عمر
١
وكان عمر بن الخطاب في السنة السادسة من مبعث النبي ﷺ فتى جلدًا حديدًا من فتيان قريش، ثم من بني عدي، وقد نشأ نشأة القرشي غير ذي الثراء.
كان أبوه الخطاب بن نفيل قليل الحظ من الغنى، عظيم الحظ من الفظاظة وغلظة القلب، امتحن ابن أخيه زيد بن عمرو فأسرف عليه في الامتحان، وكان زيد قد خالف عن دين قريش، فاجتنب عبادة الأوثان وأنكر على الذين يقرِّبون إليها، واتخذ لنفسه — فيما يقول الرواة — دينًا كان يُسمِّيه دين إبراهيم، فكان يؤمن بالله وحده لا يشرك به شيئًا، وكان ينكر كثيرًا من عادات قريش وأطوارها، فامتحنه عمه الخطاب في هذا الدين وقسا عليه، وصبر له زيد فلم ينحرف عن مذهبه ذاك حتى أخرجه الخطاب من مكة بمعونة قريش.
ويظهر أن عمر قد امتُحِن في صباه وأول شبابه بما كان في أبيه من فظاظة وغلظة، وقد تحدث هو بذلك بعد أن ولي الخلافة حين مرَّ بمكان قريب من مكة يقال له: ضَخْنان، فقال: لقد رأيتني في هذا المكان أرعى على الخطاب إبلًا له، وكان ما علمت فظًّا غليظ القلب، وأنا الآن ليس فوقي أحد إلا الله عز وجل، ثم تمثل:
والشيء الذي لا شك فيه أن عمر ورث عن أبيه شِدَّته وعنفه، وأنه لو لم يهدِهِ الله إلى الإسلام لعاش في قومه كما عاش أبوه فظًّا غليظ القلب يستجيب للعنف عند كل نَبْأَة.
وليس أدل على ذلك من عنفه بالمسلمين وشدته عليهم، وعلى من كان يظهر الرقة لهم أو الميل إليهم.
والرواية التي يتناقلها الرواة عن إسلامه تصوِّر ذلك أصدق التصوير وأقواه، فهو قد خرج ذات يوم محفظًا ثائرًا متقلدًا سيفه، فلقيه رجل من بني زهرة، فسأله عن وجهته. قال عمر: أريد أن أقتل محمدًا. قال الرجل: وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة إن قتلت محمدًا؟ قال عمر: لعلك قد صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه؟ قال الرجل: فهل أدلك على العجب يا عمر؟ إن ختنك وأختَك قد صَبَوَا وتركا دين آبائهما.
هنالك غيَّر عمر وجهه، ومضى إلى أخته وقد بلغ الغضب منه أقصاه، فلما بلغ الدار سمع كأن أهلها يقرءون، وكان عند أخت عمر وزوجها رجل من المسلمين، هو خَبَّاب بن الأرتِّ، فلما سمع خَبَّاب حِسَّ عمر استخفى، ودخل عمر على أخته وزوجها، فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها؟ قالت أخته: ما عدا حديثًا كنا نتحدثه. قال عمر: بل لعلكما قد صبَوتما؟ قال ختنه: فإن كان الحق غير ما أنت عليه يا عمر؟ هنالك لم يملك عمر نفسه، فاندفع إلى ختنه يبطش به بطشًا شديدًا.
وأقبلت أخته تريد أن تَحُول بينه وبين زوجها، فلطمها عمر لطمة أدمت وجهها، فقالت أخته: أفإن كان الحق غير ما أنت عليه؟! ثم أعلنت إليه إسلامها، فشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ورأى عمر الدم على وجه أخته، فكأنه رقَّ لها وطلب إليها أن تريه الصحيفة التي كانوا يقرءون فيها، فزعم الرواة أنها قالت له: إنك نجس ولا يمسه إلا المطهرون. وأمرته أن يتطهر قبل أن تريه الصحيفة، واستجاب لها عمر، فيقول بعض الرواة: إنه ذهب فاغتسل.
ويقول بعضهم: إنه ذهب فتوضأ. ثم دفعت أخته إليه الصحيفة، فقرأ فيها الآيات الكريمة الأولى من سورة طه إلى قول الله — عز وجل — من هذه السورة: إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي.
وكأن هذه الآيات بلغت أعماق قلبه، فقال: دلوني على محمد. وسمع خَبَّاب مقالته، فخرج من مخبئه وهو يقول: أبشر يا عمر! فإني أرجو أن يكون الله قد استجاب لدعوة النبي ﷺ حين قال: اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك: عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام.
قال الرواة: فذهب عمر إلى دار الأرقم التي كان النبي يجلس فيها لأصحابه، وكان على باب الدار نفر من أصحاب النبي، فلما رأوا عمر مقبلًا راعهم مقدمه، وكان فيهم حمزة بن عبد المطلب.
فلما رأى ارتياع أصحابه قال: نعم؛ هذا عمر مقبلًا، فإن يكن الله يريد به الخير والإسلام فذاك، وإن يكن غير ذلك كان قتله علينا يسيرًا.
قال الرواة: وخرج النبي ﷺ فأخذ بمجامع ثوب عمر وجذبه جذبًا عنيفًا، وقال: أمَا أنت منتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة؟! اللهم هذا عمر بن الخطاب! اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب!
فقال عمر: أشهد أنك رسول الله. فأسلم.
وأنا أروي هذه الرواية غير واثق بها كل الثقة، وإنما أراها مصورة لما كان القدماء وأصحاب النبي خاصة يعرفون من أخلاق عمر قبل إسلامه.
والشيء الذي ليس فيه شك أن عمر كان شديد العنف بالمسلمين، ولعله أن يكون قد سمع آيات من القرآن فملكت عليه نفسه واستجاب للإسلام.
ولا غرابة في عنف عمر ولا في شدته على المسلمين، فقد رأيت ما كان من غلظة أبيه الخطاب، وما كان من إيذائه زيد بن عمرو حين خالف عن دين قومه، فإذا أضفت إلى هذا أن أشد قريش بغضًا للنبي وفتنة للمسلمين، وهو عمرو بن هشام الذي سماه النبي والمسلمون أبا جهل، قد كان خال عمر أو ابن خاله؛ لأن أم عمر هي حنتمة بنت هشام أخت أبي جهل، ويقال: بنت هاشم، فهي ابنة عم أبي جهل، فشدة عمر على المسلمين تأتيه مما ورث عن أبيه، ومما كان يرى خاله يفعل بالمستضعفين من المسلمين.
وجائز جدًّا أن يكون النبي ﷺ قد تمنى على الله أن يُعز الإسلام بعمر بن الخطاب، وقد حقق الله لنبيه ما تمنى فهدى عمر إلى الإسلام، وتحول عنف عمر عن غايته الأولى إلى غاية أخرى مضادة لها كل المضادة؛ فأصبح عنيفًا بالمشركين، وأصبح أشد المسلمين في دينه وأصرحهم على إظهار هذا الدين، وأسرعهم إلى تحدي قريش ومباداتها بما كان من إسلامه، واحتمال ما وُجِّه إليه من الأذى في ذلك، لا كما يحتمله العاجز الذي لا يستطيع دفعًا عن نفسه، بل كما يتلقاه الرجل القوي الذي يكيل لخصمه بالصاع صاعين.
والواقع من أمر عمر أنه بدأ بخاله أبي جهل؛ فمضى حتى طرق عليه بابه، فخرج إليه أبو جهل ورحب به حين رآه، ولكن عمر فجأه بإعلان إسلامه، وشهد أمامه أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ فأغلق أبو جهل الباب في وجهه وهو يقول: بئس ما جئت به!
ومضى عمر يلتمس أسرع قريش إلى إذاعة الأسرار وإفشائها، فأسرَّ إليه أنه قد أسلم، وأسرع الرجل فأذاع في أندية قريش، لم يترك حلقة من حلقاتهم في المسجد إلا وقف عليها وأنبأها بإسلام ابن الخطاب، وأقبل عمر بعد ذلك إلى المسجد؛ فتواثبت إليه قريش تضربه وتؤذيه، وهو يدافعها عن نفسه في جراءة وصرامة وإقدام حتى أجهده القوم، فصرعوه وكادوا يبطشون به لولا أن أقبل العاص بن وائل فردَّ عنه القوم، وذكرهم بمكانه من بني عدي، وبما يفسد من أمر قريش إن أصاب عمر مكروه؛ فتفرق القوم عنه كارهين وقد بلغ منه الجهد.
ثم لم يقف أمره عند هذا، فإليه يرجع الفضل في إظهار الإسلام بمكة وإخراج المسلمين من مخابئهم بدينهم، فقد كانوا يستَخْفُون بالإسلام ولا يجرءون على أن يظهروه بمحضر قريش، فما زال عمر يجاهد قومه حتى اضطرهم إلى أن يكفوا عنه أولًا، وعن سائر المسلمين بعد ذلك. واستطاع النبي ﷺ وأصحابه على اختلاف منازلهم من قريش أن يصلوا في المسجد معلنين صلاتهم غير مستخفين بها، وأن يتخذوا لأنفسهم مجالس في المسجد بإزاء مجالس المشركين من قريش.
فليس عجيبًا أن يقول ابن مسعود فيما تحدث عنه الرواة: كان إسلام عمر فتحًا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمة. وكلمة ابن مسعود هذه على اختصارها هي أدق وصف يختصر حياة عمر منذ أسلم إلى أن تُوفِّي، فقد كان إسلامه فتحًا حقًّا؛ لأنه أتاح للمسلمين أن يعلنوا دينهم، وأن يُصَلُّوا أمام الملأ من قريش وهم آمنون.
وكانت هجرته نصرًا؛ فقد كان أنصح أعوان النبي في المدينة لله ورسوله والمسلمين، وأغلظ أصحاب النبي على اليهود والمنافقين، وكانت إمارته رحمة؛ فقد أتاح للمسلمين أثناء خلافته لونًا من الحياة ما زالت الأمم المتحضرة الآن في الغرب مقصرة عن بلوغه على شدة ما تجتهد في سبيله، وما زال المسلمون في هذه الأيام يرون هذا اللون من الحياة التي أتاحها عمر للناس حُلمًا ولا يدرون متى يصبح حقيقة على ما أُتِيح لهم وما يُتاح لهم في كل يوم من الوسائل التي تعينهم على تيسير الحياة، ولم يكن عمر يملك من هذه الوسائل شيئًا.
٢
يقول ابن سعد: إن عمر أسلم وسنه ست وعشرون سنة. ويتفق الرواة على أنه أسلم في السنة السادسة من مبعث النبي ﷺ، فقد أقام عمر إذن بمكة بعد إسلامه سبع سنين يجاهد قريشًا عن دينه وعن دين غيره من المسلمين، ويُمتحَن في ذلك بألوان من الأذى والمشقة لم تزده إلا ثباتًا على الحق وإمعانًا في الجهاد.
ولكن المهم من أمر عمر في هذا الطور من أطوار حياته، هو أن عنفه وشدته كان يمازجهما شيء من الرقة واللين، يظهر في أحيان قليلة حين يرى شيئًا من شأنه أن يؤثِّر في قلب الرجل الحر الكريم، وقد رأيت ما تحدث به الرواة من بطشه بختنه حين أحسَّ منه الإسلام، ومن بطشه بأخته حين أرادت أن تذوده عن زوجها، ورأيت في الوقت نفسه رقته حين رأى الدم يسيل على وجه أخته.
والرواة يتحدثون أيضًا بأنه كان يرق للذين يهاجرون إلى أرض الحبشة من المسلمين ويظهر هذه الرقة، وقد ظل عمر على هذا الخلق الذي يأتلف من العنف العنيف والرقة البالغة بعد إسلامه، ولكن الإسلام صفَّى مزاجه فلطف من عنفه، وحال بينه وبين الإسراع إلى البطش كما كان يفعل قبل إسلامه، وزاد من رقة قلبه فجعله يسرع إلى رحمة الضعيف والبر بالملهوف.
وكان الإسلام خليقًا أن يؤثر في خلق عمر هذا التأثير، فهو يدعو إلى القصد، ويكف عن السرف، ولا يسلط أحدًا من المسلمين على أحد إلا عند الضرورة الملجئة، وهو بعد ذلك يرغِّب في الرحمة والبر، ويزيِّن الرفق في القلوب، فكيف إذا صحب عمر النبي ﷺ ورأى إيثاره لليسر في كل ما لا يمس حقًّا من حقوق الله أو حقًّا من حقوق العباد؟!
والمعروف أن النبي كان لا يُخيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، فليس غريبًا أن يتأثر عمر بسيرة النبي، إلى تأثره بما كان يسمع ويتلو من القرآن الكريم.
وما نعرف أنه بكى أثناء جاهليته في موطن من المواطن، ولكننا نعرف أنه كان سريعًا إلى البكاء بعد أن أسلم، كان كغيره من المؤمنين يمتلئ قلبه وجلًا إذا ذُكِر الله، كما نقرأ في الآية الكريمة من سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
وكان يبكي كلما قُرِئت عليه آيات التخويف والترهيب من القرآن أو كلما قرأها، وكان يبكي حين يرى شدة عيش النبي ﷺ وقسوة الحياة المادية عليه، وكان المعروف من خلقه ولا سيما أثناء خلافته أنه لا يثبت على الغضب إذا ذُكِّر بالله أو قُرِئ عنده شيء من القرآن، مهما يكن غضبه شديدًا ومهما يكن موضوع هذا الغضب.
وقد كان أثناء جاهليته يرق قلبه في بعض المواطن، فأما بعد إسلامه فقد كانت رقة قلبه تبلغ به البكاء بل النشيج في أكثر الأحيان، ومن أجل هذا كله كان أثناء خلافته مهيبًا كأعظم ما تكون الهيبة، رقيقًا كأشد ما تكون الرقة. والذين وصفوا حكمه أثناء خلافته بأنه كان شدة في غير عنف، ولِينًا في غير ضعف، لم يبعدوا؛ فقد كان عمر شديدًا حتى خافه الناس جميعًا، وكان رقيقًا حتى رجاه الناس جميعًا.
والغريب من أمره أنه كان يعنِّف بنفسه أشد العنف وأقساه قبل أن يعنِّف بغيره من الناس، ولا يُعرَف أنه رق لنفسه أو رحمها في يوم من الأيام على كثرة رقته للناس ورحمته للضعفاء والمحتاجين. وهذا الخُلُق الذي يأتلف من العنف والرقة هو الذي دفع عمر إلى الصراحة التي لم تُعرَف لمثله من أصحاب النبي ﷺ، فهو كان جريئًا حين يرى الرأي ويعتقد أنه الحق، لا يتردد في أن يعترض على النبي نفسه، كما فعل عام الحديبية حين أنكر صلح النبي مع قريش، وقال للنبي في صراحة: لِمَ نُعطي الدنيَّة في ديننا؟!
وربما دفعته هذه الصراحة إلى أن يدخل في أشياء لم يكن يدخل فيها غيره من أصحاب النبي ﷺ، فهو يتمنى أن تُحرَّم الخمر، وقد كان فيما زعم الرواة صاحب خمر في الجاهلية، ولكنه بعد إسلامه عرف ضرر الخمر فتمنى أن تُحرَّم، وما زال يجهر بهذا الذي كان يتمناه، حتى إذا نهى الله المسلمين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى حتى يعلموا ما يقولون رضي عمر شيئًا، ولكن رضاه لم يبلغ الاقتناع، فظلَّ يتمنى أن تُحرَّم الخمر تحريمًا قاطعًا، ويجهر بهذه الأمنية، ويسأل الله أن يبيِّن أمر الخمر بيانًا شافيًا، فلما أنزل الله قوله الكريم من سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ.
طابت نفس عمر، وكذلك كان موقفه من الحجاب فيما يتَّصل بنساء النبي ﷺ، لم يكتفِ بأن يتمنَّى فيما بينه وبين نفسه أن يحتجب نساء النبي، بل كلَّم النبي نفسه في ذلك، واشتد في هذا الأمر حتى تحدَّث الرواة والمحدثون أنه تعرض مرة لِسَوْدة أم المؤمنين في بعض طريقها، وقال لها: لقد عرفناكِ يا سودة. فأحرجها وأحفظها، ولم يسترح حتى أنزل الله آيات الحجاب في سورة الأحزاب، فقال — عز اسمه: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا.
وقوله في السورة نفسها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيمًا * إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ۗ وَاتَّقِينَ اللهَ ۚ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا.
هنالك رضي عمر كل الرضى حين وضع الله بيوت النبي حيث ينبغي أن تُوضَع من الإجلال والكرامة، ولم يقف أمر عمر عند هذا الحد؛ بل راجعته امرأته في بعض أمره فأغضبه ذلك فزجرها، فقالت له امرأته: ويحك! إنك لتأبى عليَّ أن أراجعك، وإن ابنتك وغيرها من أزواج النبي ﷺ ليراجعن رسول الله حتى يغضبنه، فأسرع عمر إلى ابنته حفصة أم المؤمنين فسألها: أفي الحق إنكن تراجعن رسول الله ﷺ؟! قالت: أجل! والله إنا لنراجعه. فوعظها عمر في ذلك ما استطاع، ثم ذهب حتى استأذن على أم سلمة أم المؤمنين، وكانت بينه وبينها قرابة من قبل أمه، فسألها في ذلك، فقالت: لله أنت يا ابن الخطاب! دخلت في كل شيء حتى تريد أن تدخل بين النبي وأزواجه! فأسكتته، وانصرف عمر خجلًا.
ومن قبل ذلك كله وقف عمر موقفًا طابقه القرآن عليه، وذلك في أعقاب غزوة بدر حين شاور النبي في أمر الأسرى، فأشار عمر بقتلهم، وأشار أبو بكر بالفداء، وأنزل الله في سورة الأنفال لومه للنبي والمسلمين في قبول الفداء كما رويت ذلك فيما قدمت من حياة أبي بكر.
فليس غريبًا أن يتحدث الرواة بأن النبي ﷺ قال: إن الحق على لسان عمر وفي قلبه. وليس غريبًا أن يُلقَّب عمر الفاروق؛ لأنه فرَّق بين الحق والباطل، سواء أكان الذي لقَّبه بذلك هو النبي ﷺ، كما يُروى عن عائشة أم المؤمنين، أم كان أهل الكتاب هم الذين لقبوه هذا اللقب وأخذه عنهم المسلمون كما يتحدث رواة آخرون.
ولم يكن عمر أيام أبي بكر أقل صراحة منه أيام النبي ﷺ، فقد رأيت مراجعته لأبي بكر في أمر خالد بن الوليد، حين قتل مالك بن نويرة وتزوج امرأته، وإلحاحه عليه في عزله؛ لأن في سيفه رهقًا.
وسترى أنه لم يكد يُستخلَف حتى عزل خالدًا، ورأيت كذلك كيف راجع أبا بكر في إرسال خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام لحماية حدود الجزيرة العربية، وقال له: وشاركه عليٌّ في هذا القول: إن خالدًا يحب الفخر، وإنه سريع إلى الإقدام، سريع إلى الإحجام. وصدقت الحوادث قول عمر وعليٍّ، فأقدم خالد وأحجم وانتهى أمره إلى الفرار.
ومن أجل جراءة عمر وشدته في الحق، ومطابقة القرآن لرأيه في غير موطن، ونصحه لله ورسوله والمسلمين، كان النبي ﷺ يؤثره أشد الإيثار، ويظهر له من ذلك ما كان يقر عينه ويملأ قلبه غبطة ورضى، حتى لقد استأذن النبيَّ مرة في العُمرة، وقال: إني أريد المشي. فأذن له النبي، فلما انصرف دعاه النبي فقال له: أشركنا يا أخي في صالح دعائك ولا تنسنا. فكان عمر يقول: لقد قال النبي ﷺ لي كلمة ما أحب أن تكون لي بها الدنيا وما فيها.
وكان عمر شديد الرِّفق بالنبي ﷺ، والحياطة له، والقيام دونه، والحرص على أن يرد عنه كلَّ مكروه، وقد رأيتَ موقفه من حفصة وأم سلمة حين علم أن نساء النبي يراجعنه، ولكنَّ رفقه بالنبي كان يدعوه إلى العُنف أحيانًا، ويُظهره مسرعًا إلى البطش، لولا أن النبي ﷺ كان يُكفكف من حِدته ويرده إلى الرفق والأناة، فلم يكد عبد الله بن أبي بن سَلول يقول كلمته تلك التي قالها في غزوة بني المصطلق: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل! ولم تكد هذه الكلمة تبلغ النبي، وعُمر عنده، حتى ثار عمر، وسأل النبيَّ أن يأذن له في قتل هذا المنافق، ولكن النبي ردَّه إلى الرفق، وقال له: لا تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه.
وموقفه من النبي ﷺ حين مات عبد الله بن أبي بن سلول هذا، وجاء ابنه يسأل النبي أن يصلي عليه، فأجابه النبي إلى ما أراد، وإذا عمر يراجع النبي في ذلك ويجادله بالقرآن، فيذكره قول الله — عز وجل — من سورة براءة: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ۚ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
ولكن النبي ﷺ يردُّه إلى الأناة ويقول له: إن ربي خيَّرني فاخترت. ثم يصلِّي على عبد الله بن أبي بن سلول.
ولكن الوحي لا يلبث — فيما تحدَّث الرواة — أن يطابق رأي عمر، فينزل الله في السورة نفسها هذه الآية الكريمة موجَّهة إلى النبي، وهي: وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ.
وفي موطن آخر قبل هذا الموطن بعد غزوة حُنَين قسَّم النبي ﷺ الفيء، فأعطى المؤلَّفة قلوبهم من قريش ومن غيرها، فأجزل في العطاء، فقام إليه رجل فقال: اعدل يا محمد؛ فإنك لم تعدل! فظهر الغضب في وجه النبي، وقال للرجل: ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟!
واستأذن عمر النبي في قتل هذا الرجل، فأبى عليه.
فأنت ترى أن حياة عمر أيام النبي ﷺ كانت مزاجًا من هذا العنف الذي كان النبي يُكفكفه، ومن هذه الرحمة التي كان النبي يؤثرها ويُشجِّع عمر عليها بالقول حينًا وبالابتسام حينًا آخر.
وكذلك كانت حياته أيام أبي بكر، كان دائمًا شديدًا في الحق أو فيما يرى أنه الحق، على أنه كان يُذعن لنهي النبي حين ينهاه عن الشدة والعنف، ولا يُفكِّر في أن يستأنفهما إن كان الأمر له؛ لأنه كان يؤمن بأن النبي حين يأمر أو ينهى إنما كان يصدر عن أمر السماء، ولا كذلك أيام أبي بكر، فقد كان يشير عليه عمر بالشدة في أمر خالد بن الوليد مثلًا، فإذا أبى عليه أبو بكر راجعه وألح عليه، فإذا امتنع أبو بكر عليه بعد المراجعة والإلحاح سكت.
ولكنه حين استُخلِف لم يتردد في إنفاذ الرأي الذي أشار به على أبي بكر، وإن كان أبو بكر قد خالفه فيه أشد الخلاف؛ ذلك أن عمر كان يعلم أن الصدِّيق لم يكن يصدر عن أمر السماء، وإنما كان يصدر عن السياسة وعن رأيه في النصح للمسلمين. كان أبو بكر يجتهد رأيه، وكان عمر يجتهد رأيه أيضًا، فليس عليه بأس أن يخالف عن مذهب أبي بكر في سياسة السلم والحرب جميعًا، على حين أنه كان يرى الإثم كل الإثم في المخالفة عن أمر النبي أو نهيه.
