السَّأم من الحياة
قدَرُ هذه الحياة في أعين المسيحية
قدَرُنا في هذه الحياة أن نُدفع إلى أقصى درجات السأم من الحياة.
من وصل إلى هذه النقطة وهو يصرُّ على أن الله هو مَن دفع به إلى هذه المرحلة، بدافع الحب، قد اجتاز اختبار الحياة وأصبح ناضجًا للأبدية.
لقد أتيت إلى هذا العالم عبر جريمة، أتيت ضد إرادة الله. فالجريمة — التي رغم أنها تجعلني مجرمًا في أعين الله فهي ليست جريمتي بطريقةٍ ما — هي أن أهَبَ الحياة. والعقوبة تتناسب مع الجريمة: أن تُسلب مني كلُّ رغبة في الحياة، أن يُدفع بي إلى أقصى درجات السأم من الحياة. سيحاول الإنسان أن يوظِّف يده الخرقاء في عمل الله، إن لم يَخلُق إنسانًا، فعلى الأقل، سيَهَب الحياة. «ستدفع ثمن هذا؛ إذ إنه بفضلي فقط، قد جعلت قدَر هذا العالم السأمَ من الحياة، أُظهِر هذا المعروف لك وحدَك يا مَن نجوت، عبر الدفع بك إلى أقصى درجات السأم من الحياة.»
إن معظم الناس هذه الأيام بلا روح، محرومون من فضل الله، ومن تسليط هذا العقاب عليهم. هم تائهون في هذه الحياة، ويتشبَّثون بهذا العالم، يأتون من لا شيء ويصبحون لا شيء، إن حياتهم هباء.
هؤلاء الذين يتمتَّعون بالروح، ولم يُحرَموا من فضل الله، يُقتادون إلى النقطة التي تصل فيها الحياة إلى أقصى درجات السأم. لكنهم لا يستطيعون أن يتكيفوا معها، ويتمرَّدون ضد الله، وما إلى ذلك.
فقط هؤلاء الذين، عندما يُقتادون إلى حدِّ السأم من الحياة، ويستطيعون، بعونٍ من فضله، أن يصروا على أن الله يفعل هذا بدافع الحب، بمعنَى أنهم لا يُضمِرون أيَّ شك في أرواحهم، بأن الله محبة — فقط هؤلاء يصبحون ناضجين للأبدية.
ويستقبلهم الله في الأبدية. ماذا يريد الله؟ يريد أرواحًا قادرة على مدحه، وحبِّه، وعبادته، وشكره؛ شأن الملائكة … وما يسعدُه أكثرَ من مديح الملائكة هو إنسان، في المنعطف الأخير للحياة، عندما يتحوَّل الله إلى ما يبدو وحشيةً مطلَقة، عندما يفعل كل شيء بمنتهى القسوة الظاهرية كي يحرم الإنسان من كل رغبة في الحياة، يظل، رغم كل هذا، مؤمنًا بأن الله محبة، وأن الله يفعل هذا بدافع الحب. إنسان كهذا يصبح ملاكًا.
تُعَد هذه الفقرات مثيرةً للاهتمام في إطار المقارنة المتكررة بين كيركجارد ونيتشه، والتي ظلَّت تنعقد على مدار السنين. فهي تذكِّرنا، بقوة، بتحليل نيتشه عن مرض الروح الدينية، الذي يعني، وفقًا لنيتشه، أن يعتقد الشخص أن المعاناة تدحض الحياة. بالنسبة إلى كيركجارد، المعاناة هي علامة على اختلاف المرء عن العالم، وهي طريقنا كي نُفطَم من أجل الأبدية. لقد غاب عنه أيُّ معنًى يفيد بأن المعاناة هي ببساطة أحدُ مكوِّنات جمال الحياة وجزء من إيقاعها، وهو المعنى الذي يؤكده نيتشه. يتساءل المرء، بالفعل، ماذا جرى للعالم الذي قال عنه إلوهيم إنه «صالح» خمس مرات، ثم أضاف «صالح جدًّا»، في الصفحات الافتتاحية لسِفر التكوين. يميل المعجَبون بكيركجارد، وأنا واحد منهم، إلى تجاهل هذه الفقرات الموجودة في الصفحات (١٨٥٤-١٨٥٥) والتركيز بدلًا منها على السخرية الموجهة ضدَّ رجال الدين في الكتابات اللاحقة. لكن لا يمكننا تجاهُل هذه الفقرات باسم «الأمانة»، التي دافع عنها كيركجارد نفسه.
