أبو بكر
١
يقول الله — عز وجل — في سورة الحجُرات: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
وكل شيء يدل على أن الله — عز وجل — قد اختار نبيَّه لجواره، وما زال الأعراب مسلمين لم يدخل الإيمان في قلوبهم بعدُ، رأوا سلطانًا جديدًا قد ظهر في الأرض وأظل المدينة ومكة والطائف، وطالب الناس بأن يدينوا دينه، ويشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويؤدوا ما يُفرَض عليهم من الواجبات.
ورأوا هذا السلطان يعلن الحرب على كل عربي في الجزيرة يستمسك بشركه ولا يُذعن لهذا الدين الجديد، ورأوه يحول بين المشركين وبين المسجد الحرام بمكة، ويعلن إليهم قول الله — عزَّ وجل — في سورة براءة: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا.
ورأوا لهذا السلطان من القوة والبأس — ورأوا فيه من السعة والإسماح — ما رهَّبهم ورغَّبهم؛ فأعلنوا إذعانهم لهذا الدين الجديد طائعين أو كارهين.
ولو قد بقي النبي ﷺ فيهم أعوامًا كثيرة أو قليلة لكان من الممكن أن تذعن لهذا الدين قلوبهم كما أذعنت له ألسنتهم، ولكن الله آثر لنبيِّه رحمته ورضوانه؛ ففارق هذه الدنيا راضيًا مرضيًّا، ورأى المسلمون غيرُ المؤمنين من العرب أنه رجل كغيره من الرجال يعرض له الموت كما يعرض لغيره من الناس، وأن الذي نهض بالأمر من بعده ليس إلا رجلًا يعرفونه، ويقدِّرون أنه أجدر أن يعرض الموت له كما عرض للنبي الذي أُنزِل عليه القرآن وأُتِيح له ما أُتِيح من الظهور على كل من خالفه أو ناوأه.
هنالك تكشَّفت قلوبهم عن دخائلها، وأظهروا أنهم قد أسلموا لسلطان النبي دون أن تؤمن به قلوبهم، فأظهروا ما أظهروا من الردَّة، وجعلوا يساومون في الزكاة، وتقول وفودهم لأبي بكر: نقيم الصلاة ولا نؤدي الزكاة.
كان المال أحبَّ إليهم من الدين، وكانت نفوسهم أكرم عليهم من أن يؤدُّوا ضريبة إلى رجل لا يُوحَى إليه ولا يأتيه خبر السماء.
بل إن ظاهرة أخرى دلَّت على أن فريقًا من العرب لم ينتظروا بجحودهم وردَّتهم فراق النبي ﷺ لهذه الدنيا؛ فأظهروا الردَّة قبل وفاته، لا لأنهم ضاقوا بالزكاة، أو آثروا المال على الدين، بل لأنهم نفسوا على قريش أن تكون فيها النبوة، وأن يُهيَّأ لها ما هُيِّئ من هذا السلطان بما له من قوة وبأس، وبما فيه من سعة وإسماح، فظهر بينهم بدع جديد وهو التنبؤ.
فما ينبغي أن تستأثر قريش من دونهم بالنبوة، وما ينبغي أن تختص وحدها بهذا السلطان تبسطه على الأرض.
وما أسرع ما ظهر التنبؤ في ربيعة — وفي بني حنيفة منهم خاصة — فأعلن مُسيلمة نبوته في اليمامة، وجعل يهذي بكلام زعم أنه كان يُوحَى إليه، وجعل يقول: لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا قومٌ يظلمون.
وظهر التنبؤ في اليمن، فثار الأسود العنسي وأعلن نبوته، وركبه شيطان السجع كما ركب مُسيلمة.
ولم يكد النبي ﷺ ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى ظهر تنبؤ آخر في بني أسد؛ فأعلن طليحة أنه نبيٌّ، وجعل يهذي لقومه كما هذى صاحباه بالسجع، ويزعم أنه يتنزل عليه من السماء.
ثم لم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل تنبأت امرأة في بني تميم — وهي سجاح — كانت نازلة في بني تغلب، فلما استأثر بها شيطان السجع أسرعت إلى قومها من تميم فأغوت منهم خلقًا كثيرًا.
وكذلك نفست قحطان على عدنان أن يكون لها نبي من دونها، فظهر فيها الأسود العنسي، ونفست ربيعة العدنانية على مضر أن تستأثر من دونها بالنبوة، ونفست أسد وتميم المضريتان أن تستأثر قريش بالنبوة من دون سائر مضر؛ فظهر طليحة في بني أسد، وظهرت سجاح في بني تميم.
وكذلك عادت الأرض كافرة بعد إسلامها، واشتعلت فيها نار، ما أسرع ما انتشر لهبها حتى شمل جزيرة العرب كلها! وحُصِر الإسلام في المدينة ومكة والطائف.
وكان انتشار هذا اللهب وارتداد الكثرة الكثيرة من العرب محنة امتُحِن بها أبو بكر، وامتُحِن بها معه المسلمون بعد وفاة النبي. وليس شيء أصدق تصويرًا لشخصية الرجل من ثباته للمحنة مهما تعظم، ونفوذه من مشكلاتها مهما تتعقد، وظهوره على هولها مهما يكن شديدًا.
ولم يواجه أبو بكر في أول عهده بالخلافة ردة المانعين للزكاة، وكفر التابعين لمن تنبأ من الكذابين فحسب، وإنما واجه في الوقت نفسه تأهب العرب من نصارى الشام للمكر به والكيد له والغارة عليه.
وقد واجه النبي ﷺ تحفُّز العرب في الشام على حدود الجزيرة العربية، وكانت له معهم خطوب، فلم تكن مؤتة ولا تبوك إلا محاولة لرد نصارى العرب في الشام عن الجزيرة، بل لم يكتفِ النبي ﷺ بمؤتة وتبوك، وإنما جهَّز قبل وفاته جيشًا لغزو هؤلاء العرب، وأمَّر على هذا الجيش أسامة بن زيد بن حارثة، وكان لأسامة ثأرٌ عند هؤلاء العرب الذين قتلوا أباه يوم مؤتة، وعسى أن يكون النبي قد لاحظ هذا الثأر حين أمَّر أسامة على حداثة سنه، وحين جعل في جيشه خيرة أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر.
ولكن النبي مرض قبل إنفاذ هذا الجيش، ولما أحس الوفاة أوصى بإنفاذ جيش أسامة.
فلما استخلف أبو بكر نظر فإذا الأرض من حوله كافرة، وإذا أولو القوة والبأس من أصحابه قد جُنِّدوا في هذا الجيش المهيأ للغارة على أطراف الشام، والذي أوصى النبي قبل وفاته بإنفاذه إلى غايته.
فأبو بكر إِذن أمام نار مضطربة في الجزيرة العربية كلها، وهو بين اثنتين: إما أن ينفذ هذا الجيش فيواجه هذه النار المتأججة غير قادر على إخمادها، وإما أن يؤجل إنفاذ هذا الجيش حتى يحاول به إخماد هذه النار فيبطئ في إنفاذ وصية النبي.
وكذلك أخذته المحنة من جميع أقطاره، وسنرى كيف استطاع أن يخرج منها ظافرًا موفورًا.
٢
ومن قبل هذه المحنة واجهته محنة أخرى قبل أن يلي أمور المسلمين وهي وفاة النبي ﷺ، ولم تكن هذه المحنة مقصورة عليه، بل كانت عامة كادت تفتن المسلمين عن دينهم، فهم كانوا يقدرون أن النبي سيبقى فيهم حتى يظهر دين الله على الدين كله، وهم يقرءون في سورة التوبة قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
ويقرءون قوله — عز اسمه — في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا.
وكان النبي قد أظهر دين الحق على الدين كله في جزيرة العرب، ولكنه لم يُظهره على الدين في سائر أقطار الأرض، ثم انتقضت اليمن مع الأسود العنسي، وانتقض بنو حنيفة مع مسيلمة في حياة النبي؛ فلم يتم له إذن إظهار دين الحق على الدين كله، لا في جزيرة العرب ولا في غيرها من أقطار الأرض.
وها هو ذا يفارق الدنيا ويختاره الله لجواره، فلا غرابة في أن يشك الصادقون من المؤمنين في أنه قد مات كما شك عمر رحمه الله، ولا غرابة في أن يكفر الذين كانوا يعبدون الله على حرفٍ، كما كفر الأعراب الذين جحدوا الزكاة، ولا غرابة في أن يضطرب أمر الناس في المدينة أشد الاضطراب.
فإذا فكرت في أن أبا بكر كان أحب الناس إلى رسول الله، وكان رسول الله أحب الناس إِليه؛ عرفت وقع هذه المحنة في نفس أبي بكر. ولكنك تعلم كيف خرج أبو بكر من هذه المحنة دون أن تضطرب لها نفسه، ودون أن يجد الضعف أو الريب إلى نفسه سبيلًا، وتعرف كذلك كيف استطاع أن يرد الصادقين من المؤمنين إلى أنفسهم أو يرد أنفسهم إِليهم، حين تلا عليهم هاتين الآيتين الكريمتين، وهما قول الله — عز وجل — في سورة آل عمران: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ.
وقوله في سورة الزمر: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ.
لم يجزع إِذن أبو بكر ولم يَرْتَبْ لوفاة النبي، بل ذاد الجزعَ والريبَ عن نفوس المؤمنين الصادقين حين ذكرهم بما أنبأ الله في القرآن من أن النبي معرض للموت وللقتل، ومن أنه ميت كما يموت غيره من الناس.
وليس إذن بُد من البحث عن مصدر ما أُتيح لأبي بكر من الثبات للمحن والصبر عليها، والنفوذ آخر الأمر من مشكلاتها.
٣
وليس لهذا كله إلا مصدر واحد هو الذي يدل عليه لقبه: «الصِّدِّيق»؛ ذلك أن أبا بكر كان رجلًا من قريش، ثم رجلًا من العرب، ثم إنسانًا يفرح لما يفرح القرشي له ويفرق مما يفرق القرشي منه، وتتأثر نفسه بما تتأثر به النفس العربية، وتخضع طبيعته لما تخضع له الطبيعة الإنسانية من كل ما يعرض للناس من الرضى والغضب، ومن السرور والحزن، ومن اللذة والألم، ومن القوة والضعف. ثم كان أبو بكر يمتاز برقَّة القلب وسماحة النفس والرحمة الشديدة لكل من يصيبه ما يكره.
فكيف استطاعت طبيعته هذه أن تثبت لهذه المحن الشداد، وأن تنفذ منها في غير مشقة ولا تكلف، وهو الذي أشفقت ابنته عائشة — رحمها الله — ألا يسمع الناس صوته حين تقدم النبي يأمره أن يصلي بالناس لمَّا ثقل عليه الوجع، فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف وإذا قام مقامك لم يُسمع الناس من البكاء.
ثم كيف استطاع أن يبلغ من النبي ﷺ هذه المنزلة التي بلغها، والتي لم يبلغها عنده أحد من أصحابه، فكان النبي يعلن ذلك، فيجيب عمرو بن العاص حين سأله أي الرجال أحب إِليه، بأنه أبو بكر.
ويقول يومًا على المنبر فيما تحدث الرواة: لو كنت متخذًا من أُمتي خليلًا لاتخذت أبا بكرٍ خليلًا، ولكن إِخاء وصحبة حتى يجمعنا الله عنده.
ويختلف إلى داره بمكة مُصبحًا ومُمسيًا من كل يوم، ويختصه بمصاحبته حين هاجر من مكة، ويؤثره بخاصة أمره كله.
لا جواب على هذه الأسئلة إلا ما ذكرته آنفًا من أنه كان الصديق، فهو أول من أسلم من الرجال وكان إِسلامه صفوًا خالصًا، قاومه التصديق العميق، والإِيمان الخالص من كل شائبة، والاطمئنان الصادق السمح إِلى كل ما يحدِّث به النبي ﷺ، ثم إيثاره النبي على نفسه في كل موطن، ثم البلاء الحسن كلما جدَّ الجد واحتاج النبي أو المسلمون إلى هذا البلاء.
والرُّواة يتحدثون بأن النبي حين أنبأ ذات يوم بأنه أُسرِي به من ليلته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ كذَّبته قريش، وتردَّد بعض المسلمين في تصديقه ولم يطمئن لنبئه هذا في غير شكٍّ ولا ارتياب ولا تردد إلا رجل واحد هو أبو بكر.
ويحدثنا الرواة كذلك أنه كان الرجل الوحيد الذي اطمأنت نفسه لصُلح النبي مع قريش على الهدنة يوم الحُديبية، وقد اضطرب الناس لهذا الصلح وضاقوا به أول أمرهم، وثار له عمر بن الخطاب على قُربه من النبي وإيثار النبي له؛ فقال للنبي: ألسنا على الحق؟ قال النبي: بلى، قال عمر: أليسوا على الباطل؟ قال النبي: بلى، قال عمر: فَلِمَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ قال النبي — وقد أخذه شيء من الغضب: «أنا عبد الله ورسوله ولن يُضيِّعني.»
وذهب عمر بعد ذلك إلى أبي بكر فحاوره كما حاور النبي، فكان جواب أبي بكر نفس الجواب الذي أجاب به النبي، قال لعمر: إنه عبد الله ورسوله ولن يضيِّعه.
ولم يعرف قط أن أبا بكر قال أو صنع شيئًا يؤذي النبي منذ أسلم إلى أن مات، ذلك إلى إيثاره المسلمين على نفسه، وإنفاق ماله في معونتهم.
فالرواة يتحدثون بأنه كان رجلًا تاجرًا، وبأنه أسلم وعنده أربعون ألف درهم، فلما هاجر إلى المدينة مع النبي ﷺ لم يكن قد بقي له من هذا المال إلا خمسة آلاف درهم، أنفق سائر ماله في مواساة النبي والمسلمين، كان لا يرى رقيقًا يعذَّب في الإسلام إلا اشتراه وأعتقه.
من أجل هذا كله لم يكن أسبق الرجال إلى الإسلام فحسب، بل كان أحسنهم فيه بلاءً، وأثبتهم فيه قدمًا، وأشدهم له اطمئنانًا وإذعانًا.
ومعنى هذا كله: أن أبا بكر حين أسلم خُلِق خلقًا جديدًا، واكتسب شخصية لم تكن له من قبل، قوامها الإيثار والوفاء والاطمئنان والثبات الذي لا يعرف ترددًا ولا اضطرابًا.
ولأمر ما آثره النبي بصحبته في الهجرة، وذكره الله في القرآن بأنه كان ثاني اثنين في الغار، وكان بعض المسلمين يقولون: إنه كان ثالث ثلاثة، يتأولون الآية الكريمة من سورة براءة: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا.
فقَد كان الله مع رسوله ومع أبي بكر في الغار، وكان أبو بكر إذن ثالث الثلاثة.
وقد أدَّبه الله في القرآن تأدبًا رائعًا قوَّى شخصيته وزكَّى نفسه، وعلَّمه كيف يرتفع عن الصغائر، وكيف يحمل نفسه على ما تكره، ما دام في هذا الذي تكره من البر والمعروف والإحسان ما يرضي الله عنه ويغفر له الذنوب، وذلك في قصة الإفك حين غضب أبو بكر على قاذف ابنته عائشة رحمها الله، وكان هذا القاذف من ذوي قرابة أبي بكر، وكان أبو بكر يحسن إليه ويعطيه ما يُعينه على أثقال الحياة؛ فلما اقترف ما اقترف من الإثم أزمع أبو بكر أن يقبض عنه إحسانه ومعونته؛ فأنزل الله في سورة النور بعد قصة الإفك هذه الآية الكريمة: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ۗ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
فلما سمع أبو بكر هذه الآية قال — فيما يحدث الرواة: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي. ثم عفا وصفح، وعاد إِلى ما كان يصنع بقاذف ابنته من البرِّ والمعروف والإحسان.
وكذلك صحب أبو بكر رسول الله ﷺ أصدق صحبة وأبرها وأصفاها.
فلا غرابة وهو من النبي بهذه المنزلة، وهو أنصح المسلمين لله ولرسوله وللإسلام، أن يختاره النبي ليصلي بالناس حين ثقل عليه المرض، على رغم ما حاولت عائشة وحفصة من الاعتذار عنه برقة قلبه وشدة حبه للنبي.
ولا غرابة في أن يجد النبي ذات يوم خفة فيخرج للصلاة، وقد قام أبو بكر يصلي بالناس؛ فلما رآه أبو بكر أراد أن يتأخر، فأشار النبي ﷺ إليه ألا تبرح، ثم جلس عن يساره، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر.
وكان أبو بكر أفهم الناس عن النبي؛ لأنه كان أعرفهم به وأقربهم إلى قلبه، ومن أجل ذلك فطن لما أراد النبي إليه حين قال ذات يوم على المنبر: إن عبدًا خيَّره الله بين ما عنده وبين زهرة الدنيا فاختار ما عند الله، فقال أبو بكر في صوت تقطعه العَبْرة: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فعجب الناس لمقالته، وجعل بعضهم يقول لبعض: انظروا إلى هذا الشيخ كيف يقول! ولكن أبا بكر فطن لما أراد النبي من أن هذا العبد الذي آثر ما عند الله على زهرة الدنيا هو النبي نفسه، وكان يؤذن الناس بأن انتقاله عنهم إلى رضوان الله قريب.