٣
على أن استخلاف عمر ونهوضه بأعباء الحكم، ومواجهته لمشكلات السلم والحرب؛ كل ذلك أظهر خُلُقًا من أخلاق عمر لم تظهره الأحداث قبل ذلك؛ لأنه قَبْل أن يُستخلَف كان سيفًا من سيوف النبي ﷺ يسلُّه إن شاء، ويُغمده إن أحب، وكان أيام أبي بكر سيفًا من سيوف الخليفة إن شاء سلَّه وإن شاء أغمده، كان عليه أن يسمع ويطيع، وأن يشير بما يرى فيه المصلحة، ولم يكن له أن يزيد على ذلك أو يعدوه، فلما أُلقِيت عليه أعباء الخلافة أحس ثِقَل التَّبعة كما لم يُحِسَّها خليفة أو ملك فيما نعلم، فكان يحاسب نفسه على صغير الأمر وكبيره، وكان ضميره يراقبه في كل ما يأتي وفي كل ما يدع، لا يعفيه من هذه المراقبة ساعة من نهار أو ساعة من ليل، وربما ذاد النوم عن عينيه فكلفه من الأرق ألوانًا.
كان قبل كل شيء يرى نفسه أصغر من المهمة التي كُلِّف أداءها، وربما كان يَسْخَر من نفسه أحيانًا، فيقول — كما سمعه بعض أصحابه يُحدِّث نفسه من وراء جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين! بَخٍ بَخٍ يابن الخطاب، والله لتطيعنَّ الله أو ليعذبنك.
ولم يكن يخاف شيئًا كما كان يخاف أن يراه الله مؤثرًا لنفسه بشيء من دون عامة المسلمين؛ فكان يضع نفسه لا موضع أمثاله من كبار أصحاب النبي، ولا موضع أوساط الناس، بل موضع الفقراء وذوي الحاجة منهم.
وكان يأخذ نفسه بأن يعيش كما كان هؤلاء الناس يعيشون، وبأن يجد مثل ما كان هؤلاء الناس يجدون، حين تشتد الحياة عليهم وحين تلين الحياة لهم.
وكان يرى أن ذلك هو الذي يُمكِّنه من أن يعرف حاجات الناس ويقدِّر رضاهم حين يرضون، وسخطهم حين يسخطون، وألمهم حين يجدون الألم، ولذتهم حين تتاح لهم اللذة.
لم يكن فقيرًا، بل كان صاحب تجارة، ولم تمنعه الخلافة على ثِقَل أعبائها من ممارسة تجارته، فكان قادرًا على أن يعيش عيشة السعة، وعلى أن ييسِّر لأهله وبنيه حياة لينة، ولكنه أخذ نفسه بالشدَّة الشديدة وبأغلظ ما يكون من العيش، فكان يأكل أكل الفقراء، ويلبس لباس الفقراء، ويسير في أمر نفسه سيرة الفقراء، وكان يراقب أهله وبنيه أشد المراقبة، ويقول لهم من حين إلى حين: إن الناس ينظرون إليكم؛ فلا أعلمن أحدًا منكم خالف عما آمر الناس به أو أنهاهم عنه إلا أضعفت له العقوبة.
وكان يأمر أبناءه الذين يستطيعون أن يَسْعَوْا في الرزق أن يجدُّوا في ذلك حتى يستغنوا عنه، وحتى لا يضطروه إلى أن ينفق عليهم وعلى أهلهم، وكان يشق على نسائه، فيفرِض عليهن حياة قاسية لا يستحبها النساء؛ كان شديدًا عليهن في الكسوة، وشديدًا عليهن في الرزق، وشديدًا عليهن في سيرته كلها، يدخل عليهن عابسًا، ويخرج عنهن عابسًا. كما قالت إحدى النساء، وقد خطبها ذات يوم فامتنعت عليه وكرهت عبوسه وخشونة عيشه.
ويقول الرواة: إنه دخل على ابنته حفصة أم المؤمنين، فقدَّمت له مرقًا باردًا وصبَّت عليه شيئًا من زيت، فقال: أُدْمان في إناء واحد، لا أذوقه أبدًا. وهذه الشدة على نفسه وعلى أهله كانت تُرغِّب الناس عن طعامه وترغِّب عنه من كان يأتيه من عُمَّال الأقاليم، كانوا يأكلون في بيوتهم ليِّن الطعام، ويستمتعون بطيبات الحياة، فإذا حضروا طعام عمر ودُعُوا إليه أعرضوا عنه أو أصابوا منه كارهين.
فقد كان عمر إذن يشدِّد على نفسه مخافة أن يستمتع بالحياة فينقُص ذلك من حسناته عند الله، ولما أراد أن يدوِّن الديوان — فيما سترى — كلَّف نفرًا كتابة الناس على قبائلهم، فبدءوا ببني هاشم رهط النبي ﷺ، وثنَّوا بتيم رهط أبي بكر، وثلثوا بعدي رهط عمر. فلما نظر عمر في الديوان، قال للنفر الذين كتبوه: وددت والله أنه كذلك، ولكن ضعوا عمر حيث وضعه الله، وابدءوا بالأقرب فالأقرب من رسول الله ﷺ.
ومعنى ذلك أنه ردَّ عليهم ما كتبوا، وأمرهم أن يُعِيدوا كتابة الديوان، وأن يُرتِّبوا قريشًا فيه على قرابتها من النبي، حتى إذا بلغوا موضع بني عدي من قرابة النبي وضعوهم.
ويُقال: إن قوم عمر من بني عدي لما عرفوا ذلك أتوا عمر فكلموه فيه، وقالوا: إن أبا بكر خليفة رسول الله، وأنت خليفة أبي بكر، فهلا تركت الديوان كما كتبه أولئك النفر؟! فقال لهم عمر: بخ بخ يا بني عدي! أردتم الأكل على ظهري وأن أذهب حسناتي لكم؟! لا والله حتى تبلغكم الدعوة وإن أُطبِق عليكم الدفتر. يريد: حتى يصل إليكم القوم على قرابة من رسول الله ﷺ فيضعوكم حيث وضعكم الله.
ولم يكن إشفاق عمر من أن يذهب طيباته في حياته الدنيا هو وحده الذي كان يفرض عليه هذه الشدة على نفسه وأهله، وإنما كان هناك شيء آخر لم ينسَه عمر قط، وإنما كان يستحضره دائمًا وهو ما قدر للنبي من العيش، فقد كانت حياة النبي ﷺ شديدة، وكان ضيقها ربما جهد النبي واضطره إلى الجوع، وكان النبي يلقى هذه الحياة متجملًا غير ضيق بها ولا كاره، يأكل حين يُتاح له الطعام، ويصوم حين لا يجد ما يطعم.
ولم تكن حياة أبي بكر أثناء خلافته رقيقة ولا لينة، وإنما كانت إلى الخشونة والشظف أقرب منها إلى الرقة واللين، وكان عمر يستحضر هذا دائمًا ويكره أشد الكره أن يأكل أو يلبس خيرًا مما أُتِيح للنبي وأبي بكر، وكان حين كثر المال وحين كان يرى ما يُحمَل إليه من الفيء ومن الخراج، يذكر فقر النبي وخليفته فيبكي حتى تختلف أضلاعه، وربما أبكى من حوله من أصحاب النبي. وقد رفق به بعض أصحابه من المهاجرين فكلموا حفصة أم المؤمنين في أن تشير على عمر بأن يلين من عيشه، فقبلت منهم حفصة وكلمت أباها في ذلك، فقال لها: نصحت قومك وغششت أباك. ثم جعل يذكِّرها بشدة العيش وضيقه على النبي ﷺ حتى أبكاها.
وهذه الشدة التي فرضها عمر على نفسه منذ استُخلِف، هي التي تفسر لنا موقفه عام الرَّمادة حين أصاب العرب في الجزيرة ما أصابهم من الجدب حتى اضطروا إلى أن يأكلوا الميتة، ويستخرجوا الجرذان والضِّباب من جحورها فيأكلوها.
وقد اتصل هذا الجدب تسعة أشهر، ووقف عمر أثناء هذه الأشهر موقفًا لا يعرف التاريخ له نظيرًا، فما أكثر ما أصاب الجوع بعض البلاد! وما أكثر ما شقي الناس بهذا الجوع واجتهد ملوكهم وولاتهم في أن يخففوا عنهم هذا الجهد! ولكنا لا نعرف أحدًا من هؤلاء الملوك والولاة شارك الناس في الجوع، وفيما كانوا يجدون من الجهد، كما شارك عمر أهل الحجاز ونجد وتهامة في كل ما أصابهم من الجهد والعناء، وما نعرف أحدًا من الملوك والولاة واسى الناس بنفسه على ما أصابهم، كما كان عمر يواسي العرب بنفسه أثناء هذه الأشهر التسعة.
فقد جاع عمر كما جاع الناس، وحرَّم على نفسه لين العيش كله، حتى عاش على الزيت، وحتى تغيَّر لونه لكثرة ما أكل الزيت نيئًا ومطبوخًا، ثم كان يحمل إلى الأعراب داخل المدينة وخارجها طعامهم على ظهره، ويأبى أن يكفيه ذاك أحد غيره، وكان لا يترك من يحمل إليهم الطعام حتى يراهم قد أكلوا وأصابوا من الطعام حاجتهم.
وكان الأعراب حين اشتد عليهم الجهد قد نزح منهم كثير عن بلادهم وآووا إلى المدينة يلتمسون فيها ما يقيم الأَوَدَ، فكان عمر ينزلهم المنازل من حول المدينة حتى لا يُضيِّقوا على أهلها، وكان يقوم على أن يوفِّر لهم ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة، يجدُّ في ذلك بنفسه ما استطاع الجد، ثم لا يشغله ذلك عن غير هؤلاء من الأعراب الذين لم ينزحوا عن أوطانهم، وإنما أقاموا فيها أشقياء بالجدب صابرين عليه.
وقد كتب عمر إلى ولاته على الأقاليم فأرسلوا إليه الطعام، فكان يوجه الرجال إلى منافذ الأقاليم، ويأمرهم أن يتلقوا ما يأتي منها، وأن يطعموا الناس ويكسوهم ويخلفوا فيهم ما يعينهم على احتمال البلاء.
وكذلك أنفق هذه الأشهر التسعة معنيًّا أشد العناية بالناس، من قَرُب منه ومن بعد عنه، حتى خِيفَ عليه من شدة ما كان يتكلف في ذلك من المشقة والعناء. ويقول الرواة: إنه حرم على نفسه في هذه الأشهر التسعة كل لذة، وكل راحة، وكل طمأنينة، ولم يكن اشتغاله بأمر الناس وحده هو الذي يشقيه ويضنيه، وإنما كان ضميره الحي اليقظ دائمًا يزيده شقاء إلى شقاء، وهمًّا إلى هم؛ فكان لا يذوق النوم إلا غرارًا، وكان يشفق أشد الإشفاق أن يجعل الله هلاك أمة محمد ﷺ على يديه وأثناء خلافته.
وكان عمر يحب الصلاة إذا تقدَّم الليل في جميع أيامه، فلما امتُحِن العرب بهذا الجدب أكثر من هذه الصلاة حين كان يُتاح له الفراغ من أمر الناس.
وقد حرَّم على نفسه — كما قلتُ آنفًا — ما كان يُتاح لأوساط الناس من الطعام في تلك الأيام؛ فحرم على نفسه اللحم إلا حين كان ينحر الجُزر ليطعم الناس، فكان يشاركهم في طعامهم، وحرَّم على نفسه السمن فعاش على الزيت، فلما آذاه الإدمان عليه ظنَّ أن طبخه يكسر من حِدَّته، فأمر أن يُطبَخ له الزيت، فلما أكل منه مطبوخًا كان أشد عليه.
وكان بطنه ربما قرقر، فكان يضرب على بطنه بإصبعه، ويقول: قرقر ما تقرقر؛ فليس لك إلا الزيت حتى يحيا الناس.
ثم لم يكن يؤثر نفسه بهذه الشدَّة في تلك الأشهر، وإنما يراقب أهله وبنيه أشد المراقبة، ويحرِّج عليهم جهده في أن يؤثروا أنفسهم بشيء من اللين والناس من حولهم لا يجدون ما يَطعمون، وكان يقول: نَطعم ما أطاق بيت المال إطعام الناس، فإذا ضاق بذلك بيت المال أدخلنا على كل أهل بيت مثلهم فقاسموهم ما يأكلون؛ فإنهم لن يجوعوا على أنصاف بطونهم. ومعنى ذلك: أنه كان يريد أن يطعم الناس على حساب الدولة، فإذا لم يجد ما يَقُوتهم به في بيت المال وزَّعهم على بيوت الذين يجدون ما ينفقون، فعاشوا معهم وشاركوهم في طعامهم، فقليل الطعام يقيم الأَوَدَ، وذلك خير من الجوع الذي يُعرِّض الناس للهلكة.
ولم يكن عمر يَقبَل أن يشبع فريق من الناس ويجوع سائرهم، ومع ذلك فقد استطاع أن يخفف هذا الجهد على الناس بما كان يُرسَل إليه من الأقاليم، وإن لم يستطع أن يصد الموت عن كثير منهم، فقد وقع الموت في الأعراب الذين أحاطوا بالمدينة؛ فكان عمر يصلي على الموتى أفرادًا وجماعات، وكان يشهد جنائزهم ويقوم على قبورهم.
وتستطيع أنت أن تقدِّر حياة عمر في تلك الأشهر بعد أن رأيت ما وصفت لك من يقظة ضميره، ومن إشفاقه على الناس، وعنايته بأمرهم، وتكلفه ما تكلف من الجهد في إطعامهم؛ فلا غرابة في أن يصبح كئيبًا ويمسي كئيبًا، ويبكي في غير موطن، ويدعو الله أن يرفع المَحْل عن الناس، ويقول الرواة: إن استسقى حين بلغ الجهد غايته، فلم يزد على أن دعا الله ودعا الناس معه، وصلى صلاة الاستسقاء. ويزعم الرواة أنه حين استسقى أخذ بيد العباس عم النبي وتوسَّل به إلى الله، وأنه لم يتم استسقاءه حتى أرسل الله الغيث.
وواضح أن هذا تكلف مصدره التملق لبني العباس أثناء حكمهم، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن عمر استسقى كما استسقى النبي ﷺ، وأن الله أرسل الغيث بعد استسقاء عمر بوقت قصير أو طويل، ولما أنزل الله الغيث سُرِّي عن عمر، وجدَّ في إخراج الأعراب من المدينة وردَّهم إلى بلادهم؛ ليستأنفوا حياتهم التي كانوا يحيونها قبل أن يمتحنهم الله بهذا البلاء.
٤
وكان عمر شديدًا على نفسه كل الشدة، وشديدًا على غيره كل الشدة أيضًا في مال المسلمين؛ فكان يحاسب نفسه أشد الحساب على ما يأخذ من مال المسلمين لنفقته ونفقة أهله، وكان يقول: إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة مال اليتيم، ثم يقرأ قول الله — عز وجل — من سورة النساء: وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
وربما قال في موطن آخر: أنزلت هذا المال من نفسي منزلة مال اليتيم؛ إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف. وكان يشبه نفسه أحيانًا برجل سافَرَ مع جماعة من أصحابه، فدفعوا إليه أموالهم وكلفوه أن ينفق عليهم منها، فما ينبغي له أن يؤثر نفسه من دونهم بقليل أو كثير من هذا المال.
وهو مع ذلك قد استشار أصحاب النبي ﷺ فيما يحل له من هذا المال، فقال له بعضهم: يحل لك منه ما يصلحك ويصلح أهلك. وقال له عليُّ بن أبي طالب رحمه الله: يحل لك منه الغداء والعشاء. فقبل رأي عليٍّ؛ فكان يأخذ من بيت المال ما يمكنه من أن يأكل ويطعم أهله طعام أوساط الناس من قريش، وكان يستحل من بيت المال كسوة نفسه: حُلَّة في الشتاء، وأخرى في الصيف.
على أنه كان يشتد في ذلك، فلم يكن يترك إزارًا ولا رداءً إلا حين يبلغ منه البلى غايته، وكان كثيرًا ما يرقع رداءه أو إزاره: يرقعه غير متحرِّج فيما يرقع به، حتى لقد كان يرقع ثيابه أحيانًا بالأدَم.
ويقول الرواة: إنه تأخر يوم جمعة، فجعل الناس ينتظرونه في المسجد حتى أبطأ عليهم، ثم خرج عليهم فصعد المنبر واعتذر من إبطائه، فإذا الذي أبطأ به قميصه قد غُسِل وانتظر أن يجف، ولم يكن عنده قميص غيره.
وكان عمر — كما قلت آنفًا — يستطيع أن يوسع على نفسه من صلب ماله، ولكنه — فيما يظهر — كان يكره أن يظن الناس أنه إنما يوسع على نفسه من مال المسلمين، فيضيق على نفسه، كما كان يشدد على نفسه أيضًا إيثارًا للزهد، ومخافة أن يحيا حياة ألين من حياة النبي ﷺ وحياة أبي بكر، وكان يقول: إن لي صاحبين سلكا طريقًا، وأخشى إن خالفت سيرتهما أن يخالف بي عن طريقهما.
ومع ذلك فقد كان يستحل الاستقراض من بيت المال، فإذا أيسر ردَّ ما اقترض، وكان ربما أبطأ في أداء ما استقرض، فيأتيه صاحب بيت المال فيلزمه، ويحتال عمر حتى يؤدي إليه ما استقرض، وربما خرج عطاؤه فأدى منه ما كان عليه من دَيْن لبيت المال، ولما طُعِن وعرف أنه الموت، أحصى ما عليه من دَيْن لبيت المال؛ فإذا هو نيف وثمانون ألف درهم؛ فلم يسترح حتى أمر ابنه عبد الله، فضمن هذا المال، قال له: إذا أنا مت فانظر في مالي ومال آل عمر، فإن وفى بهذا الدين فذاك، وإلا فسل بني عدي، فإن أعانوك بما يفي بهذا الدين فذاك، وإلا فسل قريشًا ولا تعدُها.
ويقول الرواة: إن الأسبوع لم يتم بعد وفاة عمر حتى أدَّى عبد الله دَيْنَ أبيه إلى عثمان — رحمه الله — وأخذ منه البراءة بالأداء.
وأرجِّح أنا أن عمر قد ردَّ على بيت المال ما أخذ لقُوتِه وقُوت أهله، واعتبر هذا دينًا عليه كما فعل أبو بكر رحمه الله.
فقد رأيت فيما مضى أن أبا بكر وَهَبَ لبيت المال أرضًا كان يملكها بما استنفق منه، وكذلك فعل عمر فيما أُرجِّح، وليس معنى هذا أن عمر لم يقترض شيئًا من بيت المال، بل معناه: أن عمر أضاف إلى ما اقترض ما كان يستحل لنفسه من بيت المال قوتًا له ولأهله وكسوة له في الشتاء والصيف. وما أكثر ما كان يقول: وددت لو أخرج منها — يريد الخلافة — كفافًا لا عليَّ ولا لي! فقد خرج منها — رحمه الله — وليس عليه منها شيء، وله منها الكثير بما أحسن إلى المسلمين أغنيائهم وفقرائهم، وبما نصح للإسلام، وبما أقام من نُظُم سياسية لم يكن للعرب عهد بمثلها، ومن نظم اجتماعية لا تزال الإنسانية تسعى لتحقيقها دون أن تبلغ من سعيها ما تريد.
وليس على عمر — رحمه الله — من بأس إذا كانت نظمه الاجتماعية لم تبقَ بعد وفاته، وإذا كان المسلمون قد قصروا عن الاحتفاظ بها وعن تثبيتها، والله — عز وجل — يقول من سورة النجم: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ.
فعلى الذين أضاعوا هذه النُّظُم وأهملوا سُنَّة عمر تبعة ما أضاعوا وما أهملوا، ولِعُمَرَ الجزاء الأوفى عند الله — عز وجل — على ما نصح للمسلمين وما هيَّأ لهم من وسائل الرقي والعزة في ظل العدل والأمن والمساواة.
وفيما تستقبل من فصول هذا الحديث تفصيل هذا السعي الذي سعاه عمر في خلافته التي كانت كما قال ابن مسعود: رحمة.
٥
وكانت أول مشكلة واجهت عمر حين نهض بأمور المسلمين مشكلة الفتوح، وموقف الجيوش التي أرسلها أبو بكر — رحمه الله — إلى العراق والشام.
وكان أبو بكر قد هيَّأ لحل مشكلة الجيوش التي أرسلها إلى الشام حين جمع الروم للمسلمين جموعًا كثيرة وأعدادًا ضخمة لم تكن لهم بها طاقة، فأرسل إليهم خالد بن الوليد ببعض من كان معه في العراق، ولكنه حين أمدَّ جيوش المسلمين في الشام بخالد وطائفة صالحة من جيشه في العراق، عرَّض بقية هذا الجيش العراقي لخطر عظيم؛ فقد كان الفُرْس قد أخذوا بالجد والحزم هجوم خالد على العراق وانتصاره في المواطن الكثيرة التي انتصر فيها، وغلب على عامة العراق العربي، فلم يسعهم إلا أن ينهضوا لمقاومة العرب وإخراجهم من هذه الأرض التي كانت خاضعة لسلطانهم منذ زمن بعيد.
وأحس المُثنى بن حارثة الشيباني — خليفة خالد على الجيش — أن موقفه وموقف المسلمين معرَّض لخطر عظيم أمام هذه الجيوش التي عبَّأها الفُرْس للقائهم، فاستخلف على من بقي معه من الجيش، وأسرع إلى المدينة ليقف أبا بكر على جليَّة الحال في العراق، وأدرك أبا بكر في مرضه الذي تُوفِّي فيه فوصف له أمر المسلمين ومكانهم من الخطر العظيم الذي يعرضهم له العدو.
فلم يستطع أبو بكر — رحمه الله — إلا أن يوصي عمر بالجد في نجدة المُثنى وأصحابه وإمداده بالرجال والسلاح، وقد جد عمر في ذلك منذ اليوم الأول لخلافته، فندب الناس إلى العراق، ولكن الناس سمعوا منه ولم يستجيبوا له، فندبهم ثلاثة أيام والناس يسمعون منه ولا يستجيبون، حتى إذا ندبهم للمرة الرابعة قام إليه أبو عبيد بن مسعود الثقفي منتدبًا، واضطر عمر إلى أن يلح على الناس ويدفعهم إلى الجهاد دفعًا حتى إذا استطاع أن يجمع ألف رجل من المهاجرين والأنصار أمَّر عليهم أبا عبيد، فكلمه الناس في أن يؤمِّر رجلًا من كبار المهاجرين والأنصار فأبى؛ لأنهم تقاعدوا عن الجهاد وكرهوا لقاء الفُرس وألحَّ في أن يؤمر أول من انتدب للحرب، ثم خالف عن سياسة أبي بكر، فأباح لمن كان ارتدَّ من العرب ثم عاد إلى ما خرج منه أن يشارك في الجهاد، فأقبل هؤلاء مسرعين، وأقبلت جموع من اليمن فضمهم عمر إلى الجيش.
وسار أبو عبيد بجيشه بعد أن أوصاه عمر بالحزم والأناة وبإمعان الروية وحسن التدبير، وانتهى أبو عبيد إلى العراق ومعه المثنى بن حارثة تابعًا له وليس أميرًا، فانضم إلى من كان هناك من المسلمين، وتهيأ للقاء الفرس، وكان أبو عبيد شجاعًا جريئًا، وقد غلبت شجاعته وجرأته رأيه وأناته، وغلبت رأي الذين أشاروا إليه وألحوا في ألا يَعبُر الفرات للقاء الفرس، وإنما يخلي بينهم وبين العبور إليه، فإن أُتِيح له النصر فذاك، وإن كانت الأخرى وجد الأرض من ورائه يرجع إليها متحيزًا لفئة المسلمين من جزيرة العرب، ولكنه — رحمه الله — كره أن يكون الفرس أجرأ على الموت من المسلمين، فعبر بالناس النهر ثم قطع الجسر من ورائه حتى لا يتحدَّث أحد من المسلمين إلى نفسه بالفرار.
