الفصل الثاني

الجمالية

إذا تزوجتَ فستندم؛ وإذا لم تتزوج فستندم أيضًا؛ سواء تزوجتَ أو لم تتزوج فستندم في الحالتين … صدِّق امرأة وستندم؛ لا تصدِّقها وستندم أيضًا؛ سواء صدَّقتَ امرأة أو لم تصدقها فستندم. اشنق نفسك وستندم؛ لا تشنق نفسك وستندم أيضًا؛ سواء شنقتَ نفسك أو لم تشنقها ستندم في الحالتين. هذا، يا سادة، هو ملخَّص وفحوى الفلسفة برُمَّتها. الأمر ليس أنني أرى، في بعض الأحيان، كل شيء من وجهة نظر أبدية، مثلما يقول سبينوزا، بل أنا أعيش في حالة الأبدية على الدوام. يعتقد كثيرون أنهم يعيشون في هذه الحالة لأنهم بعد أن يقدِموا على فعلٍ أو آخر، يجمعون النقيضين أو يتوسَّطوا بينهما. لكنَّ هذا فَهْم خاطئ؛ لأن الأبدية الحقيقية لا تقع بعد اختيار إما/أو، بل قبله. لهذا، تكون أبديتهم تتابُعًا مؤلمًا للحظاتٍ عابرة؛ لأنهم يُستهلَكون بندمٍ ثنائي. إن فلسفتي، على الأقل، يسهُل فهمها؛ إذ إن لديَّ مبدأً واحدًا، وحتى إنني لا أتزحزح عنه … أنا لا أتزحزح عن أي مبدأ؛ لأنني إذا فعلتُ هذا فسأندم، وإذا لم أفعل هذا فسأندم أيضًا. لذا، إذا بدا لأيٍّ من مستمعيَّ الأجلاء أن ثمة شيئًا فيما أقوله، فهذا يُثبت فقط أنه لا يمتلك مهارةَ الفلسفة؛ وإذا بدا أن حجَّتي تحرِز أيَّ تقدُّم، فهذا يُثبت أيضًا الفكرة نفسها. لكن أما هؤلاء القادرون على متابعةِ ما أقوله، مع أنني لا أحرِز أيَّ تقدُّم، فيمكنني أن أكشف لهم الآن عن الحقيقة الأبدية التي بفضلها تظل هذه الفلسفة داخل حدودها، ولا تعترف بفلسفةٍ أعلى منها. لأنه إذا ما زُحزِحتُ عن مبدئي فسيصبح من المستحيل أن أتوقَّف؛ لأنني إذا توقَّفت فسأندم، وإذا لم أتوقَّف فسأندم أيضًا، وهكذا. لكن لأنني لا أبدأ أبدًا، لا يمكن أن أتوقف أبدًا؛ فتحرُّكي الأبدي يتماثل مع توقُّفي الأبدي. لقد أظهرت التجربة أن البداية ليست شيئًا صعبًا على الإطلاق بالنسبة إلى الفلسفة. على النقيض تمامًا، تبدأ الفلسفة بلا شيء ومن ثَم يمكنها دائمًا أن تبدأ. ما يشكِّل صعوبةً، بالنسبة إلى الفلسفة والفلاسفة، هو التوقف. تتفادى فلسفتي هذه الصعوبةَ؛ لأنه إذا ما اعتقد أيُّ شخص أنني عندما أتوقَّف الآن أنني أتوقف فعلًا، فهو يبرهن على نقص قدرته على الاستبصار التنبؤي. فأنا لا أتوقَّف الآن، بل توقفت في اللحظة التي بدأت فيها. لهذا، تتسم فلسفتي بالإيجاز، كما أنه من المستحيل دحضها؛ لأنه إذا ما ناقضني أي شخص فلي الحق في أن أدعوَه بالمجنون. لذا، يبدو أن الفيلسوف يعيش في حالة الأبدية على الدوام وليس لساعاتٍ محدَّدة فقط مثل سينتينيس ذي الذكرى المحمودة.

