الفصل الثاني

تطور الانفعالات

إذا سبق لك أن شاهدتَ مسلسل «ستار تريك»، ستتذكَّر سبوك، ذلك الكائن الفضائي ذا الأذنَين المُدبَّبتَين. كان سبوك نصفه إنسان والنصف الآخر فولكان وهو نوع من الكائنات يغلب عليه — بمحض صدفةٍ غريبة — السِّمات البشرية في جميع تفاصيلها باستثناء تلك الأذنَين المميزتَين.

لكن ذلك التشابُه الظاهري يُخفي وراءه اختلافًا أكثر عمقًا. خلف الوجه الشبيه بالإنسان يوجَد عقل كائن فضائي يفوق عقولنا كفاءةً بكثير. على وجه التحديد، كانت سلالة الفولكان قد تعلَّمت أن تكبت انفعالاتها. وبعد أن تخلَّصوا من الآثار القديمة لأصولهم الحيوانية، لم يعودوا مُثقَلِين بالانفعالات، وبذلك قد وصلوا إلى مستوًى خارقٍ من العقلانية.

عندما افترض صنَّاع مسلسل «ستار تريك» أن الكائن المتجرد من الانفعالات سيكون أكثر ذكاءً منَّا، كانوا يعكسون بذلك فكرة قديمة في الثقافة الغربية. فمنذ أفلاطون، اتَّجه العديد من المُفكرين الغربيين إلى اعتبار الانفعالات عائقًا عن التصرُّف الذكي، أو أنها في أفضل الأحوال رفاهيات لا ضررَ منها. وأنا أُسمِّي هذا الرأي «النظرة السلبية للانفعالات».

أما النظرة المقابلة — «النظرة الإيجابية للانفعالات» — فكانت تعتبر الانفعالات ضروريةً من أجل التصرف الذكي. ووفقًا لهذا الرأي، فإن الكائن المتجرِّد من الانفعالات سيكون أقلَّ ذكاءً منَّا، وليس أكثر ذكاءً منَّا. وعلى مدى الألفي عام الماضية، كان أغلب المُفكرين الغربيين سيعتبرون هذا الرأي محض عبث، لكن الآن، باتت الاعتبارات المُستمَدَّة من نظرية التطوُّر والعلوم العصبية تدعم هذه النظرة الآن.

من السهل إيجاد أمثلةٍ تدعم النظرة السلبية للانفعالات. فنحن جميعًا نعرف مواقف يكون فيها الانفعال المُفرِط عائقًا عن التصرُّف بذكاء. فالرجل الذي يُهينه عصابة من الهمَج سيُصبح في مأمنٍ من شرهم لو تجاهل الإهانة وانصرف، لكن كبرياءه قد يدفعه لردِّ الإهانة فيصبح بذلك ضحية اعتداءٍ عنيف. وكذلك السيدة التي ينتقِدها رئيسها في العمل قد تشعر بالانزعاج وتستقيل من وظيفتها، في حين أن التصرُّف الأذكى هو الْتزام الصمت والتعديل من سلوكها. والأمثلة في هذا الشأن لا حصر لها.

من الحماقة أن نُنكر حقيقة أن الانفعالات قد تدفع البعض إلى أفعالٍ قد يندمون عليها لاحقًا. فالنظرة الإيجابية للانفعالات لا تدَّعي أنها مفيدة دومًا. بل تؤكد أن أفضل سُبل النجاح هي المزج بين التفكير العقلاني والانفعالات دون الاكتفاء بالتفكير العقلاني وحدَه. فالشخص المُفتقِد للانفعالات تمامًا قد يتصرَّف أفضل منَّا في بعض المواقف، لكنه سيتصرف أسوأ منَّا في مواقف أخرى. وإجمالًا، فإن المزايا التي تعود علينا من الانفعالات تفوق العوائق التي تفرضها علينا.

إن ما يدعم النظرة الإيجابية للانفعالات هي نظرية التطوُّر. فالانفعالات سِمات مُعقدة، والسمات المُعقدة نادرًا ما تتطور إلا إذا كانت تُقدِّم بعض المزايا. وحقيقة أن لدَينا انفعالات الآن تعني أنها حتمًا ساعدت أسلافنا — في إحدى مراحل تاريخنا التطوُّري على الأقل — في البقاء على قيد الحياة والتناسُل. والسؤال الآن هو كيف ساعدتهم؟

قيمة الانفعالات الأساسية

من السهل أن نفهم كيف ساعدت بعض الانفعالات الأساسية، مثل الخوف والغضب، أسلافنا على البقاء. تتجلَّى فائدة القدرة على الشعور بالخوف في عالَمٍ تُشكل فيه الحيوانات المفترسة الجائعة تهديدًا خطيرًا. فالخوف يسمح للحيوانات بالاستجابة سريعًا أمام أي إشارةٍ بوجود خطرٍ مُحتمَل، فيضخ في أجسادها كميات كافية من الهرمونات التي تهيئُها للهروب سريعًا وتُسيطر على عقولها فكرة واحدة وهي الهروب! (انظر المربع ٣.) والغضب يُشبه الخوف فيما عدا أنه يُهيئ الكائن الحي للقتال بدلًا من الهروب.

المربع ٣: مسارا الخوف

اكتشف عالم الأعصاب الأمريكي جوزيف ليدو أن ثمة مسارَين منفصلَين في الدماغ يتحكَّمان في استجابة الخوف. يرتبط أولهما بانفعال الخوف الأساسي الذي حدَّده إيكمان. ورغم أنه مسار سريع للغاية، لكنه يوقِع في الخطأ أحيانًا. أما المسار الثاني فهو أبطأ، لكنه أكثر دقة. وتقضي الحالة المثالية أن يعمل المساران معًا لتحقيق التوازن بين السرعة والدقة. فالمسار الأول يجعلنا نستجيب سريعًا إلى علامات الخطر المُحتمَل، لكنه قد يُستثار أحيانًا بفعل إنذاراتٍ كاذبة. في حين أن المسار الثاني يدرس الموقف بدقَّةٍ أكبر، وإذا استنتج غياب أي خطر حقيقي، فإنه يوقِف استجابة الخوف التي أثارها المسار الأول. أما في حالات الرُّهاب، فيتوقَّف المسار الثاني عن العمل بشكلٍ صحيح، مما يجعلنا نستمرُّ في إبداء ردود فعلٍ خائفة تجاه مُثيرات لا تُشكل ضررًا.

كما يسهل نوعًا ما تفسير انفعالَي المفاجأة والاشمئزاز. يساعد انفعال المفاجأة الإنسان على الاستجابة لمُثيرات جديدة. فعندما يظهر شيء غير متوقَّع، تأتي استجابة المفاجأة لتُوقِفَنا عن استكمال مسارنا وتُجبرنا على الانتباه إليه. ويرتفع حاجبانا مما يسمح للعينَين بأن تتَّسِعا لاستيعاب أكبر قدْر ممكن من المشهد الجديد. ويتهيأ الجسم لتغييرٍ مُحتمَل في النشاط. على نحو مُماثل، فإن القدرة على الشعور بالاشمئزاز مفيدةٌ في عالم تُعَد فيه الأطعمة الفاسدة والفضلات موطنًا لمُستعمرات من البكتيريا المعدية. هكذا، فإن انفعال الاشمئزاز مُفيد لوقاية الحيوانات من التسمُّم أو الإصابة بعدوى عن طريق إبعادهم عن مثل تلك الأشياء.

