الحقيقة الحقيقية بالنسبة إليَّ
ما أحتاج إليه فعلًا هو أن أحسِم ما أنا عازم على فعله، لا ما يجب أن أعرفه، لولا أن المعرفة يجب أن تسبق كل الأفعال. إنها مسألة تتعلق بفهمٍ قَدَري، أن أرى ما يريدني الله أن أفعله؛ الأمر يتعلق بإيجاد حقيقة تكون حقيقية بالنسبة إليَّ، إيجاد الفكرة التي أكون على استعدادٍ للعيش والموت من أجلها. وما نفعُ أن أكتشف ما يُسمَّى بالحقيقة الموضوعية، أو إذا سلكت طريقي عبر النُّظم الفكرية للفلاسفة وكنت قادرًا على محاسبتهم جميعًا، مشيرًا إلى تناقضاتهم في كل موضع؟ وما نفعُ أن أكون قادرًا على تطوير نظرية للدولة، مجمعًا كلَّ الأجزاء من مواضع مختلفة لأُكوِّن نظرية واحدة كلية، وأنشئ عالَمًا لم أقطنه بنفسي بل شيدته فقط كي يراه الآخرون؟ وما فائدةُ أن أكون قادرًا على إبراز معنى المسيحية وتوضيح حقائق عديدة منفصلة بخصوصها، إذا لم تكن تحمل معنًى أعمق بالنسبة إليَّ وإلى حياتي؟ بالتأكيد، لا أنكر أنني ما زلت أقرُّ بأهمية المعرفة، وأن المرء يمكن أن يتأثر بها، لكن يجب حينها أن تحيا هذه المعرفة داخلي، وهذا ما أراه النقطة الرئيسية في الموضوع … ولكن كي أجد هذه الفكرة أو بمعنًى أدق كي أجد نفسي، فلا فائدة من انغماسي أكثرَ في هذا العالم … كان هذا ما ينقصني كي أحيا حياة إنسانية كاملة، بدلًا من أن أعيش حياة معرفية فقط، كي أتجنَّب بناء تطوري العقلي على — شيء يسميه الناس بالموضوعي — شيء لا يخصُّني بكل الأحوال، وأن أبنيَه، بدلًا من ذلك، على شيء يتصل بجذور وجودي كي أنموَ من خلاله وأصل إلى الله، وأتشبَّث به حتى وإن تهاوى العالم كلُّه حولي. هذا، كما ترى، ما أحتاج إليه، وما أسعى إليه … إن هذه الحركة الداخلية للإنسان، هذا الجانب الإلهي فيه، هو ما يشكِّل فارقًا، لا أكوام المعلومات … كم سعيتُ هباءً للبحث عن ملاذٍ ليس فقط في أعماق المعرفة بل أيضًا في بحر المُتَع الذي لا قاع له … وماذا وجدت؟ لم أجد نفسي، فهذا ما كنت أسعى إلى العثور عليه بهذه الطريقة … على المرء أن يتعلم أولًا أن يعرِف نفسه قبل أن يعرِف أيَّ شيء آخر … وفيما يتعلق بعلاقتي بالآخرين، ليس لديَّ الكثير لأكسبه أو أخسره … فلم يُحدِث رفاقي أثرًا واضحًا فيَّ باستثناء قلة منهم … لذا أقف مجددًا عند نقطة، حيث يجب أن أتخذ طريقًا آخر. سأحاول الآن أن أنظر إلى نفسي بهدوءٍ، وأن أبدأ في التحرك إلى داخلي. فبهذه الطريقة فقط، يمكن أن أطلِق على نفسي «أنا» بمعنًى أعمق … لقد عزمتُ أمري؛ وها أنا ذا أعبر نهرَ روبيكون. لا شك في أن هذا الطريق سيفضي بي إلى معركةٍ، لكنني لن أستسلم.
