت سطح المخ، فإن الانفعالات مثل الحُب مرتبطة أكثر بمناطق من القشرة المُخِّية الحديثة. والقشرة المُخِّية الحديثة هي جزء من المخ ازداد اتساعُه خلال الخمسة ملايين سنة الأخيرة من التطوُّر البشري، وهي تدعم معظم قدراتنا المعرفية الأعقد مثل التحليل المنطقي المجرد. وحقيقة أن الانفعالات المعرفية العُليا أكثر ارتباطًا بالقشرة المُخِّية من الانفعالات الأساسية تعني أنها أكثر عرضةً للتأثُّر بالأفكار الواعية، وهذا بدوره يُتيح للانفعالات المعرفية العُليا أن تكون أكثر تفاوتًا من ثقافةٍ لأخرى مقارنةً بالانفعالات الأساسية. ورغم تبايُن الانفعالات المعرفية العُليا وفقًا للثقافة، فإنها تظلُّ عالمية. وعلى غرار الانفعالات الأساسية، فإن الانفعالات المعرفية العُليا هي جزء من الطبيعة البشرية التي شكَّلها تاريخنا التطوري المشترك.

المربع ٢: الانفعالات المعرفية العُليا

تُعد الانفعالات المعرفية العليا عالمية مثل الانفعالات الأساسية، لكن تظهر فيها تبايُنات ثقافية أوسع. كما أنها تستغرق وقتًا أطول لتنشأ ووقتًا أطول لتتلاشى مقارنة بالانفعالات الأساسية. تشمل الانفعالات المعرفية العُليا الآتي:

  • الحب

  • الذنب

  • الندم

  • الإحراج

  • الفخر

  • الحسد

  • الغيرة

يمكن كذلك تكييف بعض الانفعالات الأساسية لأداء وظائف اجتماعية مُرتبطة بالانفعالات المعرفية العُليا. فعندما يشعر شخص بالاشمئزاز من رائحة طعام فاسد، فالاشمئزاز هنا انفعال أساسي. لكن حينما تشعر بالاشمئزاز من فعلٍ غير أخلاقي، فهنا وظَّفْتَ الاستجابة الانفعالية الأساسية المُصمَّمة لإبعادك عن الأشياء المُعدية أو السامَّة لأداء وظيفةٍ اجتماعية وهي إبعادك عن أشخاص غير جديرين بالثقة.

ما الانفعالات المعرفية العُليا الأخرى غير الحُب؟ تشمل الانفعالات المُحتمَلة الشعور بالذنب، والخزي، والإحراج، والفخر، والحسد، والغيرة (انظر المربع ٢). تشير هذه القائمة إلى خاصية أخرى تُميز الانفعالات المعرفية العُليا، وهي أن كل هذه الانفعالات اجتماعية في جوهرها بخلاف الانفعالات الأساسية. قد تشعر بالخوف أو الاشمئزاز من جمادات وكائنات غير بشرية، لكن الشعور بالحُب والذنب يستلزم وجود أشخاصٍ آخرين. قد تشعر بالذنب لإيذائك حيوانًا، وقد يدَّعي بعض الناس الوقوع في حُب حيواناتهم الأليفة، لكن ليس من المُرجَّح أن يكون الشعور بالذنب والحُب قد تطوَّرا لمِثل هذه الأغراض. يبدو أن الانتخاب الطبيعي قد صمَّم الانفعالات المعرفية العُليا على وجه التحديد لمساعدة أسلافنا على التعامُل مع بيئةٍ اجتماعية مُعقَّدة على نحوٍ متزايد.

كما سنرى في الفصل الثاني، فإن هذه الانفعالات قد تكون هي الرباط الذي يربط أواصِر المجتمع البشري.

الانفعالات الخاصة بالثقافات

المجموعة الثالثة والأخيرة من الانفعالات التي حدَّدها بول جريفيث هي الانفعالات الخاصة بالثقافات. بخلاف الانفعالات الأساسية والانفعالات المعرفية العُليا، فإن هذه الانفعالات ليست ذات صبغةٍ عالمية؛ فقد توجَد في بعض الثقافات دون غيرها. كانت نظرية تبايُن الانفعالات وفقًا للثقافة ترى أن هذه الحقيقة تسري على جميع الانفعالات، لكننا رأينا كيف دُحِض هذا الرأي بفضل البحث الرائد الذي أجراه بول إيكمان. بعض الانفعالات عالمية، لكن هذا لا يعني أن جميعها كذلك.