(من كتاب «إما/أو»، المجلد الأول، من صفحة ٩ إلى ٣٧)١

دشَّن كتاب «إما/أو»، المكوَّن من جزأين، أعمالَ كيركجارد التي تحمل أسماءً مستعارة، وجعل مؤلفه مشهورًا على المستوى المحلي على الرغم من وجود حالة من الجدل حينها حول الهوية الحقيقية لذلك المؤلِّف. في عام ١٨٣٧، قابل كيركجارد ريجين أولسن، وكانت حينها فتاةً رقيقة لا تبلغ من العمر سوى خمسة عشر عامًا (وسجَّل كلاهما هذه اللحظة الشاعرية التي اشتعلت فيها شرارةُ الحب بينهما) وعقدا خِطبتهما في عام ١٨٤٠. لكن الشكوك بدأت تساوره على الفور، ما دفعه إلى فسخ الخِطبة بعد عام، ليسافر بعدها إلى برلين عدة أشهر، حيث بدأ حياته كاتبًا. في كتاب «إما/أو»، الذي رسَّخ سُمعته كاتبًا، يحاول كيركجارد شرْح نفسه لريجين والعالم. فالكتاب مكرَّس لشرح أول مرحلتين من مراحل الوجود الثلاث، وهما، المرحلة «الجمالية» الخاصة بالسعي وراء المتعة، والمرحلة «الأخلاقية» المبنية على المبادئ. ويلمِّح المؤلِّف إلى المرحلة «الدينية» الأعلى في نهاية الكتاب، ولكنه لا يركِّز عليها. وفي هذا الفصل، نلقي نظرةً على الجزء الأول من الكتاب، الذي يستكشف معنى الوجود الجمالي، ولِمَ هو محكوم عليه بالانهيار في نهاية المطاف. لكن إذا كان الهدف من النص هو الوصول إلى مرحلة الوجود الأخلاقي، ثم الديني في النهاية، وهو ما سيتضح فقط في الجزء الثاني من الكتاب، فإن الوسيلة المستخدَمة لتحقيق هذا الهدف هي الأسلوب الساخر الهزلي، مثلما يوضح هذا الجزء المقتطَف من الكتاب.

إن كتاب «إما/أو» أُحجيةٌ صينية مكوَّنة من صناديقَ داخل صناديق، مثلما يقول محرِّره فيكتور إريميتا (والذي يُطلَق عليه فيكتور الراهب أو «الراهب المنتصِر»). ويعود هذا المقتطَف إلى الجزء الأول من الكتاب الذي يحمل اسم «إما» وهو يحتوي على «أوراق أ»، التي تنتهي ﺑ «يوميات مُغوٍ» المُوقَّعة باسم يوهانس. وقد قيل إن هذه الأوراق هي المجموعة الأولى بين رِزمتَين مربوطتين بعناية، وجدهما فيكتور بمحض الصدفة في مكتب سكرتارية قديم. وتحتوي الرِّزمة الثانية التي تحمل اسم «أوراق ب»، والمنشورة في الجزء الثاني من الكتاب الذي يحمل اسم «أو»، على ثلاثة خطابات كتبها شخصٌ يُدعى «القاضي فيلهلم» وأرسلها إلى المدعو «أ»، وتحتوي آخر رسالة على خُطبة، أُرسِلت إلى القاضي من قِبَل صديقٍ قسٍّ يعيش في الأراضي البعيدة بشمال شبه جزيرة يوتلاند.

عبر استخدام خمسة أسماء مستعارة في هذا الكتاب وحدَه، يصل القارئ إلى نقطة، في نصَّي «يوميات مُغوٍ»، و«الإنذار الأخير»، تُعد محوريةً للتحوُّل الجدلي الأخير بنهاية جزئَي الكتاب، وهي أن هذه الأسماء المستعارة تُبعِد حقوق الملكية الفكرية عن كيركجارد. ويثير هذا، بدوره، التكهنات حول ما إذا كان «أ» محرجًا إلى درجةٍ تجعله عاجزًا عن الاعتراف بأن هذا الكتاب هو يومياته في واقع الأمر، أو ما إذا كان «أ» و«ب» هما نفس الشخص أصلًا، أو ما إذا كان فيكتور هو مؤلِّف الكتاب برُمَّته. انضم كيركجارد إلى النقاش العام حول الهوية الحقيقة لمؤلِّف الكتاب عبر مقالٍ طريفٍ يحمل اسم «مَن هو مؤلِّف إما/أو؟» الذي نشره تحت الاسم المستعار «إيه إف»، ويقول فيه إن هذا النقاش لا طائل من ورائه، وإنه من الأجدى أن يستغل المرء ذكاءه في مناقشة الكتاب نفسه. بحلول وقت انتهاء كيركجارد من تأليف كُتبِه الموقَّعة بأسماء مستعارة عام ١٨٤٥، بات معروفًا عمومًا أنه هو مؤلِّف هذه الأعمال. ولم يكن استخدام الأسماء المستعارة ممارسةً غير اعتيادية في الدنمارك في منتصف القرن التاسع عشر، ورغم أن هُوية الكُتَّاب الحقيقيين كانت تنكشف سريعًا لدى عامة الناس، فإن الهوية الحقيقة للمؤلفين كانت تُحترم في المراجعات والتعليقات.

