الحقيقة هي الذاتية
عندما يُطرح سؤال عن الحقيقة بطريقة موضوعية، فإننا نفكر موضوعيًّا في الحقيقة باعتبارها شيئًا ينسب العارف نفسه إليه. في هذه الحالة، ما نفكر فيه ليس العلاقة بين الفرد والحقيقة، بل نتأمل الشيء الذي ينسب الفرد نفسه إليه باعتباره الحقيقة. فإذا كان ما ينسب نفسه إليه هو الحقيقة، يكون الفرد على حق. وعندما نطرح السؤال عن الحقيقة بطريقة ذاتية، فإننا نفكر في العلاقة بين الفرد والحقيقة بطريقة ذاتية. فإذا كان كَيفُ هذه العلاقة حقيقيًّا، يصبح الفرد على حقٍّ حتى إذا كان ما ينسب نفسه إليه غير حقيقي …
الآن، إذا كانت المعضلة في تحديد أي من الشخصين يمتلك قدرًا أكبر من الحقيقة … ما إذا كانت الحقيقة تقف في صف الفرد الذي يسعى بطريقة موضوعية للوصول إلى الله الحق والوقوف على الحقيقة التقريبية لفكرة الله، أم بجانب الفرد المعني أبدًا بأن تكون علاقته مع الله حقيقية مدفوعًا بشغف الاحتياج اللانهائي إليه؛ إن الإجابة عن هذا التساؤل جلية لأي شخص لم يفسده العلم والدراسة الأكاديمية. إذا دخل شخص، يعيش في قلب العالم المسيحي، إلى بيت الله، بيت الله الحق، مستعينًا بمعارفه حول الفكرة الحقيقية لوجود الله، وبدأ يصلي لكنه يصلي بغير صدق، وإذا كان هناك شخص يعيش في أرض الوثنية لكنه يصلي بكامل شغف اللانهائية رغم أن عينيه متعلقتان بصورة وثن، فأي الشخصين يمتلك قدرًا أكبر من الحقيقة؟ أحدهما يصلي بحقٍّ لله رغم أنه يعبد وثنًا، والآخر يصلي بغير حق لله الحق وهو بذلك، في حقيقة الأمر، يعبد وثنًا …
عندما تكون الذاتية هي الحقيقة، فلا بد أن يتضمن تعريف الحقيقة أيضًا تعبيرًا مناقضًا للموضوعية، لتكون علامةً تذكِّرنا بمفترق الطرق أمامنا، ولتشير، في نفس الوقت، إلى مرونة عالمنا الباطني. ها هو ذا تعريفٌ للحقيقة: إن التمسُّك بالشك الموضوعي عبر الانتساب إليه بأقصى درجات الشغف الباطني هو الحقيقة، بل هو أعلى مراتب الحقيقة التي يمكن أن يختبرَها أي إنسان. تتعطل المعرفة الموضوعية في اللحظة التي ينحرف فيها الطريق (عندما يصبح الاختيار غير ممكن بطريقة موضوعية لأنه ذاتي بالأساس). لم يَعُد أمام الفرد، بشكلٍ موضوعي، سوى الشك، لكن هذا تحديدًا هو ما يعمِّق شغفه اللانهائي بعالمه الباطني، والحقيقة تحديدًا هي تلك المغامرة الجريئة التي يختار فيها الفرد الشكَّ الموضوعي مستعينًا بشغف اللانهائية …
لكن تعريف الحقيقة المذكور أعلاه هو إعادة صياغة لمفهوم الإيمان. فلا إيمان دون مخاطرة. الإيمان هو التناقض بين الشغف اللانهائي بعالمنا الباطني والشك الموضوعي. لا أكون مؤمنًا، إذا كنت قادرًا على فهم الله بطريقة موضوعية؛ لكن لأنني لا أستطيع فِعل هذا، فلا بد أنني مؤمن. وإذا كنت أريد أن أحافظ على إيماني، فلا بد أن أحرص على مواصلة التمسك بالشك الموضوعي؛ إنني، وإن كنت في أعماق بحار الشك الموضوعي، ما زلتُ مؤمنًا.