وكان المسلمون في تلك الأيام لا يكرهون شيئًا كما يكرهون الفرار، ويستحضرون في نفوسهم وقلوبهم هذه الآية الكريمة التي كانوا يستحضرونها في كل موطن من مواطن الحرب، وهي قول الله — عز وجل — من سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
وكان المسلمون في تلك الأيام إذا انتُدِبوا للجهاد حرصوا أشد الحرص على أن يظفروا بإحدى الحسنيين: الظفر بالعدو وما أعدَّ الله لهم من الأجر يوم القيامة، أو الظفر بالشهادة وما ضمن الله لهم من حياة الشهداء في جنته ورضوانه؛ لأن الله يقول: إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ سورة التوبة.
وقد أقدم المسلمون — مدفوعين بهاتين الآيتين الكريمتين وبآيات كثيرة غيرهما من الكتاب العزيز — فقاتلوا مستبسلين، وكان قائدهم أبو عبيد أشدهم إقدامًا وأعظمهم استبسالًا، ولكن الفرس على كثرتهم كانوا قد قدَّموا بين أيديهم شيئًا لم يألفه العرب في قتالهم من قَبْلُ وهي الفيلة، فلما رأتها خيل المسلمين نفرت منها نفارًا شديدًا. وكان في مقدمة هذه الفيلة فيل عظيم تعرض له أبو عبيد، فطعنه، فلما أحس الفيل حرَّ الطعنة ثار فطرح أبا عبيد في الأرض وقَتَلَهُ.
وقُتِلَ يومئذ من المسلمين عدد غير قليل بعد أن أحسنوا البلاء، واضطروا آخر الأمر إلى الفرار، فإذا النهر وراءهم، فجعل بعضهم يسَّاقط في النهر فيغرقون، حتى أقبل المثنى بن حارثة ومعه نفر من أصحابه فوقف على شاطئ النهر، وجدَّ في عقد الجسر، وانحاز بقية المسلمين إليه، فعبروا النهر وقد بلغ منهم الجهد وكثرت فيهم الجراحات وتفرَّق كثير منهم بعد عبور النهر فعادوا إلى الحجاز، ورجع بعضهم إلى المدينة.
وبلغ خبر الهزيمة عمر — رحمه الله — فبكى، وقال: رحم الله أبا عبيد لو انحاز إليَّ لكنت فئته. وكان يكثر من ترديد ذلك، يهدِّئ به روع المنهزمين ويبين لهم أنهم لم يفروا وإنما انحازوا إلى فئة، فلم يتعرضوا للعقاب الشديد الذي أنذر الله به الفارين في الآية الكريمة من سورة الأنفال التي أثبتناها آنفًا.
وقد حَمِي عمر لجهاد الفرس بعد وقعة الجسر هذه، فتهيأ للحرب، وخرج من المدينة فاجتمع إليه الناس، وهمَّ بالمسير إلى العراق على رأس الجيش متوليًا بنفسه قتال الفرس.
واستشار الناس في ذلك، فأشار عليه قليل منهم بأن يتمم على ما أراد ويمضي للجهاد، فيكون في مضيه تحريض للمسلمين وتشجيع لهم، ولكن كثيرًا من أصحاب النبي أشاروا عليه بألا يفعل وبأن يبقى في المدينة ركنًا للمسلمين يمدهم بالعدد والعدة، وألا يعرض نفسه لأخطار الحرب، فإنه إن أُصِيبَ فتَّ ذلك في أعضاد المسلمين، فلم ينهضوا للقتال، وتعرضت الأمة لخطر عظيم.
وأشاروا عليه بأن يرسل رجلًا من كبار أصحاب النبي ﷺ، وأشدهم بأسًا وأمضاهم في الحرب، وسمَّوا له سعد بن أبي وقاص رحمه الله، وكان سعد غائبًا عن المدينة في عمل لعمر، فأرسل إليه، فاستخلف على عمله وأقبل، فأمَّره عمر على الجيش وأوصاه ألا يغامر بالمسلمين، وأن ينزلهم منزلًا بين حضر العراق ومدر العرب، وأن ينتظر الإمداد.
ومضى سعد — رحمه الله — بجيشه يستنفر من مر به من القبائل، ويمده عمر ما استطاع إلى إمداده سبيلًا، وكان العرب يكرهون لقاء الفُرْس ويؤثرون الجهاد في الشام، ولكن عمر كان يأبى عليهم إلا العراق، وربما رغَّب بعضَهم بالمال بعد الفتح.
وأقام سعد كما أمره عمر في جيش عظيم من المسلمين قريبًا من العراق غير بعيد مع ذلك من بلاد العرب، وأقام هناك ينتظر أمر عمر بالتقدم، وينتظر قدوم الفرس عليه، وكان عمر قد أمره أن يكتب إليه بأمر المسلمين يومًا بيوم، وألا ينزل بهم منزلًا إلا وصفه عمر كأنه يراه، حتى يكون عمر مع المسلمين بكتب سعد يعلم ما يأتون وما يدعون.
٦
وخالف عمر عن سياسة أبي بكر في أمر الشام أيضًا، فلم يكد ينهض بأعباء الخلافة حتى كتب إلى جيوش الشام ينعى إليهم أبا بكر رحمه الله، وينبئهم ببيعته، ويعزل خالدًا عن إمارة الجيش، ويجعل هذه الإمارة لأبي عبيدة، ويأمره إذا فتح الله على المسلمين أن يوجه من جاء مع خالد من العراق إلى عراقهم؛ ليكونوا مددًا لسعد ومن معه من المسلمين، وأن يجعل عليهم عتبة بن أبي وقاص.
ويقول الرواة: إن كتاب عمر وصل إلى أبي عبيدة في ليلة كان المسلمون يتهيأون فيها لمصادفة الروم من غد، فأخفى أبو عبيدة كتاب عمر وأسرَّ ما جاء فيه من عزل خالد وتوليته هو؛ كره — فيما يقول الرواة — أن يثبط المسلمين ويفل من حد خالد، وكانت إليه إمرة الجيش في تلك الموقعة.
وأصبح المسلمون فاصطدموا بالروم، فقاتلوهم أشد قتال وأعنفه وأجرأه، وكانت موقعة لم يعرف المسلمون مثلها من قبل في حربهم للروم.
وقد أنزل الله نصره على المسلمين، وانهزم الروم هزيمة منكرة، وفُتِحت للمسلمين مناهج الشام، فقصدوا قصد دمشق.
ومن الرواة من يزعم أن وقعة اليرموك هذه كانت بعد فتح دمشق.
ولكن اختلاف الرواة في تاريخ الوقائع وترتيبها كثير، أكثر من أن يُحصَى، وأعسر من أن يصل الباحث فيه إلى نظام دقيق.
وليس هذا مقصورًا على الشام، ولكنه يتناول حرب الفُرْس أيضًا.
وليس من شأني في هذا الحديث أن أُفَصِّل تاريخ الفتوح، ولا أن أُرتِّب تاريخ الوقائع؛ فذلك شيء لم أُرِدْ إليه، وهو على كل حال يطول أشد الطول ويعسر أشد العسر.
والمحقَّق أن المسلمين قد حاصروا دمشق وشدَّدوا عليها الحصار وأطالوه، ولكن خالدًا — رحمه الله — لم يكن ينام ولا يُنِيم؛ كان متنبِّهًا دائمًا لأمر المدينة وما يقع فيها من الأحداث، وقد بلغه ذات ليلة — فيما يزعم الرواة — أن سور المدينة بإزائه قد خلا من حُراسه لأمر فصَّله المؤرخون ولا أطمئن إليه، فاحتال خالد حتى رقى السور مع نفر من أصحابه، ثم نزل ونزل من معه فابتدروا باب المدينة الذي يلي جيش خالد، فقتلوا بوَّابيه وكبَّروا، فاندفع إليهم المسلمون من هذه الناحية، واندفع خالد على رأس جيشه إلى وسط المدينة. قال الرواة: وكان أبو عبيدة قد دخل المدينة من باب آخر على صلح، فالتقى جيشان من المسلمين في وسط المدينة: جيش مقاتل، وجيش مصالح. فأمضى أبو عبيدة الصلح على جيش خالد أيضًا، واعتُبِرت دمشق قد فُتِحت صلحًا.
ويقال: إن أبا عبيدة لم يُظهِر خالدًا على أمر عمر بعزله إلا بعد فتح دمشق، ثم كانت للمسلمين بعد ذلك خطوب، أتاح الله لهم فيها النصر على الروم في غير موقعة، حتى فُتِحت فلسطين كلها وفُتِح الأردن، ثم فُتِحت حمص وسائر مدن الشام. وكان هرقل قيصر قسطنطينية مرابطًا في أنطاكية يمد جيوشه منها، فلما رأى ما أُتِيح للمسلمين من النصر في هذه المواطن كلها عاد إلى قسطنطينية وودَّع سورية وداعًا لا لقاء بعده.
ومع أن فلسطين قد فُتِحت كلها — كما قلت آنفًا — فإن مدينة ببيت المقدس قد طاولت جند المسلمين المحاصرين لها، حتى إذا قَوِيَ المسلمون عليها وهمُّوا باقتحامها طلب أهل المدينة الصلح، واشترطوا ألا يتمَّ هذا الصلح إلا مع أمير المؤمنين نفسه. وقد أُنبِئَ عمر بذلك فأقبل إلى الشام وأتم الصلح مع بيت المقدس ودخل مظفرًا.
والرواة يختلفون في عدد المرات التي دخل فيها عمر الشام في خلافته، ولكن المحقَّق عندي أنه ثلاث مرات على الأقل، كانت أولاها حين أتمَّ الصلح مع بيت المقدس، وكانت الثانية بعد ذلك حين قصد إلى الشام، فلما بلغ سَرْغ أنبأه الأمراء بأن الطاعون قد وقع في الشام، وهو الطاعون الذي يعرفه المؤرخون بطاعون عَمُواس، فاستشار عمر الناس؛ شاور المهاجرين أولًا فاختلفوا عليه، قائل يقول: خرجت لوجه فيجب أن تمضي إليه. وقائل يقول: لا تُعرِّض نفسك وأصحابك للتهلكة. وشاور الأنصار فصنعوا صنيع المهاجرين، وأبى عليه أبو عبيدة بن الجراح إلا أن يمضي لوجهه مُخاطرًا ولا يفر من قدر الله، فأجابه عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! أفر من قدر الله إلى قدر الله. ثم استشار مهاجرة الفتح فلم يختلفوا عليه، وإنما أشاروا عليه مجمعين بأن يرجع إلى المدينة.
وأقبل عبد الرحمن بن عوف — رحمه الله — وكان غائبًا حين استشار عمر الناس، فقال: عندي من ذلك علم: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها.» فعاد عمر إلى المدينة راضيًا مطمئنًّا.
ودخل عمر الشام للمرة الثالثة بعد أن ارتفع الوباء، وقد أُصِيبت طائفة ضخمة من المسلمين وجماعة من خيار أصحاب النبي ﷺ، منهم: أبو عبيدة أمير الشام، ومعاذ بن جبل رحمهما الله، وآخرون كثيرون. فلما انقضى الوباء ظهرت أمام معاوية بن أبي سفيان أمير الشام بعد أبي عبيدة مشكلة عسيرة، فقد كثرت ضحايا الطاعون وأُشكِلت مواريث من مات على من بقي من المسلمين، فاضطر عمر إلى أن يَسِيرَ إلى الشام، فيحل هذه المشكلة، ويرد المواريث على أصحابها.
وكان عمر يفكِّر كثيرًا بعد زيارته هذه للشام في أن يزور أقاليم الدولة كلها، فيقضي في كل إقليم شهرين يباشر فيهما بنفسه ما يعرض من المشكلات، ويباشر فيهما بنفسه أيضًا أمور الناس، فيعلم الولاة بسيرته كيف يُدبِّرون سياسة الأقاليم والأمصار. وكان عمر شديد الخوف دائمًا من سيرة الولاة، لا يأمنهم أن يجوروا أو أن يُقصِّروا، ومع أنه كان يراقبهم أشد المراقبة ويرسل إليهم من قِبَلِهِ من يفحص أعمالهم، فكثيرًا ما كان يقول: إنه لا يخاف شيئًا كما يخاف أن تكون للناس خلافات لا ينصفهم الولاة برفعها، ولا يقدرون هم على أن يرفعوها إليه؛ فكان يرى في هذه الزيارة التي كان يرجوها أحسن علاج لهذه المشكلات وأمثالها.
وكان عمر يلقى الولاة في الموسم من كل عام ويلقى معهم الحجيج من كل مصر، فيسأل الولاة عن الرعية، ويسأل الحجيج عن سيرة الولاة فيهم، ولكن هذا كله لم يكن يكفيه؛ فكان حريصًا على أن يطمئن بنفسه على سيرة الولاة وسيرة الرعية جميعًا. ولم تُتِح له هذه الزيارات التي كان يزمعها ويحرص عليها أشد الحرص، شغلته الأحداث ومراقبة الحرب في بلاد الفرس حتى اختطفته المنية اختطافًا.
٧
وكانت حرب الفرس عسيرة أشد العسر طويلة أشد الطول، ومع ذلك فقد بلغ منها عمر — رحمه الله — ما أراد وأكثر جدًّا مما أراد؛ لم يكن يحب المضي في الحرب، وإنما كان يحرص على أن يؤمِّن العرب في جزيرتهم، وفي الشام والعراق من حكم الأجنبي، وأن يجمعهم ما استطاع على الإسلام.
ولكن بعض الحرب يدعو بعضها، وإذا ابتدأت الحرب فقلَّما يعرف المنتصر لها آخرًا، وقد استطاع عمر أن يقف الحرب من الشام عند حدود الروم، ويمنع المسلمين من أن يقتحموا على الروم حدودهم في الجموع الكثيفة.
وما زال به عمرو بن العاص حتى انتزع منه الإذن بفتح مصر، فلما تم له الفتح واستطاع المسلمون أن يتجاوزوا مصر غربًا إلى برقة وطرابلس وقفهم عند هذا الذي أُتِيح لهم، وحظر على معاوية أن يغزو في البحر، وكان معاوية شديد الحرص على أن يفتتح قبرص، ولكن عمر ألحَّ في منعه حتى أنذره إن خالف عن أمره.
وقد أقام سعد في منزله الذي حدَّده له عمر قريبًا من البادية وقريبًا من حَضَر العراق أيضًا، وظل كذلك حتى جاءته الفرس في جموع عظيمة فلم يكن من قتالها بد، فكانت وقعة القادسية التي طالت وشقت، وامتُحِن المسلمون فيها امتحانًا شديدًا، ولكن الله أنزل عليهم نصره بعد خطوب، فقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة، ولقوا منهم مع ذلك شرًّا عظيمًا، ولكن النصر أطمعهم في النصر وأغراهم باتباع الفُرْس وغزوهم في عقر دارهم.
وقد استقر في نفس عمر، وفي نفس الذين كانوا يشيرون عليه في المدينة، وفي نفس سعد بن أبي وقاص أيضًا: أن المسلمين لن يكسروا شوكة الفرس، ولن يفلوا حدهم إلا إذا غزوهم في عقر دارهم، وأخذوا عاصمتهم المدائن. وكانوا يعتقدون أنهم إن دخلوا العاصمة وأزعجوا عنها كسرى يزدجرد ملك الفرس أمنوا جانبهم وأيأسوهم من العراق.
وقد مضى سعد بجيشه إلى المدائن فدخلها مظفرًا وخرج عنها الملك هاربًا، وأُتِيح للمسلمين أن يتخذوا إيوان كسرى مصلى.
ومنذ فتح المدائن كان عمر يود لو وقفت الحرب عند هذا الحد، وكان يقول مرة: وددت لو أن بيننا وبينهم جبلًا من نار. ويقول مرة أخرى: وددت لو أن بيننا وبينهم بحرًا من نار؛ لا يصِلُون إلينا ولا نَصِل إليهم. ولكن الله لم ينشئ لعمر جبلًا من نار، ولا بحرًا من نار، وإنما ألقى في نفوس الفرس التصميم على أن يستردُّوا ما فقدوا، ويثأروا من المسلمين لهزيمتهم، فكانت جموعهم لا تُفَض إلا تألفت منهم جموع أخرى عظيمة الكثرة شديدة البأس، وكان المسلمون مضطرين إلى أن يفضوا هذه الجموع كلما ائتلفت؛ ليأمنوا على ما في أيديهم من جهة وليضيفوا إليه ما يزيده ويكثره، وكانت جيوش المسلمين لا تنتصر في موقعة إلا طمعت في أن تنتصر في موقعة أخرى.
وكذلك التقوا بالفرس في جَلُولاء وانتصروا عليهم، والتقوا بهم في نهاوند وانتصروا عليهم، والتقوا بهم في حلوان وانتصروا عليهم أيضًا. وقد هم عمر بعد هذه المواقع الكبرى أن يقف الحرب، وكان قد مصَّر المصرين في العراق: «الكوفة والبصرة»، وأراد أن يُنزِل فيهما المسلمين ليكونوا ردءًا لمن وراءهم ومددًا لمن بين أيديهم. وكان ملك الفرس كلما انتصر المسلمون في موقعة أَبْعَدَ في الهرب، وأحس بعض المسملين أنهم لن يكسروا شوكة الفرس ولن يفلوا حدَّهم حقًا ما دام للفرس ملك قائم يجمعهم ويغريهم بالحرب ويدفعهم إليها؛ ذلك أن المصرين الجديدين في العراق كانا يتنافسان أشد التنافس في الفتح وفي بسط ما كانا يليانه من الأرض الفارسية.
وكان حظ الكوفة من سواد العراق ومما فُتِح من أرض الفرس أعظمَ من حظ البصرة، فكان أهل البصرة يطمعون في أن يوسعوا رقعتَهم ويكثروا من الفتوح ليُتاح لهم من الغنائم وسعة الفيء، إلى ما كانوا يؤمنون به من فضل الجهاد والغزو في سبيل الله، حتى قال الأحنف بن قيس ذات يوم لعمر، وكان عنده في وفد البصرة: إن عيشنا أضيق من عيش إخواننا في الكوفة، وإنا لن نأمن من الفرس ولن نفرغ منهم حتى نظفر بملكهم أو نقتله.
وما زال المصران يلحان على عمر في أن يأذن للناس في الانسياح في الأرض حتى انتزعوا منه الإذن في ذلك انتزاعًا، فاندفع أهل البصرة حتى بلغوا من الفتح ما أرادوا، وجعلوا يزعجون الملك عن مدن الفرس مدينة مدينة، حتى أزعجوه عن خراسان كلها وألجئوه إلى أن يعبر النهر إلى التُّرْك، وقد استمد ملك الفرس ملك الترك واستعان به على استرداد وطنه من المسلمين، فاستجاب له ملك الترك حتى أقبل مؤازارًا له، ولكن المسلمين ثبتوا للترك كما ثبتوا للفرس من قبل، وما زالوا بالترك حتى أيأسوهم واضطروهم إلى أن يرجعوا إلى بلادهم.
وكذلك فُتِحت على عمر بلاد كسرى كلها في هذه المدة القصيرة التى تولى فيها أمور المسلمين في عشر سنين وأشهر.
وما زال يزدجرد مشرَّدًا حتى قُتِل في أيام عثمان رحمه الله؛ قَتَلَهُ رجل من مواطنيه.
ولم يكتفِ المسلمون بما فتح الله عليهم في المغرب من الشام وفلسطين ومصر وبرقة، وما فتح الله عليهم في المشرق من أرض كسرى، ولكن الظروف اضطرتهم إلى أن يؤمِّنوا الشام بفتح الجزيرة فافتتحوها، ولم يبقَ بينهم وبين الروم إلا هذه الحدود الطبيعية التي اعتصم الروم من ورائها حتى اقتحمها المسلمون في أيام معاوية محاولين فتح قسطنطينية، ولكن لهذه المحاولة موضعًا آخر في غير هذا الحديث.
وقد يُخيَّل إلى من يتصور ما أُتِيح للمسلمين من الفتوح أيام عمر، والانتصار المؤزَّر على الفُرْس والروم جميعًا، أن عمر كان سعيدًا بهذه الفتوح العظيمة وبما كان يتدفق عليه في المدينة من المال الذي كان المسلمون يُخمِّسون له من الغنائم ويرسلونه إليه من الفيء، ولكن الشيء المحقق أن عمر لم يهنأ قط بهذه الفتوح ولا بما أفاء الله عليه من هذه الأموال التي لا يكاد التصور يحيط بكثرتها.
كان يسرُّه انتصار المسلمين ويرضيه، وكان يسرُّه أن ينتشر نور الله في الأرض، وتعلو كلمة الإسلام، وكان يسرُّه ويرضيه كذلك أن يسعد المسلمون بما كان الله يفيء عليهم من المال الذي أخرجهم من ضيق العيش إلى السعة، وأتاح لهم الرخاء بعد ما كانوا فيه من الشظف وقسوة الحياة، ولكن عمر على ذلك كان أشقى الناس بالفتوح والمال.
كان الفتح يكلفه أن يدبر أمر الحرب في الشرق والغرب، وأن يدبر هذا الأمر كأنه مع المحاربين في الشرق والغرب جميعًا، وكان يكلفه أن يدبر أمر الأرض التي تُفتَح شرقًا وغربًا، وأمر الذين يعيشون فيها من المسلمين والمعاهدين، وكان يضطره إلى دقَّة أي دقة في اختيار العمال ومراقبتهم بعد ولايتهم أقسى المراقبة وأبعدها في الشدة، وكان المال الذي يُرسَل إليه يكلفه عناء أي عناء، كان لا يرى شيئًا منه إلا أمعن في البكاء وجعل يسأل نفسه لماذا صرف الله هذا كله عن رسوله ﷺ وعن أبي بكر، وأتاحه للمسلمين في أيامه هو، أكان ذلك خيرًا صرفه الله عن رسوله وعن خليفته وآثره هو به؟ ثم لم يكن يلبث أن ينكر ذلك أشد الإنكار، ويقول: كلا، والله ما أتاح الله هذا المال لعمر إلا محنة له وابتلاء.
ثم لم يكن عمر يثق بنفسه ولا يطمئن إليها لا في سياسة الحرب، ولا في سياسة السلم، ولا في سياسة المال. كان يخشى دائمًا أشد الخشية أن يكون قد جار عن القصد في قول أو عمل خطير أو ضئيل، وأن يكون هذا الجور قد سُجِّل عليه في ذلك الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنه سيلقى الله بهذا الكتاب يوم القيامة فيسأله عما فيه من الصغير والكبير سؤالًا لا هوادة فيه ولا لين، وكذلك كان نهاره منغصًا وليله مؤرقًا، لولا أن أمور المسلمين كانت تستغرق أكثر نهاره وشيئًا غير قليل من ليله. ثم كان على ذلك يأتمر بما أمر به القرآن الكريم؛ فيستيعن على خلافته بالصبر والصلاة، ثم لا يمنعه هذا كله من أن يقول بين حين وحين: وددت لو أني خرجت منها كفافًا لا عليَّ ولا لي.
٨
وظهرت لعمر مشكلتان يسيرتان لم يجد في النفوذ منهما عناء، ولا تُقاسان إلى غيرهما من المشكلات التي عرضت له.
فأما أولاهما: فلقب الخليفة، وما أظن عمر فكر فيه، أو فكر فيه غيره من المسلمين، إلا بعد أن سيَّر الجنود إلى العراق ودبَّر أمر الجيش في الشام، على ما كان عليه يحب من عزل خالد وتأمير أبي عبيدة، وجعل ينتظر أنباء جيوش المسلمين في الشرق والغرب.
هنالك فكَّر هو أو فكَّر من حوله من أصحابه في اللقب الذي يدعونه به، كانوا يرون أن أبا بكر — رحمه الله — قد قام على أمرهم بعد وفاة النبي ﷺ فدعوه خليفة رسول الله، وكان يرون أن عمر قد قام بالأمر بعد أبي بكر، فدعوه خليفة خليفة رسول الله، ولكن عمر لم يلبث أن فكر في هذا اللقب، ورأى أنه طويل، وأن من جاء بعده سيُدعَى خليفة خليفة خليفة رسول الله، ويمضي الأمر على هذا النحو فيطول ويعسر النطق به والحفظ له.
