فارس الإيمان
أتساءل ما إذا كان أحد في جيلي قادرًا على القيام بالحركة الإيمانية؟ إذا أُمِرتُ (حتى لو كنت أملك قدرات الأبطال الملحميين التي أعجز عن الوصول إلى أبعدَ منها) بالقيام بهذه الرحلة الاستثنائية إلى جبل موريا، فأنا أعرف تمامًا ما كنت سأفعله. لم أكن لأصبح جبانًا إلى الدرجة التي تقعدني في المنزل، ولم أكن لأتراجع، أو أنحرف عن الطريق … لكنني أعرف أيضًا ما كنت سأفعله. في اللحظة التي سأمتطي فيها حصاني، سأقول لنفسي: الآن أخسر كلَّ شيء، الله يطلب إسحاق، سأضحي به، وسأضحي بكل سعادتي معه … إن عزمي على القيام بهذه الخطوة قد يُثبِت شجاعتي بالمعنى الإنساني — لأن حبي لإسحاق بكامل روحي هو فرضية مهمة من دونها سيصبح كلُّ ما أقوم به خطيئة — لكنني لم أكن لأحب إسحاق بنفس قدْر حب إبراهيم له؛ لأنني عندئذٍ كنت سأتراجع عن تنفيذ الأمر في اللحظة الأخيرة … الأكثر من هذا … فلو رُدَّ إسحاق إليَّ، لأصبحت في موقفٍ غريب … فما كان سهلًا على إبراهيم، سيكون صعبًا عليَّ؛ وهو أن أفرح مجددًا بعودة إسحاق إليَّ.
لكن ما الذي فعله إبراهيم؟ لم يصل مبكرًا أو متأخرًا. لقد امتطى حماره، وقاده بروِيَّة على امتداد الطريق. وظل مؤمنًا طوال هذه الرحلة؛ مؤمنًا بأن الله لن يطلب إسحاق لنفسه، غير أنه كان مستعدًّا للتضحية به إذا ما طُلب منه ذلك. لقد كان إيمانه مبنيًّا على التصديق في اللامعقول، لأن المنطق البشري ليس له مجال هنا، ولأنه كان من غير المعقول أن الله، بعد أن أمره بذبح ابنه، سيلغي طلبه هذا في اللحظة التالية. لقد صعِد الجبل، وحتى في اللحظة التي لمع فيها السكين، ظل مؤمنًا بأن الله لن يطلب منه التضحية بإسحاق. لا شك أنه فوجئ بالنتيجة، لكنه، عبر خضوعه الكامل، تمكَّن من تلبية شرطه الأول (الثقة المطلَقة)، ومن ثَم استعاد إسحاق، بفرحةٍ أكبرَ من المرة الأولى. دعونا نذهب إلى ما هو أبعدُ من هذا. لنفترض أن إبراهيم قد ضحى بإسحاق فعلًا. كان إبراهيم مؤمنًا. لم يكن مؤمنًا بأن الله سيباركه في حياة أخرى لاحقة بل إنه سيكون مباركًا هنا في هذه الحياة. يمكن أن يمنحه الله إسحاقَ جديدًا، أو يعيد إسحاقَ الذي تمَّت التضحية به إلى الحياة مرة أخرى. لقد كان إيمانه مبنيًّا على التصديق في اللامعقول؛ لأن كل حسابات البشر لم تَعُد تصلح منذ وقت طويل … لكن حقيقة أن يكون المرء قادرًا على التخلي عن فهمه وكل شيء آخر محدود معه (وهي طريقتنا المعتادة في إدراك العالم)، ليستعيد هذا الشيء المحدود ذاته بموجب إيمانه المبني على التصديق في اللامعقول، هو أمرٌ مرعب بالنسبة إليَّ، لكن هذا لا يعني أنني أقول إن هذه الحقيقة في مرتبة متدنية، على النقيض من هذا، إنها المعجزة الوحيدة … تلك هي القمة التي يقف عليها إبراهيم. إن المرحلة الأخيرة التي نعبُرها، من وجهة نظره، هي مرحلة التسليم اللانهائي. لكنه، في واقع الأمر، يذهب إلى ما هو أبعدُ من ذلك، ليصل إلى الإيمان … أنا لا أفهم إبراهيم … لا يقف جيلنا عند حد الإيمان، لا يقفون عند معجزة الإيمان، التي حوَّلت المياه إلى خمر، بل يذهبون إلى ما هو أبعد من هذا، ليحولوا الخمر إلى مياه.