كان كيركجارد قد أتمَّ لتوِّه عامه الثاني والعشرين عندما كتب هذه التدوينة في دفتر يومياته، الذي كان قد بدأه قبلها بعام. في إجازته بالساحل الشمالي، تبرُز هذه التدوينة خاصةً؛ لأنها تعبِّر تعبيرًا مدهشًا عن رحلة حياة كيركجارد، فهي تصف «بحثه الوجودي» — وهو بحثٌ لفردٍ شغوفٍ بعالمه الباطني — من أجل الوصول إلى «حقيقة تكون حقيقية بالنسبة إليَّ». كانت الحياة الجامحة التي يلمِّح إليها كيركجارد «بحر المُتَع الذي لا قاع له»، جامحةً فقط بحسب المعايير الصارمة لوالده وأخيه الأكبر بيتر، اللذين كان يحاول التحرُّر منهما. كان يولي حياته الأكاديمية قليلًا من الاهتمام، وبناءً على تدوينةٍ غامضة له في موضعٍ آخر بدفتر اليوميات، قد يكون أيضًا مارس الجنس مع بائعة هوًى (إذا كان هذا صحيحًا، فقد تكون هذه هي التجربة الجنسية الوحيدة التي اختبرها في حياته كلها). وَجد هذا المقتطَف، وهو مصاغٌ بإتقانٍ، ويكسوه طابع درامي أكثر من المقتطفات الأخرى له في هذه الفترة، طريقَه إلى الكثير من المختارات الأدبية.
وتطرح هذه التدوينة فكرتَه الأساسية عن الحقيقة «الذاتية» أو «الوجودية»، التي ستشرحها الأسماء المستعارة الخاصة به بالتفصيل لاحقًا. وفي ملحوظة كتبها في الهامش بجانب هذه التدوينة في يومياته، أضاف كيركجارد أن «الفيلسوف الحقيقي، في أعلى مراتبه» يتسم ﺑ «الذاتية» لا «الموضوعية» (٣٨). وهو يضع بهذا مسافةً بينه وبين الحقيقة «الموضوعية» أو «النُّظم» الفكرية للفلاسفة. ولا يقصد كيركجارد بطرحه هذا نسبيةَ الأخلاق والمبادئ. فهو لا يقول إن كلَّ ما يتبادر إلى ذهن الفرد منصفٌ للحقيقة ما دامت الفكرة قد لاقت هوًى ما عنده، أو إن الفيلسوف الحقيقي معفيٌّ من البحث غير المتحيِّز. لكنه كان يستهدف بحديثه هذا العقلانيةَ المفرطة التي تتمحور حول الفلسفة الهيجلية السائدة وقتَها، والتي شعر أنها تنتشر حوله في كل مكان، مستنزفةً الحياة الثقافية في أوروبا، وممتصةً حيويتها. بعدها بنصف قرن، طرح نيتشه وجهةَ النظر نفسها، لكنه كان يتحدَّث من منظورٍ مناقضٍ للدِّين مناقضةً واضحةً. عبَّر الشاب نيتشه عن شكواه من الانهماك المفرِط في البحث التاريخي، الذي حوَّل الأوروبيين إلى متفرجين على الحياة لا مشاركين في لعبتها المحفوفة بالمخاطر. استخلص كيركجارد النقطة نفسَها من والده، الذي كان يرى المسيحية تصدُر من القلب، لا من التعليم والجدل البحثي.