يوضح هذا المقتطَف، المأخوذ من كتاب «ملحق ختامي غير علمي للشذرات الفلسفية» (١٨٤٥)، «الحقيقة الحقيقية بالنسبة إليَّ» (المذكورة في كتاب «أوراق ويوميات» كيليلاجي عام ١٨٣٥) بوصفها نظريةً فلسفية. تمثِّل فكرة أن «الحقيقة هي الذاتية» حجرَ الأساس النظري لأفكار كيركجارد. ويُعدُّ الهدف من هذا النقاش هو توضيح أن المسيحية هي طريقة يُكوِّن المرء بها ذاته، شيء يُعاش، لا نظرية مطروحة للنقاش من قِبَل الفلاسفة. في نهاية هذا الكتاب، يكشف كيركجارد عن نفسه، ويعلن أنه صاحب هذا المنتَج. فقد اعترف بأنه صاحب هذه الأسماء المستعارة، وهو بذلك مؤلِّف هذه الكتب بالمعنى القانوني والأدبي. مدفوعًا بِنيَّة الانضمام إلى أبرشية في مكانٍ ناءٍ بالبلاد، لم يتبقَّ أمام كيركجارد سوى أن يكون مسيحيًّا حقًّا.
لكن هذا الكتاب يُعد كبيرًا بالنسبة إلى كونه مجرَّد ملحق، والنظرية الموجودة به، التي تقول بأن المسيحية ليست نظرية، طويلة للغاية ومزودة بوفرة من العبارات المكتوبة بخطٍّ مائل لتأكيد المعنى، والتي تسخر بلا هوادة من ثرثرة الميتافيزيقا الألمانية. هل يُعَد هذا الكتاب حيلة؟ إن كتاب «ملحق ختامي غير علمي» أكبرُ حجمًا من كتاب «شذرات فلسفية» بثلاثة أضعاف، رغم أن الأول من المفترض أن يكون مجرد ملحقٍ للأخير. وبالنسبة إلى كونه «ملحقًا غير علمي»، يُعَد الكتاب علميًّا للغاية، وصياغته تحاكي البِنية الكتابية الألمانية، فهو يبدو نوعًا ما مثل «النُّظُم المنطقية» التي يعاديها. فهل الكتاب مزحة للسخرية من الميتافيزيقا الألمانية؟ إذا كان كليماكوس، الذي نصَّب نفسه في دور الساخر، قد نجح في مهمته، فهذا يعني أنه فشل؛ وإذا كان على صواب، فستكون نظريته عن الحقيقة الذاتية حقيقية بشكلٍ موضوعي. كيف يُفترض إذن أن نقرأ هذا الكتاب؟
كي نقرأ هذا الكتاب، يجب أولًا أن نقرأ كتاب «شذرات فلسفية»، الذي طرح فيه كليماكوس معضلةَ ما إذا كانت «سعادتنا الأبدية» (حياتنا في الجنة بعد الموت)، يمكن أن تعتمد على لحظة تاريخيةٍ ما (ما إذا كانت سعادتنا تعتمد على شيءٍ ما حدَث في التاريخ البشري). إن الفلسفة، منذ سقراط حتى هيجل، قائمةٌ على افتراضٍ رئيسي وهو أن الحقيقة أبدية، وأن الفيلسوف، مثلما يقول كليماكوس، «في الحقيقة»، وأن مهمة الفلسفة هي استخراج هذه الحقيقة الأبدية، المغروسة منذ البداية في روح الفيلسوف. يمكن رؤيةُ ما يقوله كليماكوس في نظرية أفلاطون عن التذكُّر. يرى أفلاطون أن الروح تمتلك بالفعل الحقيقة، التي عرفتها في حياةٍ سابقة عاشتها قبل أن تولَد في هذا العالم، عندما كانت تعيش في الأبدية بين الأشكال الثابتة. عندما نُولَد، تسقط أرواحنا من العالم الأعلى لتسكن داخل أجسادنا، وهذا التجسُّد يُنسي الروحَ ما تعلَّمته. وفقًا لهذه النظرية، فإن اكتساب المعرفة خلال رحلة حياتنا في الزمن يعني تذكُّر ما تعرفه الروح بالفعل، أو ما تعلَّمته في وجودٍ سابق. وبالنسبة إلى يوهانس كليماكوس، فإن الفلسفة منذ أفلاطون طرحت نفس الفرضية بطريقةٍ أو بأخرى؛ وهي أن العقل البشري يمتلك الحقيقة بالفعل، وأنه في حاجةٍ فقط إلى أن ينظر داخله كي يجدها. فالحقيقة الثابتة والأبدية باطنية، تمتلكها الروح بالفعل.
