كيف تكون سعيدًا
إن عدد الأشياء التي يُمكن أن تُشعِرنا بالفرح أو الضيق ضخم بكل بساطة. فمشاهدة غروبٍ آسر، أو ممارسة الجنس، أو تناول الآيس كريم، أو الاستماع إلى كانتات باخ، كلها أنواع مختلفة تمامًا من الأنشطة، لكنها قادرة على بثِّ الفرح في أنفسنا. وفي المقابل، فإن فقدان دُميتك المفضَّلة، أو الرسوب في امتحان، أو سماع نبأ وفاة شخصٍ عزيز، كلها أمور تُولِّد لديك الضيق. فهل يوجَد نمَط مُعين وراء هذا التنوُّع المذهل؟
في محاولةٍ للإجابة عن هذا السؤال، جمع علماء النفس قاعدة بيانات ضخمة تضمُّ الأشياء التي تجعل الناس سعداء. فالسعادة والفرح ليسا مُتماثلَين، إنما يربط بينهما ارتباط وثيق. الفرح هو أحد الانفعالات الأساسية الذي — مثله مثل سائر الانفعالات الأساسية الأخرى — لا يدوم إلا لثوانٍ قليلة نادرًا ما تتعدَّى الدقيقة. أما السعادة فهي حالة مزاجية تدوم لفترةٍ أطول بكثير، تمتدُّ من عدة دقائق إلى عدة ساعات. والحالات المزاجية هي حالات تظلُّ تعمل في خلفية العمليات العقلية لدَينا حيث ترفع أو تُقلل من حساسيتنا للمُحفزات الانفعالية. على سبيل المثال، عندما نكون في حالةٍ مزاجية سعيدة، نُصبح أكثر ميلًا إلى الاستجابة بفرحٍ للأخبار السَّارة؛ بينما قد لا نستجيب بنفس القدْر من الفرح ونحن في حالةٍ مزاجية حزينة. أيضًا فإن شخصًا في حالةٍ مزاجية حزينة فمِن المُرجَّح أن يبكي عند سماع أخبار سيئة، في حين أن شخصًا في حالة مزاجية سعيدة قد يضحك مُستخفًّا بتلك الأخبار. أما إذا كنَّا في حالةٍ مزاجية قلقة، نُصبح عرضةً للخوف بكلِّ سهولة، ولو كنَّا في حالة مزاجية عصبية، سنُصبح أكثر استعدادًا للغضب.
والسعادة أهم من الفرح؛ لأن السعادة أدوَمُ وتزيد من احتمالية شعورنا بالفرح. فالفرح المُتولِّد داخلنا من رؤية مشهد الغروب هو فرح لحظي عابر، لكن تلك التجربة قد تضعنا في حالة مزاجية سعيدة تدوم معنا لساعات. وعندما يُجري علماء النفس بحثًا في الرضا العام عن الحياة، فإنهم في الواقع يبحثون السعادة وليس الفرح. تضمُّ قاعدة بيانات السعادة العالمية نتائج مئات الاستبيانات التي أُجرِيَت عن مستوى الرضا عن الحياة.
عند البحث في قاعدة البيانات المُشار إليها، فأوَّل ما يلفت إليه الانتباه هو أن الثروة المادية ليست طريقًا مضمونًا إلى السعادة. ويبدو أن الأبحاث العلمية قد أكدت صحة المقولة القديمة التي تفيد باستحالة شراء السعادة بالمال. بالطبع، قد يساعد توفُّر بعض المال في حمايتك من أكثر أسباب التعاسة شيوعًا مثل الجوع ونقص الرعاية الطبية، لكن الحياة السعيدة هي أكثر من مجرد تجنُّب الألم والجوع.
غير أن العديد من الناس يتشبَّثون اليوم بوهم أن امتلاك الثروة المادية سيحلُّ جميع مشكلاتهم. وهذا هو سبب انتشار حلم الفوز باليانصيب. وربما ما كان لهذا الحلم أن ينتشِر لو عرف الناس بنتائج الدراسات التي أُجرِيَت على الفائزين بأموال طائلة سابقًا. فقد كشفت تلك الدراسات أن الفوز باليانصيب لا يُحقق سعادة دائمة. فعند الفوز بمبالغ طائلة في اليانصيب، قد يشعر قلَّة بزيادة في مستوى الرضا عن حياتهم، لكن في أغلب الحالات تتضاءل نشوة الفرح لدى الفائز سريعًا حتى تتلاشى، ثم ما يلبث أن يعود إلى ما كان يشعر به من قبل. فالذين كانوا سعداء قبل الفوز، يعودون إلى سعادتهم الطبيعية. ويعود الذين كانوا مكتئبين إلى اكتئابهم.
إن الثراء السريع وحدَه نادرًا ما يؤدي إلى النعيم الطويل الأمد. فبعد زوال أثر النشوة الأولى، قد يقلُّ شعور الشخص بالسعادة عما كان عليه من قبل. كان هذا ما يعتقده آدم سميث على الأقل (انظر المربع ٥) رغم تشكيك بعض الأبحاث الحديثة في هذه الفكرة. يرى سميث أنه من المُرجَّح أن يأتي النجاح المفاجئ، سواء كان ماديًّا أو خلافه، بنتائج عكسية. وتُعَد قصة جوني إيس خير مثال على ذلك. كان جوني إيس أحد نجوم موسيقى «الروك آند رول»، صعد إلى الشهرة فجأة عندما حقَّقت أغنيتُه المنفردة الأولى المركز الأول عام ١٩٥٢ في قائمة الأغاني الرائجة. وحققت أسطواناته الثلاث التالية نجاحًا سريعًا أيضًا. هكذا فجأة صار ابن الواعظ المغمور أحد نجوم موسيقى الروك. ثم نفد حظُّه. فقد حققت أغنيته المنفردة الخامسة نجاحًا، لكنه لم يرقَ إلى مستوى نجاحاته السابقة. أما أغنيته السادسة فلم تدخل من الأساس في قوائم الأغاني الرائجة. وفي ليلة الكريسماس عام ١٩٥٤، صوَّب جوني مسدسًا إلى رأسه وفجَّره. وأفادت إحدى الروايات أنه كان يتعامل بتهاونٍ مع مُسدسه. فعلى الأرجح أن صعوده المفاجئ إلى عالم الشهرة جعله غير مُهيَّأ لمواجهة الانتكاسات التي يعتاد معظم الموسيقيين الآخرين على التعامل معها في بداية مسيرتهم الفنية.
إذا كانت الثروة المادية والنجاح المفاجئ لا يؤديان إلى السعادة، فما الذي يؤدي إليها إذن؟ وفقًا لقاعدة بيانات السعادة، فإن أكثر العوامل المرجح أن تجلب لك السعادة هي الصحة الجيدة، والصحبة الصالحة، وفوق كل شيء، العلاقات العائلية الوطيدة. إن التفاهم الجيد مع الوالدَين والأبناء وشركاء الحياة هو مفتاح الحياة السعيدة. فمِن المُرجَّح أن تمنحك علاقة مُستقرة يسودها الحب فرحًا أدوَمَ مما قد يمنحك إياه الفوز باليانصيب. هنا أيضًا تثبُت دقة الأقوال المأثورة.