ويُقال: إن المسلمين هم الذين فكَّروا في هذا، وأن قائلًا منهم قال: نحن المؤمنون وعمر أميرنا. فدُعِيَ أميرَ المؤمنين، وصار هذا لقب الخلفاء من بعده.
وسواء أكان عمر هو الذي فكَّر في هذه المشكلة وأصاب حلها، أم كان المسلمون هم الذين كفوه هذا التفكير، فقد كان عمر أول من دُعِيَ أمير المؤمنين، وما أكثر الذين دُعُوا من بعده بهذا الاسم! فاستحقه أقلهم وحمله سائرهم غصبًا له واستبدادًا به دون أن يكون له أهلًا؛ فإمرة المسلمين ليست شيئًا هينًا يستطيع كل من قام بأمر المسلمين أن يتلقب بها، وإنما هي تصور الأعباء الثقال، والعناء المتصل، والجهد الذي ليس فوقه جهد في إقرار العدل، ورفع الظلم، وإنصاف الضعفاء من الأقوياء، وتحقيق المساواة بين الناس، والعناية بأمر القريب والبعيد، والرفق بالمسلمين وأهل الذمة في أوقات اليسر والعسر، والقيام فيهم بالحزم كل الحزم؛ حتى لا يطمع منهم طامع فيما ليس له بحق، ولا يطمح منهم طامح إلى ما لا ينبغي له أن يبلغه، وإنصاف الناس بعد هذا كله وقبل هذا كله وفوق هذا كله من نفسه، كإنصافه بعضهم من بعض أو أشد من إنصافه بعضهم من بعض.
وقد كان عمر — رحمه الله — جديرًا بإمرة المؤمنين حق جدير، وما أقل الذين شاركوه في الجدارة بإمرة المؤمنين من الخلفاء وأشباه الخلفاء!
وأما المشكلة الثانية: التي عرضت لعمر فخرج منها في يسر، فهي مشكلة التاريخ؛ كانت الكتب تَرِد إليه من عماله وقادته ومؤرَّخة بالشهور التي تُكتَب فيها دون أن تُؤرَّخ بالسنين؛ لأن المسلمين لم يكونوا قد اتخذوا لأنفسهم تاريخًا، فضاق عمر بذلك، واستشار أصحاب النبي في تاريخ يُجعَل للناس يؤرِّخون به، فأُشِيرَ عليه بأن يتَّخذ العام الذي هاجر فيه النبي ﷺ من مكة إلى المدينة بدءًا للتاريخ الإسلامي، وكان اختيار هذا العام موفقًا كل التوفيق، ففيه نشأت للمسلمين جماعة منظَّمة مستقلة يقوم النبي على أمرها بما كان الله يوحي إليه من القرآن الكريم، وما كان يلهمه من البيان للقرآن الكريم، وما كان يجتهد رأيه فيه أو يستعين عليه برأي المسلمين.
وقد نشأت هذه الجماعة ضئيلة قليلة ضيِّقة الرقعة محدودة السلطان، ولكن الله كثَّر هذه الجماعة بعد قلَّة، ووسَّع رقعتها بعد ضيق، ونشر سلطانها بعد انقباض، حتى أصبحت جزيرة العرب كلها مستظلة بلواء الإسلام أيام النبي ﷺ، ثم زاد الله أرض المسلمين انبساطًا وسلطان الإسلام انتشارًا، فنظر عمر فإذا هو ليس أمير المؤمنين في المدينة وحدها، ولا في جزيرة العرب وحدها، وإنما امتدت إمرته حتى انبسطت على الشام ومصر وعلى العراق وأكثر أرض الفرس.
وقد قُتِل — رحمه الله — ولم يبقَ من أرض الفرس إلا قليل، فُتِح في أيام عثمان رحمه الله، وقد دبَّر عمر أمر هذا السلطان العريض أحسن تدبير وأدقه وأعدله، لم يُؤخَذ بشيء مما فعل ولم ينكر عليه أحد شيئًا مما أمر به أو نهى عنه، فكان أمير المؤمنين حقًّا لا سبيل إلى أن يُنازَع في ذلك أو يكون ذلك موضوعًا للجدال. ولو أن المشكلات التي عرضت لعمر كانت كلها يسيرة كيسر هاتين المشكلتين لما ظهرت كفايته رائعة ناصعة منقطعة النظير، لا بالقياس إلى المسلمين وحدهم، ولا بالقياس إلى تاريخهم، بل بالقياس إلى العالم كله وإلى تاريخه العام.
وكأنه — رحمه الله — كان يحس إحساسًا قويًّا بأن الله ممتحنه بالخلافة وأعبائها، يمتحنه برعيته ويمتحن رعيته به، ويمتحنه ويمتحن رعيته معه بالمشكلات المعضلات التي ستعرض له ولهم في أيام خلافته كلها، من أول يوم فيها إلى آخر ساعة من ساعات حياته، كأنه كان يحس هذا إحساسًا قويًّا حين خطب المسلمين بعد أن فرغ من أمر أبي بكر، فقال لهم: «إن الله قد ابتلاني بكم وابتلاكم بي.» وكانت خلافته كلها ابتلاء له، وابتلاء لرعيته.
وحسبك أنه لم يكد يفرغ من خطبته القصيرة التي خطب الناس بها، حتى دعا المسلمين إلى جهاد الفرس في العراق، وأخذ في تدبير أمر الشام وأمر الجيش الذي تركه المثنى بن حارثة قليلًا ضئيلًا على حدود العراق، أمر الجيش الذي جعل يستعد لتسييره ليؤدب أهل العراق على انتقاضهم ويثبُت للفرس فيما سيكون من المواقع والخطوب.
وقد عرضت عليك آنفًا ما كان من بلاء المسلمين في الشرق والغرب، وانتصارهم على الفرس والروم وثباتهم لما لقوا من الأهوال، ومهما يكن هذا العرض موجزًا فقد كان تصويرًا موجزًا خاطفًا لأحداث كثيرة خطيرة اتصلت منذ نهض عمر بالخلافة إلى أن تُوفِّي رحمه الله، ولم يُتَح لهذه الأحداث أن تنقطع ولا أن تهدأ إلا بعد أن لحق بصاحبيه في جوار الله عز وجل.
٩
على أن هذه الأحداث الجسام المتصلة التي كانت بعضها يكفي لاستنفاد وقت عمر وجهده كله، لم تكن تمضي دون أن تثير مشكلات ليست أقل منها خطرًا، ولا أذكر تدبير هذه الحروب التي اتصلت في الشرق والغرب، ورعاية الجيوش المحاربة في كثير من العناية بها، والإشفاق عليها، والحرص الدائم على ألا يتعرَّض الجنود لما يشغلهم عن الحرب، أو لما يجعل الحرب عليهم ثقلًا مضاعفًا، وإنما أذكر مشكلات أخرى كانت تنشأ عن الانتصار في الميادين، فقد كانت الجيوش المنتصرة تظفر بالغنائم الهائلة التي لا سبيل إلى وصفها لا من جهة كثرتها ولا من جهة قيمتها، حتى حين نقدر أن الرواة قد أسرفوا في أمرها.
وكان أمر الله في الغنائم ينفذ في دقة أي دقة، فكانت أخماسها الأربعة تُقسَّم على الجنود على النظام الذي شُرِع للمسلمين أيام النبي ﷺ، وكان القادة يتفلون أصحاب البلاء من الجنود، وكان خُمس الغنائم يُرسَل إلى عمر، ثم يتعقَّد الأمر بعد ذلك، فإن الجنود لم يكونوا يظفرون بالغنائم المنقولة التي يمكن أن تُقسَّم ويُرسَل خمسها إلى أمير المؤمنين، وإنما كانوا يظفرون بالأرض ويفرضون الجزية على الذين يؤثرون البقاء على دينهم من المغلوبين.
وقد أصرَّ عمر ألَّا تُقسَّم الأرض، وإنما تُترَك لأهلها يعملون فيها ويعيشون ويُؤدُّون عنها الخراج، فكان عمر إذن يتلقَّى أخماس الغنائم كلما انتصر جيش من جيوشه، وكان يتلقَّى الخراج على الأرض التي يعيش عليها المعاهدون، وكان يتلقى الجزية التي فُرِضت على من لم يسلم من المغلوبين، فكان المال الذي يَرِد عليه أكثر جدًّا مما كان يتوقع، ومما كان العرب يظنون أنه سيُساق إليهم في يوم من الأيام، وكانت الأخماس تَرِد على أبي بكر — رحمه الله — في حروب الردة، وفي بدء الفتح كانت سياسته فيها ساذجة كل السذاجة يسيرة كل اليسر، كان يحفظ منها ما يؤدي به حق الله من أخماس الغنائم، كما بيَّنه في الآية الكريمة من سورة الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ويقسم سائرها على المسلمين قسمة سواء، لا يفرق بين الناس مهما تختلف منازلهم، وكان يسوِّي في هذه القسمة بين الأحرار والأرقَّاء، وكانت الأخماس التي ترد إلى أبي بكر لا تكاد تُذكَر بالقياس إلى ما كان يرد إلى عمر من الشام ومصر، ومن العراق وأرض الفرس. وقد ظهرت له المشكلة خطيرة كل الخطورة حين كثرت الأخماس من جهة، وحين جاء ما كان يُجبَى من الجزية والخراج من جهة أخرى. كان هذا المال أكثر من أن يُقسَّم على الناس، وكان تقسيمه خطرًا، كان نوعًا من السَّرَف، وكان مغريًا للناس بالكسل والاتكال والاعتماد على حظوظهم من الأخماس والجزية والخراج.
وقد شُغِل عمر بهذه المشكلة واهتمَّ لها، ولاسيما بعد أن دخل سعد بن أبي وقاص وجيشه المدائن عاصمة الفرس وأرسلوا إليه خُمس ما غنموا في هذه المدينة، وقد استشار عمر أصحاب النبي في أمر هذا المال، فأما علي — رحمه الله — فأشار عليه بأن يقسم في كل عام ما يجتمع له من المال ولا يمسك منه شيئًا. ومعنى ذلك أنه كان يرى أن يسير عمر سيرة أبي بكر، فيقسم كل ما يصل إليه ويترك بيت المال فارغًا.
وأما عثمان — رحمه الله — فقال: أرى مالًا كثيرًا يسع الناس، إن لم يحصوا، فيُعرَف من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر. ومعنى ذلك أن عثمان أراد أن ينظم تقسيم المال بحيث لا يأخذ بعض الناس ويُحرَم بعضهم. وما أرى أن عثمان كان يريد أن يمسك عمر في بيت المال قليلًا أو كثيرًا، وإنما كان يريد أن يقسم المال بين الناس على نحو لا يوفر المال لبعضهم ويقصر عن بعضهم الآخر.
وقد كان في رأي عثمان شيء من الدقة والجدة معًا؛ فإحصاء الناس في نفسه لون من النظام لم يعرفه العرب من قبل، وهو بعد ذلك جدير أن يمكن أمير المؤمنين من أن يضع المال في حقه ويطمئن إلى أنه لم يمنعه أحدًا من الناس.
ولكنَّ رجلًا من قريش، ومن ذوي قرابة عمر، وهو الوليد بن هشام بن المغيرة أشار بالرأي الصواب حقًّا، وكان رأيه أول تقليد لغير العرب، فقد قال لعمر: إني قد جئت الشام، فرأيت ملوكه قد دوَّنوا ديوانًا، وجنَّدوا جنودًا، فدوَّن ديوانًا، وجنَّد جنودًا. وقد أخذ عمر برأي الوليد بن هشام، فكلف ثلاثة من قريش، هم: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم. وكانوا من نُسَّاب قريش، أن يكتبوا الناس على قبائلهم، وأن يبدءوا ببني هاشم لقرابتهم من رسول الله ﷺ.
ومعنى الرأي الذي أشار إليه الوليد بن هشام ألَّا يُقسَّم المال على الناس لغير غرض معروف، وإنما يُنفَق لغرض جدير أن يُنفَق فيه. وهذا الغرض هو تجنيد الجنود، فإذا جند الجنود وجب على أمير المؤمنين أن يعطيهم أعطياتهم من هذا المال، وأن يترك لهم حقهم من الغنيمة بعد ذلك. والجنود لم يكونوا يعيشون قبل تجنيدهم منفردين، وإنما كانوا يعيشون في أُسَرِهم، لهم أبناؤهم وآباؤهم وإخوتهم، ولا بد من أن يُمكَّن هؤلاء الذين تركهم الجنود للجهاد في سبيل الله من الحياة، فلهم إذن حقهم في العطاء. فإذا أُعطِي الجند، وأُعطِيت أُسَرهم، وأُعطِيَ الذين يحتاجون إلى المال ما يَقُوم بحاجتهم، وبقي بعد ذلك شيء عند الخليفة، فيجب عليه أن يمسكه في بيت المال عُدَّة لما يحدث من الأحداث، ولما قد يحتاج إليه المسلمون من المعونة في أوقات الشدَّة والضِّيق.
فاقتراح الوليد بن هشام إذن لا ينظم قسمة المال فحسب، وإنما يجعل فيه للجند حقًّا إلى ما يكتسبون بأنفسهم من الغنائم، ويقوم بأمر أسرهم، ويُغنِي من احتاج من المسلمين، ويدخر في بيت المال ما يكون عُدَّة للأحداث حين تَحْدُث وللنوائب حين تَنُوب.
وكان تنظيم عمر للعطاء بعد أن كتب له الديوان لا يخلو من طرافة، لم يسوِّ بين الناس في أعطياتهم وإنما جعلهم طبقات وأنزل كل طبقة منزلتها. وقد لُوحِظ شيء من هذا فيما أصدر من أمر إلى كتاب الديوان بأن يبدءوا ببني هاشم، ثم بالأقرب فالأقرب من رسول الله ﷺ، وقَد رأيت آنفًا ما فعل حين جعل كُتَّاب الديوان بني تيم رهط أبي بكر في إثر بني هاشم، وبني عديٍّ رهط عمر في إثر بني تيم، فأبى عمر، وقال: ضعوا عمر حيث وضعه الله.
ومن المحقَّق فيما أرى أنه لم يُؤخِّر نفسه وقومه فحسب، وإنما أخَّر بني تيم رهط أبي بكر أيضًا إلى موضعهم من قرابة النبي، على أنه في تنظيم العطاء نَظَرَ إلى القرابة من رسول الله بالقياس إلى بعض الناس، ففضَّل أقرب الناس إلى النبي على سائر بني هاشم، ثم رتَّب الناس في العطاء على قدمهم وسابقتهم في الإسلام، وعلى بلائهم في الإسلام أيضًا، وعلى قراءتهم للقرآن؛ ففرض للذين هاجروا قبل فتح مكة ثلاثة آلاف لكل واحد، منهم: أحرارهم وعتقائهم، وفرض للذين شهدوا بدرًا خمسة آلاف درهم في العام، وللذين هاجروا إلى الحبشة والذين شهدوا أُحُدًا أربعة آلاف، ولمن شهد الأحداث من أبناء المهاجرين والبدريين ثلاثة آلاف إلا الحسن والحسين رحمهما الله، ففرض لهما مثل ما فرض لأبيهما خمسة آلاف لكل واحد منهما.
وفضَّل أسامة بن زيد على أترابه من أبناء المهاجرين، ففرض له أربعة آلاف، وقد كلمه في ذلك ابنه عبد الله، فقال: فرضتَ لي ثلاثة آلاف ولأسامة بن زيد أربعة آلاف؟ فقال عمر: فضلته لأنه كان أحب إلى رسول الله ﷺ منك، ولأن أباه كان أحب إلى رسول الله من أبيك. وفرض لعمر بن أبي سلمة أربعة آلاف، فعارض في ذلك محمد بن عبد الله بن جحش، وقال: لِمَ تُفضِّل ابن أبي سلمة علينا، وقد هاجر آباؤنا وشهدوا المشاهد؟! فقال عمر: أفضله لمكانه من النبي ﷺ فليأتِ الذي يستعتب بأم مثل أم سلمة أعتبه. وفضَّل العباس بن عبد المطلب، ففرض له خمسة آلاف درهم، وفضَّل أزواج النبي ﷺ على الناس جميعًا؛ ففرض لكل واحدة منهن اثني عشر ألف درهم.
ثم أنزل الناس بعد ذلك منازل؛ ففرض لكثير منهم ألفين وخمسمائة، ولآخرين ألفين ألفين. ثم جعل يُنزِل الناس منازلهم حتى كان آخر عطاء فرضه ثلاثمائة درهم لم ينقص أحدًا من هذا، وفرض لكل طفل فطيم مائة درهم، فإذا ترعرع زاد عطاءه إلى مائتين، فإذا بلغ وضعه في منزلة أمثاله. على أنه غيَّر نظام العطاء بالقياس إلى الأطفال حين رأى امرأة تعجل ابنها عن الفطام، فروَّعه ذلك ترويعًا شديدًا حتى صلَّى صلاة الصبح غداة تلك الليلة التي رأى فيها هذه المرأة وطفلها، وما يستبين صوته من البكاء، فلما فرغ من صلاته قال: يا بؤسي لعمر! كم قتل من أبناء المسلمين! ثم أمر المنادين فنادوا في الناس ألا لا تُعجلوا أبناءكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى عماله في الأقاليم؛ ومعنى ذلك أن الطفل كان يأخذ وليُّه عطاءه منذ يُولَد ولا ينتظر به الفطام. وجعل للقيط مائة درهم يأخذها وليُّه ويدخرها له، وجعل رضاعه ورزقه من بيت المال يصيب وليه حق ذلك في كل شهر، فإذا ترعرع اللقيط زِيدَ عطاؤه، وكان شأنه شأن أطفال المسلمين.
وقد فرض عمر لنساء أرامل عطاء، فجعل لصفية بنت عبد المطلب ألف درهم، ولأسماء بنت عميس زوج أبي بكر ألف درهم، ولأم عبد الله بن مسعود ألف درهم.
وكان عمر يعطي الناس أعطياتهم بنفسه في المدينة، وكان يحمل ديوان القبائل القريبة من المدينة والبعيدة عنها قليلًا، فيسعى به إليها، ويعطي الناس، ويعطي النساء أعطياتهن في أيديهن، ويأمر عماله أن يعطوا الناس على النظام الذي وضعه، لا يمنع العطاء إلا عن الأرقاء الذين لم يُعتَقوا، وأي رقيق حُرِّر فعطاؤه كعطاء مولاه.
هذا هو النظام الذي فرضه عمر للعطاء، رواه الرواة على نحو ما صورناه لك، ولا أشك في أنه يحتاج إلى بعض التحقيق، ولكن النصوص تعوزنا مع الأسف الشديد.
١٠
ونظامُ العطاء هذا كما فرضه عمر جديدٌ من جميع نواحيه، لا نعرف أن أمة من الأمم التي سبقت العرب إلى الحضارة عرفته أو عرفت شيئًا قريبًا منه، وإنما نعرف أن بعض الأمم القديمة كانت تستأجر الجنود للحرب ولا تحرمهم نصيبًا من الغنائم قليلًا أو كثيرًا، ونعرف أن بعض الحكومات القديمة كانت تُقطِع الجنود أجزاء من الأرض إذا تقدمت بهم السن يعيشون من غلَّاتها؛ فأما أن تكفل الدولة رزق المسلمين جميعًا على هذا النحو فلسنا نعرفه في التاريخ القديم، وما أظن أن الحضارة الحديثة وُفِّقت إليه.
وكل ما وصلت إليه الحضارة الحديثة في بعض البلاد، ووصلت إليه بأخرة، إنما هو التأمين الاجتماعي الذي تُؤخَذ نفقاته من الناس لِتُرَدَّ عليهم بعد ذلك، حين يحتاجون في بعض الأمر إلى العلاج حين يمرضون، وإلى كفالة الحياة للشيوخ والضعفاء والعاجزين عن العمل لكسب القوت، وتأمين العمال من أخطار العمل، وتأمين الذين يخدمون الدولة والهيئة الاجتماعية على رزقهم حين تنقضي خدمتهم، فأما أن يكون لكل فرد من أفراد الأمة نصيب مقسوم من خزانة الدولة فشيء لم يُعرَف إلا منذ عمر رحمه الله.
على أن سياسة عمر هذه لم تتصل بعد وفاته إلا شطرًا من حياة عثمان، ثم عدل عن هذا النظام حين أنكر الناس على عثمان كثرة ما كان يعطي بعض الناس، وقد دفعهم ذلك إلى أن يُلِحُّوا على عثمان — رحمه الله — في إلغاء العطاء وقصره على الجند، ولم يستثنوا من ذلك إلا الشيوخ من أصحاب النبي ﷺ. وذلك واضح؛ لأن أصحاب النبي شهدوا المشاهد معه، وقاتلوا المرتدين، وشارك كثير منهم في الفتوح.
وقد اضطر عثمان إلى أن يستجيب للمعارضين، ويعلن في بعض خطبه إلغاء العطاء لغير أصحاب النبي ﷺ والجند، وكان الذين اعترضوا على عثمان يقولون حين ألحوا عليه: إنما هذا المال لمن قاتل عليه. وقد فصلنا ذلك في غير هذا الحديث.
١١
على أن الحضارة الحديثة أتاحت لبعض الأمم أن تجعل الدولة للأطفال فيها رزقًا منذ يُولَدون، وذلك حين يقل عدد المواليد وتتعرض الأمة للنقصان والضعف عن الدفاع إذا دهمتها الخطوب؛ فالدولة لا ترزق الأطفال لأن رزقهم واجب، وإنما ترزقهم وتشجِّع الناس على الإكثار من الولد؛ لأنها محتاجة إلى الشباب الذين ينهضون بالخدمة العامة في فروع الحياة على اختلافها، ويدافعون عن الوطن حين يتعرَّض للخطر، ولا كذلك ما فعل عمر رحمه الله، إنما فرض العطاء للأطفال؛ لأنه كان يرى ذلك حقًّا لهم.
ظنَّ أول الأمر أن حقَّهم يبدأ منذ يُفطَمون، فلما رأى أن بعض الناس يعجلون فطام أطفالهم آذاه ذلك أشد الإيذاء، وأفزعه أعظم الفزع؛ ففرض للأطفال عطاءهم منذ يُولَدون كما قدمنا آنفًا.
ونظام اللقطاء عند عمر طريف أيضًا، وما أعرف أن الدول الحديثة تُعنَى بهم على نحو ما كان يُعنَى بهم عمر رحمه الله، وإنما تقوم بأمرهم جماعات منظمة، بعضها دينية، وبعضها حرة تعينها الدولة، ولم تعرف الدول الحديثة المتحضرة أن لهؤلاء اللقطاء حقًّا معلومًا من خزانة الدولة، يُنفَق عليهم بعضه ويُدَّخَر لهم بعضه الآخر حتى إذا رشدوا وجدوا أمامهم شيئًا يتكئون عليه، كما كان عمر يقول ذلك إلى ما كان يفرض لهم من العطاء حين يرشدون.
ولذلك ابتكر عمر لونًا من النظام الاجتماعي قوامه تأمين الناس على حياتهم من بيت المال، وكان عمر يؤمن إيمانًا قويًّا لأنه لا يعطي الناس هذه الأعطيات تبرعًا منه لهم أو تفضلًا منه عليهم، وإنما كان يرى أن لهم حقًّا من كل ما يُجبَى إلى بيت المال، سواء أقلَّ هذا الحق أم كَثُر، وكان يقول: والذي نفسي بيده ما من واحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حقه، أُعطِيَه أو مُنِعَه. وكان يقول كذلك: والله لئن عشت ليأتين الراعي حقه من هذا المال قبل أن يحمرَّ وجهه في طلبه. يريد أنه كان حريصًا على أن يصل العطاء إلى أصحابه، من قَرب منهم ومن بَعُد، دون أن يسعوا إليه ليطلبوه، فضلًا عن أن يتكلفوا الجهد في هذا السعي.