يعرض «أ» الوجود الجمالي أو النرجسي الفاضح؛ تلك الحياة التي تتمحور كليًّا حول الحصول على المتعة، بدءًا من أكثرِ الملذات الأساسية والحسية ووصولًا إلى أرقى المُتع الفنية، بغض النظر عن التكلفة التي سيتكبدها الآخرون. في المقابل، يدافع «ب»، القاضي السعيد في زواجه، عن المبادئ الأخلاقية وحسِّ المسئولية الفردية التي يفرضها القانون. قال كيركجارد لاحقًا إن «يوميات مُغوٍ» كانت بهدف صد ريجين، وإقناعها بأنها أفضل حالًا بتخلُّصها منه، وتأييدًا لشرف الزواج، الذي رفضه كيركجارد ليجعل من نفسه استثناءً سيئ السمعة. يوجد هذا المقتطَف تحت عنوان «اللازمات» في الجزء الأول من الكتاب؛ وهي كلمة مأخوذة من ترجمة كتاب العهد القديم، وتعني الفواصل الموسيقية أو اللازمات في الأغاني. والجزء المقتطَف هو واحد من بين سلسلة من الأقوال المأثورة، التي تؤسِّس «المبادئ» التهكمية الفكاهية لحياة الإنسان الجمالي الخالية من المبادئ. يهدف النص إلى السخرية من الهيجليِّين الذين شكَّلوا التأثير الفكري المسيطر في الفلسفة الدنماركية وعلم اللاهوت في منتصف القرن التاسع عشر. يلعب كيركجارد على المعتقَد الهيجلي الرئيسي القائم على فكرة أن مبدأ الحركة في أي «نظام» ينبع من القوة السلبية المتجسِّدة في مبدأ التناقض. ويصف هيجل الحركةَ بأنها نفي لتأكيدٍ سابق. وهكذا، وفقًا لمنطقه، يبدأ هيجل جدله بمفهوم «الكينونة» — أكثر مفهوم عام خالٍ من الافتراضات المسبقة — ثم يصل إلى نفيه، وهو ما نطلِق عليه «اللاكينونة»، وهو ما ينقلنا إلى «الصيرورة»، أي أن نصيرَ شيئًا ما. إن الكينونة والعدم الخالصين هما مفهومان مجرَّدان بلا حركة، بينما يتكوَّن العالم الحقيقي والملموس من الصيرورة، التي تمثِّل وحدةَ الكينونة واللاكينونة. يحاول هيجل أن ينطلِق من بداية خالية من أي افتراضٍ مسبق (افتراض اللاشيء)، ثم يصل إلى نتيجةٍ عبر تضمين كل شيء (النهائية) في فكرة متجسَّدة وملموسة (الكون المحسوس). وتكون النتيجة الجدلية لهذا هي الوصول إلى وحدةٍ أعلى مكوَّنة من التأكيد ونفيه، فكلاهما يبطِل أحدهما الآخر عبر تضادهما المجرد، ليرتقيا إلى وحدة مادية أعلى منهما. ويمكن صياغة هذه الفكرة باللغة التي باتت مشهورة بتأثيرٍ من ماركس عبر القول بأن «الوحدة المركَّبة» هي الوحدة الأعلى المكوَّنة من «الفرضية» و«نقيض الفرضية». لكن هناك تكلفة يجب دفعها للوصول إلى هذه الوحدة التوافقية، وهي أن تمتلك شجاعة النفي.