المربع ٥: ما قاله آدم سميث عن أخطار النجاح المفاجئ
«إن الرجل الذي يتبدل حظه فيُرَقِّيه فجأة إلى مستوى معيشي يفوق ما كان قد اعتاد عليه، له أن يكون واثقًا أن تهاني أقرب أصدقائه ليست كلها صادقة تمامًا. فحديث العهد بالثراء، حتى وإن كان جديرًا به، لا يكون مقبولًا عادة، ويمنعنا غالبًا شعورٌ بالحسد تجاهه أن نُشاركه فرحته بصِدق. ولو كان يتمتع بشيءٍ من حسن التقدير، فإنه يكون مدركًا لذلك، فبدلًا من أن يُبدي انتشاءه بحظه السعيد، يُحاول قدر الإمكان إخفاء فرحته … ومع ذلك نادرًا ما ينجح في هذا. فنحن نشكُّ في صِدق تواضُعه، أما هو فيُرهقه التكلُّف. لذلك، سرعان ما يبتعد عن جميع أصدقائه القدماء، باستثناء أقلِّهم شأنًا الذين قد يتنازلون ويُصبحون تابعين له: لكنه لا يكتسب بالضرورة أصدقاءً جددًا؛ إذ يُهان كبرياء معارفه الجدد عندما يجدونه قد صار نِدًّا لهم، بقدْر ما يُهان كبرياء أصدقائه القدماء من تفوُّقه عليهم؛ ومن ثم يستلزم تخفيف وطأة الإهانة التي يشعر بها معارفه القدامى والجدد تواضُعًا شديدًا ومُستمرًّا. وعادة ما يرهقه التكلف سريعًا، ويستفزُّه تجهُّم أصدقائه القدامى وكبرياؤهم المشوب بالشك، وازدراء ووقاحة معارفه الجدد، فيعامل النوع الأول بتجاهل، والنوع الثاني بفظاظة حتى ينتهي به الحال إلى أن يصبح متغطرسًا بطبعِه ويخسر احترام الجميع. فإذا كان الجزء الأكبر من سعادة الإنسان ينشأ من وعيه بأنه محبوب من الآخرين — وهو ما أومِن به — فإن النجاح المفاجئ نادرًا ما يُساهِم في تحقيق سعادة حقيقية. فأسعد الناس هو من يشقُّ طريقه إلى النجاح تدريجيًّا …»
المصدر: آدم سميث، من كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية» (١٧٥٩)
إذا كانت السعادة نابعةً في الأغلب من تكوين علاقات ناجحة والحفاظ عليها، فإن الحزن نابع من الإخفاق في تكوين علاقات ناجحة وخسارتها. إن خسارة أموال طائلة ستجعلك حزينًا، لكن خسارة شخصٍ عزيز عليك ستجعلك أشدَّ حزنًا. وإذا كان الحزن مُرتبطًا بالخسارة، فإن الخسارة الأشد إيلامًا هي خسارة الأشخاص وليس الأشياء: لحظة مغادرة طفل لمنزله، أو خيانة صديق، أو وفاة أحد الوالدَين.
رأينا في الفصل الثاني أن انفعالَي الفرح والضيق تطوَّرا ليؤدِّيا دور المُحفِّز، مثل الحافز الداخلي المُتمثل في فكرة الجزرة والعصا. قد تعمل الحالتان المِزاجيَّتان، السعادة والحزن، بالطريقة نفسها. فالانتخاب الطبيعي لم يُصمِّم عقولنا لتُفكر مباشرةً في أفضل الطرُق لنَقْل جيناتنا. إنما منحنا القُدرة على الشعور بالسعادة، ثم ربط شعور السعادة بالأشياء التي تساعد جيناتنا على الانتقال إلى الجيل التالي. وسبب أن الوقوع في الحُب يجعلنا سعداء هو أن احتمال نقل أسلافنا الذين كانوا يَميلون إلى الوقوع في الحُب لجيناتهم كان أكبر مقارنة بمن كانوا يميلون إلى العزلة.
ولا تكون السعادة مُحفزًا لنشر الجينات إلا إذا كانت الأسباب التي تجعلنا سعداء هي نفسها التي تساعد في نشر جيناتنا. وقد كان هذا هو الحال على مدى ملايين السنين. في العصر الحجري وما قبلَه، لم يكن أمام أسلافنا سبيل لتحقيق السعادة إلا من خلال القيام بما يُساعدهم على انتقال جيناتهم، مثل إقامة علاقات الصداقة والحُب. وعلى مدى آلاف السنين الماضية، ساهم التطوُّر التكنولوجي في تغيير كل ذلك. ودون جميع الكائنات الحية الأخرى يتفرَّد الإنسان باختراع وسائل مصطنعة لتحفيز حالاتٍ مزاجية سارَّة وتجنُّب الحالات المزاجية السلبية. تلتف هذه الوسائل الصناعية المُحسِّنة للحالة المزاجية حول المسارات التي أوجدها الانتخاب الطبيعي لتحقيق السعادة. فبدلًا من قضاء شهورٍ أو سنواتٍ بحثًا عن شريكٍ عاطفي، يمكننا تحقيق نشوة فورية بتناول عقارٍ ما. فحتى نشعر بالسعادة، لم يعُد لزامًا علينا أن نفعل ما يساعدنا على انتقال جيناتنا. يبدو أننا قد تفوَّقنا بدهائنا على الانتخاب الطبيعي.
اللغة كوسيلة لتحسين الحالة المزاجية
كانت أول وسيلة اكتشفها أسلافنا لتحسين الحالة المزاجية هي اللغة. وقد استخدمها البشَر بطرُق متنوعة لتحفيز شعور السعادة، لكن مثل هذه الطرق لا تُقدِّم أي فوائد وراثية واضحة. سأذكر ثلاثًا منها: المواساة، والتسلية، و«التنفيس». تعود الطريقتان الأوليان بالنفع على المُستمع، بينما يُفترَض أن تساعد الطريقة الأخيرة المُتحدِّث نفسه.
لا بد أن أسلافنا كانوا يتواسَوْن بالعناق والتربيت قبل أن يتعلموا الحديث بزمنٍ طويل، لكنهم اكتشفوا، بمجرد اختراع اللغة، وسيلةً جديدة لتقديم المواساة عبر كلمات التعاطف والنصيحة. وحينما تبادلوا مثل تلك الكلمات، اكتشفوا أنها قد تصلح مضادات اكتئاب قوية. واستمرَّت هذه الممارسة لفترةٍ طويلة حتى باتت الآن أشبهَ بسلوكٍ فطري. فعندما نقابل أصدقاءً يشعرون بالحزن، نجد أنفسنا تلقائيًّا نحاول التحدُّث معهم لإخراجهم من تلك الحالة. وكذلك نستخدِم تلقائيًّا مع أنفسنا نفس الدواء اللغوي حيث نهمس داخل عقولنا بكلماتِ تشجيع ونحن مُحبطون. يعتمد العلاج المعرفي — وهو أحد أنواع العلاج النفسي الذي أسسه آرون بيك في ستينيات القرن الماضي — على هذا النوع من الحوار الداخلي. وفي حين أن العلاج المعرفي قد يكون رائدًا في محاولته لصياغة ممارسة الحديث مع النفس في إطار منهجي، فإن هذه الممارسة في حدِّ ذاتها يُحتمَل أن تكون قديمة بقدْر قِدَم اللغة.