والرواة يتكثرون في بعض الحديث ويختلفون فيما يتكثرون فيه باختلاف نزعاتهم السياسية، فقوم يزعمون أن النبي ﷺ طلب إلى عائشة في مرضه الذي قُبِض فيه أن تدعو أخاها عبد الرحمن ليكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف الناس معه عليه، ثم عدل عن ذلك وقال: دعيه، فلن يختلف الناس على أبي بكر.
وقوم آخرون يزعمون أنه لم يُسمِّ أبا بكر ولم يُسمِّ عبد الرحمن، وإنما أراد أن يكتب لأصحابه كتابًا لا يضلوا بعده، فاختلف من كان عنده ذلك الوقت من أصحابه، أراد بعضهم أن يكتب، وأبى بعضهم، وقال — وهو عمر فيما يُروَى: «إن الوجع اشتد برسول الله وعندنا كتاب الله.»
وقد بيَّنت في غير هذا الموضع أني أشكُّ كل الشكِّ في هذا كله، وأكاد أقطع بأنه مما تكلفته الفرق السياسية بأخرة، ولو قد عزم الله لرسوله على أن يُوصي لأبي بكر أو لغيره لما صرفه عن ذلك أحد.
ومهما يكن من شيء فقد قُبِض النبي ﷺ ولم يوصِ لأحد لا لأبي بكر ولا لغيره، ولو قد أوصى لأبي بكر لمَّا كانت سقيفة بني ساعدة، ولما خالفه الأنصار عن وصية رسول الله، ولو قد أوصى لعلي لكان أبو بكر أسرع الناس إلى بيعته، فكيف وقد اجتمع المسلمون من المهاجرين والأنصار على بيعة أبي بكر، إلا ما كان من شذوذ سعد بن عبادة وامتناعه عن البيعة.
وقد بايع عليٌّ — رحمه الله — أبا بكر، وعمر من بعده وعثمان من بعدهما، ولو قد علم أن النبي قد أوصى له لجاهد في إنفاذ أمر النبي ولآثر الموت على خلاف هذا الأمر.
والواقع — فيما أرجح — أن الرواة أسرفوا على أنفسهم وعلى الناس، بعد انقسام المسلمين فيما أُثِير من الفتنة بقتل عثمان رحمه الله، فلم يخلصوا أنفسهم للصدق في الرواية، ولم يتحرَّجوا من أن يُصوِّروا أمر المسلمين إثر وفاة النبي كما كان أمر المسلمين في أيامهم. وأيسر النظر في كتب التاريخ القديمة، وفي كتب المتكلمين القدماء يبين لنا أن المسلمين انقسموا بأخرة في بيعة أبي بكر، كما انقسموا في أشياء كثيرة غيرها انقسامًا شديدًا، فقد أكثر المتكلمون الجدال في أمر أبي بكر وعليٍّ رحمهما الله، فكان البكريون يزعمون أن أبا بكر أفضل المسلمين وأحقهم بخلافة النبي ﷺ ويلتمسون على ذلك ألوانًا من الحجج يكثر فيها التكلف والتزيد، وكان المتشيعون لعليٍّ يذهبون مذهب خصمهم، فيتكلفون ويتزيدون.
يقول البكريون مثلًا: إن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، ويأبى مخاصموهم ذلك فيقولون: إن عليًّا أول من أسلم من الرجال.
ويقول البكريون: إِن عليًّا قد أسلم ولم يجاوز الصِّبا فلم يكن مكلَّفًا، وأسلم أبو بكر وقد بلغ الشيخوخة أو كاد يبلغها، وفرق بين إسلام الرجل الذي كملت رجولته وإسلام الصبي الذي لما يبلغ الحُلُم.
ثم يختصمون في سن عليٍّ حين نُبِّئ النبي: يذهب البكريون إلى أنه كان تسع سنين، وربما ألجأتهم الخصومة إلى الغلو، فزعموا أن عليًّا أسلم وهو ابن ست سنين.
وواضح ما في هذا من السرف، فعندما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة وخلف عليًّا بمكة ليؤدي إلى بعض الناس ودائع كانت عند النبي، ويقال: إن النبي أمر عليًّا أن يشتمل ببردة كانت له، وأن ينام في فراشه؛ ليوهم الرُّصد الذين كانوا يتربصون به ليقتلوه أنه ما زال نائمًا في بيته، فلما أصبحوا تبيَّنوا أن من كان نائمًا في فراش النبي إنما هو عليٌّ.
ثم كانت وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، فأبلى فيها عليٌّ أحسن البلاء، وكل ذلك يدل على أن عليًّا لم يكن في أول الصِّبا حين أسلم، وعسى أن يكون قريبًا من أول الشباب، وأكبر الظن أنه كان قد جاوز العشرين حين هاجر النبي وخلَّفه في مكة ليرد على الناس ودائعهم.
وإذن فأبو بكر أول من أسلم من الرجال الذي جاوزوا الشباب وبلغوا الكهولة وأوشكوا أن يبلغوا الشيخوخة، وهو بعد ذلك لم يكن ذا قرابة قريبة من النبي ﷺ، وإنما كان رجلًا من قريش، فسبْقه إلى الإسلام فضيلة تقدمه على الذين أسلموا بعده، لا شك في ذلك.
وكان عليٌّ — كما نعلم — ربيب النبي، يعيش معه في داره، أخذه النبي من عمه أبي طالب ليخفف عنه مئونته، فلا غرابة في أن يسبق إلى الإسلام في آخر عهده بالصبا وأول عهده بالشباب.
فكلا الإمامين سابق إلى الإسلام ليس في ذلك شك، أسلم أحدهما لمكانه من النبي، ولتأثره لما كان يسمع ويرى في أكثر ساعات النهار، وكان الثاني أول من استجاب للدعوة حين تجاوز النبي بها عشيرته الأقربين.
ولا يقف اختصام الرواة باختصام الفِرق عند هذا، ولكن الأحاديث التي تُروَى عن النبي ﷺ تكثر وتتشعب لا لشيء إلا ليظهر أحد الفريقين على صاحبه.
يقول الشيعة مثلًا: إن عليًّا كان وصيَّ النبي، فيحاول مخاصموهم أن يزعموا أن النبي همَّ أن يوصي لأبي بكر، ثم عدل لأنه وثق بأن المسلمين لن يختلفوا عليه.
فقد أرى أبو بكر هذه الرؤيا وأوَّلها النبي بأنه سيلي أمر الناس، ثم أرى أبو بكر كأن في صدره رقمتين، فأولها له النبي بأن ولايته ستتصل سنتين.
فواضح ما في هذا الحديث من التكلف.
ورؤيا أخرى أُريَها النبي ﷺ وأوَّلها له أبو بكر، ويرويها ابن سعد في طبقاته أيضًا، قال النبي لأبي بكر: يا أبا بكر، رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة فسبقتُك بمرقاتين ونصف، قال: خير يا رسول الله، يبقيك الله حتى ترى ما يسرُّك ويُقر عينك، فأعاد عليه مثل ذلك ثلاث مرات.
فقال له في الثالثة: يا أبا بكر، رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف. قال: يا رسول الله، يقبضك الله إلى رحمته ومغفرته وأعيش بعدك سنتين ونصفًا.
فقد كان أبو بكر إذن يعرف متى تنتهي حياته، ولا سيما بعد وفاة النبي ﷺ، والغريب أنه انتظر باستخلاف عمرَ — رحمه الله — مرضه الذي تُوفِّي فيه، واسترد من ابنته عائشة ما كان وهب لها من ماله ليجعله في الميراث حين أشرف على الموت.
وكل هذا مما تكلفه الرواة بأخرة، وليس عندي شكٌّ في أنه من الضعف بمنزلة ما رويت آنفًا، من أن النبي همَّ أن يوصي له، ثم اطمأن إلى اجتماع الناس على أبي بكر، فعدل عن وصيته. وهذه الأحاديث إنما أُرِيدَ بها إلى مخاصمة الشيعة فيما كانت ترى من أن عليًّا هو وصي النبي.
والذي لا أشكُّ فيه هو أن القرآن لم ينظم للمسلمين أمر الخلافة ولا توارثها، وأن النبي لم يترك وصية أجمع عليها المسلمون، ولو قد فعلها لما خالف عن وصيته أحد من أصحابه، ولا من المهاجرين ولا من الأنصار.
وفضل أبي بكر أظهر من أن يحتاج إِلى مثل هذا التكلف، وفضل عليٍّ أظهر من أن يحتاج إلى التكلف أيضًا، فهو ابن عم النبي ﷺ، وهو زوج ابنته وأبو سبِطيه: الحسن والحسين رحمهما الله، وبلاؤه في الإسلام لا يشك فيه مسلم، وحب النبي له معروف، أعلنه ﷺ غير مرة، فلا حاجة إذن إلى أن تُخترَع الأحاديث لإثبات ما لا حاجة إلى إثباته؛ كالحديث الذي يُروَى من أن العباس عرف الموت في وجه النبي ﷺ، وكان يعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب …
فخرج عليٌّ ذات يوم من عند النبي في مرضه الذي تُوفِّي فيه، فسأله الناس عن رسول الله، فقال: أراه بحمد الله بارئًا، قال الرواة: فأخذ العباس بيد عليٍّ، فقال: ألا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا، وإني أرى رسول الله سيُتوفَّى في وجعه هذا، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب إلى رسول الله، فسله: فيمن يكون هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا، قال عليٌّ: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدًا، والله لا أسألها رسول الله أبدًا.
والغريب أن الطبري يروي هذا الحديث من طريقين دون أن ينكر منه شيئًا، مع أن التكلف فيه ظاهر، وهو إنما أُرِيدَ به أن يرد على الشيعة بأن عليًّا لم يكن يعلم أنه وصيُّ النبي، وأنه كان يرجو أن تُساق الخلافة إليه يومًا، وأنه أشفق إن سأل النبي عنها أن ينبئه النبي بأنها ليست في بني هاشم؛ فيعلم الناس بهذا المنع ثم يرونه دِينًا فلا يسمحون بالخلافة لهاشمي أبدًا.
وأعتقد أن عليًّا كان أكرم على نفسه، وأشد حبًّا لرسول الله من أن يقول هذه المقالة أو يفكر هذا التفكير، وإن صحَّ من هذا الحديث شيء فهو أن عليًّا كان يعلم أن النبي كان في شغل بمرضه، وربما كان يدبر رغم هذا المرض من أمور المسلمين، فكره أن يَشُقَّ عليه من جهة، واستحيا من جهة أخرى أن يظهر أمام النبي مظهر المستغل لمكانته منه الراغب مع ذلك في السلطان.
وقد كان عليٌّ يعرف حب النبي له وبِرَّه به وإكباره لبلائه في الإسلام، ويعلم أن النبي إن كان موصيًا له أو لغيره فلن يصرفه عن ذلك صارف، وإن كان غير موصٍ فلن يحمله على ذلك حامل، والنبي إنما كان ينطق عن أمر السماء، فلو قد أراده الله على أن يوصي لأوصى دون أن يسأله سائل أو يرغب إليه راغب.
وقصة أخرى يرويها المؤرخون، وما أراها إلا متكلفة أيضًا، فهم يزعمون أن أبا سفيان حين رأى أمر البيعة يستقيم لأبي بكر — وهو رجل من تيم ليس من بني عبد مناف ولا من بني قصي — أخذته العصبية الجاهلية، فجعل يبرق ويرعد، ويقول: لئن شئت لأملأن عليه الأرض خيلًا، ويقول: فأين بنو عبد مناف؟ ثم حاول أن يغري عليًّا والعباس بمثل ثورته؛ فجعل يحرضهما ويسأل: أين الأذلان؟ ويتمثل بقول الشاعر:
ثم يعرض على عليٍّ بيعته، ولكن عليًّا يزجره قائلًا له: طالما بغيت الإسلام شرًّا فلم تَضِرْه، ثم رفض ما كان يُعرَض عليه.
ولو قد قال أبو سفيان هذه المقالة أو دعا هذه الدعوة لعلم بها أبو بكر وعمر، كما علم بها الرواة، ولعرفا كيف يضعان أبا سفيان حيث وضعه الله.
وإنما هي قصة تكلَّفها المتقربون إلى بني العباس بالتشنيع على بني أمية، كما تكلفوا كثيرًا من أمثالها.
ويزيد بعض الرواة في هذه القصة ما يقطع بكذبها، فيزعمون أن بعض من سمع أبا سفيان يقول هذه المقالة في أبي بكر قال له: إن أبا بكر قد ولَّى ابنك، هنالك رضي أبو سفيان وقال: وصلته رحم.
والواقع من أمر الخلافة أنها أطلقت ألسنة بعض الرواة المتعصبين للأحزاب السياسية بكذب كثير، وروى المؤرخون هذه الأكاذيب بأخرة من غير تحقيق ولا تمحيص، فاختلطت الأمور على الناس وذهبوا في فهمها وتأويلها واستخلاص الحق منها كل مذهب.
والذي أرجحه — وأوشك أن أقطع به — هو أن عليًّا والعباس كانا مشغولين بتجهيز النبي ﷺ حين بُويِع لأبي بكر؛ فالرواة مُجمعون على أن الأنصار لما عرفوا وفاة النبي بعد أن سمعوا مقالة أبي بكر وما تلا من القرآن ليبيِّن للشَّاكِّين والمضطربين أن النبي قد قُبِض، وأن من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وأن القرآن قد أنبأ بأن النبي رجل يعرض له الموت كما يعرض لغيره من الناس.
أقول: إن الأنصار لما عرفوا وفاة النبي اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وتشاوروا بينهم، فتم رأيهم على أن يكون السلطان فيهم؛ لأنهم أهل المدينة، ولأن غيرهم من المهاجرين طارئون عليهم فيها، وليس منهم من يُوحَى إليه كما كان يُوحى إلى النبي، فلا ينبغي أن يَلوهم بعد وفاة النبي وانقطاع الوحي، وقدَّموا سعد بن عبادة من الخزرج ليبايعوه. وبلغ ذلك عمر؛ فأرسل إلى أبي بكر في بيت النبي: أن اخرج إليَّ، ولم يستجب إليه أبو بكر، بل قال لرسوله: قل له: إني مشتغل، فأعاد عمر الرسول إليه بأن أمرًا قد حدث ولا بد من أن يحضره.
فخرج إليه أبو بكر، فلما عرف منه ما أزمع الأنصار ذهب معه إليهم، ولقيا في طريقهما أبا عبيدة بن الجراح، فانطلق معهما، وأتى ثلاثتهم الأنصار وقد هموا ببيعة سعد؛ فحاوروهم، وحاجوهم في هذا الأمر، وأقنعهم أبو بكر بأن المهاجرين من قريش هم أولى بالنبي وبسلطانه من بعده؛ لأنهم عشيرته وذوو قرابته.
ثم بايع عمر وأبو عبيدة لأبي بكر، وأقبل الأنصار فبايعوه بعد أن ذكَّرهم رجل منهم — هو بشير بن سعد — بأنهم لم يُؤووا النبي ولم ينصروه ابتغاء للدنيا، وإنما آووا ونصروا ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
وكذلك بدأت بيعة أبي بكر، وعليٌّ والعباس مشغولان بأمر النبي ﷺ، وكان هذا كله في اليوم نفسه الذي قُبِض فيه النبي.
ولست أطمئن إلى أكثر ما يرويه الرواة من نصوص الحوار الذي كان بين أبي بكر وصاحبيه من جهة، وبين الأنصار أوسهم وخَزْرجهم من جهة أخرى.
فهم يروون هذا الحوار رواية من شهد اجتماع القوم وسمع ما كان فيه من الأحاديث والخطب، ثم لم يكتفِ بالسماع وإنما سجَّل ما قِيلَ حرفًا حرفًا، بل سجَّل حركات القوم وإشاراتهم، ولو قد استطاع لسجَّل نبرات الأصوات، مع أن هذا الحوار وأمثاله لم يُدوَّن إلا بأخرة، بعد انقضاء عصر الخلفاء الراشدين، وصدر من ملك بني أمية. ولم ينتقل هذا الحوار وأمثاله إلى القُصَّاص والمؤرخين مكتوبًا، وإنما نُقِل إليهم مشافهة، وصنعت فيه الذاكرة صنيعها وتعرَّض بعضه للنسيان وبعضه لتغيير اللفظ، وصنعت فيه الأهواء السياسية صنيعَها أيضًا.
فهم يزعمون مثلًا أن الأوس تناجت بينها؛ فقال بعضها لبعض: والله لئن وليت الخزرج — وهم قوم سعد بن عبادة — هذا الأمر لكانت لهم عليكم الفضيلة إلى آخر الدهر، ثم تناصح القوم أن يبايعوا لأبي بكر حتى لا يُتاح هذا السبق للخزرج.
والذي نعرفه من سيرة الأنصار — ومن سيرة المسلمين عامة — يدل على أن الإسلام قد ألغى ما كان في قلوبهم من التنافس والتباغض، ومحا ما كان في صدورهم من الضغائن الجاهلية، فغريب أن تعود إليهم جاهليتهم بكل ما كان فيها من الحقد والحسد والموجدة فُجاءة في اليوم نفسه الذي قُبِض فيه النبي ﷺ.