يمكن المجادلة بأن كتاب «خوف ورِعدة» هو أكثر كتب كيركجارد شهرةً وإثارة للجدل. يقدِّم لنا الكتاب، الذي يقل حجمه عن ١٢٥ صفحة في الترجمة الإنجليزية، المرحلة «الإيمانية»، وهي المرحلة الثالثة والأعلى بين مراحل الوجود الثلاث، عبر متابعة القصة المعروفة لنبي الله إبراهيم والأمر الإلهي الملزم تجاه إسحاق. بالنسبة إلى كيركجارد، فإن العِبرة من هذه القصة هي أن القانون الأخلاقي خاضع لاستثناءات لأن الله، الذي وضع القانون الأخلاقي، قادر على إيقاف العمل بأي قانون إذا أراد ذلك. إن هذا الرأي خطيرٌ للغاية، خاصة في الوقت الحالي، الذي تكتسحنا فيه موجة من العنف الديني ويهددنا أشخاصٌ، يشعرون بأنهم مخوَّلون، بل مأمورون، بأن يقتلوا باسم الله. يبدو أن كتاب «خوف ورِعدة» يحقق أسوأ مخاوف هؤلاء الذين تزعجهم وجهةُ نظر كيركجارد، التي تفيد بأن «الحقيقة هي الذاتية». هل يُعتبَر شيءٌ ما حقيقيًّا ما دام لديك اقتناع عميق وشغوف بأنه حقيقي؟ أليس هذا هو تعريف التعصب؟ هذه هي تحديدًا المشكلة التي يصارعها كل شخص يقرأ هذا النص. وبينما سأركز على هذه المشكلة، سأقدم أيضًا بنهاية هذا الفصل، وجهةَ نظرٍ جدليةً «ما بعد حداثية» مهمةً وبنَّاءة، تطرح قراءة جاك دريدا لكتاب «خوف ورِعدة».
يحمل مؤلِّف هذا النص الذي يحمل الاسم المستعار يوهانس دي سيلينتيو (يوحنا الصامت)، ويلمِّح الاسم إلى الموقف العصي على الفهم والتعبير، الذي وجد إبراهيم نفسه فيه. لقد اختزل موقف إبراهيم في الصمت؛ فهو لا يستطيع أن يشرح للآخرين ما الذي يفعله لأنه لا يفهمه هو نفسه. وعندما يتحدَّث يصبح كلامه ساخرًا؛ عندما يسأله إسحاق أين الحَمَل الذي سيضحي به يجيب فقط بأن الله سيوفِّره. وفي تناقضٍ صارخٍ مع شخصية إبراهيم المصوَّرة في الفصول السابقة من الإنجيل، لا يجادل إبراهيم مع الله، ولا يحاول أن يتفاوض معه. ويؤكِّد دي سيلينتيو، باستخدام الاستعارة المستقاة من مجال الاقتصاد على امتداد الكتاب، أن معاصريه يبيعون الإيمان بخصوماتٍ بينما يزعمون أنهم قد تجاوزوا الإيمان باستخدام المعرفة الفلسفية. لذا، تكمُن مهمة دي سيلينتيو في إظهار كيف أن الإيمان الحقيقي مكلِّف، وكيف أن إبراهيم قضى حياته كلَّها محاولًا الوصول إلى الإيمان، فما بالُك بتجاوزه. إن التكلفة الحقيقية للإيمان هي «الرعب الديني»، الخوف والارتعاد الذي تنطوي عليه مهمة إبراهيم المخيفة، التي تربك الفلاسفة الهيجليين؛ سماسرة المحدود، الذين يتعاملون فقط مع ما هو معقول، وبشري، وراسخ في هذا العالم. إن الصعود المتمهل إلى جبل موريا مشحون بالرعب. فإبراهيم معزول أمام الله، لا يجد مَن يشاركه في فهم أمر الله، ولا مَن يساعده في التفسير، وهو محروم من المجتمع البشري، واللغة البشرية.