على سبيل المثال، ثمة انفعال تنفرد به قبيلة الجورورومبا في غينيا الجديدة لا يَختبره أشخاصٌ من ثقافات أخرى. وهو حالة انفعالية تُعرَف باسم «التصرُّف كخنزير جامح» لأن الأشخاص الذين يختبرونها يتصرَّفون تمامًا مثل الخنازير الجامحة: فيركضون بهمجية، وينهبون أشياء ضئيلة القيمة ويُهاجمون الحاضرين في المكان.

لا يبدو هذا الانفعال فطريًّا. استخدمت كلمة «فطري» بمعانٍ مختلفة كثيرة، حتى إن بعض علماء الأحياء والفلاسفة دعوا إلى تجنُّب استخدام هذا المصطلح تمامًا. أما أنا فلا أرى بأسًا من استخدامه طالما أننا نحرِص على تحديد ما نَعنيه به. عندما أقول إن بعض الصفات «فطرية»، فأنا أعني بذلك أنها تحتاج إلى ظروف خاصة قليلة جدًّا كي تنشأ. بعبارة أخرى، طالما منَحَت الطفل الأساسيات التي يحتاجها للبقاء على قيد الحياة مثل الطعام والمأوى والرفقة، سيتطوَّر لدى هذا الطفل جميع الصفات الفطرية في البشر. وتُعَد اللغة فطرية من هذا الجانب؛ إذ لا تحتاج إلى توفير كمٍّ كبير من المواد التعليمية الخاصة لكي يكتسب الطفل القدرة على التواصُل باللغة. إنما كل ما عليك فِعله هو تنشئة الطفل وسط مجموعةٍ من الأشخاص القادرين على الكلام. لكن القدرة على التحدُّث بلغةٍ بعينها مثل الإنجليزية أو اليابانية، ليس فطريًّا بالطبع. بل يحتاج تطور مثل هذه السمة ظروفًا خاصة إضافية على الضروريات الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة. ولا يُمكن أن تتوفر تلك الظروف في كل مكان.

إذن عندما أقول إن الانفعالات الخاصة بالثقافات ليست فطرية، فكل ما أعنيه هو أنها لن تتطوَّر إلا تحت ظروفٍ خاصة لا توفرها سوى ثقافات مُعينة. أول تلك الظروف هو أن تتعلم هذا الانفعال وأنت طفل صغير. بعبارةٍ أخرى، بخلاف الانفعالات الأساسية التي تتطوَّر عشوائيًّا، تتطور الانفعالات الخاصة بالثقافات فقط إذا تعرَّفْتَ عليها من خلال تعرُّفك على المحيط الذي تعيش فيه. لن تختبر أبدًا حالة الخنزير البري إلا إذا لاحظتَ أشخاصًا آخرين تحت تأثير هذا الانفعال وأنت في مرحلة النمو. هذا هو الذي يُميز الانفعالات الخاصة بالثقافات عن الانفعالات الأساسية مثل الخوف أو الغضب التي لديك القدرة على الإحساس بها حتى لو لم تكن قد سمعتَ عنها من قبل.