وما ينبغي أن ننسى أن من الرواة من كانوا من الموالي الذين لم تبرأ قلوبهم من الضِّغن على العرب؛ لأنهم فتحوا بلادهم وأزالوا سلطانهم، ثم استأثروا من دونهم بالأمر أيام بني أمية، وإذا كان الكذب قد كثر على رسول الله ﷺ، فأي غرابة في أن يكثر على المؤمنين من أصحابه.
والذي أستخلصه أنا من قصة السقيفة أيسر جدًّا مما صوَّر المؤرخون، فقد أشفق الأنصار بعد وفاة النبي من أن يلي المهاجرون من قريش الخلافة، فيصير هذا سنة وتستأثر قريش بالأمر، فإذا ذهب الصالحون من أصحاب النبي لم يعرف من يأتي بعدهم من قريش حق الأنصار، فظلموهم وجاروا عليهم، فأراد الأنصار إذن أن يحتاطوا للمستقبل، وكأنهم أحسُّوا قبل أن يأتيهم أبو بكر وصاحباه أن قريشًا لن ترضى منهم بهذا الأمر، فأزمعوا أن يعرضوا على المهاجرين أن يكون الأمر في المهاجرين والأنصار على سواء، فينْهض بأعباء الحكم أميران: واحد من أولئك، وواحد من هؤلاء. ويكون بذلك توازن في التبعات، فإذا بغى أحدهما كفَّه الآخر.
والمهم أن أبا بكر وصاحبه قد أقنعوا الأنصار في يُسر، فلم ينصرفوا عنهم إِلا وقد بايعوا لأبي بكر، ولو قد كان الأنصار حراصًا على الحكم والاستئثار بالسلطان لما أُتِيح لأبي بكر وصاحبيه أن يقنعوهم في ساعة من نهار.
والرواة يتحدثون بأن سعد بن عبادة الذي رشحه الأنصار للخلافة أبى أن يبايع لأبي بكر، وكان لا يُصلي بصلاة المسلمين، ولا يشهد معهم الجمعة، ولا يفيض بإفاضتهم في الحج.
ولكن رواة آخرين يتحدثون بأنه بايع كما بايع غيرُهُ من الناس.
وهذا عندي أدنى إلى الصواب، وكل ما يمكن أن يُقال إنما هو أن سعدًا تأخر في البيعة؛ لأنه كان مريضًا من جهة، ولأنه ربما وجد في نفسه من إقبال الأنصار عليه أولًا، ثم انصرافهم عنه لما سمعوا من حديث أبي بكر وصاحبيه.
ويمضي الرواة الذين ينكرون بيعة سعد في غلوهم، فيزعمون أن الجن قتلت سعدًا، ويضيفون إلى الجن بيتين من الشعر، وهما:
وما أظن أننا في حاجة إلى أن نقف عند هذا السخف.
٤
بقيت مسألتان خلَّط فيهما الرواة تخليطًا عظيمًا، وأثر فيهما انقسام المسلمين تأثيرًا منكرًا، وليس بُد من أن نتبين وجه الحق فيهما.
فأما أولاهما فبيعة عليٍّ لأبي بكر، فالرواة يختلفون فيها أشد الاختلاف، يقول قوم: إن عليًّا بايع أبا بكر حين بايعه غيره من المسلمين. وهؤلاء يختلفون فيما بينهم؛ فيزعم بعضهم أن عليًّا كان جالسًا في داره وعليه قميص ليس معه إزار ولا رداء، فجاءه من أنبأه بأن أبا بكر قد جلس للبيعة، وأن الناس يبايعونه، فأسرع عليٌّ إلى المسجد وأعجله السرع عن أن يتخذ إزاره ورداءه، ومضى حتى بايع أبا بكر، ثم جلس وأرسل من جاءه بثوبه فتجلَّله، وواضح ما في هذا من السرف.
وآخرون يزعمون أن عليًّا تلكأ عن البيعة وتلكأ معه الزبير بن العوام، فأرسل عمر من جاء بهما، ثم قال لهما: والله لتبايعانِّ طائعَيْنِ أو لتبايعانِّ كارهَيْنِ. وواضح كذلك ما في هذا من الكذب.
فما كان أبو بكر ليخلي بين عمر وبين العنف بعلي إثر وفاة رسول الله، وزوجه فاطمة ما زالت حية، وإنما هذا الخبر متكلف أُرِيدَ به إلى إظهار أن عليًّا لو تُرِك وشأنه ما بايع أبا بكر.
وكثير من الرواة يزعمون أن عليًّا لم يبايع أبا بكر إلا متأخرًا، وأن بني هاشم صنعوا صنيعه فامتنعوا على أبي بكر وخالفوا جماعة المسلمين، وظلوا على هذا الخلاف ستة أشهر، حتى إذا تُوفِّيَتْ فاطمة — رحمها الله — بايعوا.
وواضح ما في هذا من الكذب أيضًا، فما كان عليٌّ وبنو هاشم ليفارقوا جماعة المسلمين وليتلبثوا حتى تموت فاطمة، ثم يكون إقبالهم على البيعة حين رأوا أن الناس قد انصرفوا عنهم بعد موت فاطمة.
وأيسر العلم بفضل عليٍّ — رحمه الله — ونصحه للمسلمين وحسن بلائه في الإسلام أيام النبي يمنع من قبول هذه الرواية، وإنما خلط الرواة بين أمرين مختلفين أشد الاختلاف.
أحدهما: بيعة عليٍّ لأبي بكر، والآخر: ما كان من مغاضبة فاطمة لأبي بكر في ميراث النبي ﷺ، فقد طلبت فاطمة حقها من ميراث أبيها في فدك وفي سهمه من خيبر، فلم يجبها أبو بكر إلى ما طلبت لأنه سمع النبي ﷺ يقول: لا نورث، ما تركناه صدقة. فهجرته فاطمة ولم تكلمه حتى ماتت.
وكأن عليًّا جفا أبا بكر لهجران فاطمة له، ومن أجل ذلك لم يؤذن أبا بكر بموتها، بل دفنها ليلًا — فيما يزعم الرواة — ثم كان صلح بعد ذلك بين عليٍّ وأبي بكر.
وهذا شيء لا شأن له بالبيعة، وإنما بايع عليٌّ حين بايع الناس في غير سرع ولا إكراه. رأى أن كلمة المهاجرين والأنصار قد اجتمعت على أبي بكر فلم يخالف عما أجمع عليه المسلمون، ولو قد خالف عليٌّ أو همَّ بالخلاف لاستطاع أن يحاج أبا بكر بحجته على الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقد احتج أبو بكر على الأنصار بأن المهاجرين من قريش هم أَوْلَى الناس بالنبي وبسلطانه من بعده؛ لأنهم عشيرته وذوو قرابته.
ومما لا شك فيه أن عليًّا كان أقرب إلى النبي من أبي بكر وعمر؛ فهو ابن عمه، وزوج ابنته وأبو سبطيه، كما قلت منذ حين، ولكن عليًّا لم يفعل — على رغم ما زعم بعض الرواة — وما كان في حاجة إلى أن يفعل، فأبو بكر كان يعرف قرابة عليٍّ حق المعرفة، كما كان يعرفها غيره من المسلمين، وإنما نظر الناس إلى سن أبي بكر وفضله وحسن مواساته للنبي ﷺ وللمسلمين، واختصاص النبي له بمصاحبته في هجرته، ثم أمره أن يصلي بالناس حين ثقل عليه المرض، فكان الناس يقولون: اختاره رسول الله لديننا، فلِمَ لا نختاره لأمر دنيانا؟!
والمهم أن أحدًا لم يخالف على أبي بكر، لا من بني هاشم ولا من غيرهم، وكل ما يُقال غير هذا تكلَّفه المتكلفون بأخرة حين افترق المسلمون شِيَعًا وأحزابًا.
ولا يستطيع أحد أن يقطع بأن عليًّا كان فيما بينه وبين نفسه يجد على أبي بكر أو على عمر؛ لأنهما استأثرا بالخلافة من دونه؛ ذلك بأنه لم ينبئنا بشيء من ذلك فيما نطمئن إليه من أحاديث الرواة، وعليٌّ أفضل في نفسه وأكرم عند الله من أن يبايع الشيخين بلسانه ويضمر في قلبه غير ما كان يظهر، ونحن نعلم أنه نصح للشيخين أثناء خلافتهما، وأن عمر خاصة قد استعان به في غير موطن، واستشاره في كل ما كان يستشير فيه أعلام المهاجرين والأنصار.
هذه إحدى المسألتين اللتين ذكرتهما في أول هذا الفصل، فأما المسألة الأخرى فتتصل بما رُوِيَ عن عمر — رحمه الله — من أنه قال: إن بيعة أبي بكر كانت فَلتة وقى الله شرها.
فمن الناس من يتخذ هذه المقالة التي رُوِيَتْ عن عمر — وما أدري أصحَّت بها الرواية أم لم تصح — وسيلة للقول في خلافة أبي بكر والتشكك في صحتها، وهذا سخف؛ فالمسلمون من المهاجرين والأنصار وممن بقي بمكة أو بالطائف، وممن تفرَّق في قبائل العرب حين وفاة النبي قد رضوا خلافته وأخلصوا له النصح وائتمروا بكل ما أمر به، وانتهوا عن كل ما نهى عنه.
ولولا ذلك لما استطاع أبو بكر أن يثبت للعرب حين ارتدَّت، وأن يجنِّد المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان لقتال المرتدين، وحملهم على أن يدخلوا فيما خرجوا منه، وأن يؤدُّوا من الحق كل ما كانوا يؤدونه إلى النبي ﷺ، ولما استطاع أن يرمي بهؤلاء المهاجرين والأنصار والتابعين العراق، وكان جزءًا من ملك فارس — والشام — وكان جزءًا من ملك الروم كما سنرى، إنما أراد عمر — إن صحَّت المقالة التي رُوِيَتْ عنه — أن بيعة أبي بكر لم تتم في أول أمرها عن ملأ من جماعة المسلمين وعن تشاور وإجالة للرأي، وإنما تمت فجاءة حين اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وهمت أن تؤمِّر سعدًا، وحين حاورهم أبو بكر وصاحباه.
فهنالك رشح أبو بكر للأنصار عمر أو أبا عبيدة، وكره هذان أن يتقدما عليه فأسرعا إلى بيعته وتبعتهم الأنصار، ثم تتامَّ الناس على البيعة بعد ذلك، ولو لم يجتمع الأنصار ويهمُّوا بتأمير سعد لجرى أمر البيعة غير هذا المجرى، ولانتظر الناس بها حتى يفرغوا من دفن النبي ﷺ، ولاجتمع أولو الرأي من المهاجرين والأنصار فتذاكروا أمرهم وأمر المسلمين، واختاروا من بينهم خليفة لرسول الله.
من أجل ذلك كانت بيعة أبي بكر فلتة فيما رُوِي عن عمر، وقد وقى الله شرها؛ لأن المسلمين لم ينكروا هذه البيعة ولم يجادل فيها مجادل منهم ولا تردد فيها متردد، وإنما أقبلوا فبايعوا أبا بكر راضية به نفوسهم، مطمئنة إليه قلوبهم وضمائرهم، ثم نصحوا له بعد ذلك ما عاش فيهم، فلما مرض مرضه الذي تُوفِّي فيه أوصى لعمر بالخلافة على النحو الذي رواه المؤرخون.
والواقع أن القرآن لم يُشرِّع نظامًا لاختيار الخلفاء، وأن السنة كذلك لم تُشِر إلى هذا النظام، وإنما تعوَّد المسلمون نظام البيعة أيام النبي ﷺ، حين كانوا يبايعونه على الإسلام بمكة قبل الهجرة، وحين بايعه نُقباء الأنصار على أن يؤووه وينصروه ويسمعوا له ويطيعوا، وحين كانوا يبايعونه على مثل ذلك في المدينة: يبايعه الرجل عن نفسه حين يُسلِم، ويبايعه الوفد عن قومهم حين يُسلِمون، ثم حين بايع أصحابه على الموت يوم الحديبية، وبايعته قريش على الإسلام يوم الفتح. ثم تتامت مبايعة الوفود له عن قومهم، فاستقر في نفوس المسلمين من أجل هذا أن الخلافة عن النبي يجري أمرها مجرى سلطان النبي في حياته، أي تقوم على المبايعة.
ونظرًا للفرق الواضح بين النبي وغيره من الناس كان هناك فرق في نفوس المؤمنين بين مبايعة النبي ومبايعة الخلفاء، فقد كان النبي يُوحى إليه ولم يكن يبايع عن نفسه وحدها حين يبايع، وإنما كان يبايع عن الله الذي أرسله أولًا وعن نفسه بعد ذلك.
ومن أجل هذا قال الله — عز وجل — في سورة الفتح بمناسبة بيعة الحديبية: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.
من أجل هذا لم يكن لمن يبايع رسول الله أن يتحلل من بيعته، لا لأنه إن فعل كان ناكثًا لعهده مع النبي فحسب، بل لأنه إن فعل كان ناكثًا مع ذلك لعهده مع الله عز وجل، ولم يكن لمن بايع النبي أن يُجادله أو يُنكر عليه شيئًا مما أنزل الله في القرآن، أو مما أنطق نبيه به من الوحي في تفصيل ما أجمل القرآن، وفي تعليم الناس ما يُقِيم أمورهم في الدين والدنيا.
فأما إذا شاورهم في أمر لم ينزل فيه قرآن، ولم يُؤمَر النبي فيه بأمر من السماء، فلهم أن يشيروا عليه، وأن يقترحوا عليه كذلك غير ما همَّ بفعله، كالذي كان حين أنزل النبي ﷺ أصحابه منزلًا يوم بدر، فسأله الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بن الجموح: أهذا منزل أنزلكه الله — عز وجل — أم هو الرأي والمشورة؟ فلما قال له النبي: بل هو الرأي والمشورة؛ أشار عليه بمنزل آخر هو أصلح للمسلمين، فقَبِل مشورته.
أما بيعة الناس للخلفاء، فهي عقد بينهم وبين هؤلاء الخلفاء، لا يجوز لخليفة أن ينقضه، ولا يجوز لأحد من الرعية أن ينقضه أيضًا؛ لأن الله يأمر بالوفاء بالعهد في غير موضع من القرآن، فيقول مثلًا في سورة النحل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، ويقول في سورة الإِسراء: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا.
ويجعل الوفاء بالعهد خصلة من خصال البر التي عدَّدها في الآية الكريمة من سورة البقرة: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
والخلافة عهد بين الخليفة ورعيته، قوامه أن يُلزم الخليفة نفسه أن يعمل بكتاب الله وسُنَّة رسوله، وأن ينصح للمسلمين ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأن يطيع المسلمون أوامر الخليفة ويجتنبوا ما ينهى عنه في هذه الحدود، فإن نكث الخليفة عهده فسار في المسلمين سيرة ينحرف بها عن كتاب الله وعن سُنَّة رسوله، وعما التزم من النصح للمسلمين فلا طاعة له على رعيته، ومن حق هذه الرعية أن تطالبه بالوفاء بما أعطى على نفسه من عهد، فإن استقام فذاك، وإلا فللمسلمين أن يبرءوا منه وأن يلتمسوا لهم خليفة غيره، وإذا بغى بعض الرعية فنقض عهده الذي أعطاه للخليفة بالسمع والطاعة وجب على الخليفة أن يراجعه في ذلك، فإن فاء إلى أمر الله وأوفى بالعهد فذاك، وإن أبى وجب على الخليفة أن يقاتله حتى يفيء إلى أمر الله.
ومن أجل هذا كله قال أبو بكر في خطبته التي تُروى عنه إثر بيعته: «إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني.»
ثم قال بعد ذلك: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.»
وليس بُد من أن تتم البيعة بين الخليفة والممثلين للمسلمين من أعلام الأمة وقادتها حتى حين يُوصي الخليفة القائم لرجل من بعده، كائنًا من يكون هذا الرجل.
وقد استخلف أبو بكر عمر في مرضه الذي تُوفِّي فيه، ولكنه لم يطمئن إلى وصيته حتى استشار فيها نفرًا من أصحاب رسول الله، ثم أمر عثمان أن يسأل جماعة المسلمين: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فلما قالوا: نعم، اطمأنت نفس أبو بكر، وأرسل إلى عمر فنصح له ووصَّاه بما أراد.
وكل هذا لم يلزم المسلمين طاعة عمر بعد وفاة أبي بكر، وإنما وجب على الخليفة أن يُعطيهم العهد ليعملن بكتاب الله وسنة رسوله ولينصحن للمسلمين ما استطاع، ووجب على المسلمين أن يُعطوه العهد على أنفسهم بالسمع والطاعة في الحدود التي التزمها.
ولما طُعِن عمر وجعل الشورى في أولئك الستة من أصحاب رسول الله، على أن يختاروا من بينهم رجلًا يكون هو الخليفة، لم تكن وصية عمر إلى هؤلاء الستة مُعفية للخليفة من أن يُعطي هذا العهد على نفسه، وأن يأخذ من المسلمين العهد على أنفسهم، على النحو الذي بيَّنته آنفًا.
فلم يكن استخلاف أبي بكر لعمر إلا ترشيحًا له، ولم يكن ما انتهى إليه أمر الشورى من اختيار عثمان إلا ترشيحًا له أيضًا، وكلا الرجلين لم يستطع أن يقوم بشيء من أمور المسلمين إِلا بعد أن تمَّت البيعة بينه وبينهم.