إذن، ما الذي أصبح عليه الزواج المسيحي من وجهةِ نظر كيركجارد؟ ينبغي أن يُثنيَ القسُّ الزوجين، اللذين يأتيان إليه سعيًا إلى الزواج، عن فعل هذا: «يا أطفالي الصغار، أنا آخر شخص ينبغي أن تلجئوا إليه … فواجبي هو أن أستخدم كلَّ الوسائل المتاحة لمنعكم من الزواج» (٢٤٧). لكن ماذا يفعل «رجل الله» في واقع الأمر؟ إنه يفعل ما يفعله البشَر. يبارك الزواج ويحصل على عشرة دولارات لقاء جهده؛ ففي نهاية المطاف، يحتاج القساوسةُ إلى طوائفَ كبيرة كي يواصلوا توفيرَ الدعم لهم. وعلى النقيض من رجلٍ أمين يكسب عشرة دولارات لقاء «تقديم البيرة والبراندي» للزبائن، يكسب القسُّ عشرة دولارات عبر خدمته لخدعة تقول إن استسلام المرء للشهوة الجنسية يعني تنفيذه لمشيئة الله. «ممتاز!» يعلِّق كيركجارد ساخرًا. ويضيف بأن هذا الاهتمام بالزواج والأطفال هو شأنٌ يهودي وليس مسيحيًّا حقًّا. ينسى المرء ويلات العالم في الأحضان الناعمة والحانية للزوجة، لكنه ينسى أيضًا «ما هي المسيحية». (١٦٤) إنَّ رأي كيركجارد الأخير في الزواج — «من منظور مسيحي» — لا يقل سخريةً وتشاؤمًا عن رأي يوهانس المُغوي — «يُتفِّه الزواج من الناس»، وهو أمرٌ «يكتشفه المحبُّون لاحقًا فقط» (٢٤١).
من المهم التأكيد على مدى تعارُض كيركجارد مع التقاليد المسيحية في هذه النقطة. لم يعتقد المسيح أن زواج القديسين عائقٌ يحُول دون ممارسة مهمَّتهم، ولم يؤدِّ أيٌّ مما قاله المسيح لاحقًا إلى تخلي القديسين عن زواجهم. الأكثر من هذا، كان زواج رجال الدِّين أمرًا عاديًّا في الكنيسة خلال الحِقبة التي تعرَّضت فيها للكثير من الاضطهاد قبل قدوم الإمبراطور الروماني قسطنطين، وقد كان كيركجارد معجبًا بالكنيسة خلال تلك الفترة. (لقد حاول كيركجارد حتى أن يقلِّل من أهمية حضور المسيح لاحتفالات الزواج في مدينة قانا). لقد تعامل كيركجارد، الذي رفض بغير حكمةٍ أهميةَ الدراسة النقدية التاريخية الناشئة حديثًا للكتاب المقدس، مع ما قاله القديس بولس بمعنًى حرفي مطلَق دون النظر إلى سياق الحديث. فالقديس بولس، الذي كان يعتقد أن العالَم سينتهي قريبًا ربما حتى في غضون أشهر، قد رأى، على الأرجح، أن أفضلَ نصيحة يمكن أن يقدِّمها لأهل كورنثوس في تلك اللحظة هي الحفاظ على وضعهم الراهن دون البدء في أي مشروعات جديدة. حتى القديس يوحنا، الذي لم يستشهد، لا يتوافق مع معيار أن تكون «شاهدًا على الحقيقة، أو (شهيدًا)» الذي وضعه كيركجارد، وهو ما يعني حرفيًّا، الاضطهادَ والاستشهاد. كان كيركجارد سيرفض كلَّ هذه الاعتراضات بوصفها مساومةً أو جبنًا، محاولة لخداع الله. هذا ما تَعنيه كلمة «بلا روح» الموجودة في هذا المقتطَف: ألا يمتلك المرء شجاعةَ أن يتمزَّق من نسيج العالم عبر «أهوال الأبدية»، وألا ترى هذا من صنائع «فضل» الله و«محبته».