لم يتردَّد الابن مطلقًا بشأن فكرة أبيه عن الإيمان الصادر من القلب. يكمن «معنى المسيحية» في معناها «بالنسبة إليَّ وإلى حياتي»، لا في مجموعة التأكيدات والتعريفات العقائدية التي يطرحها رجال الدين. جادل كيركجارد، على وجه الخصوص، ضدَّ ما كان يحدث للمسيحية في الجامعة، حيث كانت فلسفة هيجل مسيطرةً. طرح هيجل، أعظمُ فيلسوف ألماني ميتافيزيقي، ويمكن القول إنه أعظم فيلسوف في القرن التاسع عشر، رؤيةً منهجية شاملة للواقع كله، وربما هو آخِر فيلسوف يحمل على عاتقه مشروعًا كهذا. اعتقد هيجل أن الله ليس كائنًا متعاليًا في دائرةٍ منفصلة تتجاوز حدودَ الزمان والمكان، لكنه أشبه بروحٍ دنيوية، يتبدَّى جوهرها في حدود الزمان والمكان. يقول هيجل إن التاريخ هو سيرةُ الله الذاتية، هو الطريقة التي تتطور بها الحياة الإلهية عبر الزمن، والتي يُرمَز إليها في المسيحية بعقيدةٍ تجسِّد الله في هيئة إنسان. كانت المسيحية، بالنسبة إلى هيجل، جزءًا من نظامه الفلسفي. وقد عامل العقيدةَ المسيحية باعتبارها «تمثيلًا تخيليًّا»، أو رمزًا لما يمكن أن يفسِّره الفلاسفة بدرجةٍ أوضح عن طريق التحليل المفاهيمي، فهي بالنسبة إليه أشبهُ ببطاقة مصوَّرة لطيفة ترمز إلى حقيقة تحليلية أكثرَ فتورًا لدى الفلاسفة. بالنسبة إلى كيركجارد، يُعد هذا الطرح تنازلًا مخيفًا عن جلال الله وتعاليه. وقد هزأ يوهانس كليماكوس (الاسم المستعار لكيركجارد) — استوحى كيركجارد الاسم من راهبٍ يعود إلى القرن السابع، كان قد كتب أطروحة عن التقشف والزهد، تحمل اسم «السُّلَّم المؤدي إلى الجنة» — من رؤية هيجل، قائلًا إن الله، وَفقًا لهيجل، قد أتى إلى العالم ساعيًا إلى تفسيرِ نفسِه عبر الميتافيزيقا الألمانية.
جادل كيركجارد ضد هيجل عبر طرح المسيحية كإيمانٍ يحوِّل كِيان الإنسان الشخصي، في مقابل المسيحية المختزلة إلى لحظة واحدة في نظام هيجل الفلسفي. وقد فعل هذا عبر اقتراح سُلمٍ بديل تصعد عليه الروح إلى الله، يبدأ بالتجربة الجمالية، ويمر بالصحوة الأخلاقية، ويصل في النهاية إلى ما قد يصفه والده بالحركات الشغوفة للإيمان الديني، لتحل محلَّ ما أطلق عليه هيجل «الفلسفة التكهنية». ولا ينبغي التعامل مع هذه «المراحل الوجودية الثلاث» الشهيرة باعتبارها متعاقبة، بل على أنها توجَد معًا وسط الصراعات الداخلية للفرد، حيث تلطِّف الصحوة الأخلاقية التجربةَ الجمالية في أسفل السُّلم، وتؤدي إلى الإيمان الديني في الأعلى.