فالبيعة إذن هي الركن الأساسي للخلافة، ومن أجل هذا كره المسلمون في صدر الإسلام أن تنتقل الخلافة من الآباء إلى الأبناء بالميراث على نحو ما كان الأكاسرة يصنعون.
ولم يكن بُد من هذا الاستطراد المسرف في الطول لأبين أن ما يُروى عن عمر لم يكن طعنًا في خلافة أبي بكر، ولا يمكن أن يكون وسيلة إلى الطعن فيها؛ لأن ما تم في سقيفة بني ساعدة من ابتداء البيعة لأبي بكر لم يلزم سائر المسلمين، ولم يكن من شأنه أن يلزمهم حتى يبايعوه عن اختيار ورضى.
٥
وقد كان أبو بكر في حياة النبي رجلًا من المسلمين لا يحتمل تبعة خاصة، وإنما يسمع ويطيع لرسول الله ﷺ كغيره من أصحابه، فلم يظهر من خصائصه وخصاله في حياة النبي ﷺ إلا ما بينت آنفًا من حبه للنبي ومواساته له بنفسه وماله، ومن بره بالمسلمين ومواساته لهم بنفسه وماله أيضًا.
وقد آثره النبي بحبه حتى كان أحب الرجال إليه، وأحبه المسلمون أيضًا وآثروه ورأوا النبي يقدمه على غيره فقدموه على أنفسهم، ولكنه بعد أن تمت له البيعة نظر فإذا هو قد طُوِّق عظيمًا من الأمر لا قوة له عليه إلا بمعونة الله ومعونة المسلمين وخيارهم من أصحاب رسول الله خاصة.
وقد أشفق أن ينتظر المسلمون منه أو أن يكلفوه أن يسير فيهم سيرة النبي ﷺ، فأعلن إليهم أنه لا يستطيع ذلك، وطلب إليهم ألا ينتظروه منه، ثم أعلن إليهم كذلك أنه ليس إلا واحدًا منهم وأنه ليس خيرهم، وسألهم أن يُعِينوه إن أحسن، وأن يقوِّموه إن أساء، والتزم أمامهم بطاعة الله ورسوله فيهم، وأبرأهم من السمع والطاعة له إن عصا الله ورسوله، وأعطاهم العهد على أن يكون الضعيف عنده قويًّا حتى يأخذ له الحق، وأن يكون القوي عنده ضعيفًا حتى يأخذ الحق منه، ثم أنبأهم بأنه متبع وليس بمبتدع، وكان لهاتين الكلمتين في نفس أبي بكر حين ألقاهما إلى المسلمين، وفيما أُتِيح له من الحياة بعد ذلك موقع أي موقع، فكان يتحرى جهده ما فعل رسول الله فيفعله، ويتحرى ما ترك رسول الله فيتركه، وكان يرى أول واجب عليه ألا يدع من أمر رسول الله شيئًا إلا أنفذه مهما تكن الظروف ومهما تكن العواقب.
ومن أجل ذلك كان أول شيء صنعه بعد أن تمت له بيعة المسلمين أن أمر من نادى بين الناس بأنه مُنفِد جيش أسامة إلى حيث أمر رسول الله أن يمضي، وطلب إلى كل من كان في جيش أسامة من المسلمين أن يخرج إلى المعسكر.
وكانت الظروف شديدة الحرج بعد وفاة النبي، فلم يضطرب المهاجرون والأنصار وحدهم لفراق النبي لهم، وإنما اضطرب العرب كلهم لذلك، وكان بين اضطراب المهاجرين والأنصار، واضطراب سائر العرب وأهل البادية منهم خاصة فرق أي فرق، فما أسرع ما ثاب المهاجرون والأنصار إلى أنفسهم! وما أسرع ما عرفوا الحق فأذعنت له نفوسهم واطمأنت إليه قلوبهم حين تلا أبو بكر عليهم ما تلا من القرآن كما رأيت!
فأما سائر العرب فقد كان اضطرابهم أعظم من ذلك خطرًا وأبعد أثرًا؛ لأن المهاجرين والأنصار كانوا قد أسلموا وآمنوا وصدق إسلامهم لله وإيمانهم به، وأما أهل البادية من الأعراب فكانت ألسنتهم قد أسلمت ولم تؤمن قلوبهم كما قرأت في الآية الكريمة من سورة الحجرات آنفًا.
وكما يقول الله في سورة براءة: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
وقد أنبأ الله بهذا رسوله كما ترى، وعلم النبي منه شيئًا كثيرًا، ولكن هؤلاء الأعراب قد عصموا من النبي دماءهم وأموالهم؛ لأنهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، وكانوا يقيمون شعائر الإسلام ويؤدون ما فرض الله عليهم من الزكاة.
وقد ظهرت بوادر الردة أيام النبي ﷺ؛ فتنبأ الكذابون: تنبأ الأسود العنسي في اليمن، وتنبأ مسيلمة في اليمامة، وتنبأ طليحة في بني أسد. وكان النبي يقاوم هؤلاء الكذابين بالرسل والكتب، ولم يكن شك في أنه كان سيقاومهم بالسيف، لو لم يختره الله لجواره.
فلما نهض أبو بكر بالأمر لم يرَ أمامه هؤلاء الكذابين فحسب، وإنما رأى سائر الأعراب قد أظهروا ما أنبأنا الله به من النفاق، وتربصهم الدوائر بالمسلمين، فلم تكد تبلغهم وفاة النبي ﷺ حتى عادت كثرتهم الكثيرة إلى الجاهلية، ولكنهم مع ذلك داوروا مداورة الجاهلين الغافلين، فأرسلوا وفودهم إلى أبي بكر يطلبون إليه أن يُعفيهم من الزكاة، ويعلنون إليه أنهم سيؤدون سائر الفرائض، فيصلون ويصومون ويحجون، ويقولون دائمًا كلمة الإسلام، فيشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وأقول: إنهم داوروا جاهلين غافلين؛ لأنهم ظنوا أن أبا بكر سيقبل منهم ذلك، ولم يعرفوا أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وأن من منعها فليس من الإسلام في شيء. من أجل ذلك رفض أبو بكر ما عرضوا عليه، وأعلن أنه سيقاتلهم على الزكاة حتى يؤدوها، وأنهم إن منعوه عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله فسيقاتلهم عليه.
أعلن العرب إذن منعهم للزكاة، وأظهروا الكفر والنفاق، وصدقوا قول الله فيهم: إنهم أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله، وأن منهم من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بالمسلمين الدوائر.
أعلنوا ذلك، وأعلن أبو بكر أنه سيقاتلهم، وأزمع في الوقت نفسه أن ينفذ جيش أسامة إلى مشارف الشام كما أمر رسول الله.
وهنا ظهرت أولى المشكلات الكبرى التي عرضت له وللمسلمين، فهو مصمِّم على أن ينفذ جيش أسامة؛ لأن النبي ﷺ أمر بإنفاذه، وقد كفرت الأرض من حوله وأصبح لا يأمن أن يُغِير الأعراب عليه وعلى من معه في المدينة، وفي جيش أسامة صفوة من كان عنده من أولي القوة والبأس.
وقد أحس وجوه المسلمين هذا الخطر العظيم، فأشاروا عليه بأن يؤجل إنفاذ جيش أسامة أمام الضرورة الملحة؛ ولهذا الخطر الداهم الذي يوشك أن ينقضَّ على المدينة في أي لحظة، ولكنه أبى وألح في الإباء؛ فلم يكن أبغض إليه من أن يخالف عن أمر النبي ﷺ، مهما تكن الظروف ومهما تكن العواقب.
وقد ألح عليه أصحابه فلم يسمع لإلحاحهم، بل قال: «والله لو خفت أن تتخطفني السباع لما تأخرت عن إنفاذ أسامة وجيشه.»
ثم طلب إليه الأنصار الذين كانوا في الجيش أن يولي عليهم قائدًا آخر أسن من أسامة، وأرسلوا عمر ليكلم أبا بكر في ذلك، فلم يكد عمر يفضي إليه بما رغب الأنصار فيه حتى قال له أبو بكر: «ثكلتك أمك يابن الخطاب، يوليه رسول الله ﷺ وأعزله أنا؟!»
فرجع عمر إلى الأنصار برد أبي بكر عليه، فلم يزيدوا على أن سمعوا وأطاعوا، وآن لأسامة أن يفصل بجيشه، فخرج أبو بكر مشيِّعًا له يمشي وأسامة راكب، ولما أراده أسامة على أن يركب أو يأذن له في النزول أبى عليه أبو بكر ما أراد، ثم أوصاه أن ينفذ أمر رسول الله لا ينقص منه شيئًا، ونهاه ونهى من معه من الجند عن قتل النساء والأطفال والشيوخ، والذين فرغوا أنفسهم لعبادة الله من القُسس والرهبان، وعن الفساد في الأرض.
على أن أبا بكر لم يلبث أن خرج إليهم مرة أخرى، ومعه المسلمون يمشون، حتى أغار عليهم فهزمهم هزيمة منكرة، وتفرق العدو في الأرض هربًا من الموت والإسار، واحتل أبو بكر بلادهم فحماها لخيل المسلمين، ثم لإبل الصدقة بعد ذلك.
وكان لهذا الانتصار أثر عظيم في نفوس المسلمين؛ فأحسوا القوة وأمنوا الغارة على المدينة، وأقاموا ينتظرون جيش أسامة، وقد عاد هذا الجيش سالمًا غانمًا بعد أن أغار على قبائل العرب في أطراف الشام.
عاد هذا الجيش بعد شهرين وبعض شهر، فأمرهم أبو بكر أن يستريحوا، وظل هو قائمًا بأمر الدفاع عن المدينة حتى جمَّ الناس. على أن انتصار أبي بكر أغرى القبائل المرتدة البعيدة عن المدينة بمن بقي فيها من المسلمين، فجعلت كل قبيلة تقتل من كان عندها منهم، وأثار ذلك أبا بكر وأحفظه، فأزمع أن ينكِّل بالمرتدين تنكيلًا يرهِّبهم ويمنعهم من أن يعودوا إلى مثل ما اقترفوا من الإثم، وأقسم أبو بكر ليثأرن للمسلمين وليبلغن في الثأر.
خالد بن الوليد: وأمره أن يقاتل طليحة ومن معه، فإذا فرغ منهم قصد إلى مالك بن نُويرة ومن معه من بني تميم.
والثاني: عكرمة بن أبي جهل، وأمره أن يمضي لقتال مسيلمة باليمامة.
والثالث: المهاجر بن أبي أمية، وأمره بقتال من بقي من أتباع الأسود العنسي على الرِّدة بعد قتله، فإذا فرغ منهم مضى إلى المرتدين من كندة.
والرابع: خالد بن سعيد بن العاص، وأرسله إلى مشارف الشام.
والخامس: عمرو بن العاص، وأمره بقتال قضاعة.
والسابع: عَرْفجة بن هَرثمة، وأمره بقتال مهرة.
والثامن: شَرَحْبيل بن حَسنة، وأرسله مُعينًا لعِكرمة بن أبي جهل على حرب مُسيلمة، وأمره إن فرغ من ذلك أن يذهب إلى قضاعة معينًا لعمرو بن العاص.
والتاسع: طَريف بن حاجز، وأمره بقتال سُليم ومن معهم من هَوازن.
والعاشر: سُويد بن مُقرِّن، وأمره بقتال القبائل المرتدة في تهامة اليمن.
والحادي عشر: العَلاء بن الحضْرمي، ووجهه لقتال المُرتدين في البحرين.
وتسمية هؤلاء القواد، وبيان القبائل التي وجهوا إليها بجنودهم، ومنازل هذه القبائل يبيِّن في جلاء أن الجزيرة العربية قد كفرت كلها إلا أفرادًا من المسلمين ظلوا على دينهم، منهم من يفتنهم قومهم، ومنهم من عاشوا في عافية، ومنهم قوم كان النبي ﷺ قد أرسلهم إلى القبائل ليعلِّموهم الدين، ويقيموا فيهم أمر الله، ويأخذوا الزكاة من أغنيائهم ليردوها على فقرائهم، ويرسلوا ما فضل منها عن حاجة الفقراء إلى المدينة.
وقد كتب أبو بكر لقواده — فيما يقول الرواة — عهدًا لا نطمئن إلى نصه، وإنما الذي نثق به هو أن أبا بكر قد أوصى قواده بأن يمضي كل واحد منهم حتى يصل إلى القبيلة التي وُجِّه لقتالها، فإذا بلغها دعاها إلى الإسلام والدخول فيما خرجت منه، فإن أجابت قَبِل منها وأعطاها ما لها من الحق وأخذ منها ما عليها من الحق أيضًا، وإن أبت قاتلها في غير هوادة ولا رفق حتى تفيء إلى الإسلام، فإن فاءت فهي آمنة تأخذ حقها وتُعطي ما عليها.
وأمر أبو بكر قُوَّاده إذا نزلوا بقبيلة أن ينتظروا وقت الصلاة وأن يؤذنوا، فإن سمعوا أذان من بإزائهم ممن جاءوا لحربهم لم يقاتلوهم حتى يسألوهم عن إسلامهم ما هو، فإن عرفوا الإسلام كما أنزله الله على رسوله فهم آمنون؛ لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وإن جحدوا من الإسلام شيئًا كانوا قد أعطوه لرسول الله، قاتلهم المسلمون حتى يذعنوا ويقبلوا الإسلام كاملًا غير منقوص.
ويقول الرواة إن أبا بكر كتب كتابًا وجعل منه إحدى عشرة نسخة، وأرسل مع كل جيش رسولًا يحمل نسخة من هذا الكتاب، وأمر هؤلاء الرسل أن يقرءوا هذا الكتاب على القبائل التي وجهت الجيوش لقتالها، فإن أجابوا إلى ما في هذا الكتاب فهم آمنون، بعد أن تحقق قائد الجيش من صدق استجابتهم، وإن أبوا فقتالهم واجب على الجيش حتى يعودوا إلى الإسلام.
والمؤرخون يسجِّلون نص هذا الكتاب، ولسنا نطمئن إلى هذا النص، كما لا نطمئن إلى نص العهد الذي كتبه أبو بكر لقواده، وإنما نرجح أن يكون معنى هذا الكتاب — إن كان قد كُتِب — مطابقًا للعهد الذي كتبه أبو بكر لقُوَّاده.
وقد مضى القُوَّاد إلى غايتهم، ولست أريد أن أتبعهم لأقص أنباءهم وما أُتِيح لهم من النصر، وما امتُحِن به بعضهم من الهزيمة، كالذي امتُحِن به عِكرمة بن أبي جهل، فليس هذا مما أردت إليه، وإنما أريد أن أُلِمَّ بعد قليل بشيءٍ من مواقف خالد بن الوليد؛ لما كان لمواقفه تلك أثر في حياته وفي حياة المسلمين أيضًا، ولأن الحكم في مواقفه تلك يظهرنا على شيء من الاختلاف في سياسة الشيخين: أبي بكر وعمر، مع قوادهما أثناء الحرب.
أما الآن فإني أحب أن أعود إلى المدينة، وأن أرجع إلى أول ما كان من أمر الرِّدة؛ لأقف وقفة قصيرة عند شيء يَرويه الرواة ويكثرون فيه.
وقد بيَّنت أن وجوه المسلمين أشاروا على أبي بكر بأن يُؤجِّل إنفاذ جيش أسامة حتى يأمنوا العرب، فأبى أبو بكر أن يخالف عن أمر رسول الله، أو أن يُؤخِّر إنفاذ هذا الأمر.
ولكن الرواة يزعمون أن بعض وجوه المسلمين راجعوا أبا بكر في حرب المرتدين، وقال له قائلهم، وهو عمر رحمه الله: كيف تقاتلهم وهم يقولون لا إله إلا الله، وقد قال النبي ﷺ: «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله؟!»
فرفض أبو بكر وقال: «والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، فهم يُفرِّقون بين الصلاة والزكاة، والله لم يُفرِّق بينهما، والزكاة حق المال، وقد قال رسول الله: إلا بحقها.»
ويزعم الرواة أن عمر قد شرح الله صدره لقتال المرتدين حين رأى أن الله قد شرح لهذا القتال صدر أبي بكر.
ولست أقبل هذه القصة بحال؛ فوجوه المسلمين من أصحاب رسول الله أعلم بدينهم من أن يجادلوا أبا بكر في الزكاة، ولم يكن عمر أقلهم علمًا بالإسلام، إلى ما عُرِف من شدة عمر في الحق، ولم يكن عمر ولا أبو بكر قد عرفا هذا اللون من الجدل الذي ألفه الفقهاء والمتكلمون فيما بعد.
وكل ما أرجحه هو أن وجوه المسلمين إنما راجعوا أبا بكر في إنفاذ جيش أسامة بعد أن ظهر كُفْر العرب؛ حرصًا على أن يستبقوا قوة المسلمين ليقاوموا بها المرتدين، بل ليستأنفوا بها حرب العرب على الإسلام، كما حاربهم النبي ﷺ.
والذين يروون هذه الرواية يسيئون إلى أولئك الشيوخ من أصحاب رسول الله، حين يصورونهم من جهة خائفين مشفقين أن يتخطفهم العرب، مع أنهم قد صحبوا النبي ﷺ أيام الفتنة في مكة، وعرفوا مقالته لعمه أبي طالب حين كلمه فيما تَعرِض عليه قريش ليكُفَّ عن دعوته الجديدة، فقال: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلِكَ دونه ما تركته.»