يتطلَّع المُختصُّون بالعلاج المعرفي إلى تمكين الأشخاص من التحكُّم في انفعالاتهم بدلًا من أن يتركوها تسُوقهم؛ وذلك من خلال تدريبهم على تحديد أفكارهم السلبية واستبدال أفكار أخرى إيجابية بها. تستند هذه الفكرة إلى مبدأ قديم يرجع على أقل تقدير إلى الرواقِيِّين الذين تحدَّثنا عنهم في الفصل الأول. لاحظَ الرواقيون أن الانفعالات تتأثر بأفكارنا وتؤثر فيها أيضًا (سنستعرِض هذه النقطة باستفاضة في الفصل الرابع). ومن خلال تدريب أنفسنا على التخلُّص من الأفكار التي تُثير لدَينا حالات مزاجية سيئة وتشجيع الأفكار التي تُعزِّز من الانفعالات السارَّة، قد نتمكن من اكتساب درجةٍ من السيطرة على حالتنا الانفعالية وانتشال أنفسنا من الحزن بإرادتنا. لكن هذا لا ينجح في كل الأحوال. ففي بعض الأحيان، قد تُصبح شدة الانفعال عائقًا أمام تقبُّل أفكار بديلة، وهذا يفسر عدم جدوى العلاج المعرفي مع الواقِعين في براثن الاكتئاب الحاد. لكن تحت إشراف مُعالِج مُحترف، قد يُصبح العلاج المعرفي فعَّالًا في معالجة الاكتئاب بقدْر فعالية أدوية مثل مضاد الاكتئاب «بروزاك».
إحدى الطرق الأخرى لاستخدام اللغة لإبهاج الآخرين هي سرد القصص والنكات. فالقصص تُداعب نهمَنا الفطري للمعلومات الاجتماعية وتنجح في إشباع ذلك النَّهم حتى وإن كانت غير واقعية. وهذا يُعَد غريبًا بعض الشيء من المنظور التطوُّري. فإذا كانت اللغة قد تطوَّرت، كما يرى البعض، لتُمكِّن أسلافنا من تبادل معلومات عن الأفراد الآخرين في مجموعتهم الاجتماعية، فهذا يجعلنا نتوقَّع أن يكون الرضا الانفعالي الناتج عن الحصول على مثل هذه المعلومات مرهونًا بالاعتقاد في صِحتها. إذ إننا لن نجني أي مزايا تطوُّرية من السعي وراء معلومات خاطئة والاستمتاع بها. ومع ذلك، يبدو أن هذا تحديدًا هو السبب وراء حُب الإنسان للقصص الخيالية والدراما. أما الفوائد التطورية لحسِّ الفكاهة لدَينا، الذي تُداعبه النكات، فهي أكثر غموضًا بكثير. يقترح عالِم النفس جيفري ميلر أن القصص والنكات تُثير فينا البهجة والسرور لأنها، في الواقع، تُقدِّم معلومات مفيدة، تحديدًا عن ذكاء مُلْقِيها. فعندما يؤلِّف أحد قصةً ما، فإنه يلفت الانتباه إلى إبداعه الشخصي. وعندما يُلقي أحدٌ علينا نكتة، فإنه يستعرِض فهمه لما يُثير ضحك الآخرين. لذا، ربما لا تُعَد رواية القصص والنكات وسائل مُصطنعة، إنما هي غرائز متأصِّلة في طبيعتنا البشرية.
الوسيلة اللغوية الثالثة لتحسين الحالة الانفعالية هي «التنفيس». ويقصد بالتنفيس التحدُّث عن الانفعالات السلبية بغرَض التخلُّص منها. بخلاف المواساة والتسلية اللتَين تعدَّان وسيلتَين قديمتَين بقدْر اللغة نفسها، فإن التنفيس قد يكون اكتشافًا حديثًا نسبيًّا. من المُحتمَل أن البشر قد استخدموا اللغة لصرف مشاعرهم المكبوتة منذ آلاف السنين، لكن التنفيس يتعدَّى مجرد تحرير النفس من عبء فكرة مُزعجة. إنما هو استخدام اللغة بهدفٍ واضح وهو التخلُّص من المشاعر السلبية. كان الطبيب النمساوي سيجموند فرويد (١٨٥٩–١٩٣٩)، من أوائل من استكشف فكرة التنفيس، وقد أكد أن التحدُّث عن الانفعالات السلبية في بعض الأحيان كان الطريقة الوحيدة للتخلُّص منها. ولفهم كيف وصل فرويد إلى هذا الرأي، من الضروري أن نحيد قليلًا عن صلب الموضوع ونُلقي نظرة على «النظرية الهيدروليكية» للانفعالات التي يبدو أن فرويد استند إليها في حُججه.
علم الهيدروليات أو هندسة السوائل هو العِلم المعني بنقل السوائل عبر الأنابيب والقنوات، وتَعتبِر النظرية الهيدروليكية للانفعالات المشاعر سوائل عقلية تتدفَّق في العقل مثلما يتدفَّق الدم في الأوردة. عندما تسمع شخصًا يطلُب منك «ألا تكبت مشاعرك» أو يُحذرك من أنك «قد تنفجر تحت الضغط»، فهم يؤيدون ضمنًا هذه النظرية. ومثلما يمكن لبعض السوائل أن تتحوَّل بسهولةٍ إلى بخار، فإن الاستعارات ذات الصِّلة بالغازات مثل «التنفيس» عن المشاعر المكبوتة يمكن اعتبارها داعمةً للنظرية الهيدروليكية.
ترجع النظرية الهيدروليكية للانفعالات على الأقل إلى الفيلسوف والعالم الفرنسي رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠). تصور ديكارت أن الأعصاب هي بمثابة أنابيب هوائية تنقل ضغط «الأرواح الحيوانية» من النهايات العصبية إلى الدماغ، ومنه إلى العضلات. وكانت هذه الفكرة متماشيةً تمامًا مع نظرية الأخلاط التي سادت الفكر الطبي لدى الغرب منذ زمن الإغريق وحتى القرن الثامن عشر. وفقًا لهذه النظرية، كانت أهم العوامل الحاسمة الدالَّة على الصحة هي الأخلاط الأربعة الموجودة في الجسم: الدم، والبلغم، والمِرَّة السوداء، والمِرَّة الصفراء. وكان يُعتقَد أن معظم الأمراض تنشأ من وجود خللٍ أو انحباس في هذه السوائل.
في مؤلَّفات فرويد، وُظِّف مفهوم الأخلاط كتشبيهٍ لتفسير الاضطرابات النفسية. فقد زعم فرويد أن العقل طالما أنه يتزوَّد باستمرار بنوع من السائل العقلي، وهو «الليبيدو» أو الطاقة النفسية الغريزية، فقد يتعرَّض هذا السائل إلى الانحباس. ويعني هذا الانحباس عدم إمكانية صرف هذا السائل العقلي عبر المسارات الطبيعية للتعبير الانفعالي، مما يدفعه للبحث عن مخارج تنفيس أخرى أكثر خطورة، مثل ظهور أعراضٍ نفسية جسدية. بصيغة أخرى، فإن كبت التعبيرات الانفعالية الطبيعية قد يؤدي إلى عواقب خطيرة. إذا كنت غاضبًا ولم تُنفِّس عن غضبك مباشرةً، فلن ينطفئ غضبك. وإذا لم يُفرَّغ الغضب عبر منفسه الطبيعي، مثل الصراخ في وجه الشخص الذي أغضبك، فإنه سيتراكم داخلك مثل سائلٍ ضارٍّ وقد يؤدي إلى مرَض عقلي. وأضاف فرويد أنه لحُسن الحظ هناك طرق أخرى ﻟ «تنفيس ما بداخلك» مثل التحدُّث إلى مُعالج نفسي؛ إذ يسمح ذلك بتفريغ الانفعالات المؤذية المُتراكمة دون انتهاك المعايير الاجتماعية أو إلحاق الضرَر بنفسك.