أراد كيركجارد أن يكون سقراطًا مسيحيًّا، لكن الرؤية الأخيرة المعبَّر عنها في الصفحات ١٨٥٤-١٨٥٥ تلمِّح إلى حكمةٍ أكثرَ ظلامية، تجعله أقربَ إلى كونه سيلينوس مسيحيًّا: من الأفضل ألا تُولَد، لكن إذا وُلِدت، فمن الأفضل ألا تشارك في إدامة الحياة. إن التحوُّل إلى وجهة النظر هذه يمكن تمييزه بسهولة عبر تتبُّع تغيُّر موقفه من رهبنة العصور الوسطى، التي امتدحها سابقًا بصفتها تدينًا مخلصًا لكنه مُضَلَّل لأنه يحوِّل الانفصال الداخلي للروح إلى انفصال خارجي وحرفي عن العالم. الآن، هو يشكو من كون الرهبنة متساهلة أكثرَ من اللازم: فهي تتعامل مع التبتُّل بكونه مشورةً للكمال، نداءً استثنائيًّا ملائمًا فقط لعددٍ محدود من الناس، مدعوين إلى تقديم تضحيةٍ خاصة لله، بينما تتعامل مع الحياة في العالم بصفتها شأنًا عاديًّا يخصُّ المسيحيين (٤٢٠-٤٢١). لم يعُد كيركجارد يدافع عن قضيته باعتبارها «استثناءً»، بل يعتبر الآن أن التبتل هو الممارسة الطبيعية، التي يجب أن يلتزم بها الجميع، بينما الزواج والعائلة هما الاستثناء، هما مساومة وانحراف عن الطبيعي. إن القسَّ لوثر (الذي ترك الرهبنةَ الأوغسطينية وتزوَّج) قد ضلَّ طريقه. وأغفل كيركجارد أهمَّ المفاهيم الأساسية لديه، وهي أن كل فردٍ يقف أمام الله بطريقته أو طريقتها الخاصة، إلى جانب العديد من الأشياء الأخرى.
نظرًا إلى وجهة نظره القاتمة عن المسيحية الأصيلة، ليس مستغربًا أن السَّنة الأخيرة من حياة كيركجارد كانت عاصفة. غير أن هذه العاصفة كانت تتشكَّل على مدار سنوات في يومياته، التي امتلأت بامتعاضٍ متزايدٍ تجاه ما أسماه بخديعة «العالم المسيحي»، الذي يترأس رعايته الأسقفُ مينستر ورجالُ الدين الدنماركيون. يرى المرء حتى في كتاباته العديدَ من التأملات الكارهة للنساء والبشر، وإعجابًا جديدًا بآرثر شوبنهاور، الفيلسوف الألماني المنافس لهيجل والذي يشتهر بتطوير نظرية فلسفية عن «التشاؤم». لم يختَر كيركجارد طريق الرسامة الكهنوتية، ورعاية الأبرشية، والحياة الآمنة لرجال الدين، الذين يحصلون على رواتبهم من الكنيسة الوطنية، كما لم يختَر الزواج والأطفال، لكنه لم يستطِع أن يترك خيارَه هذا من دون تفسير. لقد كان يشرح دومًا اختياره لريجين، ولقرائه، ولنفسه. إنَّ شرحه الأخير قاسٍ: الزواج وإنجاب الأطفال جريمةٌ، استهزاءٌ بصليب المسيح. إذا تزوَّجت، فستندم إلى الأبد لأن الزواج مساومةٌ على حياتك الأبدية؛ وإن لم تتزوج، فستندم أيضًا في حياتك المؤقتة؛ لأن هذا سيسلب الحياةَ متعتَها. اندلعت العاصفة على الملأ بعد وفاة الأسقف مينستر (٣٠ يناير، ١٨٥٤). انتظر كيركجارد معظمَ العام لأسبابٍ سياسية، وانتظر حتى تولَّى خليفة الأسقف ومنافِسه القديم، هانز لاسين مارتنسن، منصبَه، كي ينشرَ هجومه في ديسمبر. امتدح مارتنسن مينستر بصفته «شاهدًا على الحقيقة»، وقد اختار تعبيرًا يتماثل مع تعريف كيركجارد