وهم كذلك قد شهدوا مع النبي مواطن البأس في بدر وأحد والأحزاب وغيرها من المشاهد، وكان المسلمون قلَّة وكانت العرب كافرة من حولهم، فلم يفل ذلك عزمهم ولم يضعف من همهم، وإنما ثبتوا لليأس والهول حتى أظهرهم الله على العرب كلها.
أفتراهم قد نسوا هذا كله، وأشفقوا من أن يحاربوا العرب على الإسلام بعد وفاة النبي، كما حاربوهم عليه في حياته؟!
وقد عرفت موقف عمر من صلح الحُديبية، واعتراضه على النبي ﷺ في قبول هذا الصلح، وقوله لأبي بكر: «لِمَ نُعطي الدنية في ديننا؟!» فليس من المعقول ولا من المقبول أن ينسى عمر مواقفه كلها ليشفق من حرب العرب وإن كثرت مع أبي بكر، كما حاربهم مع النبي ﷺ، وكل أصحاب رسول الله كانوا يعرفون، كما كان يعرف أبو بكر، أن الله قد قرن الزكاة بالصلاة في القرآن غير مرة، فلا تكاد الصلاة تُذكَر في الكتاب العزيز إلا ومعها الزكاة، وكانوا يعرفون قول النبي: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا.»
فما كان لهم بعد ذلك أن يقنعوا من العرب بقولهم لا إله إلا الله وهم يجحدون ركنًا من الأركان الخمسة للإسلام، فيؤمنوا ببعض الحديث الذي حاجوا به أبا بكر، ويتركوا بعضه حتى ينبههم أبو بكر إليه.
والرواة يحدثوننا أن نفرًا من المسلمين شربوا الخمر في دمشق بعد فتحها، فكتب فيهم أبو عبيدة إلى عمر، فكتب إليه عمر أن: سَلْهم على رءوس الناس عن الخمر، فإن استحلوها فاضرب أعناقهم، وإن عرفوا أنها محرمة فأقم عليهم الحد.
فعمر يريد أن يسأل أبو عبيدة هؤلاء النفر عن رأيهم في الخمر: أحلال هي أم حرام؟ فإن استحلوها ضُرِبت أعناقهم؛ لأنهم جحدوا نصًّا من نصوص القرآن وأمرًا من أوامر الله، وإن اعترفوا بأنها محرمة عليهم أُقِيمَ عليهم الحد؛ لأنهم قارفوا إثمًا فاستحقوا عليه العقوبة.
فعمر الذي يهم بضرب أعناق نفر من المسلمين المجاهدين أن استحلوا الخمر، لا يمكن أن يجادل أبا بكر في حرب العرب على جحود الزكاة، وهي أصل من أصول الإسلام.
ومهما يكن من شيء فقد ثبت أبو بكر وثبت معه المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان لانتقاض الجزيرة عليهم، وأتاح الله لهم النصر كما أتاحه للنبي ﷺ في وقت قصير، فقد دخل العرب فيما خرجوا منه، وأدوا الزكاة، وانهزم أصحاب طليحة، وفر طليحة نفسه ثم أسلم بعد ذلك، وأبلى في فتح الفرس أحسن البلاء وأعظمه، وانهزم أصحاب مسيلمة وعادوا إلى الإسلام بعد خطوب، وقُتِل مسيلمة نفسه، وعاد جنوب الجزيرة العربية كله إلى الإسلام طوعًا أو كرهًا.
كل ذلك تم في خلافة أبي بكر على ما نعلم من قِصَرِها، وكل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن أبا بكر والمسلمين قد ثبتوا لهذه المحنة القاسية، وانتصروا عليها لا لشيء إلا لأنهم صدقوا الله عهدهم وأخلصوا له قلوبهم ونفوسهم وضمائرهم، وصدقوا ما وعدهم الله في الآية الكريمة من سورة آل عمران: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
فبذلوا أنفسهم لنصر الله أسخياء بها، وقَبِل الله منهم ذلك وصدقهم وعده، فرزقهم النصر كما قال — عز وجل — في سورة محمد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ.
والذين يقرءون تفصيل حروب الردَّة وما كان لخيار المسلمين فيها من البلاء، يملكهم الإعجاب بأولئك الأبطال الذين لم يرهبوا شيئًا في سبيل نصر الدين وإعزازه، وإعادة الجزيرة العربية إلى الإسلام كما كانت قبل وفاة النبي.
وقد استشهد منهم خلق كثير ولا سيما في حرب مُسيلمة، فقد ثبت بنو حنيفة للمسلمين حتى هزموا عكرمة بن أبي جهل؛ لأنه تعجَّل ولم ينتظر المدد، وقد عنَّفه أبو بكر تعنيفًا شديدًا، ولم يُزل عكرمة عن نفسه عار هذه الهزيمة إلا حين استشهد في حرب الروم يوم اليرموك.
ووجَّه أبو بكر خالدًا إلى مسيلمة، فثبت له بنو حنيفة حتى جال المسلمون جولة، لولا خيار أصحاب رسول الله؛ أولئك الذين أعطوا أحسن القدوة، فكانوا يوبِّخون الفارين، ويعيرونهم الفرار من الجنة. وكان بعضهم يقول: والله ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله ﷺ. وما هي إلا أن كرَّ المسلمون بعد جولتهم وثبتوا لبني حنيفة حتى أزالوهم عن مواقفهم وقتلوا مُسيلمة، وتبعوا المنهزمين حتى فتحوا عليهم حصونهم، وأخضعوهم لسلطان الله وهم كارهون.
وكان أبو بكر خير قدوة للمسلمين؛ لما أظهر لهم من ثبات الجأش، وضبط النفس، والثقة المطلقة بالله، والوفاء العميق لرسوله.
كل ذلك في هدوء أي هدوء كأنه لم تعرض له محنة، ولم تنتقض عليه العرب، فقد أظهر أبو بكر في هذه المحنة أخص صفتين امتاز بهما، وهما: الاطمئنان إلى ما وعد الله في غير تردد أو تعرض للشك أو الوهن، والثبات في حزم وعزم لما يُلم به من المكروه حتى ينفذ منه، ويمضي في أمر الله إلى أن يبلغ النصر.
٦
وموقف آخر ليس من الخطورة بمكان؛ موقف أبي بكر من الرِّدة، ولكنه كان عسيرًا أشد العسر مع ذلك، ولعله آذى أبا بكر في نفسه وأمضَّه وأرَّق ليله وقتًا غير قصير؛ ذلك هو موقفه من فاطمة بنت رسول الله حين طلبت إليه حقها من ميراث أبيها فلم يعطها ما طلبت، بل قال لها إنه سمع رسول الله يقول: «لا نُورَث، ما تركناه صدقة.»
وعسر هذا الموقف على أبي بكر يأتي من أنه منذ أسلم كان يؤثر رسول الله على نفسه في جميع المواطن، وكان أبرَّ الناس به وبأهل بيته وذوي قرابته، وكان شديد الحرص على أن يُحْسِنَ رضى رسول الله ﷺ عنه، وكان أبغض شيء إليه أن يحس الجفاء من ذي قرابة للنبي، فلما طلبت فاطمة — رحمها الله — إليه ما كانت ترى أنه حقها من ميراث أبيها؛ وجد نفسه بين شيئين كلاهما عسير عليه أشد العسر؛ فإما أن يعطي فاطمة ما طلبت فيخالف عما أمر رسول الله، والموت أهون عليه من هذا، وإما أن يمنعها ما طلبت فيؤذيها، وأشد الأشياء كراهة إليه أن يؤذيها؛ فهي بنت أحب الناس إليه وأكرمهم عليه وآثرهم عنده.
ومع ذلك فقد غلبت طاعته لرسول الله كل عاطفة أخرى في نفسه، فأبى على فاطمة ما طلبت، واعتذر إليها من هذا الإباء، وبكى وأمعن في البكاء؛ لأن قرابة رسول الله أحب إليه من قرابته، ولكنه سمع النبي يقول ما قال، فلم يسعه أن يُغضِب الله ورسوله ليرضي فاطمة على بره بها وإيثاره إياها.
وما أشك في أن الأشهر الستة التي عاشتها فاطمة بعد أبيها ﷺ قد ملأت نفس أبي بكر كآبة وحزنًا؛ لأن فاطمة هجرته ولم تكلمه حتى تُوفِّيت، وما أشك في أن أبا بكر لم يُمتحَن بشيء كان أشق على نفسه من وفاة فاطمة مغاضبة له، ومن دفنها ليلًا على غير علم منه، وحرمانه أن يشهد جنازتها، ويصلي عليها ويبرها بعد وفاتها بما كان يجب لها من البر، ولكن الله يمحص قلوب المؤمنين الصادقين بالشدائد التي يمتحنهم بها في حياتهم العامة والخاصة جميعًا، وقد امتُحِن أبو بكر بهذه المحنة العامة حين ارتدَّ العرب، وتعرض المسلمون لما تعرضوا له من الخطر العظيم، وامتحنه بهذه المحنة الخاصة حين اضطره إلى أن يرضي الله ورسوله ويغضب فاطمة، مع أن غضبها عليه ثقيل.
٧
وأعود إلى موقف أبي بكر من الردة فهو يجلو خصلتين متناقضتين أشد التناقض، من خصال أبي بكر فيما يظهر، فقد كان أبو بكر منذ أسلم معروفًا بلين الجانب، ورقة القلب، والرحمة للضعفاء والمكروبين، وخلقه هذا هو الذي حمله على أن يشير على النبي ﷺ بالرفق في أمر الأسارى بعد وقعة بدر.
وقد قَبِل النبي مشورته وأعرض عن رأي عمر الذي كان يشير بقتل الأسرى، كان أبو بكر يذكر القرابة والرحم ويرى أن فيما سيؤديه الأسرى من الفداء قوة للمسلمين، وكان عمر يذكر قسوة قريش على النبي وفتنتهم للمسلمين، ويقدر أن قتلهم سيفُل من عزم قريش، ويفتر من همتها، ويثبطها عن المضي في حرب النبي والكيد له.
ولكن النبي سمع لأبي بكر وقَبِل الفداء من أسرى قريش، وأنزل الله في ذلك قرآنًا، لام فيه النبي والمسلمين لأنهم قبلوا الفداء قَبْلَ أن يُثخنوا في الأرض، وأرادوا عَرَض الدنيا، والله يريد الآخرة؛ فقال في سورة الأنفال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللهَ ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
وأنت ترى من هذه الآيات الكريمة أن الله — عز وجل — قد لام وعنَّف وأنذر، ثم عفا وغفر، وليس شك من أن موقع هذه الآيات في نفس النبي ﷺ، وفي نفس أبي بكر قد كان شديدًا لاذعًا، وقد ظل أبو بكر مع ذلك على خُلقه لينًا رفيقًا رحيمًا، ولكنه حين ولي الخلافة ورأى ما كان من كفر العرب حين اتبع فريق منهم الكذابين، وحين أنكر فريق آخر منهم الزكاة، وحين تنكر أولئك وهؤلاء لمن كان فيهم من المسلمين، فقتلوا منهم من قتلوا وفتنوا منهم من فتنوا، لما رأى أبو بكر هذا بلغت منه الحفيظة أقصاها، فلم يكتفِ بمقاومة الرِّدة، وحمل العرب على أن يدخلوا طوعًا أو كرهًا فيما خرجوا منه، بل أقسم ليبلغن في الثأر لمن قُتِل من المسلمين، وأوصى قُوَّاده أن يتتبعوا بعد النصر أولئك الذين قتلوا المسلمين، وأن يقتلوهم ويجعلوهم لغيرهم نكالًا.
وكان أسرع قواده إلى طاعته في ذلك بل إلى الإبلاغ في طاعته، خالد بن الوليد رحمه الله.
فهو قد هزم طُليحة وردَّ أتباعه إلى الإسلام، ولكنه جعل يتتبع من المغلوبين من كان قد قتل المسلمين أو فتنهم، فإذا أخذهم قتلهم أشنع قتلة، كان يقذف بهم من أعالي الجبال، وينكت بعضهم في الآبار، ويحرق بعضهم بالنار، وينصب بعضهم هدفًا للنبال حتى أخاف الناس وملأ قلوبهم رهبًا، وكان في طبع خالد — رحمه الله — عنف شديد، واستعداد للإسراف في القتل.
والذين قرءوا تاريخ فتح مكة يذكرون أنه خالف عن أمر النبي، وقتل في أهل مكة فأسرف حتى أرسل النبي من كَفَّه عن القتل، ورفع ﷺ يديه إلى السماء قائلًا: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد.»
وهذا الخلق العنيف من أخلاق خالد هو الذي يفسر لنا موقفًا من مواقفه أحفظت عليه عمر — رحمه الله — وطائفة من المسلمين، وهو موقفه من مالك بن نُويرة، فقد عمد بعد فراغه من طليحة وأتباعه، وبعد استبرائه الأرض من الذين قتلوا المسلمين أو فتنوهم، إلى مالك بن نويرة وقومه من بني يربوع، وكانوا قد وقفوا موقف المتربص، وأبطئوا بصدقاتهم وجعلوا ينتظرون على من تدور الدائرة، وشأنهم في ذلك شأن كثير من القبائل، فلما ظفر خالد وأُتِيح له النصر المؤزر على طليحة وأصحابه، عرف مالك ألَّا قِبل له بحرب المسلمين، فأمر قومه أن يتفرقوا في أموالهم وألا يستعدوا لحرب. وأقبل خالد على ديارهم، فلم يجد أمامه جيشًا يقاتله، ولم يرَ جمعًا يتهيأ للقائه، فأقام وبث السرايا وأمرهم بأمر أبي بكر، وهو أن يؤذِّنوا إذا نزلوا بقوم، فإن أذَّن القوم فلا يقاتلوهم حتى يسألوهم عما يعرفون من الإسلام.
وجاءه بعض السرايا بجماعة من بني يربوع فيهم مالك بن نويرة، وهو رئيس القوم، ويقول المؤرخون: إن السرية التي جاءت بهؤلاء النفر اختلفت، فشهد بعضها بأن القوم أذَّنوا، وشهد بعضها الآخر بأنهم لم يؤذِّنوا، ثم يزعم المؤرخون أن خالدًا أمر بحبس هؤلاء النفر، وكان ذلك في ليلة شديدة البرد؛ يزداد بردها شدة كلما تقدم الليل، فزعم الرواة أن خالدًا أمر مناديًا أن ينادي في الناس أن أدفئوا أسراكم؛ ففهم من كان عندهم هؤلاء النفر أن هذا أمر بقتلهم، وكان الإدفاء في لغة كنانة معناه القتل، فقتلوا مالكًا وأصحابه، وسمع خالد الصياح فلما أُخبِر قال: «إذا أراد الله أمرًا أصابه.»
وواضح ما في هذ الرواية من التكلف الذي لا يُراد به إلا إبراء خالد من قتل أولئك النفر.
وآخرون من الرواة يزعمون أن خالدًا كان يفاوض مالكًا، فقال له مالك في بعض حديثه: إن صاحبكم كان يقول كذا وكذا، يريد النبي ﷺ، قال خالد حين سمع من مالك هذه المقالة: أوَليس هو لك بصاحب؟! ثم أمر بقتله.
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن خالدًا قتل مالكًا، وغضب لذلك رجل من خيرة أصحاب النبي كان في جيش خالد وشهد بأنه سمع القوم يؤذنون، فلما رأى قتل مالك وأصحابه فارق الجيش وأقسم لا يقاتل مع خالدٍ أبدًا ورجع إلى المدينة، وهذا الرجل هو أبو قتادة الأنصاري، وقد كلم أبو قتادة كبار أصحاب النبي ﷺ وفيهم عمر، وأراد أن يدخل على أبي بكر ليشكو إليه خالدًا، فأبى أبو بكر لقاءه غضبًا عليه؛ لأنه ترك الجيش عن غير إذن من أميره، وقد دخل عمر على أبي بكر فكلَّمة في قتل مالك، وقال له: إن في سيف خالد رهقًا، فاعزله.
ثم أرسل أبو بكر إلى خالد يستدعيه، فأقبل خالد إلى المدينة، ودخل المسجد، وجماعة من أصحاب النبي — فيهم عمر — جالسون.
قال الرواة: وكانت العرب تكثر مثل هذا الزواج في الحرب، والمحقق أن خالدًا تزوج أم تميم بعد قتل زوجها، وما أحسبه تزوجها قبل انقضاء عدتها، إلا أن يكون اعتبرها من السبي فاستبرأها كما تستبرأ الإماء، ثم أعتقها وتزوجها.
ودخل خالد على أبي بكر فقص عليه خبره، فعذره أبو بكر في قتل مالك، وعنَّفه في تزوج امرأته، ورده إلى جيشه.
ويقول الرواة: إن خالدًا خرج من عند أبي بكر راضيًا، فلما رأى عمر في المسجد تحدَّاه، فلم يكلمه عمر.
وهذه القصة تبين لنا في وضوح ما أشرت إليه من عنف خالد وإسرافه في القتل، وتظهر عن خلق آخر، وهو حُبه للتزوج، وسنرى مظهرًا آخر من مظاهر هذا الحب، وتُظهر لنا خلقًا ثالثًا لم يكن مقصورًا على خالد، وإنما كان خلقًا معروفًا في عشيرته من بني مخزوم، وهو العُجب والخُيلاء.