وحقيقة أن الثقافات المختلفة قد تُفرِز أشخاصًا تُميزهم مجموعة انفعالات مختلفة هي دليلٌ على المرونة الاستثنائية للعقل البشري. فإذا كنتَ تعتقد أن العقل البشري يعمل بطريقةٍ مُعينة، فإن عقلك قد يبدأ في التصرُّف جزئيًّا كما تتنبَّأ نظريتك حتى ولو كانت غير دقيقة تمامًا كتفسيرٍ للنفس البشرية بوجهٍ عام. بعبارة أخرى، تُعَد النظريات المفترَضة عن العقل إلى حدٍّ ما نبوءات مُحققة لذاتها. إذا علَّمَتْك ثقافتك أن هناك انفعالًا اسمه «التصرف كخنزير جامح»، فسوف تتطوَّر لديك القدرة على الإحساس بهذا الانفعال. وهذه الخبرة الانفعالية لن تُعَد تضليلًا مقصودًا للعقل. وإن انطوى الأمر على أي تضليلٍ فهو تضليل ذاتي، رغم أن التضليل الذاتي توصيف غير دقيق؛ إذ إن الانفعالات الخاصة بالثقافات ليست انفعالاتٍ زائفة. في الواقع، لا يوجَد اختلاف بين الإحساس بتلك الانفعالات والإحساس بالانفعالات الأساسية التي تُعَد عالميةً وفطرية. فرجال قبيلة الجورورومبا — يختبر ذلك الانفعال رجال القبيلة دون نسائها — يشعرون حقًّا كما لو كان انفعال «التصرف كخنزير جامح» استحوذ عليهم رُغمًا عن إرادتهم، بنفس الطريقة التي تستحوذ بها علينا انفعالات أساسية مثل الخوف أو الاشمئزاز، دون أي قرارٍ واعٍ من جانبنا. فالذين يعيشون تحت سطوة انفعالات خاصة بثقافتهم مثل «التصرف كخنزير جامح»، لا يتصنَّعون مثل تلك الانفعالات.

إحدى المزايا المُثيرة للاهتمام في الانفعالات الخاصة بالثقافات، مثل «التصرف كخنزير جامح»، هي أنها غالبًا توفر مخرجًا من مواقف صعبة. إذ يُعامَل رجال قبيلة الجورورومبا الواقِعين تحت سطوة هذا الانفعال بتسامُح ملحوظ؛ فقد يُنظَر إلى هذا الانفعال بأنه حدثٌ غير مُرحَّب به، لكنه خارج عند إرادة صاحبه، ولهذا يُراعى الأشخاص الذين يعانون منه مراعاةً خاصة قد تشمل الإعفاء المؤقَّت من التزاماتهم المالية. وإنها لمصادفة غريبة أن مَن يختبر هذا الانفعال يكون عادة من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين ٢٥ و٣٥ عامًا، وهو تحديدًا العمر الذي يواجهون فيه لأول مرة الصعوبات المالية التي تظهر في السنوات الأولى من الزواج. فكم من المُلائم أن يختبر الرجل انفعالًا يجعل الآخرين يُمهلونه وقتًا للإيفاء بالتزاماته المالية، في الوقت الذي تتزايد فيه تلك الالتزامات.

بالطبع، ليس من قبيل الصدفة ألا يختبر انفعال «التصرف كخنزير جامح» سوى الأشخاص الذين قد ينتفعون بقدرٍ من ورائه. زعم العالِم النفسي جيمس أفيريل أن وظيفة الكثير من الانفعالات هي تحديدًا مساعدة الأشخاص في التأقلُم مع بعض المُتطلَّبات التي تفرضها ثقافتهم. لو افترضنا أن هذا صحيح، فإنه صحيح فقط بالنسبة للانفعالات الخاصة بالثقافات. فالانفعالات الأساسية ليست مُصمَّمة لتُناسب مطالب خاصة بثقافة معينة، إنما الهدف منها مساعدتنا على مواجهة التحدِّيات الأساسية التي يُواجهها البشر في كل مكانٍ كما سنرى في الفصل الثاني.

الحب الرومانسي

ما الأمثلة الأخرى على الانفعالات الخاصة بالثقافات؟ أحد الانفعالات التي اختلفت حولها الآراء هو الحب الرومانسي. فيُصر البعض على أنه انفعال عالمي فطري تمامًا مثل الخوف والغضب. بينما يُعارض البعض الآخر ويزعم أن الحُب الرومانسي أشبه بحالة «التصرُّف كخنزير جامح». في مقولته الشائعة، يقول فرانسوا دو لا روشفوكو إن «بعض الناس لم يكونوا ليقعوا في الحب لو لم يسمعوا عنه قط.» بل ذهب إلى أبعد من ذلك أولئك المُعتقدون أن الحب الرومانسي انفعال خاص بالثقافة؛ فزعموا أنه لن يقع أحدٌ في الحُب إذا لم يسبق له أن سمع قصصًا رومانسية.