أما الانفعالان الأساسيان الآخران، وهما الفرح والضيق، فيُعَد تفسير أساسهما التطوري أعقد. من المُرجَّح أنهما تطوَّرا ليُحفِّزانا على اتباع مساراتٍ مُعينة أو تجنُّبها. فنحن نشعر بالفرح عندما نفعل ما كان يساعدنا في العصر الحجري على نقل جيناتنا. فالسبب في أن ممارسة الجنس أو لقاء الأصدقاء القدامى أو تلقِّي الهدايا يبعث فينا الفرح، هو أن جميع هذه الممارسات كانت تُساعد على نجاح أسلافنا في الإنجاب. وعلى الجانب الآخر، فإن السبب وراء الشعور بضيقٍ شديد عند وفاة صديق أو فقدان مُمتلكات قيِّمة هو أن تلك الخسائر كانت تضرُّ بنجاح أسلافنا التكاثري. وهذا لا يعني أن أسلافنا أدركوا ذهنيًّا الصِّلة بين هذَين الانفعالَين ونجاح التوارث الجيني. فعملية الانتخاب الطبيعي لم تُعِدَّ عقولنا لتفكر مباشرة في أفضل الطرُق لنقل جيناتنا. لكنها منحتنا بدلًا من ذلك القدرة على الشعور بالفرح، ثم جعلت الشعور بالفرح مُرتبطًا بممارسة الأفعال التي تساعد جيناتنا على الانتقال إلى الجيل التالي.

وإذا كان انفعالا الفرح والضيق قد تطوَّرا ليؤدِّيا دور المُحفزات، على غرار نظرية الجزرة والعصا، فلا بد أنهما يعتمِدان على التوقُّع في عملهما. فدون القدرة على توقع ما إذا كان مسار معين سيؤدي إلى شعورنا بالفرح أو الضيق، فسيعجز هذان الانفعالان عن تحفيزنا للإقدام على هذا المسار أو الإحجام عنه. ولن يكون هناك جدوى من الشعور بالفرح أو الضيق إذا لم نتمكَّن من استخدام التوقُّع الذي تُثيره لدينا تلك المشاعر في مساعدتنا على اتخاذ القرارات. ومع اختبارنا لتلك المشاعر في الطفولة، نتعلَّم تدريجيًّا ما يبثُّ فينا الشعور بالفرح أو الضيق. ومع تقدُّمنا في العمر، نستعين بتلك المشاعر المُختزنة في ذاكرتنا لتسيير حياتنا.

لحُسن الحظ أننا لا نحتاج إلى الاعتماد بالكامل على تجاربنا الشخصية. فرغم اختلاف التفضيلات الشخصية فيما بيننا، فإننا نشترك جميعًا في الأسباب الأساسية للفرح والضيق، لذا يُمكننا أن نتعلَّم من تجارب الآخرين أيضًا. وينطبق المبدأ نفسه على الانفعالات الأساسية الأخرى مثل الخوف والاشمئزاز. فالأطفال الذين يرَون والدَيهم خائفين من السباحة في نهرٍ مُعين يستدلون من خوفهما على أن ذلك النهر خطير دون أن يُضطروا إلى خوض التجربة بأنفسهم. وبالمِثل، فإن الأطفال الذين يلاحظون اشمئزاز والدَيهم من نوع طعامٍ معين، يُجنبون أنفسهم عناء تذوق طعامٍ مريع. لذلك، في نوع اجتماعي مثل الإنسان العاقل أو «الهوموسابيان»، تصبح الانفعالات ذات فائدةٍ مضاعفة. فمن ناحية، فإن المشاعر الداخلية والتغيرات الجسدية الناجمة عن الانفعالات تدفع الكائن الحي لمواصلة مسار عملٍ مُعين أو تجنُّبه. ومن ناحية أخرى، فإن التعبيرات الظاهرية عن الانفعالات توفر معلوماتٍ للآخرين تسمح لهم بالتعلُّم من تجاربنا.

تحدث الظاهرة نفسها مع أنواع اجتماعية أخرى من بينها العديد من الرئيسيات. في إحدى التجارب، لم تكن قرود المكاك الريسوسي التي نشأت في المختبر تخاف من الثعابين عندما رأتها لأول مرة. لكن بعد مشاهدة فيلم يُبدي فيه قردٌ آخر خوفه من الثعبان، بدأت قرود المكاك هي أيضًا تُظهِر خوفها من الثعابين. لكن هذا النوع من التعلُّم المُستمَد من تجارب الآخرين له سقف وحدود. فعندما عُرِضت على قرود المكاك أفلام تظهر قرودًا أخرى خائفة من زهرة أو أرنب، لم ينشأ لدى قرود المكاك التي نشأت في المختبر أي مخاوف من هذه الأشياء غير المؤذية. فالتعلُّم الانفعالي هو مزيج من المُعطيات البيئية والاستعداد الفطري لتعلُّم بعض الأشياء دون غيرها.

وليس الهدف من جميع التعبيرات الانفعالية السماح للحيوانات الأخرى بالتعلُّم بشكلٍ غير مباشر. فبعض التعبيرات لا تُعَد دليلًا صادقًا على جوهر الانفعال الأساسي، بل تُعَد أحيانًا نوعًا من الخداع. على سبيل المثال، عندما تخاف القطة، ينتفش فراؤها. لكن وظيفة ذلك التعبير الانفعالي ليس إظهار خوفِها أمام الحيوانات الأخرى. فعلى العكس، توجَد بعض الحيوانات الأخرى — الضواري — التي تُفضل القطة ألا تُظهِر خوفها أمامها خشية أن يُشجعها خوفها على الهجوم عليها. إن الهدف من انتفاش فرائها هو أن تبدوَ أكبر حجمًا مما هي عليه في الواقع، وبالتالي تثني الحيوانات الضارية أو القطط الأخرى عن الهجوم عليها.

إذن عند دراسة تطوُّر الانفعالات، يجب أن نأخذ في الاعتبار جميع العناصر التي تنطوي عليها كل استجابةٍ انفعالية. فلا يكفي التركيز على المشاعر الداخلية فقط؛ بل علينا أيضًا دراسة تعبيرات الوجه والإشارات الأخرى.

كان داروين أول من شدَّد على أهمية تلك الإشارات، وبحث في كتابه «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان» (١٨٧٢) استمرارية العديد منها على مدى فتراتٍ طويلة من الزمن التطوري. اهتم داروين بهذه التعبيرات لأنه اعتبرها دليلًا قويًّا على انحدار الإنسان من حيواناتٍ أخرى. على سبيل المثال، طرح أن انتصاب شعر الجسد عند الشعور بالخوف هو أثر تطوري باقٍ من الزمَن الذي كان أسلافنا فيه مكسوِّين بالفرو تمامًا. وكان أسلافنا ينفشون فراءهم عند الخوف مثلما تفعل القطط اليوم. وبالطبع، ليس مرجحًا الآن أن نبدوَ أكبر حجمًا نتيجة انتصاب بعض الشعيرات على أذرُعنا، لذلك أصبحت هذه الاستجابة ضعيفة، لكنها لا تزال باقية باعتبارها إرثًا من أسلافنا الأوَّلين.

يسهل تخمين أسباب ظهور بعض التعبيرات الانفعالية مثل انتصاب شعر الجسد عند الخوف أو إظهار الأسنان عند الغضب. لكن تظلُّ أسباب بعض التعبيرات الانفعالية الأخرى أكثر غموضًا. والدموع خير مثال على ما نُشير إليه. إن مسألة البكاء عند الشعور بالضيق كانت مُحيِّرة للعديد من علماء التطور. فالدموع الانفعالية هي خاصية تُميِّز البشَر وحدَهم. فمُعظم الثدييات تمتلك غددًا دمعية، لكن وظيفتها تقتصر فحسب على حماية العين من الأذى. ولا يوجَد أي نوعٍ آخر من الكائنات يبكي عند شعوره بالضيق، حتى الشمبانزي الذي يُعَد أقرب أنسبائنا.