إذا كان قد طُلب من إبراهيم التضحية بإسحاق، الذي أحبَّه أكثرَ من حياته نفسها، من أجل ضرورة مروعة لكن حتمية، لإنقاذ أمَّته مثلًا، بدلًا من كونه اختبارًا أو «ابتلاءً» من الله لا يخدم أيَّ غرض إنساني، كان إبراهيم سيصبح بطلًا ملحميًّا، ليحتل مكانه في أعلى حدود الأخلاق والتفهم. في أفضل حالاته، يقول دي سيلينتيو إنه ربما كان يملك هذه القدرات لكنه يتابع أنه يعجز «عن الوصول إلى أبعدَ منها» وهناك أمثلة على هؤلاء «الأبطال الملحميين» في الأدب؛ أجاممنون، الذي ضحى بابنته إيفيجينيا لإنقاذ مدينته، وسقراط الذي دافع عن مبادئه وقَبِل حكم الإعدام الذي أقرَّته محكمة أثينا. هؤلاء رجال كانوا مستعدين للتضحية بكل شيء من أجل مدينتهم أو للدفاع عن مبدأ. إن حماية الأمم والمبادئ منطقية ومفهومة، لكن إبراهيم كان مطالبًا بالتخلي عن هذا المنطق («حسابات البشر»). يجب عليه أن يضحي بإسحاق. هذه هي الحركة الأولى، وهي حركة التسليم اللانهائي، لكنه يقوم بعدها بحركة ثانية أعلى، وهي حركة الإيمان. إن سقراط وأجاممنون رجلا مبادئ، بلغا أقصى حدود المبادئ ببطولتهما الملحمية؛ إذ كانا على استعدادٍ لخسارة كل شيء من أجل حماية المبدأ. لكن الإيمان هو حركة ثانية، متجاوزة لعمومية المبدأ:
إن الإيمان هو المفارقة القائمة على أساس أن الفرد الواحد هو في مرتبة أعلى من العام — لكن رجاءً لاحِظ أن هذا يحدُث بطريقة تجعل الحركة تكرِّر نفسها، فبعد أن كان جزءًا من العام، يعزل الفرد الواحد نفسه بصفته أعلى من العام. إذا لم يكن هذا هو الإيمان، فقد ضل إبراهيم … لأنه إذا كانت المرحلة الأخلاقية من الوجود — التي نقصد بها الأخلاقيات الاجتماعية — هي أعلى مراحل الوجود، وإذا لم يتبقَّ في المرء شيء غير قابل للقياس بطريقة لا تجعل هذا الشيء شرًّا … فلا حاجة لنا إلى فئات أخرى بخلافِ ما تطرحه الفلسفة اليونانية … (٥٥).
من الناحية الأخلاقية، كان إبراهيم مستعدًّا لارتكاب جريمة قتل. ومن الناحية الأخلاقية، ينبغي أن يحب الأب ابنه أكثرَ من نفسه. ولذا، إن لم يكن إبراهيم بطلًا ملحميًّا، فهو قاتل؛ إلا إذا كان هناك فئة أخرى ينتمي إليها، وهي فئة المؤمنين.
لم يشكِّك إبراهيم مطلقًا في وعد الله له بأنه سيكون أبًا لأجيالٍ بعدد نجوم السماء. لاحِظ أن الوعد يتعلق بهذه الحياة، نوع من الخلود الدنيوي في الزمن، ولا يتعلق بالحياة الآخرة، أو بحياة أبدية فعلًا. لقد وثِق إبراهيم بالله: لن يتركه الله مطلقًا يمضي في فعله، أو أنه سيبدِّل إسحاقَ بابن آخر — كان إبراهيم وسارة يتجاوزان من العمر مائة عام — أو حتى بمفارقة أكبر، سيعيد الله إسحاقَ إلى الحياة بعد التضحية به. لم يفهم إبراهيم منطِق الله، لكن «كان إيمانه مبنيًّا على التصديق في اللامعقول لأن كل حسابات البشر لم تَعُد تصلح منذ وقت طويل». الله قادر على فعل أي شيء، حتى وإن كانت هذه الأشياء مستحيلة بالنسبة إلينا. قد يستطيع المرء، الذي يقع في مرتبةٍ أقل من إيمان إبراهيم، أن يقوم بحركة التسليم اللانهائي، أن يتخلى عن المحدود، وأن يتخلى عن إرادته الخاصة من أجل اللانهائي، لتنفيذ إرادة الله. يمكن أن يفهم هذا الشخص أننا قد نُضطر، أحيانًا، إلى التضحية بالأبناء من أجل قضيةٍ ما، ويمكن أن يكون قادرًا على التسليم بخسارة شيء محدود من أجل طاعة اللامحدود، وتسليمًا لقانون الله. هذا ما كان يعنيه دي سيلينتيو بعبارة «فارس التسليم اللانهائي» (٤٢–٤٤)، شخص يذهب بشجاعة الفرسان إلى حد التخلي عن إرادته، لكنه يفعل هذا دون توقُّع تعويض خسارته مطلقًا. لكن إبراهيم هو نموذج لما يسميه دي سيلينتيو ﺑ «فارس الإيمان» (٣٨–٤١)، وهو ما يعني أن إبراهيم قد قام بحركة ثانية. كان لدى إبراهيم إيمانٌ بأنه سيستعيد إسحاق، بمجرد تنفيذ أمر الله. سيفي الله بوعده وسيستعيد إبراهيمُ إسحاقَ فرحًا حتى بعد التضحية به. من ناحية أخرى، فإن فارس التسليم اللانهائي، الذي كان متأكدًا من أنه قد خسِر كل شيء، سيربكه هذا التحوُّل غير المتوقع للأحداث. إن استعادة إسحاق هو «تكرار» أعلى مرتبة يتجاوز قدرات البشر، ويعتمد كليًّا على قدرة الله. بالتأكيد، لا يجب أن يذهب المرء إلى النقيض الآخر، والمتمثِّل في تبني نوعٍ من «الإيمانية»، القائمة على الثقة بالله إلى درجةٍ تجعلنا نَأمَن جانبه، وهو ما يقضي على شعورنا بالخوف والارتعاد أمام الله. كان الله يختبر إيمان إبراهيم، ولم يكن يلعب معه لعبةً لاختبار كم هو قادرٌ على المراهنة. لقد وثِق إبراهيم بالله، ولم يكن يراهن ببساطة على أن الله سيتراجع أولًا عن موقفه في هذه اللعبة المحفوفة بالمخاطر. لأنه لو كان الأمر كذلك، لكنا سنتذكر إبراهيمَ لا باعتباره أبا الإيمان بل أبا المراهنة.
الآن، يمكننا رؤية حركات مراحل الوجود الثلاث. يشحذ الشخص الجمالي كلَّ قواه للبقاء دون العام، حيث يكون حرًّا للتمتع بملذاته الشخصية، ومتملصًا من قبضة القانون العام. أما القاضي فهو يتبنى العام بخطًى واثقة، ويرسخ قدميه مباشرة وسط الطبيعة الخشنة والمتقلبة للواقع والقانون. وأخيرًا يحقِّق «فارس الإيمان» القفزةَ الإيمانية، ليدخل في عزلة العلاقة الشخصية مع الله، حيث تتوقَّف سلطة القوانين العامة. لا يواجه فارس الإيمان مغرياتٍ منافية للأخلاق، بل إن الأخلاق نفسَها هي الإغراء. يواجه إبراهيم إغراءَ اللجوء إلى قانون «لا تقتل»، وهو ما كان سيعفيه من هذه المسئولية المروِّعة. قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط إن إبراهيم كان ملزَمًا أخلاقيًّا بأن يشكك في حقيقة الصوت الذي تجرَّأ وطلب منه أن يقوم بفعلٍ غير أخلاقي تمامًا، زاعمًا بأنه صوت الله. لكن بالنسبة إلى كيركجارد، فهذا يعني أن تضعَ الإلهي العام قبل الله الشخصي؛ أن تضعَ الأخلاق قبل الله. إن الله الحي الأبدي يضع شروطه الخاصة ولا يخضع لشروط البشر. خضع إبراهيم لما يسميه دي سيلينتيو «التعطيل الغائي للأخلاق». فالفرد، بعد أن حُرم من دعم الأخلاقي العام، يواجه الوجه المهيب لله المتعالي.
في كتاب «خوف ورِعدة»، نكتشف أولَ مؤشر على وجود مشكلة في مشروع كيركجارد، أولَ إشارة إلى أن قوة الأبدية يمكن أن تُبطل أهميةَ الزمن. فرغم تصويره البارع لفارس الإيمان، الذي يُعد نموذجًا للإيمان لدى كيركجارد، يمثِّل الكتاب جرس إنذارٍ للمشكلات التي سنقابلها في الطريق. إنه كتاب مثير للقلق بقدْر كونه عملًا عبقريًّا. يظهر الكتاب، للوهلة الأولى، كأنه وصفةٌ للتعصب — حيث يُمتدح شخصٌ يقتل طفلًا بريئًا بوصفه بطل الإيمان. ربما كان في إمكان النازيين أن يدَّعوا أنهم في مهمة إلهية لقتل اليهود، ولطالما ادَّعى الإرهابيون الدينيون من كل الأديان — مسيحيون، ويهود، ومسلمون، وهندوس — بأنهم ينفذون أمر الله بقتل بعضهم بعضًا. إذا كان من الممكن أن يقتل شخصٌ طفلًا بريئًا، لِمَ لا يقتل العديد من الأطفال، أو عِرقًا بأكمله من الأشخاص الأبرياء؟ إن تناقض هذه الفكرة مع كل فهمٍ ومنطق إنساني ليست حجةً للاعتراض إذا كانت العلامة الفارقة للإيمان هي التصرف بناءً «على التصديق في اللامعقول»، والخروج من نطاق التواصل مع الآخرين والمعايير العامة.
يتوقَّع دي سيلينتيو هذا الاعتراض. إن النقطة المحورية من وجهةِ نظر دي سيلينتيو، هي أن هذه التضحية تمَّت بدافع الحب لا الكراهية، وأن إبراهيم أحبَّ إسحاقَ بكامل روحه، وهذه «فرضية مهمة» من دونها سيصبح كلُّ ما يقوم به خطيئة. كان على النازيين أن يحبوا اليهود بملء قلوبهم، وأن يفضِّلوا أن يضحُّوا بحياتهم بدلًا من «التضحية» باليهود؛ وكان على الإرهابيين من كل الأطياف أن يحبوا ضحاياهم كما لو كانوا أطفالهم. ومع ذلك، في الحالات التي يحب فيها المرء فعلًا زوجته، أو طفله، أو جاره، لكنه يشعر بأمرٍ حقيقي من الله للتضحية بهم سينشأ لديه صراع أخلاقي. إن الموافقة على مثل هذه الحالات، أو حتى الثناء عليها، تجعل حجةَ كيركجارد ليست خاطئة فحسب بل خطيرة. في كتاب «خوف ورِعدة»، نرى أولى علامات على مفهومٍ مشوَّه للدين، ظهر في السنوات الأخيرة من حياة كيركجارد؛ حيث إن أوامر الله العليا باتت ساحقة إلى درجةٍ تجعلها تبطل أهميةَ الحياة على الأرض تمامًا. فبدلًا من الحفاظ على الصراع بين المحدود واللامحدود، تنهار العلاقة الجدلية بينهما. إن خطأ كيركجارد في نهاية المطاف هو اعتقاده بأن الوجود المؤقت لا يتمتَّع بالجوهر أو الوسائل التي تمكِّنه من الصمود أمام الأبدية إذا ما طلبت الأبدية طلبًا غير مشروط، مثلما طلب الله من إبراهيم أمرًا غير معقول.
في تفسير كتاب «خوف ورِعدة»، ظهرت تساؤلات عن تعبير «التصديق في اللامعقول» الذي يستخدمه دي سيلينتيو في هذا المقتطف، وعما إذا كان اعتراض كيركجارد على «المنطق» الهيجلي دفعه إلى تبني لا عقلانية مطلَقة. بالنسبة إلى هيجل، ما هو حقيقيٌّ فهو منطقي، وما هو منطقيٌّ فهو حقيقي؛ وما العالم إلا تكشُّف للمنطق الإلهي في الزمان والمكان. كان ردُّ كيركجارد على الهيجليين هو طرحَ نموذجٍ مناقض بارز: إيمان إبراهيم، الذي تكمُن عظمته في استعداده لفعل شيء غير مفهوم بالنسبة إلى المنطق البشري. إذا كان «اللامعقول» يعني ببساطة «معجزة» تتجاوز المنطق البشري؛ شيئًا يستطيع أن يقوم به الله القادر على كل شيء لكنه يتجاوز فهمنا، مثل أن يجعل سارة حبلى مجددًا في سنٍّ متقدمة، فهذا شيء. أما الموافقة على أمرٍ إلهي بقتل طفل بريء فهو شيء مختلف تمامًا؛ إذ تبدو فكرةً غير معقولة بدرجة أكبر، فهي لا تتجاوز المنطق وحسب، بل تتناقض تمامًا مع كل أشكال المنطق، (وتلك هي مشكلة كتاب «خوف ورِعدة»). بالنسبة إلى القارئ المعاصر، فإن هذا المثال النموذجي لفعل الإيمان، أي قتل طفل بريء، يمثِّل ما يُطلِق عليه دي سيلينتيو نفسه خرقًا «مروعًا» لحرمةِ القانون الأخلاقي، وهو ما يجعل مرتكِب هذه الجريمة قاتلًا من وجهة النظر الأخلاقية. يعتقد دي سيلينتيو، أن الله، بكل قوَّته وسرِّه اللانهائي، قد يكون له منطق غير جلي لإصدار أمر الذبح، حتى في ظل جميع التحفظات السالف ذكرها. وبطاعتنا هذا الأمر، نصبح أبطال الإيمان. هذه هي التكلفة الباهظة للإيمان، التي يكون المرء مستعدًّا لدفعها فقط إذا كان مقتنعًا بأن الحياة في الزمن ليس لها أي حقوق مطلَقة أمام أبدية الله.
كان يمكن أن يخفِّف كيركجارد من حدة الأزمة التي تطرحها قصة إبراهيم وإسحاق، إذا لم يرفض التفسيرات الإنجيلية التاريخية، والتي كانت لا تزال في مهدها، بوصفها خاضعةً لرغبات عصر الفكر الهيجلي الليبرالي، وتحرم الإيمان من سِماته المتطورة. من وجهة نظر تاريخية نقدية، تحدُث القصة في زمنٍ يسبق نزول شريعة موسى «التوراة» عندما لم تكن التضحية بالابن الأول ممارسةً غير شائعة. لم يكن إبراهيم ليشعر بالحاجة إلى البقاء صامتًا؛ كان من الممكن أن يفسِّر تصرفه لمعاصريه، وكانوا سيفهمونه. وفقًا لسياقه التاريخي، كان إبراهيم ليصبح بطلًا أخلاقيًّا، مستعدًّا لتنفيذ ممارسة صعبة لكنها مقبولة إلى حدٍّ كبير. في ذلك السياق، فإن الأمر غيرَ الاعتيادي هو نهاية القصة، عندما منع الله حادثة التضحية، مما يشير إلى رفضه التضحيةَ بطفل، وهو ما ترفضه الرواية اليهودية. لقد سرد دي سيلينتيو القصةَ عكسيًّا: كانت التضحية بإسحاق ستكون مفهومةً بالنسبة إلى معاصري إبراهيم، بل إنهم كانوا سيُعجبون بفعله هذا؛ وتدخُّل الله لمنعه هو «المعجزة». لكن بالنسبة إلى كيركجارد، فإن هذا التفسير تفسيرٌ جبانٌ للتملص مما يطالبنا به الله.
استنتج بعض القراء أن موقف كيركجارد لا يمكن الدفاع عنه إلى درجةٍ تجعلنا نلجأ إلى الحجة القائلة بأن هذا الرأي، في نهاية المطاف، ليس رأي كيركجارد نفسه، بل رأي المؤلِّف ذي الاسم المستعار. لقد صعِد دي سيلينتيو على المسرح مؤديًا دوره كي يُبين أن المرحلة الدينية من الوجود تنتهي أيضًا بيأسٍ خاص بها شبيه باليأس الذي مُنيت به مرحلتا الوجود الجمالي والأخلاقي. إذا كان هذا صحيحًا، فهذا يعني أن مراحل الوجود الثلاث تنتهي بتناقضات، وأن سُلَّم مراحل الوجود كله ينهار، وأن كامل الأعمال الموقَّعة بأسماء مستعارة تعبِّر عن شكلٍ واضح من أشكال التشككية. غير أن يوميات كيركجارد والكتابات الموقَّعة باسمه قبل عام ١٨٤٥ وبعده تؤكد أنه يتبنى شخصيًّا وجهات النظر التي يعرضها دي سيلينتيو. إن مشروع كيركجارد هو إظهار أن إيمان إبراهيم هو إيمان حقيقي، وليس يأسًا. من وجهة نظره، إن اليأس الحقيقي هو الانزعاج من «الرعب الديني»، ورفض الشيء الرهيب الذي طلبه الله من إبراهيم بوصفه تكلفة باهظة. بالنسبة إلى كيركجارد، إن اليأس الوحيد الموجود في المرحلة الدينية من مراحل الوجود هو اليأس الصحي من الاستقلالية الأخلاقية للنظام البشري المكتفي بذاته، والذي ينصِّب نفسه فوق الله. وفقًا لهذا الفهم، يمكننا اعتبار «مراحل» كيركجارد طريقًا سريعًا يفضي إلى اليأس، مثل طريق الصليب، وأن الهدف منها هو الكشف عن فساد العالم الدنيوي المؤقت من أجل الحثِّ على التحلي بثقة مطلَقة في الطبيعة الأبدية، الثابتة، والمتعالية لله، وهو موضوع كتابه الديني الأخير («عن الطبيعة غير المتغيرة لله»، ١٨٥٥).
قدَّم جاك دريدا قراءة أخرى مثمرة لكتاب «خوف ورِعدة»؛ إذ إنه أضفى على مفهوم كيركجارد للاستثناء الديني معنَى ما بعد حداثي. في كتابه «هدية الموت»، يجادل دريدا بأنه بدلًا من الدفاع عن استثناء ديني للأخلاق، يمكن دعم وجهة نظر كيركجارد بالدفاع عن الاستثناء باعتباره هو نفسه فئةً أخلاقية. يمكن إعادة وصف الأخلاق بطريقةٍ لا تختزل أي التزام أخلاقي إلى كونه مجرد تطبيق آلي لقانون عام، كأن اتخاذ الخيارات الأخلاقية يشبه تشغيل برنامج كمبيوتر. باعتباره فئةَ ما بعد حداثية، يفترض التفرد ضمنيًّا تميُّزَ وخصوصية كل كائن حي، وليس فقط الإنسان، وهو بذلك يمتد ليشمل الحيوانات والعالم الطبيعي. في نظريةِ ما بعد الحداثة، اتسعت فئة الاستثناء لدى كيركجارد متجاوزةً مجالها الديني، أو ربما من الأفضل القول بأن فئته الدينية اكتسبت مدًى أوسع وأهميةً أكبر. فبفضل «تفرُّد» يوضع كل شيء في مجال جمالي، وأخلاقي، وديني متعالٍ، يستلزم احترامنا، إنه تعالٍ يكرم العالَم الذي خلقه الله بدلًا من اعتباره مكانًا جعله الله قاتمًا، بنفس الطريقة التي تُسوِّد بها الأم ثديَها، كي يفطمنا عن هذه الحياة من أجل الأبدية، مثلما يقول كيركجارد في بداية كتاب «خوف ورِعدة» (٩–١١).