ولا تعني عبارة «حقيقة تكون حقيقية بالنسبة إليَّ» أن الحقيقة اعتباطية أو محكومة بالهوى الشخصي، أو أن للفرد الاعتقادَ فيما يحلو له. لكنها تشير إلى حلٍّ داخلي، حيث تعني «بالنسبة إليَّ» الحقيقة التي تغيِّر حياتي شخصيًّا؛ وهو تعبير يقول كيركجارد إنه قرأه للمرة الأولى في كتابات الراهب مارتن لوثر. ونقيض الحقيقة «التي تكون حقيقية بالنسبة إليَّ» هو الحقيقة الخامدة التي تخلو من الحياة؛ مجرَّد لغوٍ للتملُّص من متطلبات الحياة عبر الكلمات الفارغة. فانْشُد أولًا مملكة الله: أي إن على المرء أولًا أن يقوم بتحويل حياته الباطنية، وليس مراكمة زخارف المعرفة التكهنية. فحقيقة المسيحية ليست في توفير مادة خام لتأملات الميتافيزيقا الألمانية، وليست أيضًا في قصرها على الطقوس الدينية في صباح يوم الأحد، وتجاهلها بقيةَ أيام الأسبوع. إذا كانت المسيحية «حقيقية» فهي حقيقية بالمعنى الذي يتحدَّث عنه الكتاب المقدَّس الذي يقول إن المسيح هو «الطريق، والحقيقة، والحياة»، وهو ما يعني أن الحقيقة المسيحية هي طريقة للعيش في الحقيقة. إذا لم تحمِل في قلبك حبَّ جارك، الذي تحدَّث عنه العهد الجديد؛ إذا لم تكن محبًّا متسامحًا في حياتك؛ إذا لم تنقش هذا الحب في وجودك الشخصي، فأنت لا تعيش «في الحقيقة» بمعناها «الوجودي». تفتح تدوينة كيركجارد في يومياته البابَ أمام نظرية جديدة للحقيقة، تتجاوز التعريف العقلاني الكلاسيكي للحقيقة باعتبارها تمثيلًا عقليًّا لشيء موجود في العالم الخارجي. أعاد كيركجارد وصفَ الحقيقة بناءً على المعايير الذاتية للفرد، التي نجدها في كتابات القديس أغسطينوس، وتقاليد الفرنسيسكان.
ينبغي ملاحظة أن كيركجارد لا يزدري «حتمية المعرفة»، على النقيض مما يقوله منتقدوه؛ هو فقط يحذِّرنا مما قد يحدث إذا أصبح التفكير الموضوعي مسيطرًا. وبعيدًا عن نزع المصداقية عن العلم (أظهر كيركجارد، في الواقع، اهتمامًا مبكرًا بالعلم)، فإن القول بأن الحقيقة الموضوعية يجب أن تحيا داخلي كشغفٍ شخصي، لهو في الواقع بدايةٌ جيدة لتأسيس فلسفة للعلوم. يتنبأ كيركجارد هنا بالنقد المعاصر الموجَّه ضد العلم المتحرِّر من القيم بوصفه «خرافة الموضوعية»، وهو ما يذكِّرنا بأن العلماء هم أشخاص لديهم أهواء شخصية ووجهات نظر. نحن نشعر بقلقٍ مشروعٍ تجاه الهيبة الكبيرة المبالَغ فيها «للعلم»، الذي يحاول أن يفرضَ نفسه كما لو كان قد هبط من السماء. ونحن نطالب بالمساءلة الأخلاقية والشخصية للعلماء حتى وإن كنَّا نحترم الشغفَ الإنساني لدى العديد من العلماء العظماء. فعلى المعرفة الشخصية أن تسبق المعرفة غير الشخصية.
على أحد الأصعدة، لا يُعد ما يقوله كيركجارد مثيرًا للجدل. فالمعرفة ينبغي أن توفِّر أساسًا للفعل وأن تُترجم إلى أفعال؛ والنظرية يجب أن تُطبَّق عمليًّا وإلا فستصبح خالية من الحياة. لكن الكتب التي طرحها تحت أسماء مستعارة تعرِض هذا الاعتقاد بأسلوبٍ أكثرَ إثارة للاهتمام، وهو أن أبرز الحقائق الذاتية لا يمكن أن تتحقق بوسائلَ موضوعيةٍ أو أن تُضفى عليها مكانةٌ موضوعية مستقلة. فهي تنشأ فقط من الذاتية الشغوفة. ومثلما قال القديس أغسطينوس، هناك بعض الأشياء، التي لا يمكن أن نتعلمها إلا إذا أحببنا ما نسعى إلى تعلُّمه. يتشكَّل ويُكتسب المعنى الحقيقي لمقولة إن «الله محبة» في الحياة الذاتية للفرد؛ أي إن المعنى الحقيقي لهذه الجملة هو ما تعنيه في حياتي. إن أي حقيقة موضوعية عن المسيحية لا تلامس سوى السطح الخارجي للمسيحية. فالمسيحية ليست مجموعة من الفرضيات، بل هي أسلوب لا بد أن يتحوَّل به «وجود» المرء وحياته الشخصية.
