الأخلاقية
دعنا الآن نلقي نظرةً على العلاقة ما بين الحب الرومانسي والحب الزوجي … يبدأ الحب الزوجي بالمِلكية وهو يكتسب تاريخًا باطنيًّا. إنه حبٌّ مخلص. كذلك هو الحب الرومانسي؛ لكن لاحِظ الآن الفرقَ بين الاثنين. ينتظر المُحب الرومانسي المخلِص، لِنقل، خمسة عشر عامًا؛ ثم تأتي اللحظة التي يحصل فيها على مكافأته. هنا، يرى الشِّعر أن الخمسة عشر عامًا تلك يمكن تكثيفها. فالأحداث تتسارع وصولًا إلى هذه اللحظة. أما الرجل المتزوج فهو مخلصٌ طوال الخمسة عشر عامًا، غير أنه كان يمتلك شيئًا ما خلال تلك السنوات؛ لقد ظل متبنيًا الإخلاص طوال هذا التتابع الطويل للزمن، فالحب الزوجي يشتمل على الحب الأول والإخلاص في نفس الوقت. لكن مثل هذا الزواج المثالي لا يمكن التعبير عنه؛ إذ إن جوهره يتمثَّل في الوقت على امتداده. فبنهاية الخمسة عشر عامًا، يبدو ظاهريًّا أنه لم يحرِز تقدمًا أكثرَ مما كان عليه في البداية، غير أنه عاش حياةً جمالية بدرجةٍ عالية. لم تكن ملكيته خامدة، بل كان يعيد اكتسابها باستمرار. هو لم يصارع الأسود والغيلان، بل كان يحارب العدوَّ الأكثر خطورة: الوقت. بالنسبة إليه، لا تأتي الأبدية في لحظةٍ لاحقة مثلما يحدث في حالة الفارس، لكنه حظي بالأبدية عبر الزمن، لقد حافظ عليها عبر الزمن. ولذا، فقد تمكَّن، هو وحدَه، من الانتصار على الزمن، فيما يمكننا أن نقول عن الفارس إنه قتل الزمن، فحقيقة الأمر أن المرء يتمنى دائمًا قتْل الزمن عندما لا يكون واقعيًّا بالنسبة إليه. لكن الرجل المتزوج، كونه المنتصِر الحقيقي، لم يقتل الزمن، بل حافظ عليه في الأبدية. يعيش الرجل المتزوج، الذي تمكَّن من فعل هذا، حياةً شاعرية حقًّا. فهو يحل الأحجية الكبرى عن كيفية العيش في الأبدية بينما لا يزال يسمع ساعة الرواق وهي تدق، وأن يسمعها بطريقة تجعل دقاتها تطيل الأبدية لا تُقصرها … لذا، عندما أقول إن الحب الرومانسي يصلح للتمثيل الفني عن جدارة أكثر من الحب الزوجي، فهذا لا يعني مطلقًا أن الأخير أقلُّ جمالية من سابقه. على النقيض من هذا، فهو أكثرُ جمالية من الحب الرومانسي … إن عدوَّ الحب الزوجي هو الوقت، وانتصاره يكون على الوقت، وأبديته موجودة في الوقت … الحب الزوجي يجسِّد الإخلاص، والاستمرارية، والتواضع، والصبر، والمعاناة الطويلة، والتسامح، والرضا، واليقظة، والإرادة، والبهجة … لا يحارب الفرد، هنا، أعداءً خارجيين، لكنه يحارب نفسه، يحارب من أجل انتصار الحب داخله. إن مرجعه القياسي هو الزمن، ذلك لأن حقيقته لا تعتمد على مجرد تجسيد لحظي لما يكونه بل مواصلة تجسيد حقيقته هذه في كل لحظة … لكنك، أنت وغيرك ممن خُلقوا لتحقيق الانتصارات، لا تدركون هذه الحقيقة … عندما تفوز بالمعركة، عندما يتلاشى صدَى صوتِ آخر طلقة، وعندما تهرول الأفكار السريعة، مثل ضابط يركض عائدًا إلى مركز القيادة، معلنةً انتصارك؛ فأنت في الواقع لا تعرف شيئًا، أنت لا تعرف كيف تبدأ؛ لأنك، ولأول مرة، ستكون في البداية الحقيقية.