إن فكرة أن الحديث عن مشاعرك يؤدي وظيفةً تُشبه وظيفة صمام الأمان، إذ يسمح لك بتفريغ الضغط النفسي كما يسمح الصمام للبخار الزائد بالخروج من أنبوبٍ مسدود، يُشار إليها أحيانًا باسم «نظرية التطهير» من الانفعالات. فأي وسيلةٍ تسمح لك ﺑ «تفريغ ما في داخلك» تُسمَّى ممارسة تطهيرية. يُعد التطهير مصطلحًا يونانيًّا له دور محوري في كتاب «فن الشعر» لأرسطو، لكنه استخدمه بمعنًى مختلف تمامًا. وبالطبع لم يكن له علاقة بالنظرية الهيدروليكية للانفعالات. فالاستخدام الحالي لهذا المُصطلح يعود إلى فرويد الذي استخدمَه لوصف تصريف «السائل العقلي» الافتراضي. وبذلك ساهم فرويد دون قصدٍ في تعزيز الاعتقاد الخاطئ بأن النظرية الهيدروليكية للانفعالات تعود إلى اليونانيين القدماء. وهذا عارٍ تمامًا عن الصحة. لا يزال هناك جدل حول ما كان يقصده تحديدًا أرسطو بالتطهير، لكننا نعلم أنه لم يكن له علاقة ﺑ «تفريغ المشاعر المكبوتة». تقول الفيلسوفة مارثا نوسباوم إن أرسطو اعتبر التطهير نشاطًا فكريًّا تتَّضح فيه العلاقة بين الانفعالات والسلوك البشري من خلال الخبرة والتأمُّل. ووفقًا لأرسطو، فإن المسرح هو المكان المثالي لممارسة التطهير؛ ربما لأنه يُتيح لنا اختبار الانفعالات من «أنسب مسافة جمالية» على حدِّ تعبير عالِم الاجتماع توماس شيف. فإذا اختبرنا انفعالًا قويًّا مباشرةً، قد يصعب علينا كثيرًا الاستفادة من تلك الخبرة. وفي المقابل، إذا كانت تفصلنا مسافة كبيرة جدًّا عن الأحداث الانفعالية، فلن تؤثر فينا على الإطلاق. ووظيفة الدراما قد تكون مُتمثلة في توفير بيئةٍ يُمكننا من خلالها اختبار المشاعر من مسافة آمنة تُتيح لنا تعلُّم كيفية التعامل مع مثل هذه الانفعالات بأسلوبٍ أفضل في المستقبل.
إذن، إذا كانت النظرية الهيدروليكية للانفعالات ليست مفهومًا يونانيًّا قديمًا، ولا تربطها علاقة وثيقة بمفهوم أرسطو عن التطهير، فمن أين جاءت تلك النظرية؟ كما سبق أن أشرْنا، تنطوي هذه النظرية على عناصر تعود جذورها إلى نظرية الأخلاط لتفسير الأمراض وإلى رؤية ديكارت للأعصاب باعتبارها مضخَّات هوائية. لكن فكرة أن التعبير اللفظي عن الانفعالات يؤدي عمل صمام أمانٍ هي فكرة أحدث بكثير. فمنذ أن روَّج لها فرويد في مطلع القرن العشرين، ازدادت انتشارًا حتى أصبحت راسخةً في العديد من الدول الغربية. فقد صِرنا ننظر إلى الفيكتوريين الجامِدين بتعجرُف نابع من شعورنا بالفوقية عليهم. وباتت «الثقافة الانفعالية» تحظى بتقديرٍ كبير. وأصبح يُنظَر إلى الأشخاص العاجزين عن التعبير عن مشاعرهم على أنهم غير ناضِجين نفسيًّا، وأنهم بقايا زمنٍ بائد كان الكبت فيه هو السائد. ومع ذلك، يزداد إدراك علماء النفس يومًا بعد يوم بأن النظرية الهيدروليكية للانفعالات مُبسطة للغاية. فقد يكون من المُفيد أحيانًا إطلاق العِنان للتعبير العفوي عن الانفعالات. لكن قد يُصبح في أحيانٍ أخرى ضارًّا من دون شك.
تشير أدلَّة حديثة إلى المخاطر المُحتملة للتحدُّث عن الانفعالات في توقيتٍ غير مناسب. تتعلَّق هذه الأدلة بنوع من العلاج النفسي يُعرَف باسم «التفريغ الانفعالي». يُقدَّم هذا العلاج إلى ضحايا الأحداث الصادمة في العديد من الدول الغربية. فعند وقوع حادثةٍ كبرى، مثل حادثة قطار أو اختطاف طائرة، يهرع مُرشدون نفسيون إلى موقع الحادث مع فرق خدمات الطوارئ. وبعد أن يتولَّى الأطباء معالجتهم من الإصابات الجسدية، يبدأ المرشدون النفسيون في معالجتهم من «الإصابات النفسية». يتضمَّن هذا العلاج استرجاع ذكريات الحادث الصادم ومناقشة المشاعر التي أثارتها في نفوسهم.
يختلف التفريغ الانفعالي في جوانب عديدة عن التحليل النفسي التقليدي لفرويد، لكنه يستنِد إلى الفكرة الأساسية نفسها وهي أن التحدُّث عن الانفعالات السلبية ينبغي أن يساعد في تبديدها دون وقوع ضرَر. إذا كان هذا صحيحًا، فمِن المفترَض أن يعاني الخاضعون للتفريغ الانفعالي فور وقوع الحادث الصادم من أعراضٍ أقلَّ على المدى الطويل من أولئك الذين لم يخضعوا له. لكن وفقًا لعالمة النفس جو ريك، فإن النتائج تُشير إلى عكس ذلك: فالتفريغ الانفعالي يزيد الحالة سوءًا. ففي دراسة أجرَتْها على ضحايا حوادث الطرق، وجدت أن أولئك الذين خضعوا إلى تفريغ انفعالي ازداد لديهم، بعد مرور عام، الإحساس بالخوف واسترجاع مشاهد مما حدث مقارنةً بأولئك الذين لم يخضعوا لهذا النوع من العلاج.
في ضوء أبحاث الدماغ في العقود القليلة الماضية، بات سهلًا فهم السبب وراء أن الحديث عن الذكريات الصادمة قد يؤدي إلى تفاقُم الأمور بدلًا من تحسُّنها. فعندما تُترَك الذكريات الصادمة دون استدعائها، لا تتفاقم مِثلما اعتقد فرويد. بل تتلاشى عبر ظاهرةٍ تُعرَف باسم «الانطفاء». وبالمقابل، إذا أعيد تنشيط الدوائر العصبية المُشفِّرة للذكريات باستمرار من خلال سرد التجارب الأساسية، فإن ذلك يحُول دون «انطفاء» الذكريات. فالحديث عن الذكريات القديمة لا يساعد على اختفائها. بل على النقيض، يُبقيها حيةً مثلما أدرك آدم سميث قبل اكتشاف علماء الأعصاب لظاهرة الانطفاء بوقتٍ طويل. فقد أشار في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» إلى أنه «من خلال سرد حوادثهم المُفجعة» فإن الذين يبحثون عن التعاطف «يستدعون في ذاكرتهم ملابسات الحدَث الذي تسبَّب في مُصابهم. ومن ثَم تسيل دموعهم أسرع من قبل، ويميلون إلى ترك أنفسهم لحالة الضعف التي أثارها حُزنهم.»