لكن بالنسبة ﻟ «أ»، فإن نفي التأكيد يعني تكبُّده تكلفة مرتفعة للغاية، خاصةً أنه وجد حلًّا أقل تطلبًا، ولا يحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ. فعبر رفضه لتبني أيِّ فرضية على الإطلاق، لن يعانيَ من وجود نقيضٍ لفرضيته. فلأنه لا يتبنَّى أيَّ موقف، لن يعانيَ من أي معارضة أو تناقض. ولأنه لا يتخذ أيَّ موقف أو قرار، ليس عليه أن يواجه التداعيات السلبية لهذا القرار. هو لا يؤيد أيَّ شيء؛ لذا ليس عليه أن يعارض أيَّ شيء أيضًا. هو لا يسمح أبدًا بدوران تروس آلة الجدلية، بل يضع نفسَه قبل أو فوق العالَم الذي يُطبَّق فيه مبدأ التناقض. يخسر المرء اللعبة بالفعل بمجرد تعرُّضه لرياح الواقع، حيث يسود مبدأ التناقض. هناك، في العالم الواقعي الحقيقي، أنت مجبَر على الاختيار، وأيًّا كان اختيارك فستخسر. أيًّا كان قرارك فسيكون له عواقبُ تسحقك.

إذا تزوجتَ الفتاة فسيزداد محيط خَصرها ويذبل جمالها، وستصبح مملة، وستغرقك بالمطالب، وهو ما ستندم عليه بكل تأكيد. لكن إذا لم تتزوجها، فسيزدريك العالَم بصفتك زيرَ نساء أضاع وقت الفتاة وعامَلها بوحشية، وهو ما ستندم عليه أيضًا. وإذا ألزمتَ نفسك بوعودٍ تجاه قضيةٍ أو صديقٍ ما فستندم على هذا. وفي نهاية المطاف، سيأتون إلى بابك ويطالبونك بإتمام واجبك والوفاء بوعودك في وقتٍ غير مناسب؛ في وقتٍ كنتَ فيه على وشْك الذهاب في عطلة مثلًا. لكن إذا لم تُلزِم نفْسك بشيء فسيتوقف الناس عن دعوتك إلى حضور فعالياتهم الاجتماعية، وستكتسب سمعةً بأنك شخص كسول وأناني، وهذا شيء ستندم عليه أيضًا. في كلتا الحالتين، إما هذا أو ذاك، ستندم. لذا الحل هو — بدلًا من السعي وراء حلٍّ أفضلَ يوفِّق ما بين النقيضين — ألا تسمح أبدًا لتروس آلة «إما/أو» بالدوران، ألا تسمح لها بأن تمتصَّك داخلها. «هذا، يا سادة، هو ملخَّص وفحوى الفلسفة برُمَّتها». هذه هي حكمة الأبدية. لكن بالنسبة إلى الشخص الجمالي، لا تعني الأبدية أن يكافح المرء في طريقه عبر «تتابُعٍ مؤلم للحظات عابرة»، محاولًا الارتقاء فوق وجهات النظر المؤقتة والمحدودة من أجل تبني رؤيةٍ أبدية أعلى؛ «هذا فهم خاطئ». فالشخص الجمالي يفضِّل الأبدية التي تقع في مرتبةٍ أدنى من عالَم الاختيار بين النقيضين، والتي لا تنجذب أبدًا إلى فوضى الزمن — «لأن الأبدية الحقيقية لا تقع بعد اختيار إما/أو بل قبله».

هذا هو مبدأ المدعو «أ»، وهي النقطة التي ينطلق منها. لكن عند التفكير في الأمر مجددًا، سنجد أنه إذا ألزم نفسه بنقطة انطلاق محددة فسيندم على هذا (تمامًا مثل ندمِه على عدم فعل هذا). فإذا كانت لديه نقطةٌ ينطلق منها، فهذا يعني ضمنيًّا أنه في حالة حركة، وأن على الآخرين اتِّباعَه، وهو ما سيندمون جميعًا عليه. لكن لا ينبغي أن تؤخذ هذه الطريقة اللامبادئية في التصرف على أنها مبدأ صارم، أو قاعدة، أو قانون. هذا لأنك ستندم دائمًا على اتخاذ أي قرار إذا لم تحتفظ بحقك في التراجع عنه. ففكرة «المذهب الجمالي» برُمَّتها تكمُن في وضع نفسك دائمًا في منطقة اللاقرار والتحرر من الاختيار. إن الوجود الجمالي هو فن رقيق، يتطلَّب موهبةً فطرية، ولمسة خفيفة وماهرة مثل نحلةٍ تحطُّ على زهرة برفقٍ، لتمتصَّ رحيقها وتمضيَ في طريقها. هذا هو فن الالتزام الصارم بعالَم الاحتمال؛ أن تبقى شابًّا إلى الأبد، بأعينٍ ترى الاحتمال في كل مكان بينما تحتمي من رياح الواقع القاسية (٤٠). في المنطق الجدلي لهيجل، يكون الهدف هو الوصول بكل شيء إلى استنتاجٍ نهائي ضمن نظام شامل، وهو أمرٌ غير ممكن بالنسبة إلى روحٍ زائلة ومحدودة. لقد ارتاح «أ» من هذه المهمة الثقيلة. فهو غير مضطر إلى الوصول إلى نتيجةٍ بخصوص أيِّ شيء لأنه، في واقع الأمر، لا يبدأ مطلقًا.