كان أشهر المؤيِّدين لهذا الرأي الكاتب سي إس لويس الذي زعم أن الحب الرومانسي ابتُكِر في أوروبا في أوائل القرن الثاني عشر. ففي ذلك الوقت، أصبح «الحب النبيل» المحور الرئيسي لكثيرٍ من قصائد الشعر الأوروبي. ففي العديد من القصائد، يقع فارس نبيل في حُب سيدة من البلاط الملكي. ثم يُصبح فارسها ويكرس حياته لخدمتها، لكن قلَّما يُكلَّل ذلك الحب في النهاية بالزواج. ولعل أشهر قصةٍ انبثقت من هذا النوع الأدبي هي قصة حب لانسلوت لجوينيفير زوجة الملك آرثر.

إذا كان الحب الرومانسي حقًّا من ابتكار بعض شعراء العصور الوسطى، فهذا يعني أن أي شخصٍ عاش قبل فترة العصور الوسطى لم يختبر هذا الانفعال. كان لويس راضيًا تمامًا بتقبُّل توابع هذه الفرضية المُثيرة للجدل، ودلَّل عليها بأنه «لا أحد يقع في الحب في ملحمتي هوميروس أو قصائد فيرجيل». ليس من الواضح دائمًا إذا ما كان لويس يتحدَّث من منظور الأدب أم علم النفس؛ إذا ما كان يعني أن الشعراء لم يكتبوا عن الحُب الرومانسي قبل العصور الوسطى أم أن أحدًا لم يختبر هذا الانفعال قبلها؛ ولكن ثمة مرات يبدو أنه يقصد فيها الرأي الثاني، مثلًا عندما قال إن ظهور الحُب الرومانسي كان أحد «التغييرات الحقيقية المعدودة في المشاعر البشرية» التي حدثت على الإطلاق.

على عكس ما زعمَه لويس، قد نُشير إلى نصوص ترجِع إلى زمنٍ بعيد قبل شعر العصور الوسطى الذي يتناول الحب النبيل، تتجلَّى فيها المشاعر الرومانسية بوضوحٍ لا لبس فيه. ومثال على ذلك سِفْر نشيد الأنشاد، وهو سِفْرٌ في العهد القديم يتجلَّى فيه الشوق بوضوح في الآية الآتية:

قد سبيتِ قلبي يا أختي العروس.
قد سبيتِ قلبي بإحدى عينَيك
بقلادةٍ واحدة من عنقك!

كما رصد علماء الأنثروبولوجيا الحب الرومانسي في ثقافاتٍ مُنفصلة زمانيًّا ومكانيًّا عن ثقافتنا. فلو كان الحب الرومانسي اختراعًا أوروبيًّا، لما أمكن أن تختبره شعوب لا تربطها أي صِلة بأوروبا. أتاحت هذه الملاحظة البسيطة المجال لعالِمَيْن من علماء الأنثروبولوجيا أن يختبرا النظرية القائلة بأن الحب الرومانسي خاصية ثقافية. احتاجا أولًا إلى تعريف عملي للحُب الرومانسي، وعليه فقد حدَّدا السِّمات الأساسية الآتية له: الشعور بانجذابٍ جنسي قوي تجاه شخصٍ مُعين، والشعور بالحُرقة والشوق عند غياب المحبوب، والشعور بفرح غامر عند حضوره. كما سردا قائمةً تضمُّ عناصر أخرى من بينها لَفَتات التودُّد مثل تقديم الهدايا والتعبير عن الحُب من خلال الأغاني والشعر. ثم بحثا في المؤلفات الأنثروبولوجية وأحصيا عَددَ الثقافات التي وصِفَت فيها هذه المجموعة من السِّمات. وما أثار دهشتهما أنهما وجداها قد وُصِفَت في ٩٠ في المائة من الثقافات الموثَّقة. وإذا كان علماء الأنثروبولوجيا قد لاحظوا فعليًّا وسجلوا وقائع الحب الرومانسي في ٩٠ في المائة من المجتمعات التي درسوها، فمِن المرجَّح أن هذا الانفعال موجود في ١٠ في المائة المُتبقية أيضًا.