قد يغرينا الاعتقاد بأن ما يكتب عنه كيركجارد هنا، أي إيجاد الحقيقة الشخصية للمرء، يصلح فقط للاحتفاظ به في دفتر يومياته ولا يرقى إلى أن يكون عملًا فلسفيًّا، رغم أهميته الكبيرة. هل يمكن أن يكون هناك نظرية وجودية فيما يكتبه؟ هل يمكن أن يكون هناك عرضٌ موضوعي عن الحقيقة الحقيقية بالنسبة إليَّ؟ أن تقول لنفسك مثلَ هذه الأمور في دفتر يومياتك شيء، أما أن تكتب كتبًا عن الحقيقة الذاتية فهو شيء آخر مختلف تمامًا. إذ كيف تكتب كتابًا يقول للقارئ أن يجد الحقيقة الخاصة به بنفسه ولا يبحث عنها في كتاب؟ ألا يكون هذا الكتاب مناقضًا لنفسه لمجرد كونه مكتوبًا؟ كانت أولُ استراتيجية يتَّبعها كيركجارد للتعامل مع هذه المشكلة هي نسَبَ نظريته إلى أسماء مستعارة.
في القرن التالي، وبتأثيرٍ من كيركجارد، عاود الفيلسوف الألماني هايدجر، والفرنسي سارتر مناقشةَ هذه المعضلة. ميَّزَ هايدجر بين الفردِ الموجود وجودًا ملموسًا، الذي يجب أن تظل الفلسفة صامتة تمامًا عن حياته الشخصية، والهيكلِ الشكلي (الأنطولوجي) الخالص للوجود الشخصي، الذي تُعد الفلسفة مسئولة عن وصفه. كان متاحًا لدى هايدجر ما أطلق عليه الفيلسوف الألماني إدموند هوسيرل (الذي تدرَّب على يديه هايدجر نفسه كأستاذ شاب) المنهج الفينومينولوجي. وكان هذا المنهج مخصصًا لوصف التجربة كما هي دون اختزالها في نظرياتٍ مجردة حول واقعٍ أعمقَ يستتر خلف التجربة. ولا ينظر هذا المنهج إلى التجربة باعتبارها حجابًا يجب اختراقه، بل باعتبارها الشيء الذي يحتاج منا إلى وصفٍ دقيق ومتأنٍّ لشكله الظاهري. ويتسم باحثو الفينومينولوجيا (أو علم الظواهر) بحساسيتهم اللافتة لتفاصيل التجربة الملموسة، وللتجارب الخاصة جدًّا التي لا تلتقطها رادارات المفاهيم الفلسفية التقليدية. بل إن كيركجارد نفسه قد أظهر قدراتٍ فينومينولوجية لافتة في وصفه الشهير للقلق واليأس، الذي يتطلب فنانًا ذا حساسية مرهفة.
اعتذر كيركجارد لخطيبته ريجين، واستماح من العالم عذرًا، ومضى في طريقه، متَّبعًا صوت ذاته الشخصي والسري. تكمُن عبقريته في تحويل حياته السرية إلى مفهومٍ فلسفي — وهو مفهوم «الفرد الواحد»، الذي يُطلِق عليه الفلاسفة المعاصرون، بتأثيرٍ منه، وصف «التفرد» — وهو الفرد غير القابل للتكرار، والاستثنائي، والسري، والمميز في حد ذاته وليس الذي يُعتبَر نموذجًا لنوعٍ ما. أصاب هذا وترًا حساسًا لدى مؤيدي حركةِ ما بعد الحداثة؛ ففي حين تُشدِّد الحداثة على مبدأ المتشابه والعام، تؤكد حركةُ ما بعد الحداثة على الفروق الفردية. وكما يقول جيل دولوز، الفيلسوف المنتمي إلى حركةِ ما بعد البنيوية، إن العامل المشترك بين الأشياء كلها هو تحديدًا اختلافها! وما يجعل كلَّ شيء متشابهًا هو أن كل شيء مختلف. طرح عالم الدِّين الفرنسيسكاني جون دانز سكوطس (الذي تُوفي عام ١٣٠٨) هذه الفكرة في العصور الوسطى عندما قال إنَّ — فضلًا عن الشكل الذي يجعل شيئًا ما عضوًا في نوعٍ معين، مثل النوع البشري — كلَّ شيء يتمتع بنوعٍ من «الخصوصية» التي تميِّزه وتجعله فردًا، تجعله هذا الشخص بالذات. أخذ الشاعر جيرارد مانلي هوبكينز فكرةَ سكوطس وبنى حولها نظريته الجمالية. فالقصيدة، بالنسبة إلى هوبكينز، تعمد إلى وصف شيء متفرد وخاص للغاية، محاولةً التقاط «خصوصيته»، لكنها تفعل هذا بطريقةٍ ما من شأنها أن تقول شيئًا ذا أهمية عامة.