أنكر داروين أن الدموع التي تُذرَف في حالة الضيق لها وظيفة مُفيدة. فقد رأى أن الغدد الدمعية تطوَّرت باعتبارها وسيلةً لحماية العينَين في مرحلة الطفولة؛ وهي المرحلة التي قد يؤدي فيها الصراخ المُتواصِل إلى تلَف البصر. واعتقد داروين أن الدموع التي يذرفها البالغون في حالة الضيق هي مجرد نتيجة عرضية للضغط المُمارَس على الغدد الدمعية جراء تضييق العينين، تمامًا مثلما يمكن أن يؤدي انقباض العضلات نفسها إلى ذرف الدموع عند الضحك أو العطس.

لكن في الآونة الأخيرة، شكَّك الباحثون في هذا الرأي وقدموا مجموعةً متنوعة من الوظائف المُمكنة للدموع الانفعالية. وبعد أن اكتشف ويليام فراي أن الدموع التي تُذرَف في حالات الضيق لها تركيبة كيميائية حيوية مختلفة عن الأنواع الأخرى من الدموع، ذهب إلى أن هذه الدموع قد تُساهم في التخلُّص من هرمونات التوتر في الجسم. وزعم أن ذلك هو السبب في شعور الناس بأنهم أفضل حالًا بعد البكاء في أغلب الحالات. أما الرأي الأكثر شيوعًا فهو أن الدموع تُعَد إشارةً صادقة على الإحساس بالضيق. ولكي تكون الإشارات صادقة، يجب أن يكون اصطناعها صعبًا، وقطعًا يُعَد تَعمُّد البكاء أمرًا صعبًا للغاية؛ ويحتاج المُمثلون الكثير من التدريب والمِران قبل أن يتمكنوا من البكاء المُتعمَّد بصورةٍ مُقنعة. وفقًا لهذا الرأي، فإن السبب الذي يجعلنا نشعر عادةً بتحسُّنٍ بعد البكاء ليس له علاقة بالتخلُّص من الهرمونات الفائضة؛ إنما هو ببساطة أن البكاء يحثُّ الآخرين عادةً على تقديم الدعم لنا. لكن أحد أوجه قصور هذه النظرية هي أنها لا تُفسر سبب شعورنا بالتحسُّن أحيانًا عند البكاء بمعزل عن الآخرين.

نظرًا لأن البشر هم الكائنات الوحيدة التي تبكي عند شعورها بالضيق، فإن هذا التعبير الانفعالي تحديدًا لا بد أنه تطور بعد أن تفرعت سلالة البشر عن سلالة الشمبانزي. لكن معظم التعبيرات الانفعالية الأخرى أقدم من البكاء بكثير. فمِن المُحتمَل أن ظاهرة انتصاب شعر الجسد عند الخوف قد نشأت قبل أكثر من خمسين مليون سنة، عندما كان السلف المشترك للثدييات يجوب الأرض. وانفعال الخوف نفسه أقدم من هذا التعبير الفسيولوجي عنه. في الواقع، يُرجح أن يكون الخوف أحد أول الانفعالات التي تطوَّرت على الإطلاق. فمِن المُرجح أنه كان موجودًا لدى أوائل الفقاريات التي ظهرت قبل حوالي ٥٠٠ مليون سنة أو أكثر. وجميع الحيوانات التي انحدرت من أوائل الفقاريات — البرمائيات والزواحف والطيور والثدييات — قد ورثت القدرة على الخوف. فالبشر لا ينفردون بوراثتهم لهذا الانفعال.

ربما تكون بعض الانفعالات الأساسية الأخرى كالفرح والضيق قد ظهرت في مرحلةٍ لاحقة، لكنها لا تزال انفعالات قديمة للغاية، ولهذا نجِدها مشتركة بين العديد من الحيوانات الأخرى غير الإنسان. من قد يُساوره شك في أن قطة مستكينة بجانب مدفأة تشعر بنوعٍ من السعادة وهي تُقرقر بصوتٍ عالٍ؟ قد يصعب العثور على دليلٍ يؤكد قدرة الحيوانات على الشعور بالضيق، لكن من الصعب أيضًا أن نُنكر شعورنا بأن الأفيال على الأقل تشعر بهذا الانفعال. فأُمَّهات الأفيال غالبًا ما تتردَّد في ترك جُثث صغارها عندما يقتلهم صيادون رغم أن ذلك قد يُعرِّضها للخطر، كما أنها تتردَّد على ما يُعرَف بمقبرة الأفيال.

قبل أن تتهمني بتغليب العاطفة، تأمَّل الأدلة المُستمَدة من علم تشريح الأعصاب. فعند مقارنة أدمغة حيوانات بينها اختلافات كبيرة، تبدو أوجه التشابُه مذهلة. ففي جميع الفقاريات، على سبيل المثال، ينقسِم الدماغ إلى ثلاثة أجزاء مُميزة تُعرَف باسم الدماغ الخلفي، والدماغ المُتوسط، والدماغ الأمامي، وداخل كلٍّ من هذه الأجزاء تتطابق البِنى والمسارات الأساسية. وهذا يدل على أن تطوُّر الدماغ هو عملية شديدة التحفُّظ تجاه التغيير؛ حيث تخضع العديد من الأنظمة لتعديلات طفيفة للغاية، رغم أن بقية الجسم قد يتغير بدرجة كبيرة.

يتَّضح هذا بشكلٍ خاصٍّ في البِنى الدماغية المُرتبطة بالخوف والغضب. ففي جميع الثدييات — بما فيها نحن البشر — يتحكم في مشاعر الخوف والغضب مجموعة من البِنى العصبية التي تُعرَف باسم الجهاز الحوفي. تشمل هذه التراكيب الحُصَيْن، والتلفيف الحزامي، والمِهاد الأمامي، واللوزة الدماغية (انظر الشكل ٢-١). وتختبئ كل هذه التراكيب عميقًا في مركز الدماغ تحت الطبقة الخارجية للنسيج العصبي المعروف باسم القشرة المُخيَّة الحديثة. لكن القشرة المخية الحديثة — من المنظور التطوري — أحدث من الجهاز الحوفي. وعلى الرغم من وجود نوع من القشرة المخية الحديثة في أدمغة الأسماك والبرمائيات والطيور والزواحف، فإن حجمَها في الثدييات أكبر بكثيرٍ وتُغلف بِنى الجهاز الحوفي بالكامل. إن كِبَرَ حجم القشرة المخية الحديثة في الواقع هو الفارق الرئيسي بين أدمغة الثدييات وأدمغة الفقاريات الأخرى. ووفقًا لعالِم الأعصاب بول ماكلين، تضمَّن تطوُّر دماغ الثدييات اتساع القشرة المخية الحديثة، في حين لم يطرأ على بِنى الجهاز الحوفي الأقدم تعديلات كثيرة، لكنها رغم ذلك لم تبقَ على حالها بالطبع. عند عقد تلك المقارنات بين الأنواع، فإن كلَّ شيء يُعَد نسبيًّا؛ فبِنى الجهاز الحوفي لديَّ تختلف عن تلك التي لدى الشمبانزي (آمُل ذلك)، لكن دماغ الشمبانزي ودماغي يتشابهان نسبيًّا مقارنةً بدماغ الأسماك.
fig2
شكل ٢-١: موقع الحُصين واللوزة الدماغية والمناطق القشرية المُحيطة بهما.