لكن دعونا نعكس هذه الفرضية: هل نفترض أن الفيلسوف لا يمتلك الحقيقة، وأنه في حاجة إلى أن يُمنح هذه الحقيقة؟ هل نفترض أن النظام البشري بأكمله معوجٌّ داخليًّا أو مصاب، وأن إصلاحه لا يمكن أن يحدث إلا من خارجه، عبْر زيارة قوة عليا له؟ نفترض أن «التلميذ»، (الإنسان) «لا يمتلك الحقيقة»، أي إنه محروم من الحقيقة الأبدية. هل نفترض أن العقل البشري في حاجة إلى مساعدة، ويحتاج إلى «معلِّم» يمنحه الحقيقة، التي لا يمتلكها العقل ولا يستطيع أن يمنحها لنفسه؟ بدلًا من وجود معلِّم مثل سقراط الذي أخرج الحقيقة الأبدية بلطفٍ من دواخلنا — لقد قال سقراط عن نفسه إنه «كالقابِلة» يخرج الحقيقة من تلاميذه عبْر طرح الأسئلة الصحيحة عليهم — هل نفترض أننا نحتاج إلى معلِّم يهَبنا هذه الحقيقة بشكلٍ سلطوي («لقد سمِعت كذا … لكنني أقول لك كذا …»)؟ إن الحقيقة، مثلما قال أفلاطون وغيره من الفلاسفة، أبديةٌ ومصيرنا الأبدي يعتمد عليها. لكن بما أننا، نحن الذين نعيش في الزمن، لا نمتلك هذه الحقيقة، ولا نستطيع أن نرقى بأنفسنا إلى الأبدي بمجهودنا الشخصي، يصبح السؤال هو: هل يمكن أن تأتيَنا هذه الحقيقة من خارجنا؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، كيف تتواضع الحقيقة الأبدية، لتهبِط إلينا، وتحل في الزمن؟
باختصارٍ، يطرح كتاب «شذرات فلسفية» تساؤلًا وهو: «هل يمكن أن تنطلق سعادتنا الأبدية من نقطة تاريخية ما؟» وهو السؤال، الذي يجيب عنه كتاب «ملحق ختامي غير علمي». ويطرح كتاب «شذرات فلسفية» بديلًا إنجيليًّا لفرضية أفلاطون. فبدلًا من افتراض امتلاك الروح للحقيقة، يفترض الإنجيل أن الطبيعة البشرية قد أفسدتها الخطيئة الأولى «اللاحقيقة». وبناءً على هذا، يصف الكتاب كيف أن الخطيئة الأولى، وعلاجها، المسيح، المفوَّض الرسمي بشفاء الروح الإنسانية، ومعلِّم الحقيقة، قد أتيا إلى العالم. في كتاب «شذرات فلسفية»، لا يُسمِّي كليماكوس الأشياءَ بأسمائها، بل يتركها في صورة مجردة. أما في كتاب «ملحق ختامي»، فهو يسمي الأشياء، ويقول لنا بشكلٍ مباشر: إن المسيحية هي الإجابة عن التساؤل بشأن سعادتنا الأبدية. لكن المشكلة أن بعض التطورات قد حدثت في الفترة ما بين حياة المسيح وموته على الأرض، والجيل الحالي للمسيحية الأوروبية. بمرور الوقت، وقعت المسيحية ضحيةً «لسوء الفهم»، ونتج عن هذا بحلول القرن التاسع عشر، وهو العصر الذي كانت تسوده تكهناتُ الميتافيزيقا الألمانية، أن المسيحية فُهِمت — خطأً — على أنها حقيقة موضوعية لا ذاتية، بوصفها نظريةً تكهنية بدلًا من كونها نداءً لتغيير حياتنا وجوديًّا. كان يجب تصحيح هذا الفهم الخاطئ، وهو ما تطلَّب أكثرَ من ٦٠٠ صفحة في كتاب «ملحق ختامي» لإتمام هذه المهمة.