في الجزء الثاني من كتاب «إما/أو»، ننتقل من حالة الوجود الجمالي إلى الوجود الأخلاقي. نتعرَّف هنا على «الذات الوجودية»، التي تمثِّل تغيُّرًا عميقًا في الفهم الفلسفي للذات. فبدلًا من التفكير في الذات بالمفهوم الكلاسيكي باعتبارها طبيعة، أو مادة، كجوهرٍ أساسي، أو شيء واحد، يقترح كيركجارد تصنيفاتٍ مختلفة جذريًّا مثل الحرية، والاختيار، والقرار. فالذات هي ما تفعله، ما تصنعه من نفسها، أو ما تعجز عن فِعله، وهي فكرة لا تختلف عما نجده في المذهب النفعي الأمريكي. إن مثل هذا الطرح مزعج للفلاسفة الذين يتبنَّون طرحًا أكثرَ تقليدية للعقل. فعبر تعريف الإنسان بمعيار الحرية، يبدو أن كيركجارد قد أزاح البشرية من نظام الطبيعة، وقطع صلتَها بسلسلة الوجود الكبرى. بالنسبة إلى كيركجارد نفسه، تُمارس هذه الحرية دومًا أمام الله، الذي يمثِّل نقطة ارتكاز، أو نقطة أرخميدية في هذه المعادلة، لكن بالنسبة إلى الوجوديين العلمانيين الذين تبِعوه، بات الله خارج هذه الصيغة الجديدة للحرية، وهو ما جعلها مهدَّدة بالتأرجح بحرية أكبر.
هذا المقطع مأخوذٌ من سلسلة الخطابات، التي أرسلها القاضي إلى الشخص الجمالي، وهو يحاول من خلالها إعلاءَ حجَّة الزواج فوق حياة العزلة والانغماس في إشباع رغبات النفس التي يعيشها الشخص الجمالي. يتهم القاضي الشخصَ الجمالي بأن فشله في اختيار أي شيء، يجعله عاجزًا عن امتلاكِ ذاتٍ من الأساس. ولعل أفضلَ طريقة لرؤية الفَرق الذي يطرحه القاضي بين وجهة النظر الجمالية والأخلاقية هي بالرجوع إلى الفَرق الأساسي بين الزمن والأبدية. يفتقر الشخص الجمالي إلى وجود علاقة حقيقية مع الزمن، ذلك لأنه غير مرتبط مع الواقع، وهذا لأن تجربته مع الأبدية سطحية. يعيش الشخص الجمالي في اللحظة ومن أجلها؛ من أجل متعتها العرَضية، والعابرة، والزائلة. حتى عندما يستثمر الوقت، مثلما كان يوهانس ينتظر كورديليا ساعاتٍ كي تمرَّ بجواره — أو حتى إذا كان سينتظر طوال خمسة عشر عامًا كما في الرواية الرومانسية — فإنه يفعل هذا من أجل لحظة واحدة، تختفي بمجرد ظهورها. إن مفهوم الأبدية لدى الشخص الجمالي يتضح جيدًا في قصيدة للشاعر الرومانسي كيتس، تحمل عنوان «قصيدة على جَرَّة إغريقية»، وهي تصوِّر عاشقَين متأهبَين دومًا ليقبِّل أحدهما الآخر، لكن شفاههما لا تلتقي أبدًا، ويظلان يافعَين إلى الأبد، دائمًا يترقبان قُبلة لن تحدث أبدًا. أما مفهومها لدى الشخص الأخلاقي، فيعني قوة الالتزام الراسخ والمتواصل عبر تتابُع اللحظات؛ شيء تحارب من أجله وتفوز به عبر صراعك الأبدي مع الزمن. عندما يقول المحب الرومانسي «أجل، أقبل الزواج بك»، يُسدَل الستار، وتنتهي الرواية، ويتطاير بعدها واقع الحياة اليومية في خيالٍ حالم. لكن عندما تقول «أجل، أقبل الزواج بك» في خضم تدفُّق الوجود، فهذا يعني أنك على وشْك البدء، أنك تتعهَّد بوهب نفسك للمستقبل، أنك تَعِد بالتقدُّم خطواتٍ راسخة إلى الأمام، لتديرَ تدفُّق الزمن برسوخ الأبدية، وتمارس فنَّ «العيش في الأبدية، بينما تسمع دقاتِ ساعة الرواق». يسهُل تمثيل الحب الرومانسي فنيًّا لأنه يتمحور حول لحظات درامية — يلتقي المتحابان، تشتعل شرارةُ الحب بينهما، يفترقان خمسة عشر عامًا، وهو ما يُروى في خمس صفحات مكثفة في الرواية، ثم يجتمعان مجددًا، ويطوِّق أحدهما الآخر بذراعيه، فيصبح كل شيء على ما يرام، وتنزل كلمة النهاية. في المقابل، يصعُب تمثيل الحياة الزوجية فنيًّا لأن جوهرها يتمثَّل في النمو عبر التفاصيل الصغيرة غير المرئية للحياة اليومية، بينما ظاهريًّا لا يحدث شيء. إن الحب الرومانسي مثل قائد الجيش الذي يعرف كيف ينتصر لكنه لا يعرف كيف يحكم بمجرد انتهاء المعركة. فعلى النقيض من الشخص الجمالي، الذي يعرف كيف «يقتل الوقت»، يبرع المتزوجون في إدارة الزمن دون قتله. تتمحور الحياة الزوجية حول الاستخدام الحكيم للزمن وإدارته، والإمساك بالمحراث لرعاية حقل حياتنا اليومية.
