مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا حديث مُوجز عن الشَّيخين: أبي بكر وعمر رحمهما الله، وما أرى أن سيكون فيه جديد لم أسبق إليه، فما أكثر ما كتب القدماء والمحدثون عنهما! وما أكثر ما كتب المستشرقون عنهما أيضًا! وأولئك وهؤلاء جدُّوا في البحث والاستقصاء ما أُتيحت لهم وسائل البحث والاستقصاء، وأولئك وهؤلاء قد قالوا عن الشيخين كل ما كان يمكن أن يُقال.
ولو أني أطعت ما أعرف من ذلك لما أخذت في إملاء هذا الحديث الذي يوشك أن يكون مُعادًا، ولكني أجد نفسي من الحب لهما والبرِّ بهما ما يُغريني بالمشاركة في الحديث عنهما، وقد رأيتني تحدثت عن النبي ﷺ في غير موضع، وتحدثت عن عثمان وعلي رحمهما الله، ولم أتحدث عن الشيخين حديثًا خاصًّا بهما مقصورًا عليهما.
وأجد في نفسي مع ذلك شعورًا بالتقصير في ذاتيهما، كما أجد في ضميري شيئًا من اللوم اللاذع على هذا التقصير.
وأنا مع ذلك لا أريد إلى الثناء عليهما، وإن كانا للثناء أهلًا؛ فقد أثنى عليهما الناس فيما تعاقب من الأجيال، والثناء بعد هذا لا يُغني عنهما شيئًا، ولا يجدي على قارئ هذا الحديث شيئًا، وقد كانا رضي الله عنهما يكرهان الثناء أشد الكره ويضيقان به أعظم الضيق.
وما أريد أن أفصِّل الأحداث الكثيرة الكبرى التي حدثت في أيامهما؛ فذلك شيء يطول، وهو مفصَّل أشد التفصيل فيما كتب عنهما القدماء والمُحدثون.
وأنا بعد ذلك أشك أعظم الشك فيما رُوي عن هذه الأحداث، وأكاد أقطع بأن ما كتب القدماء من تاريخ هذين الإمامين العظيمين، ومن تاريخ العصر القصير الذي وليا فيه أمور المسلمين أشبه بالقصص منه بتسجيل حقائق الأحداث التي كانت في أيامهما، والتي شقَّت للإنسانية طريقًا إلى حياة جديدة كل الجدة.
فالقدماء قد أكبروا هذين الشيخين الجليلين إكبارًا يُوشك أن يكون تقديسًا لهما، ثم أرسلوا أنفسهم على سجيتها في مدحهما والثناء عليهما، وإذا كان من الحق أن النبي ﷺ نفسه قد كذب الناس عليه، وكان كثير من هذا الكذب مصدره الإكبار والتقديس، فلا غرابة في أن يكون إكبار صاحبيه العظيمين وتقديسهما مصدرًا من مصادر الكذب عليهما أيضًا.
والقدماء يقصُّون الأحداث الكبرى التي كانت في أيامهما كأنهم قد شهدوها ورأوها رأي العين، مع أننا نقطع بأن أحدًا منهم لم يشهدها، وإنما أرَّخوا لهذه الأحداث بأخرة، وليس أشد عُسرًا من التأريخ للمواقع الحربية ووصفها وصفًا دقيقًا كل الدقة، صادقًا كل الصدق، بريئًا من الإسراف والتقصير.
والذين يشهدون هذه المواقع ويشاركون فيها لا يستطيعون أن يصِفوها هذا الوصف الدقيق الصادق؛ لأنهم لم يروا منها إلا أقلَّها وأيسرها، لم يروا إلا ما عملوا هم وما وجدوا، وقد شغلهم ذلك عما عمل غيرهم.
وما ظنك بالجندي الذي هو دائمًا مشغول بالدفاع عن نفسه واتقاء ما يسوقه إليه خصمه من الكيد؟! أتراه قادرًا على أن يلاحظ ما يحدث حوله، وما يحدث بعيدًا عنه من الهجوم والدفاع، ومن الإقدام والإحجام؟! هيهات! ذلك شيء لا سبيل إليه.
وإنما يستطيع المؤرِّخون المتقنون أن يحقِّقوا عواقب المواقع وما يكون من انتصار جيشٍ على جيشٍ وانهزام جيش أمام جيش، وما يكون أحيانًا من إبطاء النصر أو إسراعه، ومن طول المواقع أو قصرها، ومن امتحان الجيشين المحتربين بما يكون فيهما أو في أحدهما من كثرة القتلى والجرحى، ومن الخطط التي يتخذها القواد للهجوم والدفاع، وما يكون لهذه الخطط من نجح أو إخفاق. فأما إحصاء القتلى والجرحى والغرقى — إن اضطر الجيش المنهزم إلى عبور نهر أو قناة — وإحصاء المنهزمين، بل إحصاء الجيوش نفسها قبل أن تلتقي وحين تلتقي، فشيء لا سبيل إليه، ولا سيما بالقياس إلى الأحداث التي كانت في العصور القديمة حين لم يكن هناك إحصاء دقيق، وحين لم يكن للناس علم بمناهج البحث والاستقصاء وتحقيق أحداث التاريخ.
