الأسماء المستعارة
إن الأسماء المستعارة أو الأسماء المتعددة