إذا كان تجنُّب التناقض هو المبدأ الحاكم للوجود الجمالي الخالي من المبادئ، فإن «أسلوب المناوبة» هو الاستراتيجية المستخدَمة لتطبيق هذا المبدأ. بالنسبة إلى الشخص الجمالي، يكمُن أصل كل الشرور في المَلَل؛ وليس في حب المال أو الكسل اللذين يمكن أن يكونا أمرين رائعين ما دام لا يشعر المرء بالمَلَل (٢٨٤-٥). يحتاج الشخص الجمالي إلى القدرة على جعل الأشياء «مثيرة للاهتمام» أو مسلية دائمًا، مثل رجلٍ عالقٍ في محاضرة مملَّة، لكنه يسلِّي نفسه بمتابعة حبات العَرق وهي تتكوَّن على حاجب المتحدث في بداية المحاضرة، لتمضيَ في مسارها ببطء نحو أنفه، فقط لتسقط في اللحظة الحاسمة التي يصل فيها المتحدث إلى استنتاجه. إن الاستراتيجيات التي توصَّل إليها الشخص الجمالي مستقاةٌ من تشبيه زراعي: وهو نظام المناوبة في زراعة المحاصيل. فالمرء يمكنه إنتاجُ محصولٍ جيدٍ عبر زراعة نفس المحصول في حقولٍ مختلفة كلَّ عام حتى لا يستنزف التربة، وهو ما يُسمَّى بالأسلوب الموسع. أما إذا كانت موارده محدودة، فيمكنه التناوب في زراعة محاصيلَ مختلفة في نفس الحقل، وهو ما يُسمَّى بالأسلوب المكثَّف. وفيما يخص أمور الحب، يمكن أن يتناوب المرء على حقولٍ مختلفة، متنقلًا من فتاة إلى أخرى، دون أن يبقى وقتًا طويلًا إلى درجةٍ تجعله يندم على الالتزام بعلاقةٍ ما. هذا هو فنُّ دون خوان الذي أغرى ألفَ امرأة وواحدة في إسبانيا، وكما يوضح «أ»، أُضيفت «الواحدة» الأخيرة كي تعطيَ انطباعًا واقعيًّا للعدد الإجمالي؛ إن فن «أ» عفوي، حسي تمامًا، مفعم بالشغف، ويفتقر إلى الخداع. هو، ببساطة، يحاول أن يُذيب الفتاة بالرغبة المطلقة.

بدلًا من ذلك، يمكن أن يحرث الشخص الجمالي حقلًا واحدًا فقط، ويرعاه بصبرٍ مستخدمًا الإغواء الطويل المدى ليفوز بفتاةٍ بمرور الوقت دون أن يفقد الاهتمام. ويُعد هذا النشاط، الذي يتطلب المراوغة، والتفكير المتأمل، والصبر، محفوفًا بالمخاطر لأنه قد يؤدي إلى الخِطبة والزواج، وهو أمرٌ سيندم عليه الشخص الجمالي، أو قد يقود إلى بشاعة انقطاع علاقتهما أو الطلاق، وهو أمرٌ كريه أيضًا. لذا، ستكون تجربةً مثيرة للاهتمام حقًّا إذا رأينا شخصًا قادرًا على إغواء فتاة، وحتى خِطبتها والاستمتاع بالثمار الجسدية لهذا الإغواء، دون أن يتحمَّل كل التداعيات المثيرة للندم الناجمة عن الزواج بها فعلًا. تتمثَّل الخدعة في فسخ الخطوبة بإقناع الفتاة بفسخها؛ أن تجعلها تصدِّق أن إنهاء العلاقة فكرتها من الأساس، بينما أنت، أيها الشابُّ المسكين، الطرفُ المجروح في العلاقة. ويتطلَّب هذا فنًّا ومهارة ثنائية، تتمثل في «النسيان» (تجنُّب التعلُّق بها طوال الوقت) و«التذكُّر»؛ إذ إن التذكُّر الشاعري للعلاقة بعد انتهائها ضروري للشعور بالمتعة، فهو يضاعف قيمةَ التنفيذ الفعلي للخطة أو حتى يتجاوزها. فالشخص الجمالي يجد متعةً أكبر في تأمل بريق علاقاته بعد انتهائها عبر تذكُّر اللحظات الممتعة التي مرَّ بها في الماضي.