الذي كتب أن المسيحية ليست عقيدةً مدعومة بالأدلة بل هي أمرٌ بتحويل الوجود، الذي يمكن فقط أن نشهده. انفجر كيركجارد. وهاجم الأسقف مينستر، الذي سعى جاهدًا طوال حياته إلى الحصول على دعمه وتأييده، والذي أحبَّ خُطَبه، وشارك آراءه عن الفرد في مواجهة الفكر التكهني. قال كيركجارد غاضبًا إن الشاهد — الشهيد — ليس مَن يعيش حياته في راحةٍ مرتديًا ثيابَ الكهنوت الطويلة، مثل الأسقف، بل مَن يواجه الاضطهاد والمعاناة من أجل الحقيقة. من اللافت إلى الانتباه، أن النقد الموجَّه إلى أسلوب الحياة الأرستقراطي الذي يعيشه رجال الدين، طوَّر وعيَّ كيركجارد بشأنِ ما يسميه علماء اللاهوت السياسيون المعاصرون ﺑ «تفضيل المسيحية للفقراء». فقد حثَّه هذا النقد أخيرًا على تبنِّي توجُّه سياسي أكثرَ راديكالية، ومتوائمًا مع أحداث التحول السياسي التي وقعت في عام ١٨٤٨، وهو العام الذي شهِد اندلاع الثورات الديمقراطية في أنحاء أوروبا كافة. لقد كان كيركجارد يدرك أن إطلاق تهمةٍ كهذه ستجعل هناك ميلًا إلى وضع الناقد في موقع الشاهِد الحقيقي. قد يشير المرء إلى أن كيركجارد لم يأخذ ميراثه ليعطيَه للفقراء، أو ربما أن هذا التقدير الجديد للفقر الإنجيلي قد يكون له علاقة بتقلُّص ميراثه. لقد حاول مقاومةَ هذا الميل عبْر ترديد اعتقاده القلبي الذي لازمه طوال حياته، بأنه يحاول أن يكون مسيحيًّا، وأنه لا يزعم بأنه مسيحي، لكنه قادرٌ فقط على التعرُّف على المسيحي الحقيقي إذا ما رآه، وهي النقطة التي يتبناها أيضًا مينستر ومارتنسن. لكن هناك أدلة واسعة في اليوميات تشير إلى أن كيركجارد كان يرى نفسه شهيدًا للحقيقة فعلًا، مضطهدًا من العامة، والصحافة، وحتى الأطفال في الشارع.
في سلسلة من الكتيبات التي ظهرت في الأشهر القليلة التالية، أطلق كيركجارد ما بات يُعرف ﺑ «الهجوم على العالم المسيحي»، والذي يدور حول زعمِ أن المسيحية غير موجودة ولا يمكن العثور عليها في «العالم المسيحي». لقد شنَّ كيركجارد نقدًا مدمرًا ضد رجال الدين الدنماركيين، وكان محقًّا في كثير من هذه الانتقادات — إلى جانب نيتشه، كشف كيركجارد نفاق «العالم المسيحي البرجوازي» — إلى جانب هذا، اتسم نقدُه لهم بسخرية ممتعة. يرى المرء هنا نقدًا متطرفًا ذا نغمةٍ ثورية للنفاق الاجتماعي، لكن من الصعب تخيُّل نوع «الكنيسة» التي يمكن أن تنشأ عن مثل هذا «التصحيح»، مثلما أسماه كيركجارد، أو ما إذا كان يمكن أن يكون هناك أيُّ وجودٍ لمثل هذه الكنيسة على الإطلاق. كانت ستكون هيكلًا مفككًا على نحوٍ جذري، شيئًا أشبه بكونها كنيسة بلا كنيسة، إذا ما استخدمنا تعبيرَ دريدا، لكنَّ هناك شيئين واضحين بشأن هذا التصوُّر الجديد للكنيسة: الأول أنها ستنفِق ثروتها وممتلكاتها لخِدمة الضعفاء والمحرومين، والثاني، نظرًا إلى رأيها بخصوص التبتُّل والرغبة الجنسية، كانت هذه الكنيسة ستختفي بعد رحيل جيلها الأول.