ولكن هذا كله لا ينتقص من كفاية خالد في الحرب ولا من بلائه في رد العرب إلى الإسلام.
وقد أشرت آنفًا إلى أن عكرمة بن أبي جهل قد تعجل حرب مسيلمة قبل أن يأتيه المدد فلم ينجح، بل اضطر إلى الهزيمة، وغضب عليه أبو بكر في ذلك.
وقد حاول قائد آخر من قواد أبي بكر قتال مسيلمة فلم ينجح أيضًا، وهو شُرَحبيل بن حَسنة، فلما رأى أبو بكر قوة مسيلمة وجَّه خالدًا إليه في جيشه، وجعل له الإمرة على جيش شُرَحبيل، وأمده بجمع صالح من المهاجرين والأنصار.
وقصد خالد قصد اليمامة فلقي جماعة من أهلها، فأخذهم على غِرة، ثم أمر بقتلهم فقتلوا إلَّا رجلًا واحدًا منهم هو مُجَّاعة بن مُرارة استبقاه أسيرًا، ووضعه في الحديد، وجعله عند زوجه أم تميم، وهي التي تزوجها بعد أن قتل زوجها مالكًا.
قال الرواة: فالتقى خالد بمُسيلمة وأصحابه، فاشتد القتال وبلغ من الشدة ما لم يعرف العرب في حروب الرِّدة مثله، وجال المسلمون جولة، وتبعهم أصحاب مسيلمة حتى دخلوا فسطاط خالد وهمُّوا بقتل أم تميم، فأجارها مُجَّاعة، وقال: نعمت الحرة هي! ثم تنادى المسلمون في أثناء ذلك، فكرُّوا على القوم، واشتد القتال بينهم مرة أخرى حتى انتصر المسلمون، والتجأ مسيلمة وأصحابه إلى حديقة سماها المؤرخون بحديقة الموت، فتبعهم المسلمون حتى اقتحموا عليهم الحديقة بعد خطوب، وقتلوهم فيها شر قتلة، وقُتِل في الحديقة مسيلمة.
ثم عرض مُجَّاعة بن مُرارة — أسير خالد — الصلح عليه عمن كان في حصون اليمامة من قومه، فصالحه على ما في اليمامة من ذهب وفضة وسلاح، وعلى نصف السَّبي، وعلى حديقة ومزرعة في كل قرية. ولما أمضى الصلح قال خالد لمجاعة: زوجني ابنتك. فقال مجاعة: إنك قاصم ظهري وظهرك عند صاحبك — يريد أبا بكر — قال خالد مُلحًّا: أيها الرجل، زوجني ابنتك! فزوجه ابنته، وبلغ النصر أبا بكر، وبلغه أيضًا أن خالدًا تزوج بنت مُجَّاعة بن مرارة، فكتب إليه يعنفه: لعمري يابن أم خالد إنك لفارغ؛ تنكح النساء وبفنائك ألف ومائتان من المسلمين لم يجفَّ دمهم بعدُ!
وسترى من عنف خالد في القتال وإسرافه في القتل شيئًا كثيرًا، حين يبلغ العراق لحرب من فيه من العرب والفرس جميعًا، ولم أرد إلى وصف شيء من حروب الرِّدة، ولم أذكر ما ذكرت من حرب مسيلمة إلا لأبين هذه الناحية من أخلاق خالد رحمه الله، ولأبين أنها كانت مصدرًا لخلاف شديد بين الشيخين، لم يُنقَض بوفاة أحدهما، وهو أبو بكر رحمه الله، وإنما اتصل بعد ذلك حتى عُزِل خالد وأُبعِد عن الحرب، وعاش عيشة السلم حتى أدركه الموت، فقال في مرضه الذي مات فيه: والله ما أعرف موضعًا من جسمي إلا وفيه أثر من سيف أو رمح أو سهم، وهأنذا اليوم أموت على فراشي.
كان أبو بكر معجبًا بقوة خالد وبأسه وحسن بلائه وبراعته الرائعة في الحرب، وكان خالد يصدق ظن أبي بكر به في كل موطن من مواطن الشدة والبأس، فهو قد فض جمع طليحة وردَّ من بقي من بني حنيفة إلى الإسلام، وأبلى في هذين الموطنين أعظم بلاء أبلاه أحد من قواد أبي بكر في حرب الردة، وهو قد أتى بالأعاجيب في فتح العراق كما سنرى، ولولا أن أبا بكر كان يكفكفه عن القتال لتعجَّل بعض المواقع التي كانت أيام عمر بين المسلمين والفرس. ومن يدري؟! لعله كان يسبق سعد بن أبي وقاص إلى فتح المدائن عاصمة الأكاسرة.
ولكن أبا بكر كان يعرف حِدَّته، وكان يؤثر الأناة؛ فكان يشدد على خالد ويضطره إلى الوقوف حين كان المضي في الحرب أحب شيء إليه لو ملك أمره.
وقد حوَّله أبو بكر عن العراق وأرسله إلى الشام مُنجِدًا للمسلمين هناك، وأميرًا عليهم فيما أُرجِّح، فكان بلاؤه في الشام أبعد أثرًا وأعظم خطرًا من بلائه في العراق وفي حرب الردة؛ فلا غرابة في أن يثق به أبو بكر ويُعرض عن عمر حين ألح عليه في عزله.
ولكن عمر — رحمه الله — كان ينظر إلى الأمور نظرة أخرى، كان يريد من القُوَّاد أن يسمعوا ويطيعوا، وألَّا يجاوزوا القصد في أمر من الأمور، وألا يعرضوا أنفسهم للوم جنودهم لهم وإنكارهم عليهم، فضلًا عن لوم المسلمين وإنكارهم. وكان يريد أن يكون القُوَّاد حراصًا أشد الحرص على العدل والنَّصفة، وأبعد عن السَّرف والجور، وكان أمر الدين ومُثله العليا آثر عنده من أمر الحرب وما يكون فيها من انتصار أو هزيمة، وما يكون فيها وفي أعقابها من إخافة للناس وترهيب لهم.
فلما رأى خالدًا قتل رجلًا يشهد بعضُ المسلمين العدولُ من أصحاب النبي بأنه كان مسلمًا، ولما رأى أن خالدًا أسرع بعد قتل هذا الرجل إلى التزوُّج من امرأته؛ أُلقِي في رُوعه أنه لم يقتله في ذات الله، وإنما قتله استجابة لما في طبعه من العنف أولًا، وابتغاء لمتعة من متع الحياة الدنيا، وفي اتخاذه امرأة مالك لنفسه زوجًا؛ فثار لذلك أشد ثورة وأعنفها، وأشار على أبي بكر بعزل خالد، فلما امتنع عليه أبو بكر سمع وأطاع وكظم ما في نفسه ولم يُغيِّر رأيه في وجوب عزل خالد.
ولما رأى أن جماعة من خيار أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار قد قُتِلوا في حرب اليمامة، وأن قتلى المسلمين في تلك الحرب قد بلغوا إحدى عشرة أو اثنتي عشرة مائة، ثم رأى أن هذا المصاب الفادح لم يمنع خالدًا من أن يتزوج بنت مُجَّاعة مع أن العهد لم يبعد بتزوجه أم تميم بعد قتل زوجها مالك …
لما رأى عمر هذا كله بلغ الغضب منه غايته، وكأنه راجع أبا بكر في أمر خالد فلم يزد أبو بكر على تعنيف خالد بذلك الكتاب الذي رويناه آنفًا.
ولست أحاول الفصل فيما كان من موقف الشيخين بإزاء خالد، وإنما أرى أن كليهما قد اجتهد رأيه، وأن كليهما أراد باجتهاده وجه الله ومصلحة المسلمين، نظر أبو بكر إلى أن خالدًا رجل حرب، وإلى أنه أبرع قواده، وإلى أن الإسراع إلى عزل القواد في أثناء الحرب مضيع لمصلحة المسلمين، ويوشك أن يُوهن عزائمهم وأن يُفسِد عليهم أمرهم بإزاء العدو.
وقراءة كتاب أبي بكر — كما يرويه الرواة — تدل على أن الخليفة قد عرف لخالد بلاءه وبراعته وتقدمه على سائر قواده، ولكنها تدل أيضًا على أنه حذَّره من أن يعود لمثل ما فعل، فيترك الجيش ويحج مستخفيًا، ويُعرِّض الجند بذلك لما يمكن أن يدهمهم من الخطر، وقائدهم منهم بعيد. ثم وعظه أبو بكر، فنهاه عن أن يأخذه العجب والتيه بحسن بلائه ونكايته للعدو، فإن ذلك يفسد عمله، وألح عليه في أن يبغي بكل ما يفعل وجه الله — عز وجل — فإنه وحده وليُّ الجزاء. وأكبر الظن أن أبا بكر أحس من خالد بعض هذا العجب والإغراق في الثقة بالنفس؛ فتَرْكُ الجيش على هذا النحو والاستهانة بالعدو تغريرٌ بالمسلمين، وإسراعه إلى الحج يُشعِر بأنه قد أراد أن ينتهز هذه الفرصة ليظهر في مكة أيام الموسم، وليُلم ببعض قومه من بني مخزوم.
وكان بلاء خالد في العراق خليقًا أن يدفع إلى العجب والتيه؛ فهو قد استطاع أن يقهر عرب العراق في غير موطن، وأن يقهر من جاء من جموع الفرس لإنجاد العرب من أهله واسترداد العراق، وردَّ خالد وأصحابه إلى بلادهم، فكان خالد يلقى هذه الجموع فلا يلبث أن يظفر بها، وكان اتصال الحرب في العراق، واشتداد الفرس في الاحتفاظ به، وطول مقاومتهم وإلحاحهم في هذه المقاومة.
كان هذا كله يحفظ خالدًا ويثير غضبه حتى حَلَف في إحدى المواقع لئن أظفره الله على عدوه ليجدَّن في قتلهم حتى يجري نهرهم بدمائهم، فلما انهزم العدو أمامه أمر المنادين، فنادوا في الجيش أن تتبعوا الأسرى ولا تقتلوا منهم إلا من امتنع عليكم، فمضى المسلمون في تتبع المنهزمين حتى أخذوا منهم عددًا ضخمًا، وأراد خالد أن يُبر يمينه؛ فصدَّ الماء عن النهر وجعل يُقدِّم الأسرى فيضرب أعناقهم في مجرى النهر.
وزعم الرواة أنه أقام على ذلك يومًا وليلة، حتى قال له القَعْقَاع بن عمرو — وهو من أصحاب النبي ﷺ — وآخرون معه، وقد راعهم ما رأوا من الإسراف في قتل الأسرى: إن الدماء لا تجري، وإن الأرض لا تُنشِّف الدماء، فأجرِ الماء تُبرَّ يمينك. فلما أجرى الماء إلى النهر جرى ذلك النهر دمًا؛ فسُمِّيَ نهر الدم.
وقد يكون الرواة قد أسرفوا في المبالغة، ولكن المحقَّق أن خالدًا أمعن في القتل حتى ضاق بذلك القعقاع وأصحابه، فصرفوه عن ذلك بإجراء الماء.
وهذه صورة أخرى من صور العنف في أخلاق خالد رحمه الله، والشيء الذي ليس فيه شك هو أنه استطاع أن يستخلص العراق العربي من الفرس، وكان يود لو أذن له أبو بكر في مهاجمة الفرس في عُقْر دارهم، ولكن أبا بكر لم يأذن له اصطناعًا للأناة، فكان خالد يضيق بمقامه في العراق على غير حرب، حتى كان يسمي سنته تلك سنةَ النساء، فلما أُمِر بالسير إلى الشام ضاق بهذا الأمر؛ لأنه فوَّت عليه فرصة كان يريد انتهازها، وهي المضي في غزو الفرس حتى ينزل المدائن عاصمة ملكهم، ولكنه لم يجد بُدًّا من السمع والطاعة لخليفة رسول الله، فسار بنصف جيشه إلى الشام مددًا للمسلمين هناك، وكان سيره إلى الشام وإسراعه في نجدة المسلمين عجبًا من العجب.
وكان عصر أبي بكر، والظروف التي أحاطت بخلافته القصيرة، كان كل ذلك مثيرًا للغضب، مُخرِجًا لأولي الأحلام عن أطوارهم، مزعجًا لذوي القلوب المطمئنَّة والنفوس الرضيَّة، والطبائع السمحة، عما كانوا يألفون من اللين والدَّعة، ويؤثرون من الرفق والإسماح.
فقد كان أبو بكر ومن حوله من أصحاب النبي ﷺ مطمئنين إلى أن العرب قد دانوا للإسلام طائعين أو كارهين، وإلى أنهم قد فرغوا من أهل الجزيرة العربية وأوشكوا أن يأخذوا في تحرير العرب المتفرقين خارج الجزيرة في ملك فارس والروم، يرون ذلك تأمينًا لحدود الجزيرة العربية أولًا، واستنقاذًا للعرب من حكم الأجنبي، وكانوا يرون أن اهتمام النبي ﷺ بحدود الجزيرة مما يلي الروم، حين أرسل جيشًا إلى مُؤتة، وحين سار بنفسه في غزوة تبوك، وحين جهَّز جيش أسامة وأمر في مرضه بإنفاذه.
كان يرون هذا كله مقدمة لاستنقاذ العرب المنتشرين في الشام من سلطان قسطنطينية، وكانوا يقدِّرون أن النبي لو بقي فيهم لما قصر في العناية بتحرير العرب المنتشرين في العراق من سلطان الأكاسرة.
وكان أبو بكر — رحمه الله — يفكر حين استُخلِف في أن ينفِّذ الخطة التي كان يعلم أن رسول الله سينفِّذها لو عاش، وهي تحرير العرب خارج الجزيرة بعد أن أسلم العرب داخل الجزيرة، ولكنه ينظر، فإذا الكذابون قد ظهروا قبل وفاة النبي وتبعهم كثير من العرب، وإذا سائر العرب في الجزيرة قد عادوا إلى جاهليتهم وجعلوا ينظرون إلى الزكاة التي كانت تُؤخَذ من أغنيائهم لتُرَدَّ على فقرائهم على أنها إتاوة تُجبَى إلى ملك يقيم بالمدينة.
وكانوا قد أذعنوا بالزكاة لما أمر الله به من أداء الزكاة في حياة النبي دون أن تطيب عنها نفوسهم. قدروا أن النبي أقوى من أن يُغلَب؛ فدانوا له بالطاعة، فلما رأوا أنه قد مات، وأن الأمر قد انتقل إلى رجل من أصحابه لا يعدو أن يكون عربيًّا مثلهم، اضطربت نفوسهم أولًا، ثم أنكرت ما عرفت ثانيًا، ورأت هذه الزكاة إنما هي ضريبة تُؤدَّى لقريش؛ فأخذتها العزة بالإثم، وكرهوا أن يؤدوا إلى قبيلة من القبائل العربية — وهي قريش — وإلى رجل بعينه من هذه القبيلة هو أبو بكر، ما كانوا يؤدونه إلى النبي الذي كان يأتيه خبر السماء، فأرادوا أن يصالحوا قريشًا ورئيسها أبا بكر على الإسلام كله، لا يستثنون منه إلا الزكاة التي لم يألفوها في جاهليتهم، فلما أبى عليهم ذلك أبو بكر نقضوا طاعته، واستخفوا به وبمن معه لقلتهم وكثرة العرب حتى قال قائلهم:
فقد نظر العرب إلى أبي بكر على أنه رجل ملَّكته قُريشٌ أمرَها، وأبوْا أن يدينوا للملوك، وهم بعد ذلك قد عرفوا من ألِفوا من ملوك الغسانيين في الشام، وملوك المناذرة في العراق، ولم يكن أولئك الملوك يتسلَّطون عليهم، فضلًا عن أن يفرضوا عليهم الضرائب؛ فما بال هذا القرشي الذي عرفوه تاجرًا كغيره من قريش يريد أن يجعل نفسه عليهم ملكًا، وأن يفرض عليهم الضرائب التي لم يجرؤ ملوك غسان، ولا ملوك المناذرة على فرضها!
وقد بلغ من استخفاف العرب بأبي بكر أن كانوا يهزءون به، ويدعونه أبا الفصيل؛ لأن البكر هو الفصيل، وكان الذين يؤثرون العافية من عقلائهم وممن بقي على إسلامه يردُّون عليهم استخفافهم ذاك، ويقولون لهم: لتعرفن من أمره ما يحملكم على أن تدعوه أبا الفحل الأكبر.
فلا غرابة في أن يثير هذا كله أبا بكر ومن حوله من أصحاب رسول الله ﷺ، والرواة يتحدثون أن عمرو بن العاص عاد من مهمة كلَّفه النبي أداءها في عُمان، فمر في طريقه إلى المدينة بسيد من سادات بني عامر — يُقال له: قُرة بن هُبيرة — فأنزله قُرَّة وأكرمه، فلما هَمَّ عمرو أن يرتحل خلا به قُرة، وقال له: يا هذا، إن العرب لا تدين لكم بالإتاوة! ثم اتصل الحديث بينهما حتى تغاضبا وأوعده عمرو.