الطريق الحسِّي إلى السعادة
إلى جانب اللغة، اكتشف البشر العديد من الوسائل الأخرى لتحسين الحالة المزاجية أثناء رحلة بحثهم عن طرقٍ مختصرة للسعادة. واستخدام الألوان خير مثال على ذلك. حرص الإنسان لآلاف السنوات على تزيين جسمه والبيئة المُحيطة به بألوان زاهية للغاية تُحفز أنظمتنا البصرية كما تُحفز الشوكولاتة براعم التذوُّق لدَينا. فمنذ اكتشاف أول الأصباغ الصناعية، مثل المَغْرة الحمراء التي كان يستخدِمها أسلافنا لتلوين أجسامهم قبل نحو ١٠٠ ألف سنة، استخدم البشر الألوان الزاهية لِما لها من تأثيراتٍ انفعالية.
نادرًا ما تؤثر الألوان على انفعالاتنا بشكلٍ مباشر. في بعض الاضطرابات العقلية، كالتوحُّد مثلًا، قد يكون مجرد رؤية لون فاقع كافيًا لإثارة نوبةٍ من الهلع، لكن بالنسبة لأغلب الناس، فإن اللون يؤثر على الانفعالات بطريقةٍ غير مباشرة عن طريق تأثيره على الحالة المزاجية. فالوجود داخل غرفة مَطلية باللون الأحمر لن يجعلنا نشعر بالغضب فورًا، لكنه قد يضعنا تدريجيًّا في حالة مزاجية قابلة للاستثارة تجعلنا أكثر عرضةً لفقدان أعصابنا. قام المخرج السينمائي الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني ذات مرة بطلاء مقصف موقع التصوير باللون الأحمر ليضع مُمثليه في الحالة المزاجية المطلوبة لتصوير بعض المشاهد المشحونة بالتوتر، لكنه لاحظ بعد أسابيع أن العمَّال الآخرين الذين يستخدمون المقصف قد أصبحوا أكثر عدوانية، بل وصل الحال إلى نشوب شجارات بينهم.
تأتي بعض الأدلة العلمية الأكثر إقناعًا عن تأثير الألوان على الحالة المزاجية من تجارب أجراها عالِم النفس نيكولاس همفري. وضع همفري قرودًا في أقفاصٍ مُصممة خصوصًا بحيث يتكون كلٌّ منها من غرفتَين مُتصلتَين عبر نفق. عندما تضاء إحدى الحجرتَين بضوء أزرق والأخرى بضوءٍ أحمر، كانت القرود تُفضل دائمًا البقاء في الغرفة ذات الضوء الأزرق. وحينما كانت تغامر بدخول الغرفة ذات الضوء الأحمر بدافع الفضول، كانت ما تلبث أن تعود سريعًا إلى الغرفة ذات الضوء الأزرق لتستقرَّ فيها. وعندما تضاء الغرفتان بالضوء الأحمر، كانت القرود تجري جيئةً وذهابًا من غرفة إلى الأخرى دون أن تستقرَّ في أي منهما. فالضوء الأحمر قد جعل القرود مُستثارة وعصبية، في حين وضعها الضوء الأزرق في مزاجٍ استرخائي.
يُحدِث اللونان الأحمر والأزرق تأثيرات انفعالية مُشابهة في البشر. عندما يتعرَّض شخص لضوء أحمر، يرتفع ضغط الدم لدَيه وتزداد سرعة تنفُّسه وتتسارع نبضات قلبه. قد يشعر الناس بالدفء في غُرَف حمراء، لكنها تجعلهم أيضًا أكثر توترًا وعدوانية، بدرجاتٍ متفاوتة حسب الخبرة الذاتية. أما الضوء الأزرق فيحدِث تأثيرًا مناقضًا تمامًا. وتلك الاستجابات ليست مصنوعات ثقافية؛ إذ يمكن تهدئة الأطفال الرُّضَّع في عمر أسبوعين بسهولة أكبر تحت الضوء الأزرق مقارنةً بالأحمر، مما يدلُّ على أن جزءًا على الأقل من استجابتنا الانفعالية للألوان فطري. لكن لماذا برمج الانتخاب الطبيعي عقولنا بهذه الطريقة؟ كيف يمكن أن يكون الميل لألوانٍ مُعينة أو النفور من ألوان أخرى قد ساعد أسلافنا على البقاء؟ هل يعود تأثير الدفء الذي يبعثه اللون الأحمر إلى كون المصدرَين الرئيسيَّين للحرارة لدى أسلافنا — ضوء الشمس والنار — لهما هذا اللون؟ وماذا إذن عن التأثير المُثير للتوتر الذي يتسبَّب فيه الضوء الأحمر؟
أيًّا كان السبب في تفضيلاتنا الفطرية للألوان، نادرًا ما تمنحنا الطبيعة مشهدًا شاسعًا يُهيمن عليه لون واحد. قد تصبغ شمس الغروب السماء كلها أحيانًا بدرجةٍ متجانسة من اللون الوردي أو الأرجواني، لكن الأشياء البديعة في الطبيعة تكون عادة لوحة فسيفسائية من الألوان. فذيل الطاووس أو المنظر الطبيعي الخلَّاب، كلاهما يَعرضان أمام عين الرائي عددًا هائلًا من تدرُّجات الألوان، وليس مشهدًا أحاديَّ اللون مثل المقصف الأحمر الذي أعدَّه المُخرج أنطونيوني. عندما يُنتزَع لون واحد من سياقه الطبيعي ويُستخدَم لملء مجال بصري بالكامل، نجد أن الطلاء والإضاءة يُعززان من التأثيرات الطبيعية لذلك اللون. باصطلاح عِلم الأحياء، تُعد الألوان الصناعية «محفزات فائقة». إذ تُحقق تأثيرها باستثارة نفس الميول الفطرية التي تخاطبها الطبيعة لكن بقوةٍ أكبر. وكما قال الرسام فرانسوا بوشيه: «مقارنة بالألوان الفاقعة لفن الروكوكو، تبدو الطبيعة «رتيبة يغلب عليها اللون الأخضر والإضاءة الرديئة.»
لكن المساحة التي يسودها لون واحد لا يكون تأثيرها الانفعالي أقوى من تأثير الفسيفساء دائمًا. فما تفتقر إليه الفسيفساء من بساطةٍ يمكن أن يُعوِّضه التنسيق الدقيق للألوان فيها. لكن التأثير الانفعالي لهذا التنسيق يتفاوت تفاوتًا كبيرًا من شخصٍ إلى آخر مقارنة بتأثير الألوان المنفردة؛ فقد تترك لوحةٌ أثرًا عميقًا في نفس شخصٍ بينما لا تُثير أي انطباع لدى شخصٍ آخر. ومع ذلك، تتشابه تفضيلاتنا الجمالية إلى درجة لافتة. فعندما يُطلَب من مجموعة من الناس الاختيار من بين مجموعةٍ من اللوحات التجريدية، يختار أغلبهم لوحةً بعينها. كما أنهم يفضلون غالبًا اللوحة التي رسمَها فنان شهير على النسخ المُعدَّلة منها على جهاز كمبيوتر بطرُق عشوائية. لا بد أن اللوحات الأصلية تُجسِّد خصائص بُرمِج النظام البصري لدى البشر على أن يراها جذابة. لا يعرف العلماء حاليًّا ما هي تلك الخصائص، لكن الفنانين الذين رسموا اللوحات الشهيرة لا بد أنهم أدركوها بدرجةٍ ما بالفطرة. وكما قال رسام المناظر الطبيعية جون كونستابل، فإن الرسم عِلْم تُعَد فيه اللوحات بمثابة تجارب. ويحتاج الفن التجريدي والفن التمثيلي من الفنان مهارةً لا يُستهان بها حتى لو اقتصرت تلك المهارة على التمييز بين التجارب الناجحة والفاشلة.