يقصد كليماكوس بتعبير «السعادة الأبدية» الحياةَ بعد الموت، الحياةَ الأبدية مع الله في الجنة، الأبديةَ في أقوى وأكمل معانيها، بينما كان إبراهيم وأيوب معنيَّين بإرثٍ دنيوي، وهو استمرار أثرهما عبر نسلهما. لكن السعادة الأبدية، نوع الحقيقة الذي تعِد به المسيحية، لا يمكن أن يكون حقيقة «موضوعية»؛ لأن الحياة تتطلَّب نتائجَ أسرع وأكثرَ قابلية للاستخدام مما هو متاح في نطاق الموضوعية. إن المسيحية ديانة تاريخية، قائمة على حياة المسيح وموته، لكن ما من أحدٍ سيعيش طويلًا بما فيه الكفاية كي يرى نتائج تحقيق تاريخي موضوعي؛ «البحث عن عيسى التاريخي». عند الموت، يحتاج الفرد إلى طمأنةٍ بشأن المعنى الذي يحمله المسيح للحياة الإنسانية، وهو معنًى أكبرُ مما تطرحه نتائج البحث الأكاديمي. على فراش الموت، لن يكون لدينا الوقت ولا الرغبة في تأمُّل الدوريات التي تحمل أحدث الفرضيات الأكاديمية بشأن عيسى التاريخي أو منشأ الكون. وإذا كانت المسيحية حقيقةً تاريخية، فلا يمكن استنباط أي نتيجة تاريخية بشأنها عبر الجدل التكهني أو الميتافيزيقي (مثلما يفعل هيجل)، ولن تسفر الحقيقة الأبدية عن أي حقيقة تاريخية واحدة، تمامًا مثل أن تعريف المثلث، لن يخبرنا مطلقًا عما إذا كان هناك أي أشياء مثلَّثة حقيقة في العالم. باختصارٍ، إذا كانت المسيحية هي الحقيقة الحقيقية بالنسبة إليَّ، الحقيقة التي أستطيع أن أعيش وأموت من أجلها، فإنني لن أعيش وقتًا طويلًا بما فيه الكفاية كي تظهر نتائجُ التفكير الموضوعي. إن المسيحية، إذا كانت حقيقية على الإطلاق، هي حقيقة «ذاتية». لكن ما معنى هذا؟
في الحقيقة الموضوعية، ينصبُّ الاهتمام على المحتوى الموضوعي لما تقوله (وهو ما يقول عنه كليماكوس «ماذا»)؛ لذلك إذا أصبتُ في المحتوى الموضوعي (٢ + ٣ = ٥)، فأنت على حقٍّ بغض النظر عما إذا كنتَ في حياتك الشخصية شريرًا أو مصلِحًا. فلا يوجد ما يمنع رياضيًّا شهيرًا من أن يكون نذلًا. هنا، الذات الوجودية هي عنصرٌ غير جوهري، وتظل مُشاهِدًا لا مباليًا. لكن في الحقيقة الذاتية — أو «الوجودية» — ينصبُّ الاهتمام على ما يسميه كليماكوس «كيف»؛ الطريقة التي يعيش بها الفرد، الحياة و«الوجود» الفعلي للفرد. هنا، عندما تكون «الحقيقة ذاتية»، يكون الفرد محورًا جوهريًّا في علاقته مع الحقيقة، ومشاركًا فيها بشغف. في هذه الحالة، حتى إذا كان ما يقال حقيقيًّا بشكلٍ موضوعي مثل «إن الله محبة»، إن لم تتحوَّل ذاتك بفعل هذه الحقيقة، إذا لم يكن في قلبك حب، فأنت لا تمتلك هذه الحقيقة. إن الوثنيَّ الذي يعبد صنمًا بقلبٍ عامر بالحب في مرتبةٍ متقدمة على عالِم الدين المسيحي القادر على شرح طبيعة الحب الإلهي ببلاغة لكنه فاسدٌ أخلاقيًّا في حياته الشخصية. الفَرق بين الحالتين هو أن يكون لديك فكرة عن «الله الحقيقي»، وأن يكون لديك «علاقة حقيقية مع الله». هنا، كيف العلاقة هي كل شيء.