شكَّل هذا التوجُّه الفكري تهديدًا للعديد من الأشخاص، الذين رأَوا في هذا الحديث دعوةً إلى النسبوية أو التشككية. وبدا أنه يتخلَّى عن المعايير العامة والشائعة التي تؤكدها الفلسفة الكلاسيكية، ويندفع بتهورٍ نحوَ ما عُرِف لاحقًا ﺑ «الأخلاق على حسب الموقف». صحيح أن كيركجارد ومدرسةَ ما بعد الحداثة، التي ساعدت أفكاره في ظهورها، أظهرا حساسيةً شديدة تجاه الظروف الفريدة، التي يُتخذ خلالها كل قرار، لكن هذا الرأي لم يكن متأثرًا بنسبية الأخلاق والمبادئ على الإطلاق. كان كيركجارد يحثُّنا على تحمُّل مسئولية حياتنا، وإدراك أنَّ فن الحياة يكمُن في معرفةِ ما يتوجَّب علينا فِعله في الظروف التي نواجهها وحدَنا، وفي المواقف، التي لا يمكن أن يحلَّ أحدٌ آخرُ محلَّنا فيها. إن مهمة الشخص، الذي يقدِّم طرحًا فلسفيًّا بشأن الوجود الفردي الفعلي، هي أن يقول شيئًا ذا أهمية عامة عن تفرُّد حياتنا الشخصية.
جعلت مهمة البحث عن «الحقيقة الحقيقية بالنسبة إليَّ» كيركجارد أشبهَ بفيلسوفٍ معادٍ للفلسفة، يكتب فلسفة مناقضة لِلُبِّ الفلسفة. فهو لا يطرح الفلسفة بمفهومها المعتاد باعتبارها «أعلى» علم، وبصفتها بحثًا عن الأسباب «الأولى» والمبادئ العامة. كانت فلسفته ثورية ومعادية للفلسفة بمفهومها التقليدي، فهي تدير دفتها في اتجاهٍ مغاير نحو الأدنى، والأقل، والأخير بيننا؛ نحو الذاتي، والشخصي، والوجودي، والمتفرد؛ نحو «الشذرات» الصغيرة، كما يصِفها كليماكوس، والتي حذفها هيجل من «نظام الفلسفة» الضخم. غير أن دوافع كيركجارد في التحوُّل نحو الفرد تتسم بطابعها الديني، وهي مستلهَمة من نموذج القديس أوغسطينوس والقس لوثر عن الفرد الذي يقف وحدَه أمام الله. يبرُز تفرُّدنا عندما نقف أمام الله، أمام نوره المطلق، حيث تسقط كل الأقنعة، فنكون صادقين تمامًا مع أنفسنا. أمام هذا النور، لا مجال للحِيَل؛ فالله لا يمكن خداعه.