في الحياة الجمالية، التكرار محكومٌ عليه بالفشل. إذا لم تنسَ المرةَ الأولى قطُّ، فلن يمكنك تكرارها أبدًا! لا يمكن تكرار الحب الأول، بل يمكن تذكُّره فقط. لكن من وجهةِ نظر كيركجارد الأخلاقية، كل شيء يعتمد على إمكانية التكرار. في الحياة الأخلاقية، نقفُ دائمًا في البداية بينما المستقبل أمامنا، وكلُّ يوم جديد يمثِّل تحديًا جديدًا كي تقول «أجل، أقبل الزواج بك» مجددًا؛ لذا لا يتحقق معنى هذه الجملة فعلًا إلا في النهاية؛ فقط في النهاية يمكننا القول إننا حافظنا على العهد أخيرًا. يسير كيركجارد هنا في اتجاه مختلف عن أرسطو. بالنسبة إلى أرسطو، تتمثَّل الأخلاق في تأسيس «عادة» الفضيلة بدلًا من البدء من جديدٍ في كل لحظة. تُسهِّل «العادة» لدى أرسطو مهمةَ ممارسة الفضيلة، بينما يشدِّد كيركجارد على صعوبة ممارسة التكرار. فالحب الزوجي «يشتمل على الحب الأول والإخلاص في نفس الوقت». تُحمَل كل رومانسية الحب الأول إلى الزواج، حيث يجري الحفاظ عليها، وتعميقها وتحويلها إلى إخلاصٍ مدى الحياة.
بالنسبة إلى القاضي، لا يمتلك الشخص الجمالي ذاتًا، إذا كان امتلاكُ ذاتٍ يعني الالتزام المستمر للذات الوفية. تتذبذب حياة الشخص الجمالي بين سلسلة من اللحظات المتقطعة، المحكومة بمبدأ نسيان كل ما هو غير سارٍّ في الماضي، وتذكُّر المُتع السابقة فقط، واختزال المستقبل إلى مصدرٍ جديدٍ لملهيات محتملة. يفتقر الشخص الجمالي إلى وحدة الوجود التي تتحقق عبر تحمُّل مسئولية الماضي وضمان التزام المرء بوعوده في المستقبل. ومثلما يصيغها كيركجارد، فإن الشيء الوحيد الذي يقلق منه الشخص الجمالي هو أن يعلِّق ذيل معطفه في باب الواقع؛ أي إنه يهتم فقط بالتهرب من كلِّ ما هو غير سارٍّ عبر تجنُّب أي التزام.