وبلغ عمرو المدينة وقد رأى كُفْرَ من مرَّ بهم من العرب، فتحدَّث بذلك إلى نفر من أصحاب رسول الله، ورِيعَ هؤلاء النفر لحديث عمرو، وجعلوا يتحدثون في ذلك؛ فأقبل عمر بن الخطاب مسلِّمًا على عمرو، فلما رآه أولئك النفر سكتوا، قال عمر: إني أعلم فيما تتناجون. فأجابه طلحة بن عبيد الله: أتريد أن تحدثنا بالغيب يابن الخطاب؟! قال عمر: لا يعلم الغيب إلا الله، إنما ظننت أنكم سمعتم ما أنبأ به عمرو من كفر العرب وانتقاضهم، فراعكم وجعلتم تتناجون فيه. قالوا: صدقت! قال عمر: فإني والله لأخافكم على العرب أكثر مما أخاف العرب عليكم.
وفي هذا الحديث تأكيد لما قلته آنفًا من أن عمر لم يجادل أبا بكر في قتال المرتدين كما زعم كثير من الرواة، ولكنه يصور إلى أي حد رجع العرب كفارًا بعد إسلامهم، وهموا باستئناف الحياة التي كانوا يحيونها في جاهليتهم، لولا أن عاجلهم أبو بكر فردَّ إليهم رُشدَهم، أو ردَّهم إلى الرشد بعد أن همُّوا بالغيِّ.
فلا غرابة إذن في أن يكون هذا كله مُحفِظًا للصالحين من المسلمين، ومُخرِجًا لرجل كأبي بكر عن طَوْرِه الذي أَلِفَه من لِين الجانب، ورقة القلب، وإيثار الرفق على العنف.
ومما يصوِّر استهانة العرب المرتدين بالمسلمين عامة — وبأبي بكر خاصة — هذه القصة التي تُصوِّر في الوقت نفسه كيف صار أبو بكر إلى الشِّدَّة والعنف، بعد ما ألِفَ في حياته كلها من الرقة واللين.
جاءه رجل من بني سليم يعرف بالفُجاءة، ويُسمَّى إياس بن عبد ياليل، فقال له: إني مسلم، وأريد أن أقاتل المرتدين؛ فاحملني وأعِنِّي بالسلاح. فأعطاه أبو بكر ما احتاج إليه من الظَّهر والسلاحِ، فلم يكد هذا الرجل يخرج من المدينة حتى بيَّن عما كان قد أضمر من الغش والخداع، فجمع إليه نفرًا من أمثاله وجعل يتعرَّض الناس: مُسلِمهم وكافرهم، فيقتلهم ويأخذ أموالهم وينشر الفساد في الأرض.
وعرف أبو بكر ذلك، فأرسل إلى بعض عماله يأمره أن يجدَّ في طلب الفُجاءة حتى يقتله أو يأتيه به أسيرًا، وجدَّ عامله في ذلك حتى جاءه بعد خطوب بالفُجاءة، فأمر أبو بكر أن تُوقَد له نار عظيمة بمصلَّى المدينة، وهو المكان الذي كان يخرج إليه النبي ﷺ والمسلمون لصلاة العيدين، وللصلاة على الجنائز، وأن يُلقَى فيها، فحرَّق بالنار عن أمر أبي بكر، ولولا الغضب والحفيظة لخداع الفُجاءة من جهة، ولانتشار الردَّة من جهة أخرى؛ لذهب أبو بكر في عِقاب هذا المجرم الذي حارب الله ورسوله مذهبًا آخر، قد أمر به في القرآن حيث يقول الله — عز وجل — في سورة المائدة: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
ويقول الثقات من الرواة إن أبا بكر — رحمه الله — قد نَدِم على تحريق الفُجاءة، وتحدث بندمه هذا إلى بعض من عاده من أصحاب رسول الله في مرضه الذي تُوفِّي فيه.
وأوضح دليل على ندمه سيرتُه فيمن كان يُؤتَى به من الأسرى الذين حرضوا على الرِّدَّة وألحوا في التحريض، وقادوا قبائلهم لحرب المسلمين، فقد كان كُلَّما أُتِيَ بأسير من هؤلاء عنَّفه، ثم قبل منه التوبة وأطلقه.
وبهذه السيرة عصم كثيرًا من الدماء، وأعفى قومًا أبلوا بعد وفاته في الفتوح أحسن البلاء.
وقد عاد طُليحة إلى الإسلام بعد هزيمته وأقام في الشام حينًا، ثم أراد العُمرة فمَرَّ بالمدينة في طريقه إلى مكة، وعرفه من عرفه من المسلمين، فقالوا لأبي بكر: هذا طليحة قريبًا من المدينة في طريقه إلى مكة. قال أبو بكر: وما أصنع به؟! دعوه فقد هداه الله إلى الإسلام.
وما أعرف أحدًا من المرتدين كان له من حسن البلاء ما كان لطُليحة، في كل المواقع الكبرى التي كانت بين المسلمين والفُرْس أيام عمر رحمه الله.
ومهما يكن من شيء فقد أُتِيحَ لأبي بكر بفضل هذا المزاج المعقول من الرفق في موضع الرفق، والعنف في موطن العنف، أن يقضي على الرِّدَّة، ويُعِيد العرب إلى الإسلام طائعين أو كارهين بعد أن خرجوا منه. كل ذلك في العام الأول من خلافته، وأُتِيح له بعد ذلك أن يأخذ فيما كان يريد أن يبدأ به، لو لم تكفر العرب، من تحرير العرب في الشام والعراق.
٨
وقد دفعت الظروف دفعًا إلى فتح العراق، وما أرى أنه كان يريد البدء به، وإنما كان أهم شيء إليه أن يُتِمَّ ما مهَّد له النبي ﷺ من فتح الشام؛ ليحرِّر العرب المنتشرين فيه من سلطان الروم. ولعله إن يُسِّر له أمر الشام أن يفكِّر في أمر العراق، ولكن الظروف أرادت غير ذلك، فقد شُغِل أبو بكر في العام الأول بحرب الرِّدَّة كما رأيت، ولم يَهم بالشام، وإنما اكتفى بأن يحمي حدود الجزيرة حتى لا يُغِير عليها مُغِير من الشام.
وانتصر جيش أبي بكر على المرتدين من ربيعة في البحرين، وإذا رجل من بكر بن وائل، ثم من بني شيبان، يُؤمِّر نفسه على من تابعه من قومه الذين أقاموا على الإسلام ولم يكفروا، وإذا هو يتتبع بمن معه المرتدِّين من العرب على ساحل الخليج الفارسي، ويُتاح له الظفر فيما حاول من ذلك حتى يشرف على العراق، وفيه قبائل من العرب قد انتشرت فيه قبل الإسلام، فيتمنَّى هذا الرجل أن يُتاح له الإمعان في العراق، وإخضاعه كله أو بعضه لسلطان المسلمين، ولكنه في حاجة إلى أمر من الخليفة يُبِيح له هذه المحاولة التي لا تخلو من مغامرة، والتي قد يتعرَّض فيها المسلمون لألوان من الخطر، فيذهب هذا الرجل — وهو المُثنى بن حارثة الشيباني — إلى المدينة ويلقى أبا بكر، ويُحدِّثه بما فعل وبما كان من حربه للمرتدين من العرب، وبما لقي من كيد الفرس هناك له، ومكرهم به، وتأليبهم عليه، ويطلب إلى أبي بكر أن يؤمِّره على قومه، وأن يأذن له في دخول العراق، ومحاربة الفرس إن اجتمعوا له.
وليس من شك في أن المثنى قد زَيَّن لأبي بكر فتح العراق وهوَّن عليه أمره، وأنبأه بأن العرب من قومه بني بكر ومن غيرهم منتشرون في العراق، وأن من اليسير أن يستجيبوا له وأن يُعِينوه إن احتاج لمعونتهم. وقد فكَّر أبو بكر واستشار أصحابه ثم أذن للمُثنى، فأقبل حتى اقتحم العراق، ولكنه لم يُمعن فيه حتى عرف أن بأس الفرس شديد، وأنهم لن يفرطوا في العراق ولن يخلُّوا بين هذا الرجل العربي ومن معه من أهل البادية وبين جزء من ملكهم، ويُغِيرون عليه ويُقِيمون فيه، ثم ينتشرون بعد ذلك حتى يستخلصوا منهم أرضًا طال سلطانهم عليها، واستقر أمرهم فيها منذ زمن طويل من أجل ذلك جمعوا له وتهيأوا لمقاومته.
وعرف الخليفة كل هذا، وأزمع ألَّا يَرُدَّ المثنى عما أراد، وأن ينصره ويُمدَّه، فاختار خالد بن الوليد وكان قد فرغ من أمر اليمامة، وأمره أن يأتي العراق وأن يكون هو الأمير وأن يكون المثنى له تبعًا.
وكان خالد قد أذن لكثير من جنده بالرجوع عن أمر أبي بكر، بعد أن لقي جيشه ما لقي من البأس والجهد في اليمامة، فلم يبقَ معه إلا عدد يسير لا يكاد يبلغ الألفين، وقد استمد أبا بكر فأمده بالقعقاع بن عمرو، وأمر خالدًا أن يستنفر من العرب من ثبت على إسلامه، وألا يُقِلَّ في جيشه منهزمًا من أهل الردة، وألا يُكرِه الناس على الانضمام إليه. وأرسل أبو بكر في الوقت نفسه عِيَاض بن غَنم إلى دُومة الجَندل، وأمره أن يقضي على الردة فيها ثم يهبط إلى العراق قاصدًا إلى الحيرة؛ فإن بلغها قبل خالد فهو الأمير وخالد تبع له وقائد من قواده، وإن بلغها خالد قبله فالإمرة لخالد وعياض تبع له وقائد من قواده.
ولكن خالدًا كان سيفًا من سيوف الإسلام وسهمًا نافذًا من سهام المسلمين، فلم يكد يبلغ العراق حتى جَدَّ في الحرب وأبلغ فيها، وظفر بالفُرْس والعرب الذين تابعوهم في غير موطن، وانتهى إلى الحيرة، فاضطر أهلها إلى الصلح، واستقام له فتح العراق العربي وقهر الفرس وإذلالهم وإخراجهم من العراق في عدة أشهر. وعياض مُقِيم على دومة الجندل لا يبلغ منها شيئًا حتى أعانه خالد، فأُتِيحَ له الفتح، وتمَّ له من أمر العراق ما أراد الخليفة وما أراد هو، ولقي في حربه تلك من الخطوب، وأُتِيح له من الفوز ما أشرت إليه فيما مضى.
وكذلك تم لأبي بكر فتح العراق العربي بعد القضاء على الرِّدَّة، ولكنه أرسل خالدًا إلى الشام مددًا للمسلمين هناك، فلم يثبت العراق على ما تركه خالد عليه من الخضوع لسلطان المسلمين، وإنما كاد الفُرْس ومكروا واستعدوا، ثم عادوا إلى العراق وقد انتفض أكثر أهله. ونظر المثنى بن حارثة فإذا خالد قد فارقه ومعه نصف الجيش إلى الشام عن أمر الخليفة، وإذا هو لا يستطيع بمن معه من المسلمين أن يقاوم الفرس والعرب مجتمعين، فعاد إلى المدينة، ولكنه حين بلغها صادف أبا بكر مريضًا مرضه الذي تُوفِّي فيه، وقد استقبله أبو بكر على ذلك وسمع منه، وأوصى عمر أن يُمِدَّه، وألا يهمل أمر العراق.
وكذلك تورط المسلمون في هذه الحرب التي كان أولها ميسرًا، والتي أبلى فيها خالد أحسن البلاء، وكان جديرًا أن يحملها إلى بلاد الفرس نفسها، وألا يقلع عن هذه البلاد حتى يزيل ملك الأكاسرة.
وليس لذلك مصدر إلا أن أبا بكر — رحمه الله — قد عُنِي بأمر الشام قبل أن يفرغ من أمر العراق؛ إنفاذًا لما كان النبي ﷺ يريده ويمهِّد له من جهة، وتورطًا في حرب الروم على غير تعجل منه من جهة أخرى.
ثم قبض الله أبا بكر إلى جِوارِه قبل أن يشهد ما أتاح الله لجيوشه في الشام من النصر، وكان على عمر بن الخطاب — رحمه الله — أن يسترِدَّ العراق ويُتِمَّ فتح الشام كما سنرى.
٩
وكان الذي ورَّط أبا بكر في حرب الشَّام قبل الفراغ من فتح العراق، أنه أراد أن يحمي حدود الجزيرة العربية مما يلي الشام، فأرسل خالد بن سعيد بن العاص وأمره أن يُقِيم على تيماء ردءًا لمن وراءه من المسلمين، فذهب خالد ومعه جيشه حتى بلغ الغاية التي وُجِّه إليها، واجتمعت له على حدود الشام بإزائه قبائل من العرب، ومعهم جنود الروم، فحميَ خالد وأصحابه حين رأوا هذا العدو بإزائهم، فاقتحموا عليهم وانهزم لهم عدوهم، فأطمع انهزامه خالدًا في أن يظفر في الشام بمثل ما كان يظفر به سميه ابن الوليد في العراق، فأوغل في أرض العدو وتركه العرب والروم يمعن في أرضهم، حتى إذا بَعُدَ ما بينه وما بين الجزيرة العربية، كرُّوا عليه فحصروه وقتلوا ابنه سعيدًا، واضطر هو إلى أن يفر فيمن استطاع من أصحابه، وأمعن في فِراره حتى جاوز حدود الجزيرة ودنا من المدينة.
وعرف أبو بكر ذلك فكتب إليه يأمره أن يقيم مكانه وألا يأتي المدينة، وكان عمر وعليٌّ وغيرهما من أصحاب النبي قد نَهَوْا أبا بكر عن إرسال خالد إلى حدود الشام، وقالوا له: إنه رجل فخور مغرور، سريع الإقدام سريع الإحجام. ولكن أبا بكر لم يسمع لهم، فلما انهزم خالد عرف أنهم قد نصحوا له، وأنهم كانوا أعرف منه بهذا الأموي المقدام المحجام.
ومهما يكن من شيء فقد اضطر أبو بكر إلى أن يمحو أثر تلك الهزيمة، فجنَّد جنودًا وأمَّرَ عليها الأمراء، وخصَّص لكل أمير جزءًا من الشام يفتحه ثم يكون عاملًا عليه.
وهؤلاء الأمراء هم: عمرو بن العاص وجعل إليه فتح فلسطين وحكمها بعد الفتح، ويزيد بن أبي سفيان وكلَّفه دمشق، وأبو عبيدة بن الجراح وكلَّفه حمص. كلهم يبدأ بالفتح ثم يقيم واليًا على ما غلب عليه.
وكان عكرمة بن أبي جهل قد أرسل مددًا إلى خالد بن سعيد، فلما فر خالد داور عكرمة بالجيش حتى بَعُدَ به عن جموع الروم والعرب، وأقام على الحدود بين الجزيرة والشام.
لما رأى الروم هذا عرفوا جد المسلمين في حربهم فتهيئوا لقتالهم، وأرسلوا بإزاء كل أمير جيشًا أكثر من جيشه عددًا وأعظم قوة، ونظر أمراء المسلمين فوجدوا أن كل واحد منهم أعجز من أن يثبت للجيش الذي وقف بإزائه، فتكاتبوا وتشاوروا، وأشار عليهم عمرو بن العاص بأن يجتمعوا في صعيد واحد؛ لأنهم إن اجتمعوا لم يُغلَبوا من قلة، وكانت هذه الجيوش كلها لا تكاد تجاوز ثلاثين ألفًا، أما جيش الروم فكانت أكثر من ذلك كثيرًا، يزعم الرواة أنها بلغت أربعين ومائتي ألف.
ولما رأت جيوش الروم أن جيوش المسلمين قد اجتمعت في صعيد واحد، صنعوا صنعيهم، فتجمعوا ووقفوا بإزاء المسلمين.
وأنا أروي هذا كله متحفظًا، فهذه الأعداد لجيوش المسلمين وجيوش الروم لا تخلو من مبالغة، ولست أدري إلى أي حد يمكن أن نطمئن إلى تحديد المواقف الأولى للأمراء وجيوشهم، وإنما الشيء الذي نستطيع أن نطمئن إليه أن جيوش المسلمين اجتمعت على أحد شاطئي اليرموك، واجتمعت جيوش الروم على الشاطئ الآخر، ثم عبر المسلمون إلى الروم فوقفوا بإزائهم، وقد هاب بعض القوم بعضًا، وأقاموا على تناوش يسير ثلاثة أشهر — فيما يقول الرواة — لا يقدر أحد الجيشين على صاحبه، بل لا يجرؤ على إنشاب القتال العام، وعرف أبو بكر ذلك فضاق به ثم أمر خالد بن الوليد أن يذهب بنصف جيش العراق منجدًا لجيوش المسلمين عند اليرموك.
ويزعم الرواة أن أبا بكر قال: والله لأُنسِيَنَّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، والمحقَّق أن أبا بكر كان يعرف من خالد الإقدام، بل الغلو في الإقدام، وكان مطمئنًّا إلى أن المسلمين حين ينضم إليهم خالد بمن معه لن يُغلَبوا من قلة، إذا أخلصوا النيَّة ونصحوا لله ورسوله وجاهدوا عدوهم صادقين، وكان أبو بكر واثقًا بنصر الله للمسلمين إن قاتلوا عدوهم كما كانوا يقاتلون مع النبي ﷺ.