ومن الناس من ظن أن عمر حين أنزل الناس منازلهم من العطاء، فأكثر عطاء بعضهم وأقلَّ عطاء بعضهم الآخر، وجعل حقَّهم في بيت المال درجات بعضها فوق بعض؛ أنه كان يؤثر نظام الطبقات. وهذا خطأ كل الخطأ، فلم يكن عمر يؤثر نظام الطبقات، ولا يفضل بعض الناس على بعض، ولو قد فعل لخالف عن نظام الإسلام خلافًا شنيعًا، وقد كان عمر آخر من يجرؤ على المخالفة عن أمر الله الذي جعل الناس سواء لا يتفاضلون إلا بالتقوى، والذي كان ينتصف من الغني للفقير، ومن القوي للضعيف، ومن أقل الناس خطرًا من العمال والأمراء؛ ليس هو الذي يُقال فيه إنه كان يُؤْثِر نظام الطبقات، ولكن ما كان يرد إلى بيت المال من الخراج والجزية والأخماس كان أقل من أن يَسَعَ المسلمين كلهم على سواء؛ فكان يُفضِّل بعضهم على بعض بالقِدَم في الإسلام وبالسابقة وحسن البلاء، وكان يُفضِّل قرابة النبي ﷺ؛ لأنه كان يؤمن إيمانًا عميقًا بأن العرب إنما شرفت بالنبي، وبأن أقاربه الأدنين أحق بالفضيلة من غيرهم، وكان يقدِّم الذين آسوا رسول الله بأنفسهم شاركوه فيما لقي من الشدة والجهد والضيق، وقاتلوا أعداءه وأعداء الإسلام، على الذين كادوا للنبي وقاتلوه ولم يستجيبوا للإسلام إلا كارهين، حين لم يكن لهم من الاستجابة بد، وكان مع ذلك يقول: لئن كثر المال لأزيدن الناس في العطاء. وكان يقول أيضًا: لئن كثر المال لألحقنَّ آخر الناس بأولهم. وكان يريد أن يجعل لكل مسلم أربعة آلاف درهم؛ ألفًا لفرسه وبغله، وألفًا لسلاحه، وألفًا لأهله، وألفًا لنفقته. ولكن الموت أعجله عن ذلك، وكان يقول: لئن زاد المال لأعدَّنه لهم عدًّا، فإن أعياني لأكيلنَّه لهم كيلًا، فإن أعياني لأحسونَّه لهم بغير حساب.
وما كان لعمر أن يسوِّي في العطاء بين من قاتل على الإسلام ناشرًا له ومدافعًا عنه، ومن أقام هادئًا في عافية لا يقاتل ولا يتعرَّض لخطر. وما كان له أن يسوي بين من عاشر النبي وأبلى معه في سبيل الله وبين من لم يلقَ النبي وإنما أسلم بأخرة أو أسلم بعد وفاة النبي، وما كان له كذلك أن يسوي بين الذين أقاموا على إسلامهم لم يخالفوا عنه ولم يخرجوا منه وبين الذين أسلموا ثم كفروا ثم عادوا إلى الإسلام بقوة السيف والسنان.
كل ذلك لم يكن عمر يستطيعه، والمال أقل من أن يَسَع الناس جميعًا على السواء، وما أراه كان يفعله لو كثر المال، وإنما كان يريد أن يجعل الناس سواء دون أن ينزل بأصحاب السابقة والبلاء عن منازلهم. كان يرى تمييز هؤلاء حقًّا عليه؛ لأنهم أتقى الناس وأئمتهم ومعلموهم؛ عنهم يُؤخَذ الدين، وبسيرتهم يقتدي عامة الناس. وحياة هؤلاء الأئمة من أصحاب النبي ﷺ محدودة بآجالهم، فإذا اختارهم الله لجواره تمَّت المساواة بين الناس ولم يُميَّز أحد من أحد، ولم يُفضَّل إنسان على إنسان.
ذلك كله لو حافظ الخلفاء بعد عمر على سياسته وعلى النظام الذي وضعه، فكيف ولم ينقضِ على وفاة عمر إلا قليل من الوقت حتى ظهرت الأثرة، واستبق الناس إلى الغنى، وفُضِّل بعضهم على بعض في منازلهم من الخلفاء، ورأى الخلفاء أن من حقهم أن يأخذوا من بيت المال ما شاءوا، يؤثرون به أنفسهم ويحبون به أحب الناس إليهم؟!
وقد أُنكِر شيء من ذلك على عثمان نفسه رحمه الله؛ أعطى مروان بن الحكم مرة فأسرف، وبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فلم يُقِرَّهُ، وإنما وثب فأخذ هذا المال من مروان وقسمه بين الفقراء في المدينة، فلما جاء معاوية ظن أنه خليفة الله في الأرض، وأن مال الله ماله يصنع به ما يشاء، ويضعه حيث أحب، وقد حارب عليًّا — رحمه الله — بالمال، فكان يشتري بعض أصحابه بالجوائز الضخمة. ومعاوية قد لقي النبي وصحبه، فكيف بمن جاء بعده من الخلفاء الذين لم يلقوا النبي ولم يصحبوه؟! أولئك هم الذين ميزوا بعض الناس من بعض، وفضَّلوا بعض الناس على بعض، وجعلوا الناس طبقات. فأما عمر فلم يفكر في شيء من ذلك ولم يَمِل إليه؛ كانت طبيعته تأبى عليه ذلك؛ لأنه كان أحرص الناس على الاقتداء بالنبي ﷺ ما استطاع إلى الاقتداء به سبيلًا، وكان أخوف الناس لله وأشدهم خشية لحسابه، وكان من أجل ذلك يكثر أن يقول: وددت لو أني خرجت منها كفافًا لا عليَّ ولا لي. فأخذ صفو الدنيا وترك كدرها، كما كان يقول الحسن البصري رحمه الله.
١٢
ولم يكتفِ عمر بما فرض للمسلمين من العطاء وما ضمن لهم من الأمن على حياتهم، ولكن المسلمين لم يعرفوا في عصر من عصورهم راعيًا كان أرفق برعيته من عمر؛ فقد كان حريصًا على ألا يكفل لهم الأمن وحده، وإنما يكفل لهم مع ذلك الدعة والراحة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. كان يُعِدُّ الخيل والإبل ليحمل عليها في سبيل الله، كان يحمل الناس إلى الشام وإلى العراق ليلحقوا بالجند، أو ليكتسبوا حياتهم هناك، وكان يحمل الحاج إلى مكة، وكان إذا أراد أن يحمل رجلًا على راحلة أعدَّ له أداة سفره، فلم يُعطِهِ الراحلة وحدها وإنما أعطاه كل ما يحتاج إليه. كان يفعل ذلك مما كان يبقى له من أموال الصدقة بعد أن يرُدَّ أكثرها على فقراء العرب، ومما كان يرد إليه من أخماس الغنائم؛ إنفاذًا لآية الصدقات من سورة التوبة ولآية الغنائم من سورة الأنفال.
وكان لا يقف عند ذلك، وإنما كان يتفقد الناس في المدينة وما حولها، يقوم بحاجة ذوي الحاجات منهم، يفعل ذلك بنفسه في النهار وفي الليل، ويأمر عماله أن يفعلوا ذلك، ويخاف كل الخوف أن يُقصِّر العمال في إنفاذ أمره، ولم يكن يخشى شيئًا كما كان يخشى أن يكون لأحد من أهل الأمصار حاجة لا يقوم بها عماله ولا يستطيع صاحب الحاجة أن يصل إليه ليقوم بها وأن يسأله الله عن ذلك، وكان يقول: لو أن جملًا هلك ضياعًا على شاطئ الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه. وكان إذا أصاب الجرب بعيرًا من إبل الصدقة وضع يده على موضع الداء منه وقال: إني لأخشى أن يسألني الله عمَّا بك. وكان يعد إبل الصدقة بنفسه، ورآه مرة من رآه وقد وقف في حر الشمس يعد هذه الإبل، ومعه علي وعثمان؛ يقول لعلي، ويملي عليٌّ على عثمان، فيكتب عثمان ما يُملَى عليه؛ فقال عليٌّ لعثمان: إن هذا لكما؛ قالت بنت شعيب لأبيها في موسى: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.
ويقول الرواة: إن عمر أول من عسَّ في المدينة ليلًا، فكان إذا تقدم الليل خرج فطوَّف في المدينة مرة وحده، ومرة مع أحد مواليه، وله في هذا العسس طرائف تثير الابتسام وتثير الإعجاب معًا؛ كان يعس ليلة فسمع امرأة تقول:
فلما أصبح سأل عن نصر بن حجاج، فأُنبِئ بأنه رجل من سليم، فأمر بإحضاره، فلما نظر إليه رأى رجلًا من أحسن الناس وجهًا وأجملهم شعرًا، فأمره أن يقص شعره، فلما عاد إليه رآه قد ازداد حسنًا، فأمره أن يَعْتَمَّ، فلما رآه بعد ذلك إذا العمامة قد زادته جمالًا، فأقسم عمر لا يساكنه هذا الرجل أبدًا؛ فأمر له بما يُصلِحه وسيَّره إلى البصرة جنديًّا.
وعسَّ ليلة أخرى، فسمع نسوة يتحدثن ويتساءلن: أي أهل المدينة أصبح؟ قالت إحداهن: أبو ذئب. فلما أصبح سأل عن أبي ذئب هذا، فقيل له: رجل من سليم. فدعا به، فلما رآه، رآه رجلًا جميلًا، فقال: أنت ذئبهن؟! يعيدها ثلاثًا، ثم أمره بمثل ما أمر به صاحبه؛ فلم يزدد إلا حسنًا؛ فأقسم لا يساكنه في بلد هو به، قال الرجل: فإن كنت مُسيِّري فألحقني بابن عمي، يريد نصر بن حجاج، فأمر له بما يصلحه، وألحقه بابن عمه في البصرة.
وعسَّ ليلة أخرى حتى كاد يبلغ ظاهر المدينة، فرأى رجلًا قد جلس منفردًا أمام بيت له وبين يديه مصباح، فاستأذن عمر، ثم دنا من الرجل، فسلم عليه، ثم سأله: ما جلوسك ها هنا منفردًا وقد تقدم الليل؟ ثم لم يلبث عمر أن سمع شكاة داخل البيت، وأنبأه الرجل أن امرأته قد جاءها المخاض، وأنها وحدها، وأنه لا يقدر لها على شيء، فانصرف عمر عن الرجل مسرعًا حتى دخل على زوجه أم كلثوم، فقال لها: هل لك في خير ساقه الله إليك؟ قالت: وما ذاك؟ قال: امرأة جاءها المخاض وليس لها من يعينها. فأسرعت زوجه فخرجت معه، حتى إذا بلغ ذلك الرجل، دخلت أم كلثوم على المرأة، فما زالت تُعِينها حتى وضعت غلامًا، قالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين، بشِّر صاحبك بغلام. قال الرجل: أصلحك الله! لِمَ لم تنبئني بأنك أمير المؤمنين؟ وأصبح عمر، فأرسل إلى هذا الرجل وأهله ما يعينهم ويصلحهم.
وعسَّ ليلة أخرى، فرأى رجلًا من أهل المدينة جالسًا على شراب له، فانصرف عنه وقد عرفه، فلما أصبح دعاه، فقال له: أليس قد نهاك الله عن الخمر؟! قال الرجل: بلى. قال عمر: فما شراب كنت جالسًا عليه البارحة؟! قال الرجل: من أنبأك بذلك؟ قال عمر: أنا رأيتك. قال الرجل: ألم يَنْهَكَ اللهُ عن التجسس يا أمير المؤمنين؟! فسكت عمر، واستغفر الله.
ولم يكن عمر رفيقًا بالمسلمين في المدينة وحدها، ولكنه كان رفيقًا بالقريب منه والبعيد عنه، حريصًا على أن يعرف أمر المسلمين في الأمصار، ولا يقدم عليه قادم إلا سأله عن الناس فأكثر السؤال، ثم لم يكن يكفيه أن يرفق بالمسلمين في حاضرهم الذي يعيشون فيه، وإنما كان يفكر في مستقبل أيامهم وينصح لهم في أمرهم كله بعد أن يفارقهم إلى جوار ربه.
قدم عليه يومًا خالد بن عرفطة من العراق، فسأله عمن وراءه، فقال: يا أمير المؤمنين، تركت مَن ورائي يسألون الله أن يزيد في عمرك من أعمارهم؛ ما وطئ أحد القادسية إلا عطاؤه ألفان أو خمس عشرة مائة، وما من مولود يُولَد إلا أُلحِق على مائة وجريبين كل شهر ذَكَرًا كان أو أنثى، وما يبلغ لنا ذَكَر إلا أُلحِق على خمسمائة أو ستمائة، فإذا خرج هذا لأهل بيت منهم من يأكل الطعام ومنهم من لا يأكل الطعام، فما ظنك به؟! فإنه لينفقه فيما ينبغي وفيما لا ينبغي. قال عمر: فالله المستعان، إنما هو حقهم أُعطوه، وأنا أسعد بأدائه إليهم منهم بأخذه، فلا تحمدني عليه، فإنه لو كان من مال الخطاب ما أُعطِيتموه، ولكني قد علمت أن فيه فضلًا فلا ينبغي أن أحبسه عنهم، فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء العريب ابتاع منه غنمًا فجعلها بسوادهم، ثم إذا خرج العطاء الثانية ابتاع الرأس فجعله فيها، فإني — ويحك يا خالد بن عرفطة — أخاف عليكم أن يليكم بعدي ولاةٌ لا يُعَدُّ العطاء في زمانهم مالًا، فإن بقي أحد منهم أو أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه فيتكئون عليه؛ فإن نصيحتي لك وأنت عندي جالس كنصيحتي لمن هو بأقصى ثغر من ثغور المسلمين؛ وذلك لما طوَّقني الله من أمرهم؛ قال رسول الله ﷺ: «من مات غاشًّا لرعيته لم يرح رائحة الجنة.»
وكان رفقه بالقريب والبعيد من المسلمين وفاء بما أعطى على نفسه من العهد يوم ولي الخلافة، فقد أنبأ في خطبته التي خطبها بعد أن فرغ من دفن أبي بكر — رحمه الله — بأن ما حضره من أمر المسلمين باشره بنفسه ولا يباشره أحد دونه، وما غاب عنه من أمرهم ولَّاه أهل الأمانة والكفاية، فإن أحسن هؤلاء الولاة زادهم إحسانًا وإن أساءوا نكَّل بهم، فلم يغير طول خلافته من ذلك العهد شيئًا.
وكتب يومًا إلى بعض عماله أَنْ أعطِ الناس أُعطِيَاتِهم، فكتب إليه عامله ذاك: إنَّا قد أعطيانهم وبقي شيء كثير. فكتب إليه عمر: إن هذا الفضل الذي بقي عندك إنما هو فيئهم الذي أفاء الله عليهم ليس هو لعمر، ولا لآل عمر؛ فاقسمه بينهم.
١٣
وهذا الرفق، وهذا الحرص على أداء الحق إلى أهله، هما اللذان جعلاه شديدًا كل الشدة على ولاته؛ فكان لا يولي منهم أحدًا إلا كتب ماله قبل أن يذهب إلى عمله، فإن رآه قد زاد على هذا المال قاسمه هذه الزيادة، وقد رأيت تشديده في حساب خالد بن الوليد بعد عزله، وقد قاسم جماعة من ولاته أموالهم بعد عزلهم، وكان شديد المراقبة لهم أثناء ولايتهم، ولم تكن تأتيه شكوى من أحد من الرعية إلا حققها.
وكان يرسل بعض أصحاب النبي ﷺ لتحقيق ما يبلغه من شكاة الناس؛ أرسل محمد بن مسلمة — رحمه الله — وأمره بالتفتيش الدقيق على عمرو بن العاص في مصر، وأرسله إلى الكوفة حين بلغه أن واليها سعد بن أبي وقاص — رحمه الله — قد اتخذ لدار الإمارة بابًا، وكان عمر يتقدم إلى عماله دائمًا في ألَّا يتخذوا أبوابًا لدورهم تمنع الناس من الدخول إليهم في حاجاتهم، فلما بلغه أن سعدًا قد اتخذ لقصر الإمارة بابًا يريحه من ضوضاء السوق أرسل محمد بن مسلمة، وأمره إذا بلغ الكوفة أن يعمد إلى هذا الباب فيحرقه قبل أن يُكلِّم سعدًا أو يسمع منه؛ ففعل ذلك ابن مسلمة.
وزعم الرواة أن سعدًا أراد أن يعطي بن مسلمة شيئًا من مال فأبى عليه، وعاد إلى عمر فأنبأه بما فعل. وشكا بعض الناس من سعد وغلوا في شكواهم، فأرسل محمد بن مسلمة مرة أخرى، وأمره أن يسأل الناس مستقصيًا عن سيرة سعد فيهم، فذهب محمد بن مسلمة إلى الكوفة، فسأل الناس أفرادًا وجماعات، فلم يسمع إلا ثناء على سعد إلا نفرًا زعموا أنه لا يحسن يصلي؛ فعزله عمر، فلما بلغ المدينة سأله عمر: كيف كنت تصلي؟ قال سعد: كنت أطيل في الأوليين وأقصر في الأخريين. قال عمر: ذلك الظن بك يا أبا اسحاق. وقاسمه ماله مع ذلك، فلما طُعِن أوصى الخليفةَ من بعده أن يولِّي سعدًا فإنه لم يعزله عن عجز ولا عن خيانة.
وكان لا يمل من أن يقول لأهل المدينة ولمن ورد عليه من أهل الأمصار: إني لم أرسل عمالي ليضربوا أبشار الناس ولا ليظلموهم، وإنما أرسلتهم ليُعلِّموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويقسموا بينهم فيئهم، ويقيموا أمرهم كله على العدل. وكان كثيرًا ما يتقدَّم إلى عماله في ألَّا يضربوا المسلمين فيذلوهم، ولا يحرموهم فيكفروهم، ولا ينزلوهم الغياض فيضيعوهم. وكان لا يرى أحدًا من بعض جيوشه إلا سأله عن أمره كله وعن أمر الجند وعن سيرة قوادهم فيهم، وكان يكره أن يطيل العرب مقامهم فيما يُفتَح عليهم من المدن مخافة أن يتأثروا بهذه الحياة الحضرية التي لم يألفوها.
١٤
ورأى بعض أفراد الجيش الذي فُتِحت عليه المدائن، فلاحظ تغير ألوانهم، فسألهم عما غيَّر ألوانهم؛ فقالوا: وخامة البلاد وطعام لم نألفه. فكتب إلى سعد: إن العرب لا تصلح إلا على ما تصلح عليه إبلها، فارْتَدْ لهم مكانًا بريًّا بحريًّا؛ فأنزلهم به.
فيقول الرواة: إن سعدًا أرسل من يرتاد له أرضًا على ما وصف عمر، فجاءه رواده وقد اختاروا له المكان الذي بُنِيَتْ فيه مدينة الكوفة.
وبمثل ما أمر سعدًا أمر عتبة بن غزوان — رحمه الله — فاختار له المكان الذي بُنِيَتْ فيه مدينة البصرة، وأنزل جنود المسلمين المحاربين للفرس في هاتين المدينتين على أن تكونا معسكرين للمسلمين يقيم كل جند في معسكره، وتخرج من هذا المعسكر بعوث لحرب العدو، ونظم أمر هذه البعوث تنظيمًا دقيقًا؛ فكانت الجنود لا تُجمِّر، والتجمير هو أن يغيب الجندي عن معسكره أكثر من ستة أشهر. وكان هذا هو الذي حمل عمر على أن ينظِّم الأقاليم أو الأمصار بلغة ذلك العصر، فجعل دولته أمصارًا، وهي: الكوفة، والبصرة، والشام، والجزيرة، والموصل، ومصر، واليمن، والبحرين.
وكان يرسل الوالي على كل مصر ويُقسِّم الأمصار الكبيرة إلى الكور، فيكون أمر المصر وما فيه من الكور إلى الوالي الذي أرسله، ويكون أمر الكور بكل مصر إلى واليه، يختار لها العمال مستقلًّا بذلك أحيانًا، وعن أمر عمر أحيانًا أخرى، وكان عمال الكور يقيمون الأحكام في كورهم، ويجبون ما يُفرَض على أرضها من خراج، وما يُفرَض على الذميِّين من جزية. وقد نظَّم عمر أمر الجزية تنظيمًا دقيقًا لا يخرج الولاة والعمال عنه، فجعل على كل غني من الذميين ثمانية وأربعين درهمًا في كل عام، وعلى الرجل من أوساط الناس أربعة وعشرين درهمًا، وعلى الفقير اثني عشر درهمًا، وقال: لا يعجز الرجل منهم درهم في كل شهر.
وأكبر الظن أنه أجرى خراج الأرض على مثل ما كان يجري عليه في عهد الفرس والروم قبل الفتح، فكان عمال الكور يجبون هذه الأموال، ويرسلونها إلى ولاة الأمصار، وكان ولاة الأمصار يعطون منها الناس أعطياتهم، وينفقون منها فيما ينوبهم، ويرسلون ما بقي إلى عمر كما يرسلون إليه أخماس الغنائم، ومن كل ما كان يصل إلى عمر من هذه الأموال ومما يبقى له من أموال الصدقة كان يعطي الأعطيات وينفق فيما ينوبه من أمور المسلمين.
وعلى هذا النظام أقام عمر نظام الدولة التي فُتِحت عليه، وكان يجعل إلى جانب كل والٍ رجلًا آخر يتولَّى أمر بيت المال في المصر؛ فكان له إذن ولاة يقيمون للناس صلاتهم، ويعطونهم أعطياتهم، ويدبرون لهم أمورهم، وعمال يقومون على بيت المال يتلقون ما يُجبَى في الكور، ويعطون الوالي ما يؤدي منه إلى الناس أعطياتهم، وما يحتاج إليه من نفقة فيما ينوبه، ثم يؤدون إلى عمر ما بقي من المال وحساب ما أنفق منه، فكان عمر إذن عالمًا بموارد الدولة ومصادرها، لا يغيب عنها من أمر هذا المال شيء، وكان أصحاب بيوت الأموال حراصًا أشد الحرص على الدقة كل الدقة في أمر ما عندهم من الأموال وفي أداء حسابها إلى أمير المؤمنين، بحيث يستطيع عمر أن يقف على كل شيء وأن يحاسب الولاة على ما أنفقوا وعلى ما اكتسبوا.
وكان على ذلك يحج الناس في كل موسم ما عدا السنة الأولى لخلافته؛ فإنه ولَّى فيها عبد الرحمن بن عوف — رحمه الله — الحج بالناس، وكان إذا خرج للحج تقدَّم إلى ولاته في أن يوافوه كل على رأس من يحج من مصره، فكان ذلك يتيح لعمر أن يلقى الولاة ويلقى وفود الرعية، فيسأل الولاة عن رعيتهم ويسأل الرعية عن ولاتهم، وكان يقص أفراد الرعية من الولاة إذا ظلموهم أو مسُّوهم بأذى، وقد كلَّمه عمرو بن العاص في ذلك، وقال له: أتقص من الوالي إذا أدَّب رجلًا من رعيته؟! قال عمر: أجل، وما لي لا أفعل وقد رأيت رسول الله ﷺ يقص من نفسه؟!
وكان كثيرًا ما يقول للرعية: أيما رجل مسه عامله بأذى فليرفع ذلك إليَّ أقصصه من واليه.