إن تعريفَ كليماكوس للحقيقة الذاتية هو نسخة مُقَنَّعة من تعريف الإيمان (فحوى الأشياء غير المرئية) الذي يميزه إلى نوعين. مثلما يذكر لنا أفلاطون في كتابَيه «دفاع سقراط»، و«فيدون»، ذهب سقراط إلى الموت متحلِّيًا بهدوء خارجي، وشغفٍ داخلي. كان يمكن لسقراط أن يهرب من السجن بسهولة، لكنه اختار عدم كسر قوانين أثينا، وقضى أيامه الأخيرة يخاطب أصدقاءه عن خلود الروح. لقد كان غير متيقن موضوعيًّا مما إذا كانت هناك حياةٌ بعد الموت، لكنه كان على يقين في داخله من أن المرء، الذي يحاول بجدية أن يعيش حياةً عادلة، ينبغي ألا يهاب الموت. يمكن أن نسميَ هذه القناعة بالإيمان الطبيعي المنغرس في مستوى الوجود البشري. إن إيمان سقراط هو نموذج وثني لإيمان آخر، يحدث في مستوًى أعلى من المستوى البشري العام، وهو يعتمد على درجة من عدم اليقين تصل إلى حد «التناقض». يقصد كيركجارد بهذا أن «الأبدي» (الله) قد حلَّ في الزمن (أصبح إنسانًا) عبر المفارقة المطلَقة لحادثة التجسُّد. إن الخلود، في المقابل، هو أمرٌ غير يقيني لكن يمكن فهمه؛ فهو ليس تناقضًا مطلقًا. حتى إيمان إبراهيم وأيوب بامتلاك إرثٍ دنيوي ليس سوى نموذج أولي للتناقض؛ فهما أبوَا الإيمانِ، لكنَّ إيمانهما يذُبل أمام التناقض الذي يتبنَّاه الإيمان المسيحي.
لا يرى كليماكوس فكرةَ الله-الإنسان باعتبارها تناقضًا منطقيًّا، مثل أن نقول دائرة مربعة؛ فهي ليست «كلامًا فارغًا» (٥٦٨). ينتمي هذا التناقض إلى نظام أخلاقي-ديني، لا إلى نظام منطقي؛ الأمر أشبه بما يسميه القديس بولس بحجر العثرة (كورنثوس ١، ١: ٢٣) أو التجديف، وهو ما يعدُّه كليماكوس صادمًا أكثرَ من الأمر بذبح ابن إبراهيم. إنه «لصدام» مخدِّر للعقل أن هذا الإنسان، الذي يتمتع بوظائفَ جسدية متواضعة لا تُذكَر، هو الأبدي، والعلي، والله القدير. تعتمد المسيحية، التي يحدِّثنا عنها كليماكوس، على المفاهيم العليا للعقيدة النيقية «الله الحق، والإنسان الحق».
لمَ لم يختَر الله طريقةً أبسط وأقل تناقضًا كي يكشف بها عن نفسه؟ لأنه أراد تحديدًا أن يدحض الفلاسفة التكهنيين، وأن يعرقل هؤلاء الذين سيحوِّلون المسيحية إلى نظرية أخرى. تحديدًا، كي يمنع سوء الفهم، الذي أصاب المسيحية في عصر النظريات، والذي حوَّل خمر المسيحية إلى مياه الحقيقة الموضوعية برعاية الميتافيزيقيين الألمان. إن المسيحية هي شيء نفعله لا أحجية فلسفية. لا تتحقق المسيحية بتأكيد شخصٍ ما لفرضية عقائدية، بل عندما يفعل شيئًا ما. إنها سبيلٌ نسير فيه، لا فرضية نحاول إثباتها. إن وصف التناقض المسيحي ﺑ «اللامعقول» ليس مصطلحًا تقنيًّا في المنطق، بل هو فزَّاعة هدفها الأساسي إبقاء الفلاسفة بعيدًا. من حيث المبدأ، يمكن فهم مسألة التجسُّد، والدليل على ذلك أن الله بالتأكيد يفهمها، لكن كليماكوس لا يستطيع فهمها. كما أننا لا يمكننا فهمها، والأكثر من هذا، أنه لا يعنينا في الوقت الحالي أن نفهم بل أن نفعل، أن «نتبنَّى» هذه الحقيقة، وأن نجسِّدها في حياتنا.