والله يقول لنبيه وللمؤمنين: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ۗ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
فليس على المسلمين بأس من كثرة عدوهم إذا صدقوا النية وصبروا نفوسهم على الحرب، وقد قال الله في سورة البقرة فيما كان من حرب طالوت وجالوت: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ۗ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
وكان خالد هو الذي فتح الشام في حقيقة الأمر.
ولكن أبا بكر — رحمه الله — لم يُتَح له أن يفرح بهذا الفتح؛ فقد مرض وتوفي، واستخلف عمر وأرسل رسوله إلى جيوش المسلمين ينبئها بوفاة أبي بكر واستخلافه، ويعزل خالدًا عن إمارة الجيوش ويجعل هذه الإمارة لأبي عبيدة.
ويقول الرواة: إن رسول عمر بلغ العسكر ليلة الموقعة وأنبأ أبا عبيدة بمهمته، فاستكتمه أبو عبيده الخبر، وكتمه هو حتى لا يفُل في أعضاد الجيش، ولا ينبئ خالدًا بعزله، ولم يعلم خالد بهذا العزل إلا بعد أن أنزل الله نصره على المسلمين وفتح لهم طريق دمشق.
١٠
وكذلك لم تتصل خلافة أبي بكر إلا سنتين وأشهرًا، يختلف الرواة في عددها، ولم يوفق خليفة من خلفاء المسلمين في أمد قصير كهذا الأمد إلى ما وُفِّق إليه أبو بكر؛ فقد توفي — رحمه الله — بعد أن رد الجزيرة العربية إلى الإسلام كعهدها أيام النبي ﷺ، وبعد أن امتُحِن في صبره وصدق نيته وثباته وضبط نفسه عند المكروه، وامتُحِن معه المسلمون، وأبلت جيوشه في قمع الردة أحسن البلاء وأعظمه. وتُوفِّي بعد أن رمى بهؤلاء المسلمين مُلْكَ الفرس، فاقتطع منه العِراقَ العربيَّ، ولو قد مدَّ الله له في الحياة شهرًا أو شهرين لمات مطمئنًّا إلى أن جيوشه في الشام قد فلَّت جيوش قيصر، وفتحت منافذ الشام للمسلمين ينساحون منها إلى أرض الشام كلها، فيستبرئونها من الروم ويستخلصونها للمسلمين.
ولكن الابتهاج بهذا الفتح واحتمال ما سيعقبه من الأثقال والخطوب، لم يُتَح لأبي بكر، وإنما أُتِيحَ لمن ولي خلافة المسلمين بعده وهو عمر بن الخطاب.
ولم نَصِفْ من سياسة أبي بكر إلى الآن إلا سياسة الحرب، فقد كانت خلافته كلها خلافة حرب في الجزيرة العربية أولًا، وفي العراق والشام، بعد ذلك، ولم يكن لأبي بكر تجديد في سياسته الداخلية، إن صح أن نسمي سيرته في المدينة وفي العرب بعد أن عادوا إلى الإسلام: سياسة داخلية.
وقد اختصر أبو بكر سياسته في جملة قالها في أول خطبة خطبها بعد أن استخلف، وهي قوله: إنما أنا متبع ولست مبتدع. فقد ألزم نفسه سيرة النبي ﷺ في تدبير الحرب، وفي إجراء الأحكام في المدينة وفي سائر الجزيرة بعد أن رجعت إلى الإسلام.
فكان يباشر أمور المدينة بنفسه مستعينًا بعمر على القضاء بين الناس، ويقال إن عمر كان يقضي الشهر لا يختصم إليه أحد؛ لأن أبا بكر لم يَسِر وحده سيرة النبي، وإنما سار أهل المدينة كلهم سيرة النبي لم يُغيِّروا شيئًا، فلم يُغَيِّر الله من أمرهم شيئًا.
وكان أبو بكر يُقِيمُ بالسُّنح خارج المدينة من أعلاها في بيت اتخذه من الشَّعَر، فلما استُخلِف ظلَّ في هذا البيت ستة أشهر، يهبط إلى المدينة كل يوم، فينظر في أمور النَّاس ويُقِيم لهم الصلاة، فإذا أمسى عاد إلى أهله.
وظل على حاله تلك حتى ترك السُّنح ونزل إلى داره التي كان النبي أقطعه إياها في المدينة، فأقام فيها حتى قُبِض، وقد هم بعد استخلافه أن يباشر تجارته كما كان يفعل أيام النبي، ولكن أمور المسلمين، وما كان من حرب العرب شغلته عن تجارته، ففرض له المسلمون ما يقوته ويقوت أهله.
يقول بعض الرواة: إنهم فرضوا له ألفَيْ درهم في العام، فقال: زيدوني، فزادوه خمسمائة درهم، ويقول بعضهم: إنهم فرضوا له ألفين وخمسمائة، فلما قال: زيدوني، بلغوا ثلاثة آلاف.
ولا نعرف لأبي بكر شيئًا امتاز به عن عمر في سياسة المسلمين الداخلية إلا أمرين اثنين، أحدهما: أن الفيء كان يأتيه بعد انتصار قواده في حروب الردة، وكان يأتيه بعد انتصار خالد في العراق.
كان القواد ينفذون في هذا الفيء أمر الله — عز وجل — في الآية الكريمة من سورة الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فيقسمون أربعة أخماس الغنيمة على الجند، وربما نفلوا أصحاب البلاء من الخمس، ثم يرسلون ما بقي منه إلى أبي بكر، وكان أبو بكر يقسم ما يصل إليه بين المسلمين لا يفرق بينهم في القسمة، وإنما يعطيهم جميعًا على سواء، يعطي الرجال والنساء والأحرار والرقيق.
ولما كُلِّم في السابقين إلى الإسلام والمجاهدين مع رسول الله قال: إن أجرهم على ذلك عند الله، وإنما الدنيا بلاغ. وسنرى أن عمر خالف هذا المذهب حين فرض الأعطية للناس.
والأمر الثاني: أنه لم يرم الفرس والروم في العراق والشام إلا بمن ثبت على إسلامه بعد وفاة النبي، وكان يمنع العائدين من ردتهم إلى الإسلام من المشاركة في الفتح عقوبة لهم من جهة، وإشفاقًا منهم من جهة أخرى، وسنرى أن عمر قد غيَّر هذا الحكم من أحكام أبي بكر.
وكان أبو بكر فيما عدا ذلك رجلًا من المسلمين لا يمتاز منهم في شيء، وقد دعاه بعض الناس: يا خليفة الله! فقال: لست خليفة الله، وإنما أنا خليفة رسول الله.
وكذلك أنفق أيام خلافته راضيًا، مرضيًّا، لم ينكر عليه أحد من المسلمين شيئًا، ولم ينكر هو على أحد من المسلمين شيئًا، ولقي الله راضيًا عن المسلمين والمسلمون عنه راضون.
وأمر آخر يتفق المحدثون والعلماء بالقرآن على إضافته إلى أبي بكر عن مشورة عمر، ولم يُقبل عليه أبو بكر إلا بعد تردد؛ لأنه كان كما رأيت يتحرج من أن يفعل شيئًا لم يفعله النبي ﷺ، وهو جمع القرآن.
فقد قُتِل من أصحاب رسول الله في حرب مسيلمة مائتان وألف من المسلمين، وكان في القتلى عدد كثير من القُراء الذين جمعوا القرآن كله أو أكثره في صدورهم، فلما كثر القتلى من القُراء في هذه الموقعة أشفق عمر أن يُقتَل مثلهم أو أكثر منهم في مواطن البأس، وأن يذهب كثير من القرآن بقتلهم، فأشار على أبي بكر أن يجمع القرآن حتى لا يتعرض نص من نصوصه للضياع بقتل من يُقتَل القراء خاصة ومن أصحاب النبي عامة.
وتردد أبو بكر في ذلك كما قلت آنفًا، ولكن عمر ما زال به حتى أقنعه. قال الرواة من المحدِّثين والعلماء بالقرآن: فدعا أبو بكر زيد بن ثابت رحمه الله، وكان شابًّا جلدًا عاقلًا، وكان يكتب الوحي لرسول الله في المدينة، فكلَّفه أن يتتبع القرآن فيجمعه، وتردد زيد كما تردد أبو بكر؛ لأن النبي ﷺ لم يفعل ذلك.
ولكن الشيخين أقنعاه بما في ذلك من خير للإسلام والمسلمين، فنهض زيد بهذه التبعة الثقيلة، وجعل يتتبع القرآن؛ يجمعه من صدور الرجال، لا يقبل من رجل نصًّا من نصوصه إلا إذا وجده عند رجل آخر من أصحاب النبي، ويجمعه من ألواح الحجارة وأكتاف الإبل وعسب النخل التي كانوا يكتبون القرآن عليها، حتى أتم ذلك في عهد أبي بكر، أو في أيام عمر، على اختلاف في ذلك؛ فاجتمع بذلك أول مصحف كُتِب فيه القرآن.
وظل هذا المصحف عند أبي بكر، إن كان قد تم جمعه في أيامه، ثم صار بعد ذلك إلى عمر، أو ظل عند عمر إن كان قد تم جمعه بعد وفاة أبي بكر، حتى قُتِل عمر؛ فكان عند حفصة أم المؤمنين، حتى هم عثمان — رحمه الله — بنسخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار، فطلب هذا المصحف من حفصة فدفعته إليه، وكان مما اعتمد عليه الذين نسخوا المصاحف.
ومعنى هذا أن المصحف الذي جمعه زيد بن ثابت عن أمر أبي بكر لم يكن معروضًا على الناس، وإنما كان محفوظًا عند الشيخين، أو عند عمر وحده ثم عند حفصة، ولم يُذَع في الناس إلا حين نُسِخت المصاحف عن أمر عثمان، في القصة التي رويناها في غير هذا الحديث.
وكان زيد بن ثابت من الذين شاركوا في نسخ هذه المصاحف، ومن الناس من يظن أن جمع القرآن أيام أبي بكر أُرِيدَ به إلى منع اختلاف الناس في القراءة، وهذا خطأ؛ فالمصحف الذي جُمِع لأبي بكر وعمر لم يكن مرجعًا لعامة المسلمين، وإنما أُرِيدَ به إلى حفظ نصوص القرآن من أن تذهب بموت الذين يحفظونها في صدورهم، أو يحتفظون بها عندهم مكتوبة، فأما المصحف الذي أُرِيدَ به إلى جمع الناس على قراءة لا يختلفون فيها، فهو الذي أرسله عثمان إلى الأمصار، والذي سُمِّيَ بالمصحف الإمام.
١١
وفي آخر الأسبوع الأول من شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة مرض أبو بكر، وكان قد اغتسل في يوم بارد، فأخذته حمى جعلت تثقل عليه حتى أحس أبو بكر أنه الموت، وقد كُلِّم في دعاء الطبيب؛ فقال — فيما تحدث ابن سعد: لقد رآني. فقال: إني فعال لما أشاء. يريد أن الطبيب الذي رآه إنما هو الله عز وجل.
ومعنى ذلك: أن أبا بكر لم يرد أن يستشير طبيبًا من الناس، وإنما وكل أمره إلى الله في مرضه، كما كان يكل أمره كله إلى الله أثناء عافيته، وليس يصح ما يُروَى من أن أبا بكر مات مسمومًا؛ سمَّه بعض اليهود في طعام أهداه إليه، وأكل معه من هذا الطعام طبيب العرب الحارث بن كَلدة، فلما أساغه قال لأبي بكر: ارفع يدك يا خليفة رسول الله؛ فإن هذا الطعام مسموم، وإن سُمَّهُ لِسَنَةٍ، وإني أموت أنا وأنت في يوم واحد بعد عام.
لا تصح هذه الرواية، فلو قد صحت لما أهمل أبو بكر نفسه، أو عمر بعده، أن يدعو من أهدى إليه هذا الطعام ويعاقبه؛ لأنه على أقل تقدير قد قتل رجلين من المسلمين، فضلًا عن أن أحد هذين الرجلين هو خليفة رسول الله، وما كان عمر ليدع هذه القضية تمضي دون أن يُحدِث فيها أمرًا.
قال الرواة: وكانت عائشة أم المؤمنين تُمرِّض أباها، فتمثَّلت حين رأته يحتضر قول الشاعر القديم:
فقال لها أبو بكر: ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله عز وجل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ.
وفي مرضه هذا طلب إلى عائشة أن تَرُدَّ مالًا كان أعطاها إياه ليجعله في ميراثه؛ تحرجًا من أن يُؤثِر أحد ورثته على غيره، وقال لها فيما قال: إنما هما أخواك وأختاك. قال الرواة: فلم تفهم عنه عائشة؛ لأنها كانت تعرف أخويها عبد الرحمن ومحمدًا، وأختها أسماء ذات النطاقين، ولا تعرف لها أختًا غيرها، فقال لها أبو بكر: إنما هي ذات بطن أسماء بنت عُميس، فقد أُلقِيَ في روعي أنها جارية.
وكانت أسماء بنت عميس حاملًا فولدت بعد وفاة أبي بكر جارية، هي أم كلثوم بنت أبي بكر.
وقد كُفِّن في هذين الثوبين، وبعض الرواة يزعم أن قد أضيف إليهما ثوب جديد.
وقد توفي أبو بكر — رحمه الله — فيما يُروَى عن عائشة، بين المغرب والعشاء، يوم الاثنين لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة، وكانت سنه — فيما أجمع عليه الرواة — ثلاثًا وستين سنة قد استوفى سن رسول الله ﷺ، ودُفِن من ليلته — على أصح الروايات — ببيت عائشة إلى جنب قبر رسول الله صلوات الله عليه، وصلى عليه عمر في المسجد عند المنبر.
١٢
وفي هذا المرض أدى أبو بكر للإسلام والمسلمين أجلَّ خدمة أداها رجل بعد النبي ﷺ، وهي استخلافه عمر بن الخطاب.
والرواة يكثرون في أمر هذا الاستخلاف؛ يزعمون أنه شاور فيه جماعة من أصحاب النبي في مقدمتهم عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وسعيد بن زيد بن نفيل، فكلهم رأى رأيه.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما عَهِد أبو بكر ابن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلًا فيها، حين يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب؛ إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرًا، فإن عدل فذلك ظنِّي به وعلمي فيه، وإن بدَّل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله.
ويقول الرواة: إن عثمان خرج بهذا العهد مختومًا على جماعة الناس في المسجد، فقال لهم: إن خليفة رسول الله يسألكم: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ قالوا: نعم. وقال بعضهم — وهو عليٌّ فيما يُروَى: قد عرفناه، إنه عمر.
ويقول الرواة كذلك: إن جماعة من المهاجرين لمَّا علِموا بأن أبا بكر يريد أن يستخلف عمر دخلوا عليه، فقالوا: ماذا تقول لربك إذا استخلفت علينا عمر وهو على ما تعرف من غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني. فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفونني؟! أقول: قد استخلفت عليهم خير أهلك. ثم اضطجع.
ولست أطمئن إلى شيء من كل هذه الروايات، فقد كثر الكلام في استخلاف أبي بكر نفسه، ولا غرابة في أن يكثر الكلام في استخلاف عمر أيضًا، وإنما أقطع بشيء واحد، وهو أن أبا بكر قد استخلف عمر في مرضه الذي تُوفِّي فيه.
وقد قدمت أن استخلاف أبي بكر لعمر لم يكن من شأنه أن يلزم المسلمين؛ لأن أمر الخلافة ليس إلى رجل، وإن كان هذا الرجل أبا بكر، وإنما هو إلى جماعة المسلمين وإلى أولي الرأي منهم خاصة، وهم المهاجرون والأنصار في ذلك العهد، وإنما كان استخلاف أبي بكر ترشيحًا لعمر ونصحًا للمسلمين، وكان من حق المسلمين وأولي رأيهم أن يقبلوا هذا الترشيح أو يُعرِضوا عنه، فإذا كان المسلمون قد قَبِلوا هذا الترشيح فإنما قَبِلوه لأنهم كانوا يحبون أبا بكر ويثقون به، ويطمئنون إلى نصحه للأمة وللإسلام وإلى حسن اختياره.
وقد قَبِلوا ترشيح أبي بكر لعمر مُجمِعين على هذا القبول لم يخالف عن إجماعهم أحدٌ، وكان اختيار عمر أجلَّ خدمة أداها أبو بكر للمسلمين، فهو قد تُوفِّي وجيوش المسلمين في الشام والعراق بإزاء الأسدين فارس والروم، كما كان يسميهما، والعرب حديثو عهد بالردة؛ فكان المسلمون في حاجة أشد حاجة إلى رجل قوي شديد في الحق، ماضٍ في الأمور إلى غاياتها، حريص على الإنصاف، مخلص في النصح لله ورسوله وللإسلام والمسلمين، قادر على أن ينهض بهذه الأعباء الثِّقال التي تركها أبو بكر؛ فيستصلح العرب بعد ردتهم، ويُتم ما بدأ أبو بكر من الفتح، ويقيم الدولة الناشئة على ما ينبغي أن تقوم عليه من نظام يجمع المسلمين، ويرعى مصالح البلاد المفتوحة وأهلها، وينفذ كتاب الله وسنة نبيه، ويأخذ الجماعة الجديدة بحكم يلتئم من الشدَّة واللين، ويقوم على العدل والمساواة والإنصاف في غير هوادة ولا ضعف، وفي غير جبرية أو ظلم.
ولم يكن أقدر على احتمال هذه المهمة الخطيرة من عمر — رحمه الله — كما سترى.