وفَّر المفهوم الجديد «للذات»، الذي تَكشَّف في كتاب «إما/أو»، الأساسَ الذي بنى عليه هايدجر مفهومه عن الذات الوجودية في كتابه المحوري «الكينونة والزمان». لا يمتلك الشخص الجمالي ذاتًا لأن حياته تفتقر إلى حسم الاختيار، الذي يرى كيركجارد أن عهد الزواج خيرُ مثال له. ﻓ «اللحظة»، وهو مصطلح يلعب دورًا محوريًّا في كتاب «الكينونة والزمان»، ليست مجرد شريحة من الزمن مجمَّدة على سطح جَرَّة إغريقية، بل هي لحظة الاختيار، أو لحظة الحقيقة، المشحونة بالالتزام المستمر بالعهد. في اللحظة، يتجمَّع تيار الحياة المُبعثَر ليصبح وحدةً واحدة. وفيما يُطلِق عليه هايدجر «العزم الأصيل»، تتحمَّل الذات مسئوليةَ ماضيها ومستقبلها، مُلزِمة نفسَها بمسار الفعل ومتقبِّلة تبِعات هذه المسئولية. إذن الذات هي وحدة، يجتمع فيها كلُّ ما كان عليه المرء في الماضي، وكلُّ ما ألزم نفسه به مستقبلًا في لحظة القرار. وبمصطلحات كيركجارد، تتقاطع الأبدية مع دنيوية الذات وتشحنها، وهو هنا لا يعني بالأبدية الحياةَ ما بعد الموت، بل يقصد ما يسميه ﺑ «الشرعية الأبدية» للذات، أي ثبات استمراريتها كذاتٍ، وهو ما يشكِّل بِنيةَ الإخلاص الأخلاقي.
سيتفق الشخص الجمالي مع كل هذا. لكن النقطة الأساسية، التي يرتكز عليها، هي تجنُّب المجهود المضني لامتلاكِ ذاتٍ مستمرة من الأساس، والهروب من جميع المسئوليات الثقيلة التي تتضمنها مثل هذه الحرية الملزِمة. إنه يفضِّل امتلاك سيجارٍ على امتلاك ذات. يجادل القاضي بأن الفكر الأخلاقي (الزواج) لا يبطل الفكر الجمالي (الشهوة)، بل يبني سورَ أمان أخلاقيًّا حوله كي يزدهر في حديقة الحياة الزوجية بدلًا من أن يفنى في البراري. وسيرُدُّ الشخص الجمالي على هذه الحجة بالتثاؤب. فهو لا يتبنَّى أيَّ وجهة نظر أخلاقية من الأساس، ولن تلقى حجةُ القاضي صدًى إلا لدى مَن يتبنَّى وجهة النظر الأخلاقية. كما يجادل القاضي بأن الأخلاقية أرقى من الجمالية، وهو ما سيوافق عليه الشخص الجمالي قطعًا، لكن الأخلاقيات هي ما يعارضها. لا يوجد أيُّ سببٍ أخلاقي يمكن أن يقنع يوهانس لأنه يرفض دخول مجال المنطق الأخلاقي نفسه. يرفض الشخص الجمالي أن يلعب لعبةَ الاختيار رفضًا باتًّا، باستثناء اختياره ألا يختار. مثل بارتلبي النساخ في القصة القصيرة لهرمان ملفيل، إن تفضيله الوحيد هو أنه لا يفضِّل. لذا يدرك القاضي، في لحظة حاسمة، أن مهمَّته الحقيقية لا تكمُن في حثِّ الشخص الجمالي على اختيار شيء محدَّد، بل «اختيار أن يختار». وبمجرد انطلاق عجلة الاختيار، يثق القاضي أن ديناميات الضمير البروتستانتي ستقود الشخص الجمالي في طريقه نحو الخير وستبعده عن الشر. إن مهمة القاضي الأساسية هي إغراء الشخص الجمالي بأن يتبنى وجهةَ النظر الأخلاقية. في كتاب «إما/أو»، لا تتمثَّل البدائل في اختيار الحياة الجمالية مقابل الحياة الأخلاقية، بل في اختيار عدم الاختيار مطلقًا في مقابل الحياة القائمة على الاختيار.