إذا كان الجهاز الحوفي وحدَه هو الذي يتحكَّم في الانفعالات الأساسية مثل الخوف، فإن الانفعالات المعرفية العليا، كالحب والشعور بالذنب تنطوي على معالجاتٍ أكثر تعقيدًا في القشرة المخية. وهذا قد يعني أن هذه الانفعالات تطورت في مرحلة تالية لظهور الانفعالات الأساسية بفترةٍ كبيرة، بعد فترة طويلة من بدء توسع القشرة المخيَّة الحديثة تزامنًا مع ظهور الثدييات العُليا. بعبارة أخرى، قد لا يزيد عمر هذه الانفعالات المعرفية العُليا عن ستِّين مليون سنة، وهذا يُعَد عمرًا صغيرًا جدًّا مقارنةً بعمر الدماغ والانفعالات الأساسية في الفقاريات التي مضى على نشأتها ما يقارب الخمسمائة مليون سنة. بل قد يكون تطوُّر هذه الانفعالات المعرفية أحدث من العمر المُقدَّر سابقًا.

تطور انفعالات الذنب والحُب والانتقام

إذا كان الزمن الذي تطورت فيه الانفعالات المعرفية العُليا، مثل الذنب والحب، لا يزال غير واضح، فإن السبب وراء تطوُّرها يُعَد أكثر غموضًا. فمِن السهل أن نُدرك دور القدرة على الخوف أو الاشمئزاز في مساعدة أسلافنا على البقاء، لكن من الصعب أن تفهم الفوائد التي عادت عليهم من الوقوع في الحب أو الشعور بالذنب. وفي هذا الصدد، طُرِح عدد من الاقتراحات المُثيرة للاهتمام التي قد تُفسر فائدة تلك الانفعالات أيضًا. وعلى الرغم من أن هذه الاقتراحات لا تزال إلى حدٍّ كبير تخمينية، فإنها تُقدم رؤًى إضافية عن الفوائد المُحتملة من الشعور بمثل تلك الانفعالات.

مثال على ذلك هو الشعور بالذنب. إذا نظرنا إليه ظاهريًّا، فسيستعصي علينا أن نفهم لماذا قد يمنحنا الانتخاب الطبيعي مثل هذا الانفعال. هناك مواقف كثيرة في الحياة يكون الغش فيها مُمكنًا؛ وهو أن تحصل على مزيَّةٍ دون دفع الثمن المقابل لها. إذا أتيحت الفرصة أمامك أن تغش دون أن يكتشفك أحدٌ، فمن المؤكد أن الخيار الأنفع لك هو الغش. لكن إذا كان لديك ضمير، فإن الإحساس بالذنب الذي قد تشعر به لاحقًا قد يمنعك من الغش. من ثَم، يبدو أن الحيوان الذي لدَيه القدرة على الشعور بالذنب سيكون خارج المنافسة أمام منافسيه الأقل ضميرًا. وبذلك، فإن القدرة على الشعور بالذنب قد تختفي بفعل الانتخاب الطبيعي.

اعترض الاقتصادي روبرت فرانك على هذا التحليل. حاجج فرانك بأنه من المُفيد أن يتحلَّى المرء بالقدرة على الشعور بالذنب؛ لأن المعروفين بضميرهم اليقِظ تزداد لديهم احتمالية أن يثِق الآخرون فيهم. ثم روى القصة التالية حتى يوضح وجهة نظره. تخيل أن لدَينا شخصَين، وهما سميث وجونز، يرغبان في بدء مشروع مطعم. سميث طبَّاخ موهوب وجونز مدير بارع، وبالتالي يمكنهما معًا بدء مشروع مشترك ناجح يعود على كلٍّ منهما بأرباحٍ تفوق ما قد يحصل أي منهما عليه عند العمل بمُفرده. لكن يدرك كلٌّ منهما أن الآخر سيُتاح له فرَص للغش دون أن يُكتَشَف. قد يتلقى سميث مثلًا رشاوى من موردي الغذاء، بينما قد يتلاعب جونز بالحسابات. إذا غشَّ أحدهما فقط، فإنه سيُحقق أرباحًا على حساب الآخر الذي سيتكبَّد قدرًا من الخسائر. لكن إذا غش كلاهما، فسيكون حال كلٍّ منهما أسوأ مما لو كانا قد تصرَّفا بأمانة. ولو قطع سميث وجونز على أنفسهما تعهدًا مُلزِمًا بعدم الغش، لربح كلٌّ منهما. لكن كيف يكون لالتزامهما مصداقية؟ فمجرد التعهُّد بعدم الغش ليس أمرًا قاطعًا؛ بالنسبة لشخصٍ غير أمين، من السهل تقديم الوعود مثلما من السهل مخالفتها.

هنا يأتي دور الشعور بالذنب. إذا شعرتَ بالذنب كلما طاوعتك نفسك بالغش، فقد يدفعك هذا الشعور إلى التصرُّف بأمانة حتى وأنت تعرف أنك تستطيع النجاة بفعلتك. وإذا ذاع صيتك بين الآخرين أنك من هذا النوع الأمين، سيبحثون عنك لتكون شريكًا لهم في مشروعاتٍ مشتركة تحتاج أن تقوم على الثقة. وبالطبع يعتمد ذلك على وجود إشاراتٍ موثوق فيها تشير إلى الإحساس بالذنب. فإذا وُجِدَت بعض الإشارات الموثوق فيها على أن لديك ضميرًا حيًّا — مثل احمرار الوجه عند الشعور بالذنب — سيُصبح بوسع الآخرين التمييز بين الشخص الجدير بالثقة والمحتال. ولا بد أن يكون تصنُّع هذه الإشارات صعبًا، وإلا فلن تكون موثوقًا فيها. أشار فرانك إلى أن بعض التعبيرات الانفعالية، مثل احمرار الوجه، قد أدمجها الانتخاب الطبيعي في الفسيولوجيا البشرية لتُصبح بمثابة إشاراتٍ موثوق فيها تُعبِّر عن كون الشخص أمينًا وجديرًا بالثقة.

وهناك مواقف حياتية كثيرة أخرى تكون القدرة على قطع وعود موثوق فيها أمرًا ضروريًّا. يشير فرانك إلى جميع تلك المواقف باعتبارها «مشكلات الالتزام»، ويرى أن جميع الانفعالات المعرفية العُليا تساهم في حلِّ أنواع مختلفة من مشكلات الالتزام. فالقدرة على الشعور بالذنب تساهم في حلِّ مشكلات الالتزام التي تحتاج إلى تقديم وعدٍ قاطع بعدم الغش. وبالمثل، يرى فرانك أن الحُب الرومانسي يحلُّ نوعًا آخر من مشكلات الالتزام التي يتعين فيها تقديم وعدٍ قاطع بأن يبقى الشخص مخلصًا للطرَف الآخر. قد يرى طرفان أنهما رفيقان مناسبان، لكنهما سيترددان في الارتباط بعضهما ببعض ما لم يكن كل منهما واثقًا من أن الآخر لن يتخلى عنه بمجرد ظهور شخص آخر أكثر جاذبية. وإدراك كِلا الطرفَين أن الآخر يُحبه قد يمنحه إحساسًا بالطمأنينة. فإذا ارتبط رجل بامرأة بناءً على انفعال — وهو انفعال تعكسه إشارات فسيولوجية موثوقًا فيها مثل تسارع نبضان القلب وصعوبة النوم — لم يكن له يد في «اختيار» الشعور به (وبالتالي ليس في يدِه القرار بعدم الشعور به)، فمن المرجَّح أن تزداد المرأة اقتناعًا بأنه سيظلُّ معها أكثر مِن كونِه اختارها بعد أن وازن بتروٍّ بين مزاياها وعيوبها. وكما كتب دوجلاس ييتس، فإن الأشخاص الذين يتعاملون بعقلانية مع الحُب سيعجزون عن الإحساس به.