ومثلما يمكن تنسيق الألوان لتُعطي صورة بديعة، يمكن تنسيق الأصوات ذات التردُّدات المختلفة لتُنتج لحنًا عذبًا. والموسيقى، شأنها شأن الفن المرئي، هي وسيلة مُصمَّمة لاستغلال قدراتنا المعرفية من أجل غرَض وحيد وهو الإمتاع. يصف ستيفن بينكر الموسيقى بأنها «حلوى الأذن»؛ بينما اعتبرها شكسبير غذاء الحُب في إشارة إلى قُدرتها على استثارة انفعالاتٍ أخرى غير الفرح.
وعلى غرار الفن البصري، تؤثر الموسيقى عادةً في انفعالاتنا بطريقةٍ غير مباشرة عن طريق تغيير حالتنا المزاجية. لا تستخدِم المتاجر الكبرى الموسيقى الهادئة حتى تجعلنا سعداء بشكلٍ مباشر؛ فهذا يخالف هدفها المنشود؛ لأن مديري تلك المتاجر لا يسعون إلى جعل الموسيقى في حدِّ ذاتها تُمِدُّك بالإشباع. إنما ما يتطلَّعون له هو أن تضعك الموسيقى في حالةٍ مزاجية هادئة ومسترخية، وهو ما سيجعلك أكثر استعدادًا للتأثر بالأفكار الباعثة على السعادة، مثل اللذة التي قد يُثيرها لديك تخيُّلك لنفسك وأنت تتناول كعكة شوكولاتة غالية الثمن.
دائمًا ما تُثير الكثير من مقطوعات موتسارت، مثل «موسيقى ليلية صغيرة»، حالةً مزاجية إيجابية لدى مُستمعيها. وهذا يحدث حتى لو لم يكن المستمع هاويًا للموسيقى الكلاسيكية، وهو ما يشير إلى أن المُلحنين الموهوبين يُخاطبون التفضيلات الموسيقية العالمية مثلما يخاطب الفنانون التفضيلات البصرية العالمية. وقد اكتشف علماء الأعصاب أنه حين يستمع الشخص إلى لحنٍ كلاسيكي، تنشط الخلايا العصبية في مناطق مختلفة من الدماغ بتزامُن أكبر مقارنةً باستماعه إلى تسلسل عشوائي للنغمات المكوِّنة لذلك اللحن. مع ذلك، يظلُّ السبب وراء هذا الحس الموسيقي غامضًا.
في البشر، وغيرهم من الرئيسيات، يتَّسم النظام البصري بأنه على درجةٍ عالية من التعقيد، يليه مباشرة النظام السمعي. بينما تأتي القنوات الحسِّية الأخرى في درجةٍ أقل تعقيدًا بكثير، أو على الأقل، نحن أقل إدراكًا لتعقيدها. لذلك، ليس مُستغرَبًا أن الوسائل الحسِّية لتحسين المزاج التي نُقدرها أشد التقدير، مثل الفن والموسيقى، هي تلك التي تَسُرُّ أعيُنَنا وآذاننا، بينما تُمنح تلك الوسائل التي تجذب حواسَّنا الأخرى أهميةً أقل. ومع ذلك، لم تلقَ حواس الشم والتذوق واللمس تجاهلًا. إن التأثيرات الانفعالية لروائح مختلفة لا تزال غير مفهومة تمامًا رغم وضع خبراء العلاج بالروائح بعض التصنيفات المُثيرة للاهتمام. وتعتمد صناعة العطور على القوة التأثيرية لحاسة الشم، وفي كثيرٍ من الأديان، بدءًا من البوذية وحتى المسيحية، يُشعل المُتعبدون البخور ليضعوا أنفسهم في حالة من التأمُّل العميق.
أما التأثير الانفعالي لحاسَّة اللمس فمفهوم بصورة أفضل. فحينما يُربِّت عليك شخص آخر، يُفرز دماغك موادَّ أفيونية طبيعية مرتبطة بحالة الاسترخاء الذهني. قد يكمن الأساس التطوُّري لهذا التأثير في تاريخنا كرئيسيات، حينما كنا نشترك مع الشمبانزي في سلَف واحد قبل نحو خمسة ملايين عام. ربما أيضًا كان تنظيف الفراء المتبادل ذا أهميةٍ كبيرة لدى هذه الرئيسيات مثلما هو الحال مع قرود الشمبانزي المُعاصرة التي تقضي ساعات يوميًّا في إزالة بعضهم القُراد من فراء بعض. لا يقتصر هذا التنظيف على مجرد إزالة القراد من فراء قرود الشمبانزي الأخرى؛ بل إنه أيضًا يُعَد علامة موثوقًا فيها على الصداقة. وكان تفضيل أسلافنا من ذوي الفراء لهذا الدليل الموثوق فيه على الصداقة حافزًا لهم للبحث عن أصدقاء. أما أولئك الذين لم يُحبوا أن يُنظفهم أحد، كانوا سيجدون أنفسهم بلا حلفاء في أوقات الصراع.
مثلما تعد الميول البصرية الفطرية أساس الفن البصري، فإن ميولنا الفطرية للمس هي أساس للتمسيد. فالتمسيد هو وسيلة قديمة مثل الفن والموسيقى. وكان يُمارسه المصريون القدماء، وقد أوصى أبقراط الأطباء بأن «يتمرسوا في العديد من الأمور، ذكر منها التمسيد». بدأ الطب التقليدي حاليًّا يُعيد اكتشاف القيمة العلاجية للتمسيد، في حين أنه كان أحد الجوانب الرئيسية للعديد من أنظمة العلاج البديلة لعقود.
يمكن اعتبار الطهي إحدى وسائل تحسين الحالة المزاجية عن طريق حاسَّة التذوق. فمن خلال معالجة الأطعمة الطبيعية بطرق متنوعة ومزجها وفق وصفاتٍ مُجرَّبة، يفعل الطهي بالنكهات الطبيعية ما يفعله الرسم بالألوان الطبيعية، وكذلك ما تفعله الموسيقى بالأصوات الطبيعية. إذ يُعزز تلك النكهات حتى تُصبح محفزًا فائقًا فيداعب براعم التذوُّق لدينا بدرجةٍ أشدَّ مما يفعل الأكل الطبيعي. فإذا كان مذاق الفراولة لذيذًا لأنها حلوة، يُمكن للطهاة ابتكار أطعمة بحلاوةٍ مضاعفة مثل المثلجات بنكهة الفراولة. وهنا تثأر منَّا عملية الانتخاب الطبيعي لتجرُّؤنا على اختصار الطريق نحو السعادة بدلًا من أن نسلك المسارات المُلتوية التي أعدَّتها لنا حتى نتبعها. فبعد أن منحتنا وسيلةً بسيطة وغير مُكلفة لنحصل بها على الجلوكوز — وهو الاشتهاء الفطري للحلويات — تركتنا مُعرَّضين لخطر الإفراط فيه بما يتجاوز احتياجنا ويضرُّنا. لم يكن اشتهاء السكريات يُمثل مشكلة في العصر الحجري حيث كان السكر يوجَد عادةً في أشكالٍ مُخففة مثل الفاكهة (يعد العسل استثناءً بارزًا لذلك). أما اليوم، حيث يتوفَّر السكَّر في أشكالٍ مركَّزة مثل الحلويات والسكاكر، فإن رغبتنا الشديدة فيها قد تؤدي إلى مشكلاتٍ صحية خطيرة. فتصل السمنة الآن إلى مستوياتٍ وبائية في العديد من الدول الغنية، ويُعزى جزء كبير من السبب إلى المزيج الخطير بين الاشتهاء الفطري لكمياتٍ كبيرة من السكر والدهون، والوسيلة المُستحدَثة التي هي الطهي.