وكذلك أقام هذا الرجل العربي الذي لم يعرف الحضارات الأجنبية معرفة مفصَّلة ولا دقيقة نظام الدولة على نحو يكفل منافع الناس، ويكفل لهم العدل والإنصاف، ملائمًا بين ما أُتِيح له من الرأي في شئون الحكم للبلاد الأجنبية المفتوحة وبين أصول الإسلام، لا ينحرف عنها قِيد شعرة، ولا يمس مصالح الناس قليلًا ولا كثيرًا، وكان حريصًا أشد الحرص وأقواه على إنصاف المغلوبين الذين لم يدخلوا في الإسلام إنصافًا كاملًا، يأخذ منهم الجزية والخراج بالقسط والمعروف، ثم يلح على ولاته من إنصافهم دائمًا مذكرًا لهم بأنهم ذمة الله ورسوله، قد أعطاهم المسلمون عهدًا أن يؤدوا إليهم العدل والحق كله وأن يحموهم من كل عادٍ عليهم إذا أدوا ما عليهم من الحقوق.
والله — عز وجل — يأمر المسلمين أن يفوا بالعهود إذا عاهدوا، فقال في سورة النحل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ.
ولم ينسَ عمر الذميين حين أوصى المسلمين بعد أن أحس الموت، فأوصاهم بأهل الذمة وألح في وصيتهم.
على أن عمر لم يجعل إلى الولاة وحدهم إجراء العدل بين الناس، وإنما أرسل القضاة إلى الأمصار لِيُجرُوا أحكام الله بين الناس، غير متأثرين إلا بكتاب الله وسنَّة رسوله، فإن لم يجدوا في الكتاب ولا في السنة نصًّا اجتهدوا رأيهم وتحروا العدل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ولم يكن القضاة يخضعون للولاة في شيء، وإنما كان عمر هو الذي يختارهم، فإذا اختارهم وكلَّفهم أمر القضاء ليس لأحد عليهم سلطان إلا سلطان الله — عز وجل — بمقتضى ما أوحى إلى نبيه من الكتاب وما ألهمه من السنن.
١٥
وأقبل عام الرمادة في أعقاب سنة ثماني عشرة بعد أن صدر الناس من الحج، فأصاب العرب في الحجاز وتهامة ونجد جدبٌ شديد، وانقطع عنهم الغيث وكان قوام حياتهم، واتصل ذلك تسعة أشهر؛ فاسودَّت الأرض حتى صارت كالرماد؛ فسُمِّي العام عام الرمادة من أجل ذلك.
وفي هذه المحنة التي امتُحِن بها المسلمون ظهرت شخصية عمر واضحة كأوضح ما تظهر الشخصيات، ظهر حزمه ومضاؤه، وظهر بنوع خاص صبره على الكوارث واحتماله للشدائد وقيامه على أمور الناس في جد؛ فقد اهتم لأمر المسلمين ما وسعه أن يهتم به، وشغل نفسه بهذا الأمر نهاره وليله، فحصر تفكيره أو كاد يحصره فيه.
كان يجدُّ في أمر الناس نهاره، فإذا صلى العشاء الآخرة دخل بيته، فصلى ما شاء الله له أن يصلي ثم نام قليلًا، ثم استيقظ قبل آخر الليل، فخرج يمشي حتى يأتي منازل الأعراب حول المدينة، فيتفقَّد أمر هؤلاء الأعراب الذين أقبلوا من كل وجه حين اشتد عليهم الضيق، فنزلوا حول المدينة يلتمسون الرزق.
وكان عمر يطوف في منازلهم في آخر الليل، فإن أحسَّ من أهل بيت شكاة أو ضيقًا بالجوع أو الظمأ أو بالحاجة تعرَّض لهم أسرع إلى إصلاح ما يجدون. وكثيرًا ما كان يخرج ومعه مولى له — وهما يحملان الدقيق والزيت — فإن أحس جوعًا في أهل بيت أعطاهم ما يصلحهم، وربما صنع لهم طعامهم بنفسه، ثم إذا قضى من ذلك أربًا عاد فصلى صلاة الفجر، ثم جدَّ في أمر الناس نهاره.
بسم الله الرحمن
الرحيم
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن
العاصي
أما بعد؛ فتراني هالكًا ومن قبلي وتعيش أنت ومن قبلك، فياغوثاه! يا غوثاه! يا غوثاه!
ويروون أن عمرو بن العاص كتب إليه يستمهله وينبئه بأنه سيرسل إليه عيرًا أولها في المدينة وآخرها في مصر، يريد أنه يرسل إليه طعامًا كثيرًا.
ولكن رواة آخرين يقولون: إن مصر لم تكن قد فُتِحَتْ عام الرمادة، وإنما فُتِحَتْ سنة عشرين، وإذن فلم يكتب عمر إلى ابن العاص بمصر ولم ترسل مصر إليه شيئًا.
وابن سعد يكرر في روايته أن عمر قد كتب إلى عمرو بن العاص بمصر، وأن عمرًا أرسل إليه الطعام في البر والبحر.
ويقول ابن سعد: إن عمر بن الخطاب كان أول من حمل الطعام في البحر من مصر، وأرجح أنا ما رواه ابن سعد عن الواقدي وشيوخه.
والشيء الذي ليس فيه شك أن ولاة عمر على الأمصار قد أرسلوا إليه طعامًا كثيرًا، فكلَّف رجالًا يستقبلون ما يأتي من الطعام حين يصل إلى جزيرة العرب، ثم يميلون به إلى أهل البادية فينحرون لهم الإبل ويعطونهم الدقيق ويكسونهم العباء، يؤدُّون إلى كل حي منهم بقدر حاجاتهم، وبحيث يستطيعون أن يفعلوا ذلك بكل من مروا بهم من أهل البادية.
وكان عمر ينحر الجزر في كل يوم، ويرسل منادين ينادون في الناس أن من أراد أن يصيب من الطعام فليأتِ، ومن أراد أن يأخذ حاجته وحاجة أهله فليفعل.
وكان له رجال يقومون على إنضاج اللحم، فإذا أتمُّوا ذلك ثردوا للناس الثريد ووضعوا عليه من الزيت بعد طبخه، فكان يأكل من طعام عمر في كل يوم ألوفٌ كثيرة من الناس، وآخرون كانوا يحملون منه ما يكفيهم ويكفي عيالهم.
وكان عمر لا يؤثر نفسه بشيء من الخير، وإنما يأكل مع الناس، وقد جاء وقت حرَّم عمر فيه على نفسه اللحم والسمن واللبن، وفرض على نفسه الزيت يأكله مصبحًا وممسيًا ومعه شيء من الخبز.
ويقال إنه أحس حرَّ هذا الزيت، فقال لمولاه: اكسر عني حره بالنار، فطبخ له الزيت، فكان أشد عليه، وكان بطنه يتقرقر عنه، فكان ينقر بطنه بإصبعه ويقول: تقرقر تقرقرك، فليس لك عندنا إلا الزيت حتي يحيا الناس.
وربما تقرقر بطنه فنقره بإصبعه، وقال: لتمرننَّ على الزيت حتى يحيا الناس.
وكان شديدًا على أهل بيته دائمًا، ولكن شدَّته عليهم زادت عام الرمادة، فكان لا يسمح لأحد منهم بأن يوسع على نفسه في طعام أو شراب والناس من حولهم جياع، وكان شديد الغم لما أصاب الناس، حتى كان أصحابه يخافون على حياته لشدة غمه واهتمامه بأمر المسلمين.
وقد تغيَّر لون عمر فاسودَّ بعد بياض لكثرة ما أكل من الزيت، ولكثرة ما أخذ نفسه به من الجوع.
وكان كثيرًا ما يسأل الله في خوف وجزع ألَّا يجعل هلاك أمة محمد على يديه.
ويُقال إنه جلس ذات يوم على المنبر، فوعظ الناس ودعاهم إلى أن يتقوا الله ويصلحوا قلوبهم، ثم أنبأهم بأن ما أصابهم من المحل إنما هو آية سخط الله! وما يدري أكان هذا السخط على المسلمين من دونه أم كان عليه من دون المسلمين، أم كان سخطًا قد عمهم جميعًا. وكان كثيرًا ما يقول للناس: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه.
ويقول ابن سعد: إن عمر خرج بالناس مستسقيًا. ولكن ابن سعد كغيره من الرواة يخلط أمر هذا الاستسقاء بشيئين.
أحدهما: لا أدري إلى أي حد يصح، وهو أن رجلًا من أهل المدينة ذبح شاة لبنيه بعد إلحاح منهم في ذلك عليه، فلم يجد إلا جِلْدًا وعَظْمًا. فقال: وامحمداه! فرأى فيما يرى النائم أنه بين يدي النبي ﷺ، وأن النبي أمره أن يأتي عمر، فيقرأ عليه السلام، ويقول له: الكيس الكيس. فلما أصبح الرجل فعل ما أمره النبي به.
فيقول ابن سعد عن شيوخه: إن عمر خرج وجِلًا، فجلس على المنبر وأقبل الناس عليه، فسألهم: هل يأخذونه بشيء أم هل ينكرون من عمله شيئًا؟ قال الناس: لا. قال عمر: فإن فلانًا أنبأني بكذا وكذا. فقال بعض الناس: إنما أمرك رسول الله أن تستسقي. فأزمع الاستسقاء في يوم عيَّنه وكتب به إلى عماله وأمرهم أن يصنعوا صنيعه في هذا اليوم.
والشيء الثاني: أن عمر خرج في اليوم الذي اختاره للاستسقاء، وخرج الناس معه إلى المصلى، فصلى بالناس صلاة الاستسقاء، ثم استغفر الله وعج إليه بالدعاء، وعج الناس معه، ثم أخذ بيد العباس بن عبد المطلب، وقال وهو يبكي والناس من حوله يبكون: اللهم إنا نستشفع إليك بعم نبيك.
قال الرواة جميعًا: فما هي إلا أيام حتى أرسل الله الغيث.
ولست أدري إلى أي حد تثبت قصة الرجل الذي رأى النبي وتلقى منه رسالة أبلغها عمر، ولكني أقطع بأن قصة التوسل بالعباس بن عبد المطلب كذبة تقرَّب بها الرواة إلى بني العباس، وما كان عمر ليستشفع بأحد.
والأمر المحقق أن عمر قد استسقى، وأن الله قد أرسل الغيث بعد استسقائه بأيام قليلة أو كثيرة، وأن عمر حين رأى الناس قد سقوا وكَّل بالأعراب رجالًا يخرجونهم من المدينة، وكان هو يشارك في إخراجهم إلى البادية بعد أن سقاهم الله وآمنهم من الجدب.
وقد وقف عمر الزكاة عام الرمادة فلم يرسل السعاة إلى القبائل، فلما كان من قابل أرسل السعاة وأمرهم أن يأخذوا الصدقة مضاعفة، وأن يقسموا نصفها بين فقراء القبائل ويأتوه ينصفها الآخر.
فكل هذا يُصوِّر لك عمر في أصدق صورة وأروعها، يُصوِّر لك شدة عنايته بالمسلمين واهتمامه لأمرهم، وقيامه من دونهم يحميهم من الجوع، ويصوِّر لك شدته على نفسه وأخذها بما تكره، لا لأنه كان ضيِّق اليد ولكن لأنه كان يكره أن يشبع والناس جياع، وأن يَنْعَم والناس بائسون، ذلك على ما كان قد أخذ نفسه به أيام الخصب والسعة من الزهد في الدنيا والانصراف عن طيباتها.
وفي ذلك العام كان عمر يكثر أن يقول كلمة تُصوِّر إيمانه بالعدل الخالص والمساواة الكاملة بين الناس، كان يكثر أن يقول: نطعم ما وجدنا الطعام، فإذا لم نجد أدخلنا على كل أهل بيت عدتهم فشاركوهم في طعامهم فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم.
ومعنى ذلك أنه كان يريد إذا عجز بيت المال عن إطعام الناس، أن يفرض على الأغنياء أن يقاسموا الفقراء ما يجدون من الطعام حتى لا يشبع فريق من المسلمين ويجوع فريق آخر.
وما أعرف أن المسلمين رأوا خليفة أو ملكًا سار فيهم هذه السيرة أو سيرة تقاربها، بل ما أعرف من أمة من الأمم قديمها وحديثها رأت ملكًا أو أميرًا يسير في الناس سيرة عمر فيمن عاصره من المسلمين والذميين على السواء.
١٦
ولم يكن عمر في أثناء خلافته معنيًّا بشئون الناس يدبر لهم أمر دنياهم فحسب، ولكنه كان معنيًّا بهم يعلمهم شئون دينهم في المدينة، يخرج بين وقت وآخر من بيته فيجلس على المنبر، ويتسامع الناس بمجلسه ذاك في المدينة ما قرب منها وما بعد؛ فيسرعون إلى المسجد مهتمين لذلك، فيعلمهم عمر من شئون دينهم ما شاء الله أن يعلمهم.
وكان رجلًا يحب أن يكون علميًّا — كما يُقال — فلم يكن يعلمهم الدين خالصًا، وإنما كان يعلمهم الدين ويبين لهم كيف يلائمون بينه وبين حياتهم اليومية، وكيف يطابقون بينه وبين ما يأتون من الأمر وما يدعون، يفسر لهم آيات من القرآن الكريم تتصل بحياتهم العامة، ويعظهم في أثناء ذلك، ويبين لهم كيف يؤدبون نفوسهم بأدب الدين فيؤثرون في القول والعمل ما يرضي الله، يهتدون في ذلك بهدي القرآن وبهدي النبي ﷺ.
وكان يرسل الأمراء إلى الأمصار على أن يقيموا للناس صلاتهم ويعلموهم شرائع دينهم، ويمضوا فيهم بالعدل، ويسيروا فيهم سيرة صالحة ملائمة للدين أشد الملاءمة وأدقها، وربما أرسل مع الأمراء رجالًا من أصحاب النبي يقرئون الناس القرآن ويعظونهم ويعلمونهم الدين.
ولم يكتفِ عمر بذلك وإنما كان يرعى شئون الدين كلها في دقة كما كان يرعى شئون الدنيا، ورعايته هذه لشئون الدين قد حملته على أن يبتكر أشياء لم يكن للمسلمين بها عهد أيام النبي ولا أيام أبي بكر، فهو الذي أخذ الناس بقيام رمضان بعد أن تصلي العشاء؛ فسن لهم صلاة التراويح، لم يقصر هذا على الرجال وحدهم وإنما سنَّه للنساء أيضًا، وجعل للرجال قارئًا يصلي بهم في صلاة التراويح هذه، وجعل للنساء قارئًا يصلي بهن هذه الصلاة، وكتب بذلك إلى الآفاق لتكون هذه الصلاة عامة بين المسلمين.
واشتد في عقاب الذين يشربون الخمر؛ ففرض لشرب الخمر حدًّا لم يكن معروفًا قبله، فالله حرم الخمر في القرآن الكريم، ولكنه لم يفرض على شاربها عقابًا في الدنيا، وإنما ترك ذلك لما ادخر للمخالفين عن أمره ونهيه من العقاب يوم القيامة.
ولم يحاول أبو بكر — رحمه الله — أن يزيد على ما كان النبي ﷺ يفعله، ولكن عمر رأى أن المسلمين ينساحون في الأرض ويمضون في الفتوح، وأشفق أن يغريهم بعدهم عن مركز الخلافة بالتهاون في رعاية ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه.
ورأى المال يكثر في المدينة والرزق يتسع للناس، فأشفق أن يستجيب الناس لغرائزهم وطبائعهم، وأن يعود بعضهم إلى ما كانوا فيه قبل الإسلام من شرب الخمر والإدمان عليها، فاشتد في ذلك إلى أقصى غايات الشدة، وشاور المسلمين فيما يجب أن يفرض على شارب الخمر من عقاب.
فيقول الرواة: إن عليًّا أشار عليه بأن يأخذ شارب الخمر بعقوبة القاذف فيضربه ثمانين جلدة؛ لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر كان حريًّا أن يفتري. فأخذ عمر بهذا الرأي وأنفذه في المدينة، وكتب إلى ولاته بإنفاذ هذا الرأي في الأمصار.
ويتحدث الرواة بأن نفرًا من المسلمين الذين شاركوا في فتح الشام، ودخلوا دمشق فيمن دخلها من الجند مع أبي عبيدة، فقد فتنتهم الحياة في دمشق فشربوا الخمر، فكتب فيهم أبو عبيدة إلى عمر، فكان جواب عمر أن كلف أبا عبيدة سؤال هؤلاء النفر أمام جماعة المسلمين في المسجد: أيرون الخمر حلالًا أم حرامًا؟! فإن رأوها حلالًا فليضرب أعناقهم؛ لأنهم استحلوا ما حرم الله، وإن رأوها حرامًا أقام عليهم الحد فضرب كل واحد منهم ثمانين جلدة.
ولم يكن الحد يُقام على الناس سرًّا أو يُستخفَى به، وإنما كان يُقام بمشهد من المسلمين.
فلما سأل أبو عبيدة هؤلاء النفر عن الخمر: أيرونها حلالًا أم حرامًا؟ قالوا: نراها حرامًا؛ فأقام عليهم الحد بمشهد من المسلمين، وكان في هؤلاء النفر رجل من أشراف قريش ومن الذين أسلموا قبل الفتح وفُتِنوا في دينهم، وهو أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فلما أُقِيم عليه الحد انكسرت نفسه، واستخزى، فجلس في داره واحتجب عن الناس، فكتب أبو عبيدة في شأنه إلى عمر، وطلب إليه أن يكتب إلى أبي جندل معزيًا له عما أصابه وفاتحًا له بابًا إلى الأمل.
قال الرواة: فكتب إليه عمر يعزيه ويعظه وينهاه عن القنوط من رحمة الله، ويذكره قول الله عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ۚ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
فلما قرأ أبو جندل هذا الكتاب سُرِّي عنه وخرج للناس وشهد جماعة المسلمين.
وقصة عمر مع ابنه عبد الرحمن الأوسط أبي شَحمة معروفة رائعة حقًا، تصدق ما كان عمر يُوصَف به من أنه لم يكن يخاف في الله لومة لائم؛ فالرواة يتحدثون أن ابنه هذا كان بمصر، وأنه شرب الخمر مع صاحب له، ثم ندما، فأقبلا إلى عمرو بن العاص يطلبان إليه أن يطهرهما بإقامة الحد عليهما، وكره عمرو أن يقيم الحد على ابن أمير المؤمنين بمشهد من الناس فضربه في صحن داره. وبلغ ذلك عمر، ولم تكن أنباء الأمراء تخفى على عمر، فكتب إلى عمرو يعنفه أشد التعنيف، ويأمره أن يرسل إليه ابنه على قتب؛ ليكون السفر أشق عليه. فأطاع عمرو، وكتب إلى الخليفة يعتذر إليه، ويؤكد له أنه أقام الحد على ابنه حيث يقيم الحدود في صحن داره، ولكن عمر لم يقبل منه، ولم يعتدَّ بالحد الذي أقامه، وإنما انتظر الفتى حتى إذا بلغ المدينة وجيء به إليه مريضًا مكدودًا، لم يحفل بمرضه ولا بما لقي في سفره من العناء، وإنما أقام الحد عليه فورًا بمحضر من جماعة المسلمين، وقد استغاثه الفتى فلم يلتفت إليه، وقال له الفتى: إنك قاتلي. فلم يعبأ بما قال، وإنما مضى في ضرب الفتى ضربًا مبرحًا.
فيقول الرواة: إنه حين رأى ابنه مشرفًا على الموت لم يزد على أن قال له: إذا لقيت رسول الله ﷺ فأنبئه أن أباك يقيم الحدود.
ومات ابنه فلم يظهر حزنًا عليه.
ولم يكن عمر يكتفي بإقامة الحدود على الذين يشربون الخمر، وإنما كان يتتبع الذين يبيعونها فيعاقبهم أشد العقاب، فيقال: إنه أحرق بيت رجل من ثقيف — يُقال له رشيد — ونفى الرجل إلى خيبر، فهرب إلى بلاد الروم وتنصَّر هناك.
وكان يتتبع أهل الريب جميعًا لا أصحاب الخمر وحدهم، فيقال: إن صحيفة وقعت في يده وكان فيها شعر لرجل من الجند المحاربين أوله:
وفي هذا الشعر يشكو ذلك الجندي من رجل من بني سليم — يقال له جعدة — تعوَّد أن يُلِمَّ بنساء الجند المحاربين، فلما قرأ عمر الصحيفة أمر أن يُبحَث له عن جعدة السلمي هذا، وأن يُؤتى به، فلما جيء به ضَربَه مائة جلدة ونهاه أن يدخل على النساء اللاتي غاب عنهن أزواجهن.
وكذلك كان عمر شديدًا في دين الله منذ ولي الخلافة إلى أن تُوفِّي رحمه الله.
١٧
وليس على عمر — رحمه الله — بأس مما ابتكر من صلاة التراويح في رمضان، ومن إقامة الحد على شرب الخمر، بل له في ذلك الفضل كل الفضل، وما أشك في أن الله قد رضي عن ذلك وادخر من أجله لعمر مثوبة عظيمة، إلى ما كان قد أعد له من المثوبة على حسن بلائه في الإسلام، وحسن صحبته للنبي ﷺ، وصدق نصحه لأبي بكر رحمه الله، ولعنايته بأمور المسلمين وحدبه عليهم ورفقه بهم، وحسن الرعاية لفقرائهم وأغنيائهم على السواء، وما فتح للمسلمين من أبواب لنشر الإسلام في آفاق واسعة لم يكن قد بلغها أيام النبي ﷺ وأيام أبي بكر.
إنما يكره الله من الأئمة أن يبتدعوا في سياسة الناس ما لا يلائم أصول الإسلام، وأن يهملوا من أمور الدين قليلًا أو كثيرًا، وأن ينظروا إلى أنفسهم أكثر مما ينظرون إلى رعيتهم من المسلمين والمعاهدين.
فكيف بعمر قد وفر للمسلمين الرخاء، وبلغ أقصى الرفق بالذميين، وكان شديد الحرص على أن يحيا أولئك وهؤلاء حياة رضية، فيها سعة ويسر، دون أن يكون فيها سرف أو مخالفة عما أمر الله.
والله — عز وجل — قد أمر نبيه ﷺ بقيام الليل، فقال في سورة المزمل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.
فعمر لم يسنَّ للمسلمين حين سن لهم صلاة التراويح في رمضان إلا قليلًا مما طلب الله إلى رسوله، فهو إذن ملائم للقرآن أشد الملاءمة وأقواها.
ويقول المحدِّثون: إن النبي ﷺ قام ليلة في المسجد، وتسامع الناس بذلك؛ فجعلوا يسرعون إلى المسجد ليشهدوا مع النبي صلاته تلك، فلما كان من غد قام النبي في المسجد قيامه البارحة فكثر الناس، ثم ما زالوا يكثرون بعد ذلك حتى اكتظ بهم المسجد، فلما رأى النبي ﷺ منهم ذلك لم يخرج للناس في الليل بعد صلاة العشاء واكتفى بالقيام في بيته، فلما سأله الناس عن ذلك قال: «خشيت أن تُفرَض عليكم وألا تطيقوا ذلك.»
فعمر إذن لم يزد على أن عاد إلى شيء ضئيل من سنة النبي ﷺ في رمضان، والله — عز وجل — قد حرَّم الخمر في القرآن واشتد في تحريمها، واستجاب الناس لله والنبي حين تُلِيَ عليهم ما في القرآن من تحريم الخمر، ولكنهم بعد وفاة النبي، وبُعَيْدَ العهد قليلًا بهذه الوفاة، جعل بعضهم يستجيب لغريزته، وجعل الناس يتعللون بالعلل والمعاذير التي لا تستقيم، فأي بأس على عمر أن يقوم دونهم ليمنعهم من معصية الله، والخلاف عن أمره ما استطاع إلى ذلك سبيلا؟! ومن حق الإمام أن يؤدِّب الرعية إذا انحرفت عن الدين قليلًا أو كثيرًا، وعمر مع ذلك لم يستبد بفرض هذا الحد، وإنما استشار فيه أصحاب النبي ﷺ من المهاجرين والأنصار، فلم ينكروا عليه ذلك، وأشار عليه عليٌّ — رحمه الله — بضرب شارب الخمر ثمانين، كما رأيت آنفًا.