تلك هي حبكةُ قصة «يوميات مُغوٍ» سيئة السُّمعة، وهو المقال الأخير في الجزء الأول من الكتاب، وتُعد القصة تدريبًا على كيفية خِطبة فتاة دون الندم على هذا الفعل (٢٩٧)، وقد أحدثت ضجةً كبيرة في كوبنهاجن في ذلك الوقت. تروي اليوميات قصةَ إغواء كورديليا، الشابة البريئة، من قِبَل رجل جمالي راقٍ يكبُرها سنًّا يُدعى يوهانس، وتحتوي القصة على تفاصيلَ كثيرة من قصةِ تودُّد سورين كيركجارد إلى ريجين. بعد أن قابل كورديليا قدرًا في منزل صديق مشترك، يضع يوهانس خطةً مفصَّلة للفوز بها. فهو ينتظر ساعاتٍ عند زاوية شارع، يعلم أن كورديليا ستعبره، فقط ليمرَّ بجوارها بخفة كأنه لم يلحظ وجودها، بينما يحرص هو على أن تراه. ويعاود يوهانس زيارةَ منزل صديقهما المشترك، ليبهر الجميع بحديثه بينما يتجاهلها. في نهاية المطاف، يصادف يوهانس إدوارد، الذي يحب كورديليا لكنه خجول للغاية، ويتطوَّع بلطفٍ لمساعدة الرجل الشاب في مسعى تودُّده لها. وبعد أن سحر عمَّة كورديليا بحديثه المسلي الطريف، وهو ما كانت كورديليا قادرة على سماعه، وبعد أن أتاح لإدوارد الأحمق الفرصة لإضجارها بحديثه، يقرِّر يوهانس أن إدوارد قد أدى دوره، ولم تَعُد له فائدة وأن عليه أن يرحل. وبدلًا من تنفيذ وعده لإدوارد بأن يطلب يد كورديليا له، يتقدم لخِطبتها لنفسه، متحججًا بأن هذه النتيجة المفاجئة هي فَعلة عمِّتها. تبِع هذا فترةُ تودُّد، حاول خلالها يوهانس إقناعَ كورديليا بفكرة أن الخِطبة فخٌّ خارجي مصطنع، يلوث نقاء وحرية حبهما. اقتنعت الفتاة أخيرًا بفكرته، وفسخت الخِطبة الرسمية بنفسها، لتثير تعاطُف عمَّتها تجاه يوهانس المسكين الذي تعرَّض لصفعة قاسية. وبعد اكتمال علاقة حبهما جسديًّا (وهو ما ألمح إليه بحرصٍ شديد) يتخلى يوهانس عنها، مدوِّنًا هذه الكلمات الأخيرة في يومياته:

لِمَ لا تطول هذه الليلة؟ … لكنها انتهت الآن، وأتمنى ألَّا أراها مجددًا أبدًا. فعندما تهَبُ الفتاةُ كلَّ ما تملك، تكون ضعيفة، وتخسر كل شيء … أتمنى ألا أتذكر علاقتي بها؛ فقد زال عبيرها … مع ذلك، سيكون من المفيد حقًّا معرفةُ ما إذا كان الرجل قادرًا على التخلي عن فتاة بطريقة شاعرية، بأن يجعلها فخورة بنفسها لاعتقادها أنها هي مَن سئمت علاقتهما. ستكون هذه نهايةً مثيرة للاهتمام للغاية؛ وقد يكون لها فائدة نفسية أيضًا، فضلًا عن أنها، في حد ذاتها، تثري خيال المرء بالعديد من الأفكار الشهوانية (٤٣٩-٤٤٠).