تهدف الوسائل التذوقيَّة المُحسِّنة للحالة المزاجية إلى تحفيز براعم التذوق لدينا أو إحداث تأثيرات كيميائية أخرى في مرحلةٍ متقدمة من عملية الهضم. تُعَد الشوكولاتة من محسِّنات المزاج الفعَّالة مثلما هي معظم الأطعمة والمشروبات التي تحتوي على السكَّر. لكن أظهرت الأبحاث أنه رغم شعور معظم الناس بأنهم أكثر إيجابيةً ونشاطًا مباشرة بعد تناول قطعة كاملة من الشوكولاتة، فإن هذا التأثير سرعان ما يخبو، وبعد مرور ساعة يُصبح مزاجهم أسوأ مما كان عليه قبل تناول الشوكولاتة. وللشاي والقهوة تأثيراتٌ مُشابهة؛ إذ تشهد الحالة المزاجية تحسنًا على المدى القصير يعقبه تراجُع على المدى المتوسط. وأغلب العقاقير لها التأثير نفسه. فالفارق في الواقع بين الطعام والعقاقير هو اعتباطي قليلًا، وحتى اليوم لا يوجَد أساس علمي يُميز العقاقير عن غيرها من أنواع المواد الأخرى التي نتناولها. فنحن نميل إلى وصف شيءٍ ما بأنه «عقار» إذا كان السبب الرئيسي في تناولنا إيَّاه هو تأثيره النفسي علينا وليس مذاقه أو قيمته الغذائية؛ مع ذلك، فمُعظم أنواع الأطعمة والمشروبات لها تأثير ما على حالتنا الذهنية. فتحتوي الجبنة القريش وكبد الدجاج على مستوياتٍ عالية من التريبتوفان وهو الحمض الأميني الذي يستخدِمه المخ في صنع مادة كيميائية تُسمَّى السيروتونين المُرتبطة بدورها بالمزاج الجيد. ولذلك بدلًا من اعتبار العقاقير تقع في مقياسٍ مُنفصل، من الأفضل النظر إليها باعتبارها تقع في أقصى مقياس الأطعمة.
تحسين الحالة المِزاجية من خلال المواد الكيميائية
ربما تُعَد العقاقير أقصر طريقٍ نحو السعادة. ولمن يعانون من حالة اكتئابٍ حاد، فقد يُصبح الطريق الكيميائي إلى السعادة هو الخيار الوحيد أمامهم. ومع ذلك يتردَّد كثير من الأشخاص في أن يطلبوا من أطبائهم وصف مضادَّات الاكتئاب لهم حتى عندما تفشل جميع الحلول الأخرى معهم. والمُفارقة أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم قد لا يجدون أي حرجٍ في شرب كأس من النبيذ، لكن ينتابهم نفور غريب تجاه استخدام العقاقير المُعدِّلة للحالة المزاجية لأغراضٍ علاجية. فهم يرَون أن الاكتئاب مشكلة يجب التغلُّب عليها بمُفردهم. ويعتقدون أن معالجته بالعقاقير تُعَدُّ نوعًا من ضعف العزيمة. وقد صك الطبيب النفسي جيرالد كليرمان مصطلح «الكالفينية الدوائية» لوصف هذا الموقف المُتزمِّت وغير المنطقي تجاه مضادات الاكتئاب.
يتساوى التأثير الكيميائي للعقاقير المُعدِّلة للحالة المزاجية، سواء استُخدِمت لأغراضٍ علاجية مثل وصف عقار بروزاك لمريض بالاكتئاب، أو لأغراض ترفيهية مثل تناول مرتادي الحفلات عقار إكستاسي. يُعزِّز كل من عقاري بروزاك وإكستاسي من مستويات السيروتونين. وذلك ما دفع البعض إلى افتراض أن السيروتونين هو الأساس الكيميائي للسعادة. ووفقًا لهذه النظرية، فإن ارتفاع مستويات السيروتونين في الدماغ يجعلنا في حالةٍ مزاجية جيدة، بينما نُصاب بالاكتئاب عند انخفاض مستوياته. لكن الأدلَّة على هذه النظرية متضاربة. فرغم أن بعض الادعاءات تُشير إلى انعدام السيروتونين في أدمغة المرضى ذوي الميول الانتحارية، لم تكتشِف أي اضطراباتٍ ثابتة في نظام السيروتونين لدى الأشخاص المُصابين بالاكتئاب. كما أن مضادات الاكتئاب مثل بروزاك تُعزز من مستويات السيروتونين في الدماغ بنفس سرعة تأثير العقاقير الترفيهية مثل إكستاسي؛ إذ يظهر تأثيرهما غالبًا خلال ساعةٍ أو ساعتَين؛ في حين أن مرضى الاكتئاب يُضطرُّون إلى تناول جرعات يومية من بروزاك لمدة أسبوعَين أو ثلاثة قبل أن يشعروا بأي تحسُّن في الأعراض لديهم. ومن هنا نستنج أن تحسُّن المزاج لا يمكن أن يُعزى فقط إلى مستويات السيروتونين بالدماغ. حاليًّا، رغم مزاعم شركات الأدوية المختلفة التي تستغل البساطة المُغوِية لفرضية السيروتونين من أجل تسويق منتجاتها، فلا يزال فَهمنا لكيفية عمل مضادات الاكتئاب في مراحله الأولى.
إلى جانب السيروتونين، تلعب مواد كيميائية أخرى في الدماغ دورًا مهمًّا في الحالة المزاجية مثل الدوبامين والنورأدرينالين. قد تُستخدَم أيضًا العقاقير التي تؤثر على هذه المواد الكيميائية لتغيير الحالة الانفعالية للفرد. فالكوكايين والأمفيتامينات يُعزِّزان مستويات الدوبامين والنورأدرينالين في الدماغ، ويبدو أن ذلك ما يجعلهما يُحدِثان تأثير النشوة. لكن ثمة عقاقير أخرى، مثل الكلوربرومازين، ترفع من مستويات هذه المواد الكيميائية بنفس سرعة الكوكايين أو الأمفيتامين، لكنها لا تمنح نفس النشوة الفورية، ولهذا مرة أخرى فإن الأساس العصبي للحالة المزاجية أكثر تعقيدًا من مجرد كمية الدوبامين أو النورأدرينالين المُتدفق في الدماغ.
كما هو الحال مع الشوكولاتة والشاي والسكريات، فإن لمعظم العقاقير الترفيهية المُحسِّنة للحالة المزاجية تأثيرًا قصير المدى، وقد يعقب النشوة الناتجة عنها تراجُع واضح وغير مريح في الحالة المزاجية. من المُمكن الحفاظ على الشعور بالنشوة عن طريق تناول جرعةٍ أخرى قبل أن يزول أثر الجرعة الأولى، لكن كلما طال استخدام الشخص لمِثل هذه العقاقير، زادت صعوبة التعامل مع تراجُع الحالة المزاجية الذي يعقب النشوة. وفي محاولةٍ لتأجيل هذا التراجُع المزاجي إلى أجلٍ غير مُسمًّى، يقع الشخص فريسة الإدمان حيث يتعاطى العقار باستمرار للحفاظ على شعور دائم بالنشوة. في مثل هذه الحالات، يصبح التمسُّك بعادة إدمان العقاقير هو النشاط الوحيد الذي يمثل قيمة في الحياة ويفقد كل ما دون ذلك أهميته. ففي تجربة أجراها جيمس أولدز، حيث وُضِعَ جرذ في قفص مزوَّد بذراع مُوصَّلة بسلك يسري عن طريقه تيار كهربائي إلى قُطب زُرِعَ في مركز المكافأة لدى دماغ الجرذ. في كل مرة يضغط فيها الجرذ على الذراع، يُحفِّز القطب المزروع إطلاق دَفعة دوبامين صغيرة مُماثلة للنشوة التي يُثيرها تعاطي الكوكايين. ولم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن يقضي الجرذ كل وقتِه في الضغط على الذراع مرارًا وتكرارًا، متجاهلًا أي شيءٍ آخر حولَه بما في ذلك الطعام؛ وهذه هي الصورة المثالية لمدمن العقاقير.