وقصة أبي محجن الثقفي معروفة، حين قال شعرًا يذكر فيه الخمر وحبه لها وحرصه على أن يذوقها حيًّا وميتًا، وكان في هذا الشعر:
وكان في القادسية حين قال هذا الشعر، فلما سمع سعد بن أبي وقاص — رحمه الله — هذا الشعر وضع رجليه في القيد وحبسه في القصر، ثم كانت وقعة شديدة من وقعات القادسية، فطلب أبو محجن إلى سعد أن يطلقه ليشهد الوقعة، فأبى عليه سعد وزجره، فلما كان بعد قليل طلب إلى سلمى بنت خصفة — زوج سعد — أن تضع عنه قيده وتُعيرَه فرسًا لسعد — تُسمَّى البلقاء — وأعطاها عهدًا على نفسه على أن يعود بعد انتهاء الموقعة إن سلم فيضع رجليه في القيد، فأبت سلمى وكرهت أن تخالف عن أمر زوجها، فسكت أبو محجن ساعة، ثم أنشد هذه الأبيات:
فلما سمعت هذا الشعر سلمى رقَّت له وقبلت عهده وأطلقته، وأعارته البلقاء، فخرج وشهد القتال وأبلى فيه أحسن البلاء.
قال الرواة: وكان سعد يرى فرسه في الميدان فيعجب لذلك، فلما انتهت الوقعة عاد أبو محجن فرد الفرس ووضع رجليه في القيد، وأنبأت سلمى بذلك سعدًا، فعفا عنه، وأعطى أبو محجن لله عهدًا ألا يذكر الخمر في شعر بعد.
ولم أذكر هذه القصة لأقف عند بطولة أبي محجن وحسن بلائه، فقد كان أمثاله من المسلمين كثيرين في تلك الحرب، وإنما أذكرها لأن سعدًا حبس هذا الشاعر لذكره الخمر على ذلك النحو في شعره.
وأكبر الظن أن أبا محجن لم يشرب خمرًا في تلك الموقعة، وإنما ذكر عهده في الجاهلية فأحس حنينًا إلى الخمر، فقال ما قال، وكره ذلك سعد مخافة أن يُؤثِّر شعره هذا في غيره من المسلمين في موقف لم يكن موقف حنين إلى الخمر أو غير الخمر، وإنما كان موقف حرب أي حرب.
فلم يكن بد لعمر إذن من أن يعاقب على شرب الخمر وعلى بيعها، وأمير المؤمنين بعد ذلك مكلف أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعمد إلى التعذير إذا لم يكن من التعذير بد.
لم يقف عمر عندما قدمنا من العناية بالدين والرعاية له، ولكنه تجاوز ذلك إلى أشياء أخرى، فمن عنايته بالدين ورعايته له أنه أنشأ نظام القضاء وعممه في الأمصار، ولم يجعل للمدينة قاضيًا، وإنما كان هو الذي يقضي في شئون المختصمين، وكان إذا جاءه الخصمان برك على ركبتيه، وقال: اللهم أعِنِّي عليهما؛ فإن كلًّا منهما يريدني عن ديني.
وهو أيضًا عمَّم نظام المعلمين يرسلهم إلى الأمصار ليقرئوا الناس القرآن ويعلموهم شرائع دينهم، ولم يكن عمر في ذلك مبتكرًا؛ فقد كان النبي ﷺ يرسل بعض أصحابه إلى القبائل بعد إسلامها ليقرئوهم القرآن ويعلموهم أصول الدين، ولكن فضل عمر في أنه عمَّم هذا النظام وأرسل المعلمين إلى الأمصار؛ ليزيدوا المسلمين علمًا بدينهم ويعظوهم ويقرئوهم القرآن.
وهدم عمر مسجد النبي ﷺ ووسع رقعته، لما كثر الناس في المدينة، وألقى فيه الحصى ليكون ذلك أرفق بالناس، وكان المسلمون إذا فرغوا من صلاتهم نفضوا أيديهم وأزالوا التراب عن جباههم، فألقى عمر الحصا في المسجد ليجنبهم ذلك.
وهو رد المقام في المسجد الحرام إلى مكانه الآن، وكان قبل ذلك ملصقًا بالبيت، وكان النبي ﷺ يريد أن يفعل ذلك، ولكنه رأى أن قريشًا حديثة عهد بالإسلام فلم يفعل، فأتم عمر ما أراده النبي.
وكان عمر إذا عرضت له المشكلة نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه حلًّا لهذه المشكلة قضى به غير متردد، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة النبي ﷺ، فإن وجد فيها الحل قضى به غير متردد أيضًا، وإن لم يجد اجتهد رأيه وقضى بما فيه مصلحة للمسلمين، وكان كثيرًا ما يستشير أصحاب النبي ﷺ عسى أن يكون عند بعضهم حديث من سنة النبي، أو عسى أن يشير عليه بعضهم برأي فيه الخير والنصح للمسلمين، وكان يأمر الولاة والقضاة أن يصنعوا صنيعه، وألا يجتهد أحد منهم رأيه إلا بعد أن يستقصي القرآن والسنة، ولا يجد فيهما ما يقضي به؛ هنالك يجتهد ويستشير.
وكان عمر يتحرَّج من رواية الحديث عن النبي ﷺ، وربما كان عنده بعض الحديث فأعرض عن روايته مخافة أن يزيد فيه أو ينقص منه، وكان إذا جاءه الرجل بالحديث عن النبي لم يقبله منه إلا إذا جاءه برجل آخر يروي هذا الحديث كما رواه.
وربما جاءه الرجل بالحديث فأمره أن يأتي برجل آخر أو يوجعه ضربًا، وكان يكره أن يكثر الناس الحديث عن النبي، وينذر المكثرين بالعقوبة، وقد أنذر أبا هريرة بالضرب والنفي إلى بلاده التي جاء منها؛ لأنه كان يكثر الحديث، فلما نهاه عمر كف عن رواية الحديث ولم يعد إليها إلا بعد وفاة عمر.
وكان عمر أول من أخذ الدرة يؤدب بها الناس إن جاروا عن القصد قليلًا أو كثيرًا، لا يفرق في ذلك بين كبار الصحابة وغيرهم من الناس. وقد ضرب سعد بن أبي وقاص بالدرة حين جلس يومًا يقسم بين المسلمين مالًا، وأقبل سعد وجعل يزاحم الناس حتى وصل إليه، فعلاه بالدرة وقال: إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لن يهابك.
وكان يأخذ الدرة ويمشي في المدينة وفي سوقها خاصة ليرى كيف يبيع الناس وكيف يشترون، فإن رأى من أحد شيئًا يكرهه ضربه بالدرة.
ورأى مرة رجلًا يزحم الطريق، فضربه بالدرة، وقال: أَمِطْ عن الطريق. فلما حال الحول وأقبل موسم الحج لقي عمر ذلك الرجل، فقال له: تريد الحج؟ قال الرجل: نعم يا أمير المؤمنين. فأعطاه نفقة حجه، ثم قال له: أتدري لِمَ أعطيتك هذا؟ قال الرجل: لا. قال عمر: إنما ذلك بالضربة التي ضربتك في الطريق. قال الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما ذكرتها إلا حين ذكرتني بها.
وقد هَمَّ عمر أن يكتب السُّنَّة؛ فاستخار الله في ذلك شهرًا ثم عدل عنه، وقال: ذكرت قومًا كتبوا كتابًا فأقبلوا عليه ونسوا كتاب الله. وإذا دل هذا على شيء فإنما يدل بنحو خاص على تردد عمر في رواية الحديث، فكيف بكتابة ما حفظ هو، وما حفظ الناس من حديث النبي؟! وكل هذا يصور احتياط عمر للدين وشدة حرصه على ألا يعرضه لشيء من الشك أو الخطأ.
١٨
على أن خلافة عمر كلها قد قامت على الدين في إجمالها وتفصيلها، فلم يعرف المسلمون بعد عمر خليفة أو ملكًا كان يحضر نفسه ذكر الله في كل وقت من أوقات حياته، وكان أول ما يفكر في شيء إنما يفكر في ملاءمته — رضى الله — وبعده عن سخطه، وما أعرف أن عمر قضى ساعة من حياته يقظًا لم يشعر فيها بالخوف من الله حين كان يقوم على قول أو عمل، فلم تكن خلافته وحدها قائمة على الدين، وإنما كانت حياته الخاصة أيضًا قائمة على ذكر الله والخوف من عذابه، وقد رأيت فيما مضى أنه قال مرة لمن طلب إليه الرفق بنفسه فيما يطعم أو يلبس: سمعت الله — عز وجل — يقول لقوم نعموا بحياتهم الدنيا: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ.
وهو من أجل هذا فرض على نفسه أضيق الحياة، مع أنه لم يكن فقيرًا، ومع أن المسلمين جعلوه في حل من أن يأخذ من بيت المال حاجته، وهو لم يفعل ذلك بخلًا أو ضنًّا على نفسه بما كانت تقتضيه الحياة الراضية من المال، وإنما فعله إيثارًا لما عند الله في الآخرة على ما في الدنيا من ألوان المتاع.
ومن أجل ذلك أيضًا كان لا يولِّي عاملًا من عماله على الأمصار إلا راعَى في توليته رضى الله أولًا، ومصلحة المسلمين بعد ذلك.
وكان يختار لولاية الأمصار أولي القوة والكفاية، وإن كانوا من الذين أسلموا بأخرة، ويترك الأكابر من أصحاب النبي ﷺ، فلما كلم في ذلك قال: أكره أن أدنسهم بالعمل.
وهو لم يقل هذا إلا إيثارًا للرد الحسن، فأما حقيقة الأمر فهو أنه كان يخاف على أكابر أصحاب النبي من أن يفتتنوا أو يفتنوا الناس؛ ولذلك لم يولِّهم الأمصار، إذا استثنينا سعدًا حين ولاَّه حرب الفرس، وأبا عبيدة حين ولاه حرب الشام.
وإنما كان يمنعهم أيضًا من الخروج إلى الأمصار مخافة الفتنة عليهم والافتتان بهم، بل كان يمنع قريشًا من الانتشار في الأرض مخافة أن تفتنهم الحياة الدنيا.
وقال يومًا في بعض خطبه: ألا وإن قريشًا يريدون أن يجعلوا مال الله دُولَة بينهم، أما وابن الخطاب حيٌّ فلا، ألا وإني قائم لهم بحرة المدينة، فآخذ بحجزهم أن يتهافتوا في النار.
وكان بعض أكابر الصحابة يستأذنونه في الخروج للمشاركة في الجهاد، فيأبى عليهم ويقول لمن يستأذنه في ذلك: قد كان لك من الغزو مع رسول الله ﷺ ما يجزئك. وولى مرة عمار بن ياسر على الكوفة، فشكا أهل الكوفة منه، وكان أهل الكوفة كثيرًا ما يَشْكون من ولاتهم حتى أتعبوا عمر، ولكنهم حين شكوا من عمار رحمه الله، قالوا: إنه لا يعرف ما يلي. فدعاه عمر وسأله عما يلي، فلم يحسن الجواب، فعزله، ثم سأله ذات يوم: أساءك حين عزلتك؟ قال عمار: أما إذ قلت ذلك، فقد ساءني حين وليتني وساءني حين عزلتني. فقال عمر — ما معناه: أردت أن أحقق قول الله عز وجل: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ.
ومن أجل ذكره لله وخوفه من عذابه ونصحه للمسلمين كان يراقب ولاته أشد المراقبة، ولا يكاد يبلغه شيء من أمرهم يثير في نفسه شكًّا إلا أرسل من فوره من يحقق ما بلغه ويصلحه، إن كان قد وقع، وربما دعاه ذلك إلى عزل الوالي.
وكان كثيرًا ما يردد أنه يخشى أن يظلم بعضُ ولاته أحدًا من الرعية ولا يستطيع المظلوم أن يرفع إليه شكاته، وكان يؤمن بأن أي ظلم يقع من ولاته ثم لا يجد هو في إصلاحه فهو الظالم.
وكان كثيرًا ما يقول للرعية إذا رآهم في المدينة أو في موسم الحج: إني لم أرسل عمالي عليكم ليظلموكم أو يضربوا أبشاركم، وإنما أرسلتهم ليعلموكم دينكم ويقسموا فيئكم بينكم، وكان لا يمل التشديد على ولاته في إنصاف الرعية والرفق بالذميين وحمايتهم من كل ما يسوءهم.
وكان شديد الحرص على صيانة مال المسلمين يصونه من نفسه أولًا فلا يأخذ منه إلا قوته وقوت أهله وكسوته حُلة في الشتاء وحلة في القيظ، ويصونه من عماله فيراقبهم في إنفاق المال أشد المراقبة وأضيقها، وقد رأيت ما فعله بخالد بن الوليد، والقاعدة التي وضعها لنفسه، فكان لا يولي عاملًا إلا كتب ماله قبل أن يذهب إلى مصره، فإذا عاد معزولًا حاسبه، فإن وجد في ماله زيادة غير مقبولة قاسمه ماله. وقد رأيت أنه قاسم سعد بن أبي وقاص حين عزله عن الكوفة، وقاسم أبا هريرة حين عزله عن البحرين، وقاسم غيرهما من ولاته الذين لم يرضَ عن كسبهم وسيرتهم في المال.
وإذا كان عمر قد عُرِف بالعدل وضُرِب به المثل فيه، فإن هذا العدل ليس إلا مظهرًا من مظاهر خوفه من الله، وإحضاره نفسه حساب الله عز وجل، وتحرجه من أن يصنع أشياء، لا لشيء إلا لأنه يكره أن يسأله الله عنها يوم القيامة، فلم يكن عمر مثلًا في العدل وحده، وإنما كان مثلًا في رعاية الدين في جميع أمره صغيره وكبيره.
ومن أجل هذا هابه الناس، حتى يقال بعد وفاته: لدرة عمر أهيب من سيفكم!
١٩
وقد حج عمر سنة ثلاث وعشرين، كما كان يفعل خلافته كلها، إلا السنة التي استُخلِف فيها؛ فإنه ولَّى عبد الرحمن بن عوف أمرَ الحج ذلك العام، وقد أخرج معه للحج أزواج النبي ﷺ، ويقال: إنه بعد أن صدر عن الحج جمع في مكان خارج مكة كومة من الحصى، ثم استلقى ووضع رأسه على ذلك الحصى وشبَّك بين رجليه، وقال: اللهم كبرت سني، ورقَّ عظمي، وخشيت الانتشار من رعيتي؛ فاقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم.
فلما بلغ المدينة لقيه ذات يوم غلام أعجمي للمُغيرة بن شعبة، يقال له فيروز ويُكنَى بأبي لؤلؤة، وكان من سبي نهاوند، فقال له الغلام: إن سيدي المغيرة يفرض علي ضريبة لا أطيقها. قال عمر: كم يفرض عليك؟ قال الغلام: أربعة دراهم في كل يوم. قال عمر: وماذا تعمل؟ قال الغلام: أنا نجار، حداد، نقاش. قال عمر: ما خراجك بكثير.
فانصرف الغلام مغضبًا، ولقيه عمر مرة أخرى وهو في نفر من أصحابه، فدعاه وقال له: بلغني أنك تقول: إنك تستطيع أن تصنع رحى تطحن بالريح! قال الغلام: نعم. قال عمر: فاعمل لنا رحى. قال الغلام: لأعملن لك رحى يتحدث بها أهل الأمصار. فلما انصرف الغلام قال عمر لمن كان معه: أوعدني العبد آنفًا. أو قال له بعض من كان معه: أوعدك الغلام آنفًا يا أمير المؤمنين.
وخرج عمر ذات صباح حين أُذِّن لصلاة الفجر، وكان لا يبدأ الصلاة إلا بعد أن يأمر الناس بأن يسووا صفوفهم، وكان ينظر في الصف الذي يليه، فإن رأى رجلًا متقدمًا مسَّه بالدرة ليرجع إلى مكانه من الصف، فلما فعل ذلك واستقبل صلاته طعنه أبو لؤلؤة ثلاث طعنات، وكان مختبئًا في بعض زوايا المسجد.
قال الرواة: فلما أحسَّ عمر حر الطعنة بسط يده، وقال: أدركوا الكلب فقد قتلني. ثم سقط إلى الأرض ودمه ينزف؛ فماج الناس، وجعل الغلام يطعن من وليه منهم حتى طعن اثني عشر رجلًا غير عمر وألقى عليه رجل ثوبًا، فلما عرف الغلام أنه مأخوذ قَتَلَ نفسه بخنجره، وأقبل بعض الناس فحملوا عمر إلى داره وهو يقول: وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.
ويقول بعض الرواة: إن عمر حين طُعِن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف، فقدمه للصلاة.
ويقول آخرون: إن الناس ماجوا ساعة بعد مصرع عمر، حتى قال قائل: الصلاة عباد الله، فقد طلعت الشمس. فقدموا عبد الرحمن بن عوف، فصلى بهم، وقرأ بأقصر سورتين في القرآن «والعصر» و«إنا أعطيناك الكوثر».
ويقول الرواة: إن عمر أمر ابن عباس أن يخرج فينظر من قتله؛ فخرج ابن عباس فجال في الناس ثم عاد، فقال: قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شُعبة! قال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يحاجني عند الله بسجدة سجدها له. يريد أن قاتله لم يكن مسلمًا.
ثم قال عمر لابن عباس: اخرج فسل الناس: أكان هذا عن ملأ منه؟ فخرج، ثم عاد إليه، فأنبأه بأن الناس يقولون: والله ما علمنا، ولوددنا أن الله يزيد في عمره من أعمارنا.
ثم قال عمر لابنه عبد الله: اذهب إلى عائشة أم المؤمين فقل لها: إن عمر يستأذنك في أن يُدفَن مع صاحبيه، فذهب عبد الله بن عمر حتى دخل على عائشة، فوجدها قاعدة تبكي، فلما أبلغها ما قال عمر قالت: لقد كنت اخترته لنفسي ولأوثرنه به اليوم. وعاد عبد الله فأبلغ أباه أن عائشة قد أذنت له فيما أراد؛ فحمد الله عمر وقال: لقد كان هذا أهم شيء إلي.
ثم سُئِل أن يستخلف، فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني. يريد أن النبي ﷺ لم يستخلف أحدًا، وأن أبا بكر — رحمه الله — قد استخلفه هو.
ثم جعل أمر الخلافة شورى بين هؤلاء الستة: علي، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله. وأمر من يدعوهم إليه، فلما جاءوا أمرهم أن يجتمعوا ويختاروا من بينهم رجلًا، وأمر أن يحضرهم ابنه عبد الله، وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو على ألا يكون لهما في الأمر شيء.
ثم قال لعلي: يا علي، قد يعرف الناس لك صهرك وقرابتك من رسول الله ﷺ، وما أتاك الله من العلم والفقه، فإن وُلِّيت من أمر الناس شيئًا فاتقِ الله.
وقال لعثمان: قد عرف القوم لك سنك وصهرك من رسول الله ﷺ وشرفك، فإن وُلِّيت من أمر الناس شيئًا فاتقِ الله، ولا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس.
ثم قال لهم: قوموا عني. فلما قاموا قال: لئن ولوها الأجلح ليحملنهم على الطريق. يريد عليًّا، فقال له عبد الله ابنه: فما يمنعك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أكره أن أحملها حيًّا وميتًا.
ثم أمر أن يُدعى له أبو طلحة الأنصاري، فلما جاء أمره في أن يكون في خمسين رجلًا من الأنصار، وأن يجمع هؤلاء الستة في بيت، ويقوم فيمن معه على بابهم حتى يختاروا رجلًا منهم، وأجَّلهم في هذا ثلاثًا.
وزعم بعض الرواة أنه أمر أبا طلحة إن أمضوا ثلاثة أيام ولم يختاروا منهم خليفة أن يضرب أعناقهم.
وما أحسب أن هذا يصح، فقد كان عمر أحرص على دماء المسلمين من أن يأمر بقتل ستة من كبار ذوي السابقة من المهاجرين، الذين بشرهم النبي ﷺ بالجنة ومات وهو عنهم راضٍ.
وقد فصلت القول في الشورى في غير هذا الموضع.
وأمر أن يصلِّي بالناس صهيب أثناء الأيام الثلاثة التي يتشاور فيها الستة، ثم أمر ابنه عبد الله أن يحسب دَيْنه لبيت المال، فحسبه فإذا هو ستة وثمانون ألف درهم، فقال: إذا أنا مت فأدِّها من مال آل عمر، فإن لم يفِ بها فسل فيها بني عدي، فإن لم تجد عندهم ما يفي بها فسل في قريش ولا تَعْدُها. وأمر عبد الله أن يضمن هذا المقدار فضمنه.
وأعتقد أَنَا أن في هذا الدين كل ما أخذ عمر لنفسه من بيت المال لقوته وقوت أهله ولكسوته ولبعض تجارته، وأعتقد ذلك لأن أبا بكر أمر في مرضه الذي مات فيه أن يُؤدَّى من ماله إلى بيت المال كل ما أخذ منه لقوته وكسوته، وأعتقد أن عمر حرص كل الحرص على أن يصنع صنيع أبي بكر، وهو الذي كان يقول دائمًا، ولا سيما بعد أن طُعِن: وددت لو أخرج منها كفافًا لا عليَّ ولا لي.
وقد أشهد ابن عمر على نفسه بهذا المال وأداه إلى عثمان، بل قبل أن يمضي الأسبوع على دفن أبيه.
وكان بعد أن فرغ من تدبير أمور المسلمين لا يفكر في شيء إلا فيما ينتظره من حساب الله عز وجل، وكان يقول: لو أن عندي ما في الأرض من شيء لافتديت به من هول المطلع.
ويقال: إنه أوصى ابنه إذا هو أحس أن أباه قد شارف الموت أن يجعل ركبتيه في صلبه، وأن يضع يده اليمنى على جبينه ويده اليسرى على ذقنه، فإذا مات فليغمضه. وأمره بالقصد في كفنه، فإنه إن يكن له عند الله خير أعطاه ما هو خير منه، وإن يكن له عند الله غير ذلك سلبه فأسرع في سلبه، وأمره ألا يجعل في حنوطه مسكًا، وألا تتبعه امرأة، وأن يسرعوا في المشي إذا حملوه إلى قبره، فإن كان له عند الله خير قدموه إلى ما هو خير له، وإن يكن غير ذلك وضعوا عن رقابهم شرًّا كانوا يحملونه، وأمره ألا يوسعوا في حفرته لأن بيت عائشة ضيِّق، ولأنه إن لم يكن له عند الله خير وُسِّع له في قبره مدَّ بصره، وإن يكن غير ذلك ضُيِّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ونهى ابنه أن يزكُّوه بعد موته بما ليس فيه، فإن الله هو أعلم به.
ويقول الرواة: إن الناس جعلوا يدخلون عليه أرسالًا فيثنون عليه، فقال لهم حين كثر ذلك منهم: «أبالإمارة تغبطونني؟ لقد صحبت رسول الله ﷺ فتُوفِّي وهو عني راضٍ، وصحبت أبا بكر — رحمه الله — فكنت سامعًا مطيعًا حتى تُوفِّي وهو عني راضٍ، وأصبحت لا أخاف إلا إمارتكم هذه.»
ويقال: إن وفد العراق — وكانت الوفود قد صحبته بعد الحج إلى المدينة قبل أن ترجع إلى الأمصار — سأله الوصية، فأوصاهم بتقوى الله أولًا، وبالمهاجرين من أصحاب رسول الله؛ فإنهم ينقصون والناس يزيدون، وبالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان، وبالأعراب فإنهم مادة الإسلام، وبالمعاهدين من المغلوبين؛ فإن لهم ذمة الله وذمة رسوله وذمة المسلمين، ثم قال لهم: قوموا عني.