إحدى السِّمات التي بقيت من كيركجارد السابق هي الضَّحك. فرغم صرامة رؤيته للمسيحية، كان يحرص دومًا على إثارة ضحِك القارئ، رغم صعوبة التمييز أحيانًا بين الضَّحك التشاؤمي والضحك الساخر في كتاباته. إن الحيوية التي اتَّسم بها جدلُه — لقد قال عن نفسه إنه جداليٌّ بطبيعته — قد رفعت من روحه المعنوية المنخفضة. ويذكِّرنا العمل النثري، الذي كتبه عام ١٨٥٥، بالفطنة المتقدة لكتاباته السابقة المستخدَم فيها أسماء مستعارة، والتي كانت ممتعة في قراءتها أكثرَ من النبرة الرتيبة لكُتب الخطابات «البنَّاءة». لقد ظلَّ صامتًا من دون نشر أي كتابات طوال ثلاث سنوات، وجاء نقده الجدلي لرجال الدين الدنماركيين ليعيد الحياة إلى قلمه. مثل شوبنهاور — الذي نرى العديد من عبارات الإعجاب بتشاؤمه في التدوينات الأخيرة بيومياته — ازدهر كيركجارد بفضل هجومه على أعدائه. إن الشيءَ الدنيوي الوحيد الذي لم يستطِع كيركجارد إنكارَ أنه يمنحه سعادةً دنيوية، المعاناةَ الوحيدةَ التي حرَمه الله منها، السعادةَ المؤقتة الوحيدة التي لم يستطِع كيركجارد أن يحرِم نفسه منها، مهما حاول، هي الكتابة: وصْفُه الذكي، والساخر، والمبهر، والرائد، والمحرِّك، والبليغ للكوميديا الإنسانية، التي عبَّر عنها في كتبٍ عاشت وقتًا أطول من أي أطفال كان يمكن أن يأتيَ بهم إلى «وادي الدموع» هذا. على الأقل، فإن هذا حقيقيٌّ إلى حدٍّ كبيرٍ خاصة فيما يتعلَّق بما قاله عن الحياة العائلية في نهاية حياته. لو كان كيركجارد قد تزوَّج، وأنجب أطفالًا، وأصبح قسًّا، كان سيصيب الجميع — ريجين، والأطفال، والأبرشية كلها — بجنونٍ مطبِق. بالفعل، هناك شيءٌ ما جنونيٌّ يتعلَّق بكيركجارد، وهو ما ينعكس في وجهة نظره الخاصة بحماقة مملكة الله التي بشَّر بها المسيح. إن حياته الفردية والمتبتلة كانت الحقيقة الحقيقية بالنسبة إليه، لكن حتى التأمل البسيط لكتاباته السابقة كان سيذكِّره بأن هذا لا يجعل منها حقيقة لكل الناس. فقد قال في كتاب «أعمال الحب» إنه إذا لم يكن هناك شخصان، ضميرهما صالح، قادرَين على القيام بأمورٍ مختلفة في مواقفَ متشابهة، فإن هذا يعني أن العلاقة مع الله معطوبة.
سخِرت الأسماء المستعارة التي استعان بها من الميتافيزيقا التكهنية، ومن الأساتذة الجامعيين الدائمين الذين روَّجوها، كما سدَّدت أعمال مثل «العصر الحالي» ضرباتٍ قوية إلى الصحافة والعامة. الآن، حان دور القساوسة كي يعانوا من طعنات وهجمات قلم كيركجارد المسنون. لنفترض، يتساءل كيركجارد، أن الله أراد ألا يذهب البشَر إلى حديقة الغزلان؟ سيستنتج القساوسة من هذا أنه لا داعيَ للقلق، وأن المرء في إمكانه بالفعل أن يذهبَ إلى الحديقة، مصحوبًا ببركات الله، ما دام القساوسة «قد باركوا عربة هولشتاين ذات أربعة المقاعد، ورسموا علامةَ الصليب على الحصان»، وهو ما يجعلهم بالطبع مضطرين إلى طلب مكافأة شرَفية معقولة لقاءَ جهدهم. وستكون النتيجة الوحيدة هي عدم تغيُّر أيِّ شيء باستثناء أن الذهاب إلى حديقة الغزلان سيكون أكثرَ تكلفة. يضيف كيركجارد أن القساوسة ربما سينخرطون أيضًا في أعمال تأجير الأحصنة والعربات، وهو ما سيكون أمرًا سارًّا لله لأنه نابع من أنفسهم الصالحة، وسيصبح التحريم الإلهي نعمةً اقتصادية حقيقية لرجال الله (٣٤٨). لم يكن رجال الدين مسرورين بهذا الكلام، وبعد إصدار تعليق أولي، امتنع الأسقف مارتنسن عن إضافة المزيد من التعليقات؛ إذ قرَّر بحكمة أن أفضل استراتيجية هي عدم لفت مزيدٍ من الانتباه إلى مثل هذه الهجمات الذكية، والتي كانت كثرتها هي عدوَّهم الأسوأ.