يتكشف التحوُّل الأخير في هذا الجدل الوجودي المطروح في كتاب «إما/أو»، عبر نص «الإنذار الأخير»، وهي خِطبة أُرسِلت إلى القاضي من قِبَل صديقٍ قسٍّ يخدم في شبه جزيرة يوتلاند، حيث الأراضي القاحلة بالساحل الشمالي. في «الجدل الوجودي»، ينشأ شكلٌ حياتي فقط لينهار تحت ضغوط صراعاته الداخلية، التي تمزِّقه، وهو ما ينقلنا إلى مرحلة حياتية أرقى. وتمثِّل الخُطبة تأملًا لفكرة أنه أمام الله لا أحد على صواب. فالخِطبة تقول إن محكمة الله ليست مكانًا كي يُثبِت المرء فيها أنه على صواب. والجدل بأن «المرء يفعل قدرَ ما يستطيع أن يفعل» لن يجديَ نفعًا أمام الله. ألم تنظر داخلك، شاعرًا بدُوار القلق عندما أدركت كم أنت قادرٌ على ارتكاب الشر؟ من الأفضل الاعتراف بأنك مخطئ، وهو ما يعني أن تبدأ من جديدٍ في كل لحظة، عاقدًا العزمَ على فعل الأمور بطريقةٍ أفضل. من الأفضل أن تدخل في علاقة مع معيارٍ لا نهائي، وأن تتبنَّى وجهةَ نظر مطلَقة، بدلًا من التصميم على أنك حتى لو لم تكن على صواب دائمًا، فأنت على الأقل أفضلُ من بعضهم، وهو ما يعني أن تظل متبنيًا وجهةَ نظر محدودة ونسبية. يُنهي القس خِطبته بقوله إنك يجب أن تتبنى هذه الفكرة «لأن الحقيقة بالنسبة إليك هي فقط الحقيقة القادرة على التنوير».
مرَّر القاضي هذه الرسالةَ إلى الشخص الجمالي لتنويره، لكن الحقيقة هي أن «الإنذار الأخير» مُوجَّه إلى القاضي نفسه: أمام الله، حتى القاضي، الذي اعتاد أن يكون على صواب، مخطئ. أمام الله، تُعَد الأخلاق تفاخرًا. هناك وجهةُ نظر أعلى من وجهة النظر الأخلاقية، وهي مطلَقة وغير مشروطة أكثر منها. ما دام المرء ضمن إطار أخلاقي مرجعي، من المغري أن نستنتج أننا أتممنا مهمَّتنا، وأننا على صواب. إذن، هل يمكن أن تشكِّل الأخلاق إغراءً فعلًا؟ هل يمكن أن تغريَنا الأخلاق بعيدًا عن العلاقة المطلَقة غير المشروطة مع الله عبر استمالتنا إلى الافتخار بأنفسنا؟ هل يمكن أن تتحوَّل الأخلاق لتصبح علاقةً مع العام، مع «الإلهي» بالمفهوم اليوناني، بينما المطلوب هو الدخول في علاقة شخصية مع الله؟ تكشف الخِطبة «اليأس» المتأصل في المذهب الأخلاقي، والهُوة التي يحدِثها في الوجود، بنفس الطريقة التي تكشف بها «يوميات مُغوٍ» اليأسَ المتأصل في المذهب الجمالي. تحذِّرنا الخِطبة من خطورة أن نَعُدَّ الحياة الأخلاقية شكلًا حياتيًّا مكتفيًا بذاته ووجهة نظر نهائية. عبْر تبني وجهة النظر الأخلاقية على الدوام، تُحرم الذات من وجهة النظر المطلَقة، وتقبل بمعيارٍ أقلَّ من قداسة الله المطلَقة.
يمكننا أن نرى الآن الحركة الجدلية للكتاب، والطريقة التي تنشأ بها وجهةُ نظر معينة فقط لتنهار بتأثيرٍ من صراعاتها الداخلية. يحاول القاضي أن يقود الشخص الجمالي خارجَ عزلة حب النفس إلى مجتمع تصبح فيه الحقيقة مفهومًا عامًّا لدى كل البشر، لكن خِطبة القس تدفع القاضي، والقارئ معه، ببطء صوب استثناء ديني لِما هو عام، وهو ما سيكون موضوعَ كتاب كيركجارد التالي الذي يحمل اسم «خوف ورِعدة». في ملاحظة، لا يمكن إغفال أثرها المحزِن وأهميتها في سيرة كيركجارد الذاتية، يقول القاضي إنه يعتقد بإمكانية إعفاء المرء من الزواج أو حتى إثنائه عن فعلِ هذا في حالة واحدة فقط: عندما تكون حياته الداخلية معقَّدة للغاية إلى درجةٍ لا يمكن الكشف عنها. فهذه الحياة الداخلية السرِّية ستسمِّم الزواج، فإن زوجته لن تفهمه أبدًا، وحتى إذا فهمته، فستتأثر بقلقه، ولن تكون سعيدة أبدًا.