قال الرواة: ولما أحس عمر أن الموت منه قريب أمر ابنه عبد الله، وكان رأس عمر في حجره، أن يضع خده على الأرض، فقال عبد الله: وهل فخذي والأرض إلا سواء؟ فأعاد عليه عمر أمره أن يضع خدَّه على الأرض، فأعاد عليه عبد الله جوابه، فقال له في الثانية أو في الثالثة: ضع خدي على الأرض لا أم لك. فلما وضع عبد الله خده على الأرض جعل يقول: ليتني لم أُخلَق! ليت أمي لم تلدني! ليتني لم أكُ شيئًا! ليتني كنت نسيًا منسيًّا! ثم جعل يقول بعد هذه الكلمات: ويلي! ويل أمي إن لم يغفر الله لي! وما زال يكرر هذه الكلمة حتى مات رحمه الله.
٢٠
وبوفاة عمر رحمه الله، خُتِم أروع فصل في تاريخ الإسلام والمسلمين، منذ وفاة النبي ﷺ إلى آخر الدهر، فلم يعرف المسلمون، وما أراهم سيعرفون في يوم من الأيام خليفة يشبه عمر من قريب أو من بعيد، فقد رأيت أنه كان — رحمه الله — أزهد خلفاء المسلمين وملوكهم في الدنيا وأشدهم لها ازدراء وأعظمهم منها نفورًا.
ومن الحق أنه كان يتجر في خلافته ويثمر ماله، ولكنه لم يفعل ذلك حبًّا في المال ولا إيثارًا للغنى، وإنما فعله أداءً لما لأهله وولديه عليه من الحق، وقد رأيت أنه لم ينتفع بشيء من ماله لنفسه، وأنه أدى منه كل ما أخذ من بيت المال لقوته وكسوته، فخرج من الدنيا وليس في الأرض مسلم يتعلق عليه بشيء أو ينكر من أمره شيئًا، وهو قد أوصى إلى حفصة أم المؤمنين، فإذا ماتت فللأكابر من ولده، ولم يعرف المسلمون خليفة أو ملكًا أتاح الله له مثل ما أتاح لعمر من الفتح.
فقد رأيت أنه فتح بلاد الفرس كلها، وفتح الشام والجزيرة ومصر وبرقة، ولم يستطع خليفة بعده أن يزيد على ذلك إلا ما كان من فتح إفريقية أيام عثمان رحمه الله، ومن المضي في هذا الفتح إلى المحيط، ومن فتح الأندلس أيام بني أمية.
ولم يعرف المسلمون خليفة أو ملكًا بعد عمر جعل بيت المال ملكًا للمسلمين ينفق منه على الجيوش المحاربة، ويعين منه من احتاج إلى المعونة، ويوفر ما يبقى منه ليُشيعه بين المسلمين رجالهم ونسائهم وأطفالهم، يأخذون منه أعطياتهم في كل عام، تسعى إليهم هذه الأعطيات دون أن يتكلفوا مشقة في طلبها سواء، في ذلك منهم القريب والبعيد، وقد رأيت أنه كان يحمل بنفسه المال إلى البادية القريبة من المدينة فيعطيه للناس في أيديهم، وقد رأيت لذلك أنه في عام الرمادة كان يحمل الطعام على ظهره ويسعى به إلى الأعراب النازلين حول المدينة، وربما طبخه لهم بنفسه، ولم يعرف المسلمون ملكًا أو خليفة بعده عُنِي بحماية الذميين والرفق بهم في أمرهم كله كما عُنِي بهم عمر.
ثم لم يعرف المسلمون خليفة أو ملكًا بعده عُنِي بأمر الدين وإقامة الحدود وتأديب الناس في الصغير والكبير من أعمالهم، وعلَّم المسلمين دينهم رفيقًا بهم حريصًا على أن تستقيم لهم أمور دنياهم، وعلى أن يجنبهم ما يُؤخَذون به في آخرتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
فعل هذا كله حتى بلغ منه ما لم يبلغ الخلفاء والملوك في الإسلام وفي الأرض التي لم تسلم، فلسنا نعرف اليوم بلدًا يُوفَّر فيه الرزق على الناس من بيت المال أو من خزائن الدولة دون أن يمنعهم ذلك من العمل لأنفسهم وللناس، ومن التزيد في الكسب والتوسع في الغنى.
ولم يكن عمر يعرف قانونًا إلا القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولم تكن له شرطة يستعين بها على حفظ الأمن والنظام، ولكنه ساس المسلمين على نحو جعلهم جميعًا شرطة له في المدينة وشرطة لولاته في الأمصار، فليس غريبًا وعمر هو الذي فعل هذا كله وأكثر من هذا كله أن تكون الفاجعة بموته عظيمة والخطب له جليلًا، وأن يقول رجل مثل أبي طلحة الأنصاري رحمه الله: «ما في العرب بيت إلا دخل عليه النقص بموت عمر.»
وليس غريبًا أن يقول غيره: والله إن بيتًا من بيوت المسلمين لم يدخله الحزن لموت عمر لبيت سوء.
ويقول الرواة: إن سعيد بن زيد بن عمرو — وهو ابن عم عمر — بكى حين مات عمر، فقيل له: فيمَ تبكي؟ قال: أبكي على الإسلام؛ فإنه قد وهى بموت عمر.
ويقال: إن حذيفة بن اليمان كان يقول: إن الإسلام كان حصنًا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما تُوفِّي عمر انثلم الحصن، فالناس يخرجون منه ولا يدخلون فيه.
وقد أجمع الرواة أن عليًّا — رحمه الله — لما سمع الصيحة بموت عمر دخل عليه فوجده سُجِّي بثوب، فرَفَع الثوب عن وجهه، وقال: صلى الله عليك، والله ما على الأرض أحد أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل صحيفته من هذا المسجى.
وما أعرف رجلًا من أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار إلا حزن أشد الحزن لموت عمر، حتى قال ابن مسعود رحمه الله: والله إني لأظن العِضاه قد وَجدت لموت عمر.
وكان ابن مسعود إذا ذُكِر عمر أمامه بكى حتى تساقط دموعه على الحصى.
وما أحب أن أختم هذا الفصل بشيء أبلغ من قول عثمان رحمه الله: إن عمر كان يمنع رحمه تقربًا إلى الله، وأنا أصل رحمي تقربًا إلى الله، ومن لنا بمثل عمر؟! يقولها ثلاثًا.
وما أعرف أصدق من قول الشاعر الذي رثاه، والذي تحدث الرواة أنه من الجن، وما أرى إلا أنه مزرَّد بن ضرار أخو الشماخ الشاعر المعروف:
٢١
وصدق الشاعر، فقد كان مقتل عمر غريبًا كل الغرابة، غلام أعجمي من سبي نهاوند، يملكه المغيرة بن شعبة، ويعيش في المدينة ليعمل فيها نقاشًا، نجارًا، حدادًا، صانعًا للأرحية، يشكو إلى عمر ارتفاع ضريبته. ويرى عمر أن ضريبته لا إسراف فيها، فيأمره أن يؤدي إلى مولاه ما فرض عليه، ثم يكتب سرًّا إلى المغيرة يتقدم إليه أن يرفق بغلامه في الضريبة، فيأتي هذا الغلام فيختبئ في ناحية من نواحي المسجد، حتى إذا تقدم عمر للصلاة أهوى إليه الغلام، فقتله.
لم يَرْعَ للمسجد حرمة لأنه لم يكن مسلمًا، ولم يحسب حسابًا لجماعة المسلمين، لأنه كان مصممًا على أن يقضي أمره وإن مات في سبيله.
كل هذا لا يخلو من غرابة ولا سيما إذا فكرنا في عدل عمر بين المسلمين، ورفقه بغير المسلمين من الذميين والأسارى، ولكن حول قتل عمر أشياء تدعو إلى التفكير.
فالرواة يقولون: إن هذا الغلام الفارسي كان إذا لقي الصبيان من سبي الفرس مسح على رءوسهم، وقال: إن العرب أكلت كبدي. فليس الأمر إذن أمر الضريبة الذي فرضها المغيرة على هذا الغلام، وإنما هو أمر فارسي موتور قد فُتِحت بلاده وقُتِل من قومه الكثيرون، فهو ثائر لوطنه وثائر لهؤلاء الأسارى الذين انتشروا في الأرض الإسلامية كلها، وهو يرى أن العرب قد أكلت كبده بما فعلت بوطنه من الأفاعيل، وهو لم يكن وحيدًا في المدينة، وإنما كان معه في المدينة رجال آخرون موتورون، منهم الفارسي كالهرمزان الذي كان ملكًا من ملوك الفرس، أو كبيرًا من كبرائهم والذي جدَّ في مقاومة المسلمين ما استطاع، وأفلت منهم في غير موطن حتى أُسِر في آخر الأمر وأُرسِل إلى عمر. وكان عمر حريصًا على قتله، ولكنه خادع عمر حتى أمنه، أمنه عمر ساعة من نهار، فمكر حتى جعله أمانًا دائمًا، أظهر الظمأ فدعى له بالشراب، فقال لعمر: إني أخشى أن تقتلني وأنا أشرب. فقال له عمر: لا بأس عليك. فرد القدح ولم يشرب، وقال لعمر: قد أمَّنتني. قال عمر: لم أؤمنك. قال من حضر من المسلمين: بل أمنته يا أمير المؤمنين. فقد قلت له: لا بأس عليك. فقد انخدع المسلمون وانخدع معهم عمر لهذا الفارسي، ولا غرابة في ذلك، فالحُرُّ يُخدَع أحيانًا فينخدع، وليس شيء أسهل في الإسلام من الأمان يُعطى لغير المسلم، يعطيه رجل من عامة المسلمين لرجل من المحاربين فيجري أمانه ويلتزمه قائد الجيش كما يلتزمه لخليفة وجماعة المسلمين، ويعطيه العبد المسلم للمحارب أو المحاربين، فيصح أمانه ملزمًا للجيش وقائده وللخليفة وجماعة المسلمين.
وذلك لقول النبي ﷺ: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم.» وقد أسلم الهرمزان، فعصم دمه بالإسلام، ولم يجعل لأحد عليه سبيلًا، وأقام في المدينة.
ورجل آخر كان يقيم في المدينة لم يكن فارسيًّا، وإنما كان عربيًّا من أهل الحيرة وكان مسيحيًّا، وكان بينه وبين سعد بن أبي وقاص صلة.
ورجل رابع كان يقيم بالمدينة، ولكنه كان غريب الأطوار، عرف كيف يخدع كثيرًا من المسلمين ومنهم عمر، وهو كعب الأحبار. وكان كعب يهوديًّا من أهل اليمن زعم أنه سأل عليًّا — رحمه الله — عن النبي حين ذهب عليٌّ إلى اليمن مرسلًا من رسول الله ﷺ، فلما أنبأه علي بصفة النبي عرف هذه الصفة مما كان يجد بزعمه في التواراة، ولم يأتِ المدينة أيام النبي، وإنما أقام على يهوديته في اليمن، وزعم هو بعد ذلك للمسلمين أنه أسلم ودعا إلى الإسلام في اليمن، وقد أقبل إلى المدينة أيام عمر، فأقام فيها مولى للعباس بن عبد المطلب رحمه الله، وكان بارعًا في الكذب على المسلمين يزعم أنه يجد صفاتهم في التوراة، وربما زعم لهم أنه يجد صفاتهم في الكتب، وكان المسلمون يُعجَبون بذلك ويعجبون له. ولم يلبث أن كذب على عمر نفسه، فزعم له أن يجد صفته في التوراة، فعجب عمر وقال: تجدُ اسم عمر في التوراة؟! قال كعب: لا أجد اسمك وإنما أجد صفتك.
وقد صحب عمر حين سافر إلى الشام ليتم فتح بيت المقدس، ويقال: إنه هو الذي دل عمر على مكان الصخرة، وكانت قد استخفت لكثرة ما كان الناس يلقون عليها من الكناسة، فأمر عمر فأُزِيل عنها ما كان عليها وأقام المسجد، وسأل أين يضع القبلة، فقال له كعب: اجعلها إلى الصخرة. فقال له عمر: ضاهيت اليهودية يا كعب! وجعل القبلة إلى المسجد الحرام.
وعاد إلى المدينة في صحبة عمر، وفي ذات يوم أنبأ عمر أنه سيموت شهيدًا، قال عمر: أنَّى لي بالشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب؟! ولكن كعبًا أصرَّ على ذلك، فيقال إن عمر قال: يأتي بها الله أنَّى شاء.
ودخل عمر يومًا على زوجه أم كلثوم بنت عليٍّ فوجدها تبكي، فلما سألها عن بكائها قالت: هذا اليهودي كعب الأحبار يقول إنك في النار، فلما خرج عمر ورأى كعبًا همَّ أن يسأله، فبشره كعب بالجنة، فقال عمر: ما شاء الله! مرة في الجنة ومرة في النار، ما هذا؟! قال كعب: لا تعجل عليَّ يا أمير المؤمنين، والله إني لأراك في التوراة — أو قال: في الكتب — قائمًا على باب جهنم تمنع المسلمين أن يتهافتوا فيها.
وجاءه آخر الأمر ذات يوم، فقال له: إنك مقتول بعد ثلاث. فلم يحفل عمر بما قال، فلما كان من الغد قال له: ذهب يوم وبقي يومان. فلم يلتفت عمر إليه، فلما كان من غد جاءه، فقال له: مضى يومان وبقي يوم. فلم يأبه عمر له. والغريب أنه لم يسأله عن مصدر علمه بذلك، ولم يسأله أحد من المسلمين عن مصدر علمه ذلك بعد مقتل عمر، وأشد من ذلك غرابة أن الرواة يزعمون أنه دخل على عمر بعد أن طُعِن، فقال له: الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
ألم أقل لك إنك تموت شهيدًا؟! فكنت تقول: أنَّى لي الشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب؟! فسكت عنه عمر أيضًا.
وإذا كان كل ما رُوِي عن كعب بشأن موت عمر صحيحًا، فلست أشك في أنه كان على علم بما دَبَّر أبو لؤلؤة أو بما دَبَّر الذين اشتركوا مع أبي لؤلؤة في الإعداد لهذه الجريمة.
وقد قال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إنه رأى أبا لؤلؤة والهرمزان وجُفَيْنَة يتناجون؛ فلما رأوه قاموا، فسقط بينهم خنجر له طرفان ونصابه في وسطه، فسألهم عبد الرحمن بن أبي بكر: ما تصنعون بهذا الخنجر؟ قالوا: نقطع به اللحم!
وسمع عبيد الله بن عمر مقالة عبد الرحمن، فقال له: أنت رأيتهم؟ قال: نعم. ونظر القوم في الخنجر الذي قُتِل به عمر فإذا هو كما وصف عبد الرحمن. هنالك ثار عبيد الله بن عمر فأسرع إلى سيفه فتقلَّده، ومضى لا يلوي على شيء حتى أتى الهرمزان، فقال له: قم معي وانظر إلى فَرَسٍ لي، فقام الهرمزان وتأخر عنه عبيد الله شيئًا، ثم علاه بالسيف.
ويقول الرواة: إن الهرمزان حين أحس حر السيف قال: لا إله إلا الله. ولست أدري أي الرواة كان معه حين ذاك، ومضى عبيد الله حتى أتى جفينة فقتله، ولما أحس جفينة حر السيف صلَّب بين عينيه، فيما زعم الرواة، وأكبر الظن أنهم رووا ذلك عن عبيد الله بأخرة، ومضى عبيد الله حتى أتى بيت أبي لؤلؤة، فقتل صبية كانت له تزعم أنها مُسلمة.
وكان أصحاب النبي ﷺ تسامعوا بأمر عبيد الله فأرسلوا من جاءهم به، ولولا ذلك لاستعرض بسيفه من كان في المدينة من الأعاجم.
وما زال عمرو بن العاص بعبيد الله حتى أخذ منه سيفه، وقام إليه سعد بن أبي وقاص، فساوره مساورة عنيفة، وفعل مثل ذلك عثمان بن عفان، وكان يقول له: قتلت رجلًا يصلي ورجلًا له ذمة رسول الله، ما في الحق تركك.
ويقال: إن أصحاب النبي سجنوا عبيد الله، فلما استخلف عثمان استشار فيه المسلمين، فقال: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام فتقًا. فأشار بعضهم بقتله، وخالف بعضهم، وقال: لعلكم تريدون أن تلحقوا بعمر ابنه، فدخل عمرو بن العاص في الأمر، وقال لعثمان: إن هذا الأمر قد كان قبل أن يكون لك سلطان على المسلمين، فلا تعرض له، فعفا عنه عثمان وأدى دية الرجلين والصبية، فيما يقول الرواة.
وقد فصَّلْنا في غير هذا الموضع ما كان من أمر عبيد الله بعد أن استخلف عثمان، فلا نعود إليه هنا، وإنما نذكر أن العفو عن عبيد الله كان مما أخذ به عثمان حين أنكر الناس بعض أمره.
وكان عليٌّ من الذين رأوا قتله، فلما استخلف عليٌّ فر عبيد الله، فلحق بمعاوية وقُتِل في موقعة من مواقع صفين، وكذلك تعدى عبيد الله حدود الإسلام حين ثأر لنفسه بيده، وكان الحق أن ينتظر حتى إذا اختار أهل الشورى خليفة للمسلمين عرض عليه قضيته وأتى بالبينة، على أن الهرمزان وجفينة وصبية أبي لؤلؤة قد أعدوا لقتل عمر، فإن ثبت ذلك عند الخليفة كان من حق الخليفة أن يقصه منهم بالقتل أو بما بدا له من العقوبة.
ولكن عبيد الله أخذته حمية الجاهلية الأولى، فقتل من قتل معتديًا غير متثبت ولا صادر عن حكم الإمام، فكانت عاقبة ذلك وبالًا عليه وفرقة بين المسلمين.
٢٢
ويزعم الرواة أن النبي ﷺ رأى على عمر قميصًا، فقال له: أجديد قميصك أم لبيس؟ قال عمر: بل هو لبيس يا رسول الله.
فقال له النبي ﷺ: البس جديدًا وعش حميدًا ومت شهيدًا، وليعطك الله قرة عين في الدنيا والآخرة.
فمن أجل ذلك كان عمر يسأل الله الشهادة في سبيله ووفاة في بلد نبيه، فلما سُئِل: كيف يعطيه الله الشهادة ويميته في بلد النبي؟! قال: الله يأتي بها أنَّى شاء. وقد استجاب الله له، فمات شهيدًا في مدينة النبي ﷺ؛ قتله رجل مجوسي من العجم، وقتله في أحب الأوقات إلى الله — عز وجل — وهو الوقت الذي تُؤدَّى فيه صلاة الفجر، والله — عز وجل — يقول لنبيه ﷺ، من سورة الإسراء: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا.
وقتله المجوسي وقد كبَّر عمر لصلاة الفجر، فلا شك في أن الله — عز وجل — قد استجاب لنبيه، إن صح الحديث الذي رويناه آنفًا، واستجاب لعمر دعاءه الذي كان يدعو به كما روينا، وقد سقط عمر وهو يقول كلمة من القرآن: وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا.
وقد أُتِيح له أن يحقق شيئًا كان يهتم له أشد الاهتمام، وهو أن يُدفَن مع أخويه: رسول الله، وأبي بكر. وكان قد استأذن عائشة في ذلك قبل أن يُطعَن، فلما أوصى بما أوصى به من أمر المسلمين وفرغ لنفسه قال لابنه عبد الله: اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها: إن عمر — ولا تقل: أمير المؤمنين. فإني لست لهم الآن بأمير — يستأذن في أن يُدفَن مع أخويه. وقال لابنه: إنها كانت قد أذنت قبل ذلك، لكني أخشى أن يكون ذلك لمكان السلطان. فذهب عبد الله وعاد إليه بإذنها فأرضاه ذلك كل الرضى.
وكان عمر شديد الكره للبكاء عليه، سمع حفصة أم المؤمنين تُعول، فقال لابنه عبد الله: أجلسني؛ فليس لي صبر على ما أسمع. ثم قال لها: إني أحرِّج عليك بما لي عليك من الحق إن تندبيني، فأما عينك فلن أملكها. يريد أنه لا يمنعها من البكاء؛ لأنه لا يستطيع ذلك.
وسمع صهيبًا يعول، فقال له: أما سمعت قول النبي ﷺ: إن الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه؟!
وكانت عائشة — رحمها الله — تنكر هذا الحديث، وتقول: إن عمر أخطأ، وإنما رأى النبي ﷺ قومًا يبكون على هالك لهم، فقال: إنهم ليبكون وإن صاحبهم ليُعذَّب. وكان قد اجترم ما عرضه للعذاب، وأمر عمر أن يقوم عنه كل من كان يبكي بحضرته.
وزعم الرواة أنه حين أحس الموت، أوصى ابنه عبد الله، فقال له: يا بني، عليك بخصال الإيمان. قال: وما هن يا أبتِ؟ قال: الصوم في شدة أيام الصيف، وقتل الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، وتعجيل الصلاة في يوم الغيم، وترك ردغة الخبال. قال: وما ردغة الخبال؟ قال: شرب الخمر.
وتُوفِّي — رحمه الله — من غده، فقد طُعِن يوم الأربعاء وتُوفِّي يوم الخميس على اختلاف من الرواة في ذلك، فمنهم من يقول: إنه تُوفِّي بعد ثلاث من طعنته. وأكبر الظن أنه تُوفِّي من غده.
وأنفق أهل الشورى بعد دفنه ثلاثة أيام يتشاورون، وكان عمر قد بلغ من السن نحو ستين عامًا، وإن اختلف الرواة في سنه اختلافًا كثيرًا.
ومهما يكن من شيء، فقد مات عمر مرضيًّا عنه من الله ورسوله وأجيال المسلمين على تتابعها واختلافها لا يختلفون في حبه والثناء عليه، إلا ما كان من غلاة الشيعة.
والحمد لله الذي اتاح للإسلام عمر مثلًا أعلى للعدل والاستقامة في الحكم، والتفوق في أمره كله على من جاء ومن يجيء بعده من الخلفاء والملوك.
٢٣
ولم يخلُ موت عمر حين تُوفِّي من نفع للمسلمين بإثبات حكم ديني له خطره، وقد روى الرواة هذا الأمر ملحين كأنهم عجبوا له، وكأنهم أحسوا شيئًا من غرابته؛ ذلك أن عمر غُسِّل وكُفِّن وكان المسلمون يعلمون أن الشهداء لا يُغسَّلون ولا يُكفَّنون وإنما يُدفَنون كهيئتهم حين يُقتَلون.
وقد أبى النبي ﷺ أن يغسل شهداء أحد، بل قال بشأن حمزة رحمه الله: لولا أن تجزع صفية — وهي أخت حمزة — لتركته نهبًا لسباع الطير.
وقد دُفِن شهداء أحد دون أن يُسعَى لهم في الكفن: لُفَّ حمزة — رحمه الله — في برد كان عليه، فكان إن بلغ رأسه لم يبلغ رجليه، وإن بلغ رجليه لم يبلغ رأسه، فأتموا ستر جسمه بشيء من ورق الشجر، وكذلك فُعِل بعثمان بن مظعون رحمه الله.
ويقول الرواة: إن عمار بن ياسر كان يقول في صفين: لا تغسلوني فإني مخاصم. وسمع المسلمون له فلم يغسلوه، وإنما دفنوه كهيئته ساعة قُتِل.
ولم يكن غسل عمر وتكفينه إلا عن أمره، فهو قد أمر بالقصد في كفنه، وأمر بألَّا يجعل في حنوطه مسكًا، فدل ذلك على أن الشهداء إنما يُدفَنون على هيئتهم ساعة يُقتَلون، إذا استُشهِدوا في ميدان القتال، فأما إذا استُشهِد المسلم لأن عاديًا أثيمًا عدا عليه فقتله، فإنما يُجهَّز كما يُجهَّز غيره من الموتى، فيُغسَّل ويُكفَّن ويُصلَّى عليه. وكذلك كانت حياة عمر وموته مصدر نفع للمسلمين.