تؤيد هذه الأدلة بقوةٍ عالميةَ الحب الرومانسي. لكن قد تظل وجهة نظر لويس صحيحة من جانب. فحتى إن كانت العناصر الأساسية للحُب الرومانسي عالمية، فقد تختلف عناصره الأخرى من ثقافة إلى ثقافة بدرجةٍ ما. قُلنا في مثال السيمفونية السابق إن أداء فرقتَين للسيمفونية نفسها قد يختلف اختلافاتٍ طفيفة. بالمثل، قد تعبر الثقافات المختلفة عن الحب الرومانسي بأساليب مختلفة قليلًا. ففي الغرب، تُميزه سمات خاصة لا توجَد في أي مكانٍ آخر. تشمل هذه السمات الخاصة فكرة أن الحُب الرومانسي يجِب أن يُفاجئك بطريقةٍ غير متوقعة، وفكرة أنه يجب أن يكون أساسًا لالتزامٍ يدوم مدى الحياة، وكذلك أنه أسمى أشكال تحقيق الذات. لذا، بينما يُعَد الحب الرومانسي موضوعًا عالميًّا، فإنه يقبل بعض الاختلافات الطفيفة.

التعقيدات

لا تزال الأدوار الدقيقة التي تمارسها البيولوجيا والثقافة في تطوير الانفعالات موضوع نقاشٍ مُحتدم. فعلى سبيل المثال، شكَّك بعض الباحثين في الأساليب المُستخدَمة لإثبات عالمية الانفعالات الأساسية. ففي العديد من الدراسات، يُعرَض على المشاركين صور لتعبيرات وجهٍ مختلفة، ويُطلب منهم مطابقتها بكلماتٍ من قائمة معينة. لكن جيمس راسل — عالم النفس في جامعة بوسطن — قد زعم أن تقديم مثل تلك الكلمات التوجيهية سيؤدي إلى زيادةٍ غير واقعية في نسبة التعرُّف على الانفعالات الصحيحة. فإذا عرف المشاركون بالدراسة أنهم سيحاولون التعرُّف على انفعالٍ من بين السعادة، والحزن، والغضب، وما إلى ذلك، فمن المُحتمَل أن هذا ما سوف تلتقِطه أعيُنهم. لكن عندما يُطلَب منهم استخدام مفرداتهم الخاصة، تصبح الإجابة الصحيحة أصعب. في إحدى التجارب، أدى إلغاء القائمة إلى انخفاض دقة النتائج من أكثر من ٨٠ في المائة إلى ما يقرب من ٥٠ في المائة.

توسَّعت ليزا فيلدمن باريت — عالمة النفس بجامعة نورث إيسترن في بوسطن — في نقد راسل لتلك الدراسات. وأشارت إلى أن الاعتقاد بعالمية التعبيرات الانفعالية قُبِل دون تمحيص، وأن البيانات المُستخلَصة من تلك التجارب والدراسات يمكن تفسيرها دون الاعتماد على ذلك الاعتقاد. وتقترح أن العديد من التعبيرات الانفعالية لا تستند إلى أساس بيولوجي، إنما هي إشارات مكتسبة من المُحيط الثقافي؛ أي شكل من أشكال «لغة الجسد» التي نتعلَّمها لإيصال انفعالاتنا إلى الآخرين. ومثل اللغات المنطوقة، توجَد بعض القواسم المشتركة بين التعبيرات الانفعالية، لكنها تتبايَن أيضًا في بعض القواسم من ثقافةٍ إلى أخرى. هذا لا يعني أن المشاعر الأساسية خاصة بالثقافة، لكن تعبيرات الوجه المُستخدَمة لإيصال هذه المشاعر قد تكون أكثر تبايُنًا من ثقافةٍ لأخرى مما زعم إيكمان.

إن الادعاءات العلمية تكون دائمًا عرضةً للتغير، ولهذا يظلُّ النقاش مُستمرًّا حول الأهمية النسبية لدور الطبيعة والتنشئة في تطوير الانفعالات. والانتقادات التي قدَّمها الباحثون مثل راسل وباريت لا تدحض نظرية إيكمان عن الانفعالات الأساسية، إنما تقترح طرقًا لتحسينها. لكن الفكرة الأساسية القائلة بأن الانفعالات البشرية تستند إلى أساسٍ تطوُّري تظلُّ صحيحة. وسنستكشف هذه الفكرة بتوسُّع في الفصل الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