تعرِض «اليوميات» انهيارَ الشكل الجمالي للوجود، على غِرار الطريقة التي يوضح بها هيجل، في كتابه «فينومينولوجيا الروح»، ارتقاءَ «الروح» وتطوُّرها عن طريق انهيار الأشكال الأدنى للوعي («التناقضات»). فجمالية يوهانس تؤدي إلى «تناقض» أخلاقي، يتمثَّل في استغلاله الوحشي للعاطفة الرقيقة لفتاة شابة. مثل هيجل، يفكر كيركجارد بطريقة تتبنَّى تثقيف الروح عن طريق الارتقاء التدريجي إلى أشكالٍ حياتية أعلى وأكثر ثراءً بينما تنهار الأشكال الأدنى للحياة بسبب تناقضاتها الداخلية. وبينما يتصوَّر هيجل هذا الارتقاء باعتباره حركةً عقلية أو فكرية، يراه كيركجارد، كحركة وجودية؛ حركة عبر أشكال الحياة الملموسة؛ إنها ليست حركة فكرية بل حركةٌ لأسلوب الحياة الفعلي. إن المذهب الجمالي، باعتباره شكلًا حياتيًّا مستقلًّا ومكتفيًا بذاته، يفضي إلى «اليأس»؛ إلى وجودٍ محطَّم؛ إلى تناقضٍ وجودي لا منطقي، وهو ما يجعلنا نتحرك لنتجاوز هذا التناقض بعد أن شعرنا بالنفور من أهوال هذه الحياة غير الأخلاقية. ليس يوهانس بالطبع مَن يشعر بضرورة التحرك، بل نحن قرَّاء هذه اليوميات. يُترك يوهانس وراءنا، مثلما يمكن أن يقول هيجل، بينما القارئ هو مَن يتحرك. بالنسبة إلى كيركجارد، يُعَد الوجود الجمالي طريقًا مسدودًا، لا لأنه غير متجانس داخليًّا، أو لأنه يعاني تناقضًا منطقيًّا، فهو منطقي ومتجانس ببرودٍ أكثرَ مما ينبغي. لكن لأنه كابوس أخلاقي، وإساءة لإدراكنا الأخلاقي، وهو ما يحثنا على ضرورة تبني وجهة نظر أعلى وأسمى.

تجدُر الإشارة إلى أن كيركجارد يُعامل كثيرًا باعتباره معارضًا شديدًا لهيجل، لكن هذا غير حقيقي بشكل كامل. صحيح أن علاقة كيركجارد بالهيجليين في كوبنهاجن محتقِنة. فهم جميعًا مثل مدوِّني النتائج في لعبة الفلسفة، مثلما يقول كيركجارد عنهم، لكن لا أحد منهم يشارك فعلًا في اللعبة؛ هم يكتبون تعليقات على فكر هيجل لكنهم أنفسهم ليسوا بمفكرين حقيقيين. صحيح أيضًا أنه حارب طوال حياته ضد الهدف الرئيسي من «نظام» هيجل الفكري، والمتمثل في تقديمِ وصفٍ شاملٍ وممنهجٍ للإله والتاريخ. لكن كيركجارد نفسه ظل متأثرًا بهيجل للغاية؛ فقد كان معجبًا به، واستخدم وسائلَ هيجلية من أجل الوصول إلى نتائجَ غير هيجلية. ولعل كتاب «إما/أو» خيرُ مثال على هذا. فهو يقترح «فينومينولوجيا» بديلة أو منافسة — بمعنى أنه يعرِض الأشكال المتنوعة أو المراحل المتصاعدة للحياة، ليس من خلال «الوعي» (كما في هيجل) ولكن من خلال «الوجود» — إذ إن غضبنا من الفساد الأخلاقي ليوهانس يثير إدراكنا الأخلاقي، ويدفعنا إلى «ارتقاء» سُلَّم كليماكوس (المرحلة الدينية). لم يكن هدف كيركجارد هو إنتاج نظام فلسفي شامل، مثل هيجل، بل إيقاظ قوة وشغف الوجود داخل الفرد.

١  I am using the older translation: Søren Kierkegaard, Either/Or, trans. David and Lillian Swenson, rev. Howard A. Johnson (Princeton: Princeton University Press, 1944, 1959), vol. 1, pp. 37–9.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