يسعى كليماكوس إلى مفاقمة الصراعات التي تؤدي إلى هذا التناقض أو المفارقة، أو إلى حالة اللايقين الموضوعي، إلى أقصى درجة ممكنة. فهو يريد أن يؤجج الصراع بين اللايقين الموضوعي والشغف الذاتي، ليصل به إلى أعلى درجات الذاتية، والحقيقة الوجودية، و«الباطنية». وتمثِّل أعلى درجات الباطنية قمةَ الإيمان الديني. فإذا كانت الحياة الجمالية قائمة على المتعة، وإذا كانت الحياة الأخلاقية كفاحًا باطنيًّا نشطًا من أجل انتصار الأخلاق، يقترح كليماكوس أن النطاق الديني للوجود قائم على التعاطف والشفقة، أو على المعاناة التي نشعر بها في أعمق درجات الارتداد إلى الباطن. هناك درجتان لهذه المعاناة الداخلية، تشكِّلان نوعين من التديُّن — ويطلق عليهما التديُّن «أ» والتديُّن «ب» — ويُعد هذا تصاعدًا ختاميًّا للمؤلَّفات المكتوبة بأسماء مستعارة.
في «التديُّن أ»، يحافظ الفرد الموجود على «علاقة مطلَقة مع المطلق»، وهو ما يعني أنه يدخل في علاقة ارتباطٍ غير مشروطة مع ما هو مهم دون شرط، بينما يحرِّر قلبه من التعلُّق بأي هدف نسبي، أو أي شيء يشكِّل أهميةً نسبية أو مشروطة. في نظام الرهبنة بالقرون الوسطى، على سبيل المثال، كان الرجال والنساء يكرِّسون حياتهم بالكامل لخدمة الله، مُنحِّين جانبًا كلَّ مُتَع الحياة الدنيوية المؤقتة. لكن الرهبنة هي مرحلة أدنى من نموذج «التديُّن أ» لأنها تدلل على الإيمان خارجيًّا أكثرَ منه باطنيًّا. أما الشكل الأعلى من التديُّن فنجده في باطنية فارس الإيمان. فالأخير يبدو من الخارج في صورة الشخص المتزوج السعيد في حياته، ولكنه يحجُب انفصاله الداخلي الصارم عن كلِّ ما هو محدود بمَسحة من خفة الظل. إن مثل هذا الانفصال نوعٌ من ممارسة المعاناة. ولا يقصد كليماكوس بالمعاناة المصائبَ «العرَضية»، مثل أن يصاب ظهرك بضررٍ ما، وهو أمرٌ قد يعانيه شخصٌ ما وقد لا يعانيه. لكنه يقصد المعاناة «الجوهرية»، التي هي ضرورية ولا يمكن تجنُّبها. تحدث هذه المعاناة حتى في ظل غياب الشدائد والمِحن الخارجية، وهي تنبع من فطامنا عن حب الأشياء النسبية والمشروطة. وبدلًا من طرح الدِّين على أنه راحة من المعاناة أو تعزية عنها، يعتقد كليماكوس أن المعاناة هي التي تشكِّل الروح المتدينة، وتنحتها كفنان، بأن تزيحَ عنها بحرصٍ أوهام المحدود والنسبي، لتمنحنا إشارةً تطمئننا بأن علاقتنا مع الذي يحمل أهميةً مطلَقة وغير مشروطة لا تزال قائمة. يعترف المرء متواضعًا أنه، دون الله، لا يمكنه فِعل أي شيء، ولا حتى السَّير في الحديقة. يعترف المرء بالذنب، وهو ليس بذنبٍ «عرضي»، يتمثَّل في حساب كمِّ الأخطاء التي ارتكبناها، بل هو ذنب «جوهري»، أو «أبدي»، أو ديني، يدل على محدودية كينونتنا. جميعنا مخطئون أمام الله بغض النظر عن عدد الأشياء الصحيحة التي فعلناها. إنه لأمرٌ مخيف، لكنه ليس بغباء الاعتقاد بإمكانية تجاوز الشعور بالإثم عبر الميتافيزيقا الألمانية، التي تختزل «المسيحية» إلى فكرة أسطورية، أو نوع من الصور، التي يمكن أن نجد حقيقتها الفعلية فقط في فلسفة هيجل عن الروح المطلَقة.