بالنسبة إلى كيركجارد، يتمحور الأمر حول تعريض حياة المرء في الزمن إلى نور الأبدية، أن يرى الإنسان نفسه من منظور الأبدية. فما أفعله الآن سيكون له تداعيات أبدية، وسيحدِّد مصيري في الأبدية؛ ولا يجب أن أعيش حياتي بناءً على الاهتمامات الدنيوية الزائلة بل على ضرورات الأبدية. رأى كيركجارد أن حياتنا معلَّقة بين عالمين. فنحن لسنا مجرَّد كائناتٍ زائلة (مثل الحيوانات، التي تنغمس حياتها كلها في الزمن والمادة) ولسنا كائناتٍ خالدة تمامًا (مثل الملائكة أو الأرواح غير المادية في فلسفة أفلاطون). كما أننا لسنا مكوَّنين من المادة والشكل كما في نظرية أرسطو، حيث إن الشكل يصوغ المادة، ويجعلها هذا الشيء بعينه دون غيره. لكننا نقف في المنتصفِ ما بين الزمن والأبدية، نعيش في المسافة التي لا يمكن اختزالها بينهما، في الزمن ولكن أمام الأبدية. إن الصراع بين النقيضين الزمن والأبدية هو ما يسميه كيركجارد ﺑ «الجدل»، وتتمثَّل مهمة الوجود البشري الشاقة في تعلُّم كيفية عبور هذه المسافة وتبنِّي كلا النقيضين؛ أن تتعامل مع هذا التفاعل الجدلي بينهما. وتشكِّل الفجوة بين الزمن والأبدية، بين السعادة الدنيوية والسعادة الأبدية، أساسًا لفكرة إما هذا وإما ذاك «إما/أو»، التي تأملها كيركجارد. هذا الصراع بين النقيضين هو تحديدًا ما يزوِّدنا بطاقة الوجود، ويمنح الحياةَ شغفها الوجودي مثل رجلٍ يسير على حبلٍ مشدود فوق هاوية سحيقة.
أن تكون مسيحيًّا يعني أن تعيش في الزمن بينما تسمع نداء الأبدية، وأن تعيش في الأبدية بينما تسمع دقات ساعة الرواق. إن الأبدية هي ما تمنحنا التفرُّد، وتميِّزنا كأفراد:
فكِّر في اللحظة الزمنية باعتبارها نقطةً يتقاطع فيها الخط الرأسي لقوة الأبدية مع الخط الأفقي للزمن وتشحنه. ويتمثَّل الفن الرفيع للوجود المسيحي في الحفاظ على توازننا عندما تصدمنا هذه القوة؛ أن نسير عبر الحياة في ظل تدفُّق الزمن من ناحية وصدمة الأبدية من ناحية أخرى. بالنسبة إلى المسيحي، كل لحظة تحمل أهميةً لا نهائية، وفي توازنها تتعلق الأبدية كلها. فالخيار المؤقت الدنيوي له تداعيات أبدية. إن كل السخرية، وحسَّ الدُّعابة، واللغة الشعرية غير المباشرة، التي استخدمها كيركجارد، هي وسائل، استخدمها للحفاظ على هذا الصراع بين النقيضَين؛ للسير على الحبل المشدود بين الزمن والأبدية.
ما يهدِّد هذا الجدل الحسَّاس بين النقيضين هو السماح لجانبٍ ما بأن ينموَ أكثرَ من اللازم على حساب الجانب الآخر، سواء بترك المغريات الدنيوية تطغى على متطلبات الأبدية — وهو ما يسمَّى ﺑ «الدنيوية» — أو على النقيض من هذا، أن تدَع متطلبات الأبدية تصبح بالغةَ الأهمية إلى درجةٍ تجعلها تُبطل أهميةَ الحياة في الزمن — وهو ما يُسمى ﺑ «الأخروية» أو «السَّأم من الحياة». في رأيي، تكون كتابات كيركجارد في أفضل حالاتها، عندما يحافظ على هذا التوازن. لكنها تصبح مقلقةً عندما تطغى قوةُ الأبدية الهائلة على نسيج الزمن الهشِّ مثلما حدَث في السنوات الأخيرة من حياته.