وقدماء المؤرخين من العرب لم يعرفوا من أمر هذه الأحداث الكبرى إلا ما تناقله الرُّواة من العرب والموالي، فهم إنما عرفوا تاريخ هذه الأحداث من طريق المنتصرين وحدهم، بل من طريق الذين لم يشهدوا الانتصار بأنفسهم، وإنما نُقِلت إليهم أنباؤه نقلًا أقل ما يمكن أن يُوصَف به أنه لم يكن دقيقًا، وهم لم يسمعوا أنباء هذا الانتصار من المنهزمين بين فُرْسٍ ورومٍ وأممٍ أخرى شاركتهم في الحرب وشاركتهم في الهزيمة، فهم سمعوا صوتًا واحدًا هو الصوت العربي.
وأيسر ما يجب على المؤرخ المحقق أن يسمع أو يقرأ ما تحدَّث به أو كتبه المنهزمون والمنتصرون جميعًا.
والأحداث الكبرى التي كانت أيام الشيخين خطيرة في نفسها، تبهر الذين يسمعون أنباءها أو يقرءونها، فليست في حاجة إلى أن يتكثر في روايتها المتكثرون، ولا إلى أن يحيطها الرواة بما أحاطوها به من الغلو والإسراف؛ فردُّ العرب إلى الإسلام بعد أن جحدوه، وإخراج الروم من الشام والجزيرة ومصر وبرقة، وإخراج الفرس من العراق والقضاء على سلطانهم في بلادهم؛ كل هذه أحداث لا سبيل إلى الشك فيها ولا في وقوعها في هذا العصر القصير أثناء خلافة الشيخين، وهي أحداث تصف نفسها وتدل على خطورتها وليست محتاجة إلى المبالغة في وصفها؛ لأنها فوق كل مبالغة، مع أنها حقائق لا معنى للشك فيها.
من أجل هذا كله، أعرض عن تفصيل هذه الأحداث كما رواها القدماء وأخذها عنهم المحدثون في غير بحث ولا تحقيق.
وأنا أعتقد أن المؤرِّخ حين يقول: إن عصر الشيخين قد شهد انتصار المسلمين على الروم، وقضاء المسلمين على دولة الفرس، قد قال كل شيء، وسجل معجزة لم يعرف التاريخ لها نظيرًا.
أنا إذن لا أُملي هذا الحديث لأثني على الشيخين، ولا لأفصل تاريخ الفتوح في عصرهما؛ وإنما أريد إلى شيء آخر مخالف لهذا أشد الخلاف، أريد أن أعرف وأن أبيِّن لقارئ هذا الحديث شخصية أبي بكر وعمر — رحمهما الله — كما يصورها ما نعرف من سيرتهما، وكما تصورها الأحداث التي كانت في عصرهما، وكما يصورها هذا الطابع الذي طبعت به حياة المسلمين من بعدهما، والذي كان له أعظم الأثر فيما خضعت له الأمة العربية من أطوار، وما نجم فيها من فتن.
ويقول الرواة: إن عمر قال عن أبي بكرٍ: إنه أتعب مَنْ بعده. وليس من شك في أن عمر كان أشدَّ من أبي بكر إتعابًا لمن جاء بعده؛ فسيرة هذين الإمامين قد نهجت للمسلمين في سياسة الحكم، وفي إقامة أمور الناس على العدل والحرية والمساواة نهجًا شقَّ على الخلفاء والملوك من بعدهما أن يتبعوه؛ فكانت نتيجة قصورهم عنه — طوعًا أو كرهًا — هذه الفتنة التي قُتِلَ فيها عثمان رحمه الله، والتي نجمت منها فتن أخرى، قُتِلَ فيها عليٌّ رضي الله عنه، وسُفِكت فيها دماء كثيرة كره الله أن تُسفَك، وانقسمت فيها الأمة الإسلامية انقسامًا ما زال قائمًا إلى الآن.
هذا النهج الذي نهجه الشيخان — والذي قصر عنه بعدهما الخلفاء والملوك — هو الذي أريد أن أعرفه وأجلوه لقارئ هذا الحديث، وأستخلص منه بعد ذلك شخصية أبي بكر وعمر رحمهما الله.
ولا أذكر عُسر هذا البحث، ولا ما سأبذل فيه من الجهد، وما سأتعرض له من المشقة، وما سيعرض لي من المشكلات؛ فكل من يحاول مثل هذا البحث لا بد من أن يوطن نفسه على كل هذا العناء، ومن أن يستعين الله عليه.