مع تكيُّف جسم المدمن وعقله مع العقار، يصبح تناول جرعات أكبر أمرًا ضروريًّا لتحقيق تأثير النشوة نفسه. ويؤدي تأثير الإفراط في ضخِّ العقار إلى الجسم على المدى الطويل إلى أضرارٍ بالغة في أعضاء مختلفة. إذ يؤدي الانتظام في استنشاق الكوكايين لفترةٍ طويلة عادة إلى الْتهاب الجيوب الأنفية ونزيف الأنف وثقب الحاجز الأنفي والإصابة في النهاية بنوباتٍ قلبية وسكتات دماغية وذُهان. ويؤثر الكحول — الذي يُعَد من أكثر المواد التي يمكن إدمانها — على جميع أجهزة الجسم تقريبًا، مما يجعل مُدمني الكحول أكثر عرضةً للإصابة بتليُّف الكبد وسرطان المعِدة وأمراض القلب وفقدان الذاكرة. أما في حالة التدخين، فإن ما يُسمِّم الجسم ليس النيكوتين بقدْر ما هو المكونات الأخرى للسجائر مثل القطران وثاني أكسيد النيتروجين الذي يُسبب أمراض القلب وسرطان الرئة.
ينجح غالبية مُستخدمي العقاقير في تجنُّب تلك المخاطر عن طريق السيطرة على عاداتهم. ومثلما لا يُصبح معظم شاربي الكحول مُدمنين له، يوجد أيضًا كثيرون يتعاطون الماريجوانا وعقار إكستاسي والكوكايين دون أن يُصبحوا مدمنين. فيمكن تناول أي مادة يمكن إدمانها بدءًا من التبغ والشاي وحتى الكوكايين والهيروين بطريقةٍ مسئولة إذا توخَّى المستخدِم القدْر اللازم من الحذر. ففي أواخر القرن التاسع عشر، كان يتعاطى العديد من المشاهير الكوكايين خاصةً في شكله غير النقي الذي كان أحد مكوِّنات الوصفة الأصلية لكوكاكولا. وكثيرًا ما كان يُشاهَد الرجال الفيكتوريون يُدخنون الأفيون في أوكارٍ في أرجاء لندن. وكذلك شيرلوك هولمز كان يدمن المورفين. إن الهوس المُحيط بتعاطي مثل هذه العقاقير في الوقت الحالي هو نتاج النظام التنظيمي الحالي.
لا يوجَد عقار ليس له آثار جانبية. حتى أحدث العقاقير المحوَّرة تترك تأثيراتٍ غير تلك التي صُمِّمت لأجلها. فعقار بروزاك بجانب أنه يُخفف من أعراض الاكتئاب، فإنه قد يزيد من القلق، على الأقل خلال الأسابيع الأولى من العلاج. وهناك آثار جانبية أكثر دقة أُبلِغَ عنها عند استخدام بروزاك، منها الشعور بالخدَر أو الانفصال الانفعالي وانخفاض الحساسية تجاه الاحتياجات العاطفية للآخرين. لذا باعتبارها طريقًا مختصرًا للسعادة، تُعَد العقاقير سلاحًا ذا حدَّين. فاستخدامها بطريقة حكيمة ومسئولة قد يُثير البهجة من حينٍ إلى آخر. لكن من ناحية أخرى، فإن خطر الإدمان يظل يُهدد حياة الغافل عن الحذَر منها.
الأفلام والانفعالات
عند الاختيار بين الطرق المختصرة إلى السعادة، لا يُشترط أن نجد اختيارًا واحدًا حاسمًا بين الوسائل المختلفة لتحسين الحالة المزاجية. بل يمكننا أن نختار منها ونمزج بينها بما يتناسَب مع أذواقنا وقِيَمنا. قد حظي المزج بين أشكال الفنون المختلفة بتقديرٍ كبير عند الرومانسيين الذين استحدثوا مصطلح «الترافق الحسِّي» للتعبير عن مثل هذه التوليفات. وكانت الأوبرا المِثال الأبرز على ذلك، حيث تجمع بين الدراما والشعر والموسيقى والغناء والرقص والرسم لتقديم تجربةٍ حسِّية زاخرة بالمتعة. ويمكن اعتبار الأفلام والمسرحيات الغنائية وألعاب الفيديو أشكالًا حديثة من الترافُق الحسِّي.
وتُعَد السينما إحدى الوسائل الشديدة الفاعلية للتأثير على الحالة المزاجية، ورغم ذلك لم يحظَ جانب الانفعالات باهتمامٍ يُذكر في نظريات السينما حتى وقتٍ قريب. لكن بدأ هذا يتبدَّل الآن؛ إذ أخذ باحثون من مختلف التخصُّصات في دراسة الطرُق التي تستثير بها الأفلام الخبرات الانفعالية لدى المشاهد. ويستخدِم علماء الأعصاب التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لاستكشاف كيفية استجابة الدماغ للأفلام، لكن مثل هذه التجارب تُحتِّم على المُشاهِد الاستلقاء داخل جهازٍ غريب وغير مألوف. لذا يسعى بعض الباحثين إلى تسجيل استجابات الجمهور في بيئاتٍ أكثر واقعيةً مُستخدِمين كاميرا تعمل بالأشعة تحت الحمراء لرصد اللحظات التي تطرف أعين المشاهدين فيها. ومن خلال هذه الطريقة وغيرها من الطرق الأخرى، يأمُل العلماء في فَهم تأثير التفاصيل الفنية لصناعة الأفلام، مثل معدلات الإطارات وتركيب المشهد، على المُعالجة الحسِّية والمعرفية.
تلك الأبحاث تزيد معرفتنا بالعناصر التي تجعل الأفلام مشوقة، وقد تُساهم في مساعدة شركات الإنتاج على الارتقاء بصناعة الأفلام. لكنها قد لا تكون مفيدةً بالكلية. فالأفلام إلى جانب أنها مصدر للمتعة والترفيه، قد تحمل كذلك رسائل فكرية مؤثرة بأساليب ضمنية قد لا يدركها المشاهدون أحيانًا. على سبيل المثال، قد يكون الانحياز السياسي الموجود في أفلام الدعاية النازية التي أخرجتها ليني ريفنشتال جليًّا، لكن الأفلام الأخرى قد تبث أفكارًا بطرُق أكثر دهاءً، ومن ثَم تكون أشد تأثيرًا.
إذا كان بإمكان علماء النفس مساعدة المُخرِجين في الارتقاء بصناعة الأفلام، فسيكون بإمكان المُخرجين بدورهم مساعدة علماء النفس في سبر أغوار الانفعالات. يقول عالم النفس جيفري زاكس إن خبرتنا في تجارب صناعة الأفلام تتعدَّى الآن أكثر من مائة عام. هذه التجارب تتضمَّن الكثير من الدروس عن الإدراك والذاكرة والانفعال التي بالكاد بدأ علماء النفس في استكشافها.