قال كيركجارد، على لسان يوهانس كليماكوس، ذات مرة ساخرًا إنه لا يتمتَّع بمهارة الفلسفة. لكن هذا التصريح ساخر للغاية ويقلِّل من حقيقة الأمر، ذلك لأن ما نجِده في خطابات القاضي المرسلة إلى الشخص الجمالي يمثِّل تحوُّلًا حقيقيًّا لنموذج فهم الذات الإنسانية. فبدلًا من تبني وجهة النظر الميتافيزيقية التقليدية عن الذات باعتبارها مادةً، أو روحًا، أو جوهرًا أو طبيعةً ما، يقدِّم لنا كيركجارد الذات بوصفها نصًّا محاكًا من نسيج الحرية، باعتبارها نسيجًا من الاختيارات. بدلًا من تصوُّر الإنسان باعتباره مدمجًا بأمانٍ ضمن نظام جوهري أو ضمن النظام الهرمي للوجود، أو بصفته خاضعًا لضروريات قوانين الطبيعة، يقول كيركجارد إننا ما نفعله. فالذات ليست مادةً دائمة وثابتة، بل هي مهمة يجب تحقيقها كليًّا بوصفها تجربةً بشرية استثنائية للعيش في الزمن. الذات هي مهمة قد ننجح أو نفشل في تحقيقها، وهذا أساس تمييز هايدجر بين «الأصالة» و«الزيف»، الذي يحل محلَّ تصنيفات أقدم مثل «الطبيعي» و«المصطنَع»، أو حتى «الخير» و«الشر». تنشأ «الذات» بصفتها «فئة» مختلفة تمامًا، فئة للحرية، فلم يَعُد يُنظر إليها كشيء، مهما تميَّز هذا الشيء، حتى وإن وصل الأمر إلى حدِّ وصفه كشيء عاقل، أو روحاني، أو «شيء مفكر»، بحسب وصف ديكارت. فالذات هي شكلٌ من أشكال الحرية، وليست شيئًا ما.
فتحت الثورة المفاهيمية، التي دشَّنها كيركجارد، البابَ أمام «المذهب الوجودي». فعندما قال هايدجر عن الذات «إن «جوهرها» يكمُن في الوجود»، وعندما كتب سارتر أنه في الإنسان «الوجود يسبق الجوهر» بمعنى أن «ماهيتنا» أو «شخصيتنا» هي نتيجةُ اختياراتنا في الحياة، فهما يتحدثان بصفتهما ورثةَ كيركجارد. ويُعَد هذا اكتشافًا مثيرًا للقلق بالنسبة إلى العديد من المفكرين، ذلك لأنه يزيح المبادئ الراسخة التي تطرحها مفاهيمُ مثل «الجوهر» و«الطبيعة»، ويمنح البشر قوةً ليجعلوا من أنفسهم ما يتمنَّونه. عند كيركجارد نفسه، فإن هذا التوجُّه خاضع دومًا للمراجعة والتصحيح من قِبَل الله، لكن إذا أزلنا الله من الصورة، مثلما حدث في الوجودية الإلحادية لدى كامو وسارتر، يتغيَّر كل شيء. يُفتح الباب حينها أمام ثورة وجودية ضد الله باسم الحرية.
تتحدَّث الطفرة المفاهيمية المصاغة في هذا النص عن نفسها، بغضِّ النظر عمَّن وقَّع باسمه عليه. نتذكر نصيحةَ المدعو «إيه إف» عندما قال إنه من الأفضل المشاركة في النقاش الدائر حول ما هو موجود بين طيات كتاب «إما/أو» بدلًا من الانغماس في محاولات تحديد اسم المؤلف الموضوع على الغلاف. أتى كتاب «إما/أو» إلى العالَم «يتيمًا»، مثلما يقول أفلاطون عن الكتابات التي ينفي كُتَّابها الحقيقيون صلتَهم بها، وينسبونها إلى مؤلفين وهميين لا وجودَ لهم. ما الذي سيرشدنا إذن؟ مَن سيكون منارتنا؟ لقد تُركنا بمفردنا، ويتعيَّن علينا أن نقرِّر بأنفسنا. في نهاية الأمر، فإن الحقيقة الوحيدة المهمة هي الحقيقة الحقيقية «بالنسبة إلينا».