ثمة مشكلة التزام أخرى تتعلق بتوجيه تهديدات جدِّية بالانتقام. تخيَّل أنك أصغر طفلٍ في الفصل، وتوعَّدك فتوة الفصل بأنه سيسرق غداءك. قد تُهدِّده بالردِّ عليه والانتقام منه، لكن إذا كان المُتنمِّر يعرف أنك شخص عقلاني، فلن يأخذ تهديدك على محمل الجد. فمِن المرجح في النهاية أن يؤدي الانتقام من الفتوة إلى وقوع شجارٍ ستكون أنت فيه الطرف الخاسر بلا شك، بل ستُصبح أسوأ حالًا بعد أن فقدتَ غداءك وتورَّمت إحدى عينَيك أو كلتاهما. لكن إذا كان معروفًا عنك الانتقام، فقد حُلَّت مشكلتك؛ فدافعك للثأر سيجعلك تنتقِم بعد أي إساءةٍ بغضِّ النظر عن العواقب، وبهذا سيتردَّد المُتنمِّر في سرقة شطيرتك. ويبدو هنا أن الانفعالات تُظهِر لمرةٍ أخرى ضربًا من «العقلانية الشاملة» التي تحمي العقل المجرد من نفسه.

إذن وفقًا لفرانك، فإن الانفعالات المعرفية العُليا مثل الشعور بالذنب والحب والانتقام تؤدي وظائف مُفيدة للغاية. إذ إنها تساعدنا في حلِّ مشكلات الالتزام التي قد نعجز عن حلِّها بالعقل وحدَه. لكن تلك الانفعالات لا تخلو من العيوب. قد تُساعدنا على تقديم وعود قاطعة وتهديدات جدية، لكن ماذا لو اختبر أحدُهم جديتنا؟ رغم تسارُع نبضات قلبي واحمرار وجهي، إذا لم يلقَ تصريحي بالحُب أي صدًى من الطرف الآخر، فسيكون محكومًا عليَّ بأسابيع أو شهور أو ربما حتى سنوات من التعاسة. فالحُب من طرفٍ واحد هو بلا شك واحدة من أقسى العقوبات. وبالمِثل، إذا قرَّر فتوة المدرسة سرقة شطيرتي رغم وعيِه برغبتي في الانتقام، فسيدفعني انتقامي إلى أن أكون في حالٍ أسوأ مما لو لم أُنفِّذه؛ إذ سأفقد شطائري وسأُصاب بكدمةٍ شنيعة.

بالطبع سيكون من الرائع أن ننتفع بفوائد هذه الانفعالات دون تحمُّل المخاطر المُترتبة على اختبار أحدهم لجدِّيَّتنا. سيكون من الرائع، على سبيل المثال، أن يختفي عذاب الحُب فجأة كلما قوبلت محاولاتنا بالرفض. أو إذا تمكَّنا من توجيه تهديدات قاطعة بالانتقام ثم تراجَعنا عنها بخنوع متى قرَّر أحدُهم أخذها على محمل الجد. لكن التصرُّف بهذه الطريقة سيُقلل من مصداقية أي وعودٍ وتهديدات قد نُقدمها في المستقبل. لكي يكون التهديد جديًّا، لا بد أن تُظهِر أنك مُجبَر بطريقةٍ ما على تنفيذه. لكن يبدو أن الانفعالات المعرفية العُليا لا مفرَّ لها من أن تكون سلاحًا ذا حدَّين.

لا تكتسب الوعود والتهديدات مِصداقيتها إلا إذا وُجدت الأدلة على أنك ستُنفذها مهما كلَّفك الأمر. يجب أن تُظهِر بطريقةٍ ما أنك «مُقيد» بتنفيذ التهديد أو الوعد. لنُطلق على هذا «مبدأ القيد». بصيغةٍ أخرى، حتى تؤدي الانفعالات دورها، لا بد أن تصحبها حتمية التنفيذ؛ حتى إذا اختبر أحدُهم مصداقيتك، لم يعُد أمامك مفرٌّ من تنفيذ وعدِك أو تهديدك. وهذه الانفعالات تُقيدك بقيدٍ يُلزمك بمسارٍ مُعين قد لا ترغب في تنفيذه.

علاوة على ذلك، يجب أن يكون هذا القيد المُلزِم ملموسًا بوضوحٍ لدى الآخرين. فلا فائدة من وجود آلية كهذه إذا لم يتمكن الآخرون من رؤيتها. في حالة انفعال الذنب، يظهر الشعور بالقيد من خلال إشارات فسيولوجية مثل احمرار الوجه. وفي معظم الأحيان تمنع رؤية هذا القيد الناس من اختبار مِصداقيتك، وهو ما نأمُله. يرى مُتنمِّر المدرسة أنك مُتأثر بنوبة غضب مُبَرَّر، فيتَّقي غضبك ويبتعِد عن شطائرك. لكن في بعض الأحيان، لا يؤتي هذا القيد الرادع ثِماره. فيسرق المُتنمر شطائرك على أي حال، ولا يترك أمامك خيارًا سوى الانتقام. حينها تبدأ الرغبة في الانتقام في الاستحواذ عليك، ولا تترك لك خيارًا سوى الثأر منه. وهنا يطغى تيار الانفعال الجارف على صوت العقل الداعي إلى الحذَر.

لكن إذا ألزم كلٌّ من طرفي النزاع نفسه بقيد الفعل الذي يُهدد به، فسيظهر خطرٌ آخر. في مثل هذه الحالات، يكفي أن يختبر طرفٌ واحد مصداقية الآخر حتى تبدأ حلقة مُفرغة من الثأر المتبادل. يروي ستيفن بينكر حكاية رمزية توضح هذا الخطر. وبالصدفة البحتة، تتضمَّن القصة بعض القيود الحقيقية:

يُحاول المحتجُّون عرقلة بناء محطة للطاقة النووية، وذلك عن طريق الاستلقاء على قضبان السكك الحديدية المؤدية إلى الموقع. لم يجد المهندس العقلاني خيارًا أمامه سوى إيقاف القطار. فجاء رد شركة السكة الحديدية بإعطاء تعليماتٍ إلى المهندس بضبط دوَّاسة الوقود حتى يتحرك القطار ببطءٍ شديد، ثم يقفز من القطار ويمشي بجانبه. وحينها سيُضطرُّ المحتجُّون إلى التنحِّي بسرعة. في المرة التالية، قيَّد المُحتجُّون أنفسهم إلى القضبان، ولم يجرؤ المهندس على مغادرة القطار. لكن المُحتجِّين كان عليهم التأكد من أن المهندس سيراهم في وقتٍ كافٍ حتى يتسنَّى له إيقاف القطار. فتُقرِّر الشركة أن تعين للقطار التالي مهندسًا يُعاني قصر النظر.

إن هذا المنطق المؤسِف هو الذي يقِف وراء مساعي الانتقام الدائمة بين عائلات المافيا في إيطاليا والقتل الطائفي المتبادل بهدف الثأر في بعض المناطق بالشرق الأوسط. أينما كانت سلطة القانون ضعيفة، تُصبح الحلقات المُفرغة من الاعتداء والثأر شائعة. تستمر هذه الحلقة رغم أنها ليست في مصلحة أيٍّ من الطرفين، لكنها تستمر فحسب لأن دافع الانتقام مُتجذِّر بعُمق في تكويننا البيولوجي. وكما رأينا، هناك سبب تطوري وجيه لهذه الصفة المؤسفة في طبيعتنا البشرية. فمن دون الرغبة في الانتقام، سنكون عرضةً للاستغلال بسهولة.

هل لا تزال الانفعالات مُفيدةً إلى يومِنا هذا؟

لكن ماذا عن فائدة الانفعالات في الوقت الراهن؟ ربما كانت انفعالات — كالرغبة في الانتقام — مفيدةً لأجدادنا الصيادين وجامعي الثمار، الذين كانوا يثأرون لأنفسهم بالعِصي والحجارة ويتسبَّبون في عددٍ أقلَّ بكثير من الوفيات؛ لكن تلك الانفعالات لها نتائج عكسية بلا شك في عالَمٍ تتوفر فيه الأسلحة بلا قيد. وربما ينطبق ذلك على سائر الانفعالات. ربما تكون سلالة الفولكان مُتقدمةً علينا بالفعل في رَكْب التطوُّر. وربما يكون سبوك وبني جنسه قد أحسنوا القرار بتنحية انفعالاتهم جانبًا عندما سيطر على عالمهم التقنيات المُتطورة.

يبدو أن هذا كان رأي داروين، الذي يُصرح ضمنًا في كتابه «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان» أن هذه التعبيرات الانفعالية، رغم أنها كانت مفيدةً في الماضي، لم تعد ذات قيمةٍ الآن. على سبيل المثال عندما يجادل داروين بأن ميل الإنسان إلى الكشف عن أسنانه عند الغضب هو من بقايا المظاهر البدائية للتعبير عن العدوان لدى أسلافنا الأوَّلين، فيبدو أنه كان يُلمح إلى أن ذلك الانفعال شبيه بالزائدة الدودية من ناحية أنه موروث من مرحلةٍ مُبكرة من تاريخنا التطوُّري ولم يعُد له دور الآن.

من المؤكد أننا نعيش في عالَم يختلف كثيرًا وفي نواحٍ عدة عن العالم الذي عاش فيه أسلافنا. فلم نعُد مُهدَّدين بأن تفترسنا الحيوانات الضارية مثلًا، كما أن احتمال تعرُّضنا لهجومٍ من بشر آخرين بات أقل بكثير. إذا كان انفعال الخوف قد تطوَّر ليُساعدنا على تجنُّب تلك الأخطار، فقد يبدو أننا سنكون في حالٍ أفضل من دونه اليوم. وقطعًا، فإن امتلاك قدرةٍ مُفرطة على الشعور بالخوف يؤدي إلى ظهور العديد من المشكلات التي يرغب كثيرون بشدة في التخلُّص منها، مثل الرهاب ونوبات الهلع. وقلَّما نسمع عن أشخاصٍ يُعانون من العكس، أي من نقص انفعال الخوف. وربما يعود هذا الاختلال الظاهري إلى أن الذين يفتقرون إلى القدرة على الخوف يَلْقَون حتفهم قبل أن يُدركوا وجود خلَلٍ لديهم. لا يقتصر دور الخوف على حمايتنا من الحيوانات المفترسة. إنما يثنينا عن عددٍ لا يُستهان به من التصرُّفات الطائشة التي قد يؤدي العديد منها إلى الموت. فالخوف سيمنعك من عبور طريقٍ مزدحم دون النظر يمينًا ويسارًا، أو الرقص على حافة مُنحدَر. صحيح أن الحياة بلا خوف قد تكون أقلَّ إيلامًا، لكنها أيضًا ستكون أقصرَ بكثير.

قد يبدو أيضًا أن انفعال الغضب لا فائدة له في زمننا الحاضر. فعلى عكس أسلافنا الأوائل، لا يُضطر أغلبنا إلى خوض الكثير من الاشتباكات الجسدية العنيفة، فما الفائدة إذن من الاحتفاظ بقدرة انفعالية وظيفتها مساعدتنا على الشجار؟ إحدى الإجابات هي أن الشجار لا يشترط أن يكون جسديًّا. فنزاعاتنا اليوم تُحَل بطرق أخرى، لكنها ما زالت تتطلَّب العزم والتصميم. إن الأشخاص الذين لا يُساورهم انفعال الغضب أبدًا، لا يُحرزون تقدمًا في حياتهم. علاوة على ذلك، يجب ألا نُبالغ في افتراض أن الحاجة إلى العنف الجسدي قد تلاشت من عالَمنا. فما زال هناك العديد من المواقف، حتى في الثقافات المُرفهة والمُلتزمة بالقانون في العالم المُتقدِّم، يكون فيها اللجوء إلى العنف الجسدي هو السبيل الوحيد للدفاع عن النفس. على سبيل المثال، تدور أحداث فيلم «رجل الدمار» (ذا ديموليشين مان) في المستقبل حيث تكون القدرة البشرية على الغضب ضامرة كليًّا. عندما يظهر في المشهد مجرم شرير أعيد إلى الحياة من حالة السبات التي كان قد حُكِم بها عليه في القرن العشرين، يعجز الجميع عن التعامل معه. لا يُلقى القبض على هذا المجرم إلا بعد إعادة إحياء شخصٍ آخَر من القرن العشرين، وهو ضابط شرطة لا يزال يمتلك القدرة على الغضب مثلَه مثل المجرم.

مثلما قد يتسبب نقص الغضب في مشكلات، قد يتسبب فَرطُه في مشكلات أيضًا. فغضب الطريق الذي ينتاب السائقين في الازدحام المروري هو مثال واضح على ذلك. بسبب الضغط النفسي الذي يتعرَّض له السائقون من القيادة في شوارع مزدحمة، يصل بعضهم إلى حالة تدفعهم فيها أتفَهُ المواقف المزعجة إلى الانفجار غضبًا. في بعض الأحيان، يكتفي السائق المُستاء بالضغط على بوق سيارته أو سبِّ الشخص الذي أزعجه. وفي أحيان أخرى، قد يخرج مندفعًا من سيارته ويسحب السائق الآخر ويُجرجره إلى منتصف الطريق، ويفرِّغ فيه غضبه ضربًا وركلًا. فالغضب مُفيد عندما يكون بالقدْر المناسب، لكن المبالَغة فيه قد تؤدي إلى مشكلات خطيرة.

ينطبق المبدأ نفسه على العديد من الانفعالات الأخرى. حتى الغيرة الجنسية قد تكون لها نقطة وسط مِثالية بين التملك المُفرِط والتساهل المُفرط (انظر المربع ٤). إن الحالة المثالية لأي انفعال تستلزِم امتلاكه بالقدْر المناسب دون إفراط ولا تفريط. أسَّس أرسطو نظامه الأخلاقي بالكامل على هذه الفكرة البسيطة. فالفضائل في نظريته هي الحالة الوسط بين أقصى طرفي النقص أو الزيادة في انفعال مُعين. فالشجاعة هي نقطة الوسط بين الخوف المبالَغ فيه وعدم الخوف. وفضيلة اللطف تقع في المنتصف بين حدة الطبع المُبالَغ فيها والخضوع المبالغ فيه. وهكذا.

المربع ٤: الغيرة: هل هي محمودة أم مذمومة؟

كما هو الحال مع الانفعالات المعرفية العُليا الأخرى، تطوَّرت الغيرة الجنسية لمساعدة أسلافنا على البقاء على قيد الحياة والتكاثر ضِمن مجموعات اجتماعية مُعقدة. دفعت الغيرةُ أسلافنا إلى مراقبة شركائهم بحذَر، وبذلك ساعدتهم في التأكد من عدم تقصير شركائهم الجنسيِّين في مُهمتهم المشتركة المُتمثلة في إنجاب الأطفال وتربيتِهم. وشأن جميع الانفعالات الأخرى، تُصبح الغيرة المُفرطة مذمومة. إذ تدفع إلى تصرفاتٍ عنيفة وتحكُّمية؛ وعليه قد تؤدي إلى نفور الشريك أو إلى موته. عادةً ما يكون المُترصِّدون عشاقًا منبوذين دفعتهم غيرتُهم إلى ملاحقة شركائهم السابقين بحميَّةٍ مخيفة وغير مناسبة. مثل هذه الأمثلة للغيرة المُفرطة قد تجعلنا نظن أن الغيرة في مُجملها مذمومة. لكن هذا من قبيل رمي الصالح بالطالح. فالغيرة المُفرطة مذمومة وكذلك نقصها. كم شخصًا سيشعر بالحب الصادق من شريكه إذا لم يُظهِر أي علامة على الغيرة؟

يتشابه مفهوم الوسط الذهبي عند أرسطو بشكلٍ لافت مع ما يُشير إليه علماء النفس اليوم بمفهوم «الذكاء الانفعالي». فالذكاء الانفعالي يستلزِم تحقيق التوازُن بين الانفعال والعقل بحيث لا يطغى أحدهما تمامًا على الآخر. فالأشخاص المُميزون بالذكاء الانفعالي يعرفون متى عليهم التحكُّم في انفعالاتهم ومتى عليهم ترك أنفسهم لتلك الانفعالات حتى تُوجِّههم.

يتضمَّن الذكاء الانفعالي أيضًا القدرة على قراءة مشاعر الآخرين على الوجه الصحيح. من السهل تخمين الحالة الانفعالية لشخصٍ ما وهو مُنخرِط في نوبة بكاء، لكن الإشارات لا تكون دائمًا بمثل هذا الوضوح. فنحن كثيرًا ما نحاول إخفاء انفعالاتنا، مما يُصَعِّب على الآخرين تخمين ما نشعر به، ومع ذلك نادرًا ما ننجح في السيطرة على الإيماءات اللاإرادية التي تكشف عن أفكارنا الداخلية. إن القُدرة على تخمين الحالة المزاجية لشخصٍ ما بناءً على هذه الإشارات الدقيقة هي موهبة نادرة لكن يمكن صقلها بالممارسة.

تتزايد الأدلة على ارتباط دوائر عصبية خاصة بالقدرة على تمييز تعبيرات الوجه المُرتبطة بالانفعالات. تتضمَّن هذه الدوائر تراكيب رئيسية في الجهاز الحوفي مثل اللوزة الدماغية. وعند تَضرُّر هذه التراكيب، تتعطَّل هذه الدوائر؛ ويترتَّب على ذلك ضعف القدرة على التمييز بين تعبيرات الوجه المختلفة المرتبطة بالانفعالات. فعلى سبيل المثال، يؤدي تلَف كِلا اللوزتَين إلى تقليل قُدرة الأشخاص على تمييز الانفعالات السلبية، مثل الخوف والغضب. ويبدو أن التطوُّر لم يكتفِ بتشكيل قدرتنا على الشعور بالانفعالات والتعبير عنها فحسب، بل زوَّدنا أيضًا بآليات مُتخصصة لتمييز الانفعالات.

ينبغي أن تكون فائدة تلك الآليات العصبية قد اتضحت الآن. فمِن دون القدرة على تمييز انفعالات الآخرين، سنفقد فرصًا كثيرةً للتعلُّم من تجاربهم وسنُضطر حينها إلى تعلُّم كل شيءٍ بالطريقة الأصعب، وهي اختباره بأنفسنا. وسنواجِه كذلك صعوبة أكبر في معرفة فيمن نثِق. إذ تُعَدُّ الإشارات الانفعالية اللاإرادية واحدةً من أكثر المعلومات الموثوق فيها لمعرفة شخصيات الآخرين. ففي إحدى التجارب، كُوِّن، عشوائيًّا، أزواج من المشاركين ومُنِحوا ثلاثين دقيقة للحديث معًا. ثم طُلِب من كل منهم على انفراد اتخاذ قرار بسيط: هل سيتعاون مع الشخص الآخر أو يغشُّه. وطُلِب منهم كذلك تخمين ما سيفعله الشخص الآخر. كانت معدلات الإجابات الصحيحة مرتفعة ارتفاعًا لافتًا للنظر. كان جميع المشاركين في هذه التجارب يتمتَّعون بعقول سليمة، في حين أن الذين تراجعت لديهم القُدرة على قراءة الإشارات الانفعالية نتيجة تلفٍ في الدماغ حققوا نتائج أسوأ بكثيرٍ في ظروف تجريبية مُماثلة.

ينبغي أن يكون قد اتضح الآن أن الشخص المجرد من الانفعالات لن يتمكن من الصمود طويلًا على قيد الحياة. فمن دون انفعال الخوف، قد يظلُّ المرء جالسًا ويُفكِّر برويَّة عمَّا إذا كان الأسد الذي يقترِب عليه يُمثِّل تهديدًا أم لا. ومن دون الغضب، سيتعرَّض المرء إلى مضايقات بلا هوادة. ومن دون الاشمئزاز، قد تراوِدُه نفسه أن يتناول فضلاتٍ أو طعامًا فاسدًا. ومن دون القدرة على الفرح والضيق، قد لا يكلف نفسه عناء بذل أي مجهود على الإطلاق؛ وذلك ليس سبيلًا جيدًا للبقاء. ومع ذلك لم يكن لسلالة الفولكان في مسلسل «ستار تريك» أن تتطوَّر أبدًا في الواقع.

المشاعر الأخلاقية

إن الإنسان المجرد من الانفعالات لن يعيش فترةً أقصر فحسب؛ بل إنه قد لا يكون شخصًا صالحًا أيضًا. يبدو أن الانفعالات تتخلَّل جوانب كثيرة من حياتنا الأخلاقية. فقد شدَّد طيف واسع من المُفكرين، بدءًا من أرسطو إلى آدم سميث، على الدور الجوهري للانفعالات في توجيه السلوك الأخلاقي. وقد أشرتُ سابقًا إلى مفهوم أرسطو للفضيلة باعتبارها نقطةً وسطًا بين الحالات الانفعالية المُتطرفة. كذلك ربط آدم سميث الانفعالات بمبادئ الأخلاق، لكن بطريقةٍ مختلفة نوعًا ما. فكان يعتقد أن بعض الانفعالات قد وُجِدَت خصوصًا لمساعدتنا على التصرُّف بما يتَّسق مع الأخلاق، وهي وجهة نظر تؤيدها الآن النظرية التطورية. وصف سميث هذه الانفعالات بأنها «المشاعر الأخلاقية».

تَبنَّى بعض المُفكرين نظرة مغايرة تمامًا بشأن العلاقة بين الانفعال والأخلاق. فقد رأى هوبز أن ميولنا الانفعالية الطبيعية تدفعنا غالبًا نحو انتهاج سلوكٍ أناني، وأن السبيل الوحيد للتصرُّف بأسلوب أخلاقي هو التسامي على غرائزنا الحيوانية والتصرُّف وفق القانون. وقد قدَّم كانط رؤيةً مشابهة. فلم يُنكر أن الانفعالات قد تُوجهنا إلى التصرُّف بشكل صحيح، لكنه رأى أن الأفعال المتأثرة بدوافع انفعالية لا تُعَد فاضلة بحق. فعلى سبيل المثال، إذا التزم شخص بالقانون الأخلاقي بدافع الخوف، فلا يمكن وصفه بأنه فاضل بحق. ووفقًا لرؤية كانط، فإن السلوك الأخلاقي لا يتحقَّق إلا من خلال الالتزام التام غير المُتأثِّر بالانفعالات بالقانون الأخلاقي، بغرَض احترام القانون في حدِّ ذاته.

وأنا أرى أن وجهة نظر كانط إلى الأخلاق جافَّة لا تصلح إلا لكائنات الفولكان. لكن مع الأسف، كان لمنظوره «الفولكاني» عن الأخلاق أثر كبير على الفِكر الغربي. فمِن جانب، شجَّع على ترسيخ النظرة السلبية تجاه الانفعالات، فأصبح من الشائع الآن الاعتقاد بأن الأفعال تفقد قِيمتها الأخلاقية عندما تتأثَّر بدوافع انفعالية. وقد قدَّم أحد السياسيين المحافظين في إنجلترا منذ بضع سنوات مثالًا تقليديًّا على هذا التفكير الخاطئ. ففي محاولة لتشويه سياسات المُعارَضة التي تهدف إلى توزيع الثروة بعدالة أكبر بين شرائح المجتمع كافة، اتهم ذلك السياسي مُعارضيه بأنهم يروِّجون ﻟ «سياسة الحسد». المنطق الضِّمني لذلك الاتهام واضح، وهو أن الحسد انفعال سلبي، لذا فإن أيَّ سياسةٍ مدفوعة بهذا الانفعال ستكون غالبًا سلبية أيضًا. لكن الحسد ليس في مُجمله شر. ففي الواقع، قد يتبيَّن أن له دورًا أساسيًّا في إحساسنا بالعدل وفي تحفيزنا لبناء مجتمع أكثر عدلًا؛ فقد كتب برتراند راسل أن «الحسد أساس الديمقراطية». وربما أن ذلك الانفعال قد تطوَّر لهذه الأغراض تحديدًا باعتباره وسيلةً تَحُول دون اتساع رقعة التفاوت في فترةٍ طويلة عاش فيها أسلافنا في مجموعات صغيرة من الصيادين وجامعي الثمار. أو ربما تطوَّر ببساطة ليُحفز الناس على الاستئثار بالمزيد لأنفسهم. في كِلتا الحالتَين، فإن الحسد جزء من الطبيعة البشرية، ولا يمكن للسياسيين إلغاؤه من الوجود بالتشريعات. كل ما يُمكننا فعله هو أن نُقرر كيف نُعبر عنه؛ إما من خلال سياسات إعادة توزيع الثروات، أو من خلال العنف والسرقة.

من ناحيةٍ أخرى، أدَّى منظور كانط تجاه الأخلاق إلى ظهور وجهة نظر مُضللة بشأن كيفية اتخاذ القرارات الأخلاقية. فوفقًا لنظرية تُعرَف بنظرية القانون الأخلاقي، عندما نُضطر إلى اتخاذ قرار بشأن المُفاضَلة بين عدة أفعال من الناحية الأخلاقية، فإننا نطبق مجموعة من القواعد العامة على حالة مُعينة، تمامًا مثلما نحلُّ معادلة رياضية. استحثَّت مثل هذه الأفكار الفيلسوف ليبنتز على تخيل إمكان ابتكار آلةٍ تطبق القواعد نيابة عنك، ومن ثَم تؤتمت جميع القرارات الأخلاقية، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى استئصال جميع الشكوك من حياتنا الأخلاقية. فإذا أردْنا معرفة ما إذا كان القرار صائبًا أم خطأً، فكل ما يتعيَّن علينا فِعله هو استشارة ذلك الكمبيوتر الأخلاقي.

لا يزال حلم الخوارزميات الأخلاقية يُشكل الأساس للكثير من الدراسات الحالية التي تبحث الجانب النفسي للسلوك الأخلاقي. إن النظريات التي تشرح كيفية تطوُّر قُدرة الأطفال على الاستدلال الأخلاقي تستند إلى حدٍّ كبير على فكرة أن هذا التطوُّر يتألَّف من اكتساب مجموعةٍ من القواعد. ومجددًا، يقدم لنا مسلسل «ستار تريك» تجسيدًا لهذه الفكرة، لكن هذه المرة ستكون الشخصية التي سنُشير إليها من مسلسل «ستار تريك: الجيل التالي» (ستار تريك: ذا نيكست جينريشن) بدلًا من شخصيات المسلسل الأصلي. إنها شخصية «القائد داتا»، ذلك الآلي الذي يُشبه الإنسان لدرجة تجعل من الصعب تمييزه عنا. داخل دماغه المصنوع من السيليكون يوجَد برنامج مُتخصِّص مُكرس للسلوك الأخلاقي. في إحدى الحلقات، عُطِّل «برنامج الأخلاق» هذا فبدأ «داتا» فجأة يتصرَّف دون مُراعاة للآخرين ثم باتت تصرفاته سيكوباتية.

صحيح أن السيكوباتيين يفتقرون للحس الأخلاقي، لكن ليس السبب في ذلك هو غياب «البرنامج الأخلاقي» من دماغهم. فالقدرات الأخلاقية التي يملكها أغلبنا، ويفتقر إليها السيكوباتيون، لا تستند على مجموعةٍ من التعليمات مثل البرامج الحاسوبية، بل تعتمِد على انفعالاتٍ مثل التعاطف والشعور بالذنب والفخر. لذلك، ليس من المُحتمل أن تُنمَّى القدرات الأخلاقية في الأطفال بمجرد تعليمهم مجموعة من الأوامر أو المبادئ، دون تنمية قدراتهم الانفعالية أيضًا. لا يُجيد السيكوباتيون سوى تطبيق القواعد، لكن من دون مشاعر أخلاقية تُوجِّه تفكيرك الأخلاقي، فستلتزم بنصِّ القانون دون جوهره.

إن الدور الذي تلعبه الانفعالات في الأخلاق هو موضوع بحثٍ نشط ومتواصِل. تختصُّ بعض أكثر الأبحاث إثارةً للاهتمام في هذا المجال بانفعالات الخزي والذنب والخجل والفخر. وكل تلك الانفعالات هي «انفعالات ناتجة عن الوعي بالذات» بمعنى أنها انفعالات يستدعيها التأمُّل في ذواتنا وتقييمها. ولا يحتاج هذا التقييم الذاتي أن يكون صريحًا وعن وعي؛ فقد يحدُث بطريقةٍ غير لفظية أو دون إدراك واعٍ. في كلتا الحالتَين، فإن الذات هي محور تلك الانفعالات.

يستخدم الكثير من الناس مصطلحي الخزي والذنب باعتبارهما كلمتَين مترادفتَين، لكن يسعى الباحثون المعاصرون عادةً إلى التمييز بينهما. وتظهِر الأبحاث دومًا أن كلًّا من الخزي والذنب يؤدِّيان إلى سلوكياتٍ مختلفة. فالخِزي يدفع الأشخاص إلى الإنكار أو الاختباء أو الهروب من المواقف التي تُثير فيهم الشعور بالخزي، بينما يدفعهم الذنب إلى الاعتراف والاعتذار ومحاولة إصلاح عواقب أخطائهم. ولهذا يبدو أن الذنب هو الانفعال الأكثر إيجابية؛ إذ تعود الفائدة منه على الأفراد وعلاقاتهم، في حين أن الخزي يضرُّ عادةً الشخص نفسه ومَن حوله. يُعاني ضحايا الاعتداء الجنسي تحديدًا من مشاعر الخزي التي قد تلاحقهم وتدفعهم إلى الاكتئاب واضطراب كرب ما بعد الصدمة.

لا يركز الباحثون الذين يدرسون دور الانفعالات في السلوك الأخلاقي فحسب على الانفعالات السلبية مثل الخزي والذنب، بل تشمل دراستهم الانفعالات الإيجابية كالفخر، والنشوة والامتنان. تُشير مجموعة من نتائج الأبحاث التجريبية إلى أن مشاعر الامتنان قد تُعزز الصلابة النفسية والصحة الجسدية، وجودة الحياة اليومية. إنه لشعور لطيف أن يشكرك شخصٌ ما، لكن هذا الشخص قد يكون مستفيدًا أكثر منك من تعبيره عن الامتنان.

يُعَد علم نفس الانفعالات الإيجابية مجالًا نشطًا في الأبحاث المعاصرة. وسنتناول في الفصل الثالث بعضًا من نتائج البحث الرئيسية في عِلم نفس السعادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