إن «التديُّن أ» هو دِين إنساني عام، وليس دِينًا مسيحيًّا على وجه الخصوص. لكن مع قدوم «التديُّن ب»، أي المسيحية، ازداد الصراع بين ظروفنا الخارجية وعالمنا الباطني إلى ما لا نهاية، ليصل إلى ذروته عبر طرح التناقض المطلَق المتمثِّل في نموذج الله-الإنسان، أي الأبدي الذي حلَّ في الزمن. كما أن التداعيات «الجدلية»، التي يطرحها هذا النموذج المتناقض في قلب الدِّين المسيحي، تُبرز التناقض وتَزيد من حدة الصراع، لتحثَّنا على القيام بالقفزة الوجودية. في «التديُّن أ»، يحافظ المرء على علاقة مطلَقة مع المطلَق، مع الله، بينما في «التديُّن ب» (المسيحية)، يواجه المرءُ الإنسانَ الذي خلَقه الله، اللهُ الذي حلَّ في الزمن، وهو ما يعمِّق حدةَ التناقض ويبرِزه. في نموذج «التديُّن ب»، نحن نبني سعادتنا الأبدية برُمَّتها على حدثٍ بعيد فُقد، بشكلٍ موضوعي، وسط ضباب التاريخ، الأمر الذي يعمِّق حدةَ المعاناة أو الأسى. إن الإيمان المسيحي قائمٌ على حدثٍ ما في الماضي — وهو حياة المسيح وموته — وهو أمرٌ لا يمكن التأكد من حقيقته بصورة موضوعية. هنا تقوم البِنية الجوهرية «للذنب» (أ) بتمهيد الطريق أمام «إدراكٍ أكثرَ عمقًا للخطيئة» (ب)، وهو ما يتطلب قدوم الله-الإنسان للتحرُّر من الإثم؛ تقوم البِنية الجوهرية «للمعاناة» (أ) بإفساح المجال ﻟ «هجومٍ» أكبرَ على الفهم (ب). إن «التديُّن ب» محيكٌ من نسيج «التعالي»، أي عبر الوحي المسيحي.
يختتم كيركجارد أعماله الموقَّعة بأسماء مستعارة بهذه الملحوظة، عبر تصويره اللافت إلى المسيحية كحجر عثرة وُضِع أمام الفلاسفة، ما يتطلَّب القيام بقفزة إيمانية تتحدى كلَّ الادعاءات المنطقية للفلسفة الهيجلية. إلى جانب ماركس، و«الهيجليين الشباب»، الذين كانوا معاصرين له، حرَّكت كتابات كيركجارد في الفترة ما بين ١٨٤١ و١٨٤٥ ثورةً في الفلسفة، استمر أثرها إلى يومنا هذا، ثورة نَحَّت جانبًا الأفكارَ المجردة للميتافيزيقيا التكهنية دفاعًا عن الحياة الفعلية الملموسة، ثورة تهدف إلى اللحاق بالحياة في المواقف الوجودية التي نعيشها بالفعل. رغم ذلك، يقول كيركجارد في نهاية كتاب «ملحق ختامي» الموقَّع باسمه، إن كُتبَه الموقَّعة بأسماء مستعارة لم تأتِ بطرحٍ جديد، بقدرِ ما كانت تحاول العودة إلى شيء قديم، وتحاول قراءة «النص الأصلي» للوجود الإنساني أو «النص القديم المألوف الذي ورِثناه عن آبائنا» بطريقة «أكثر باطنية». (٦٢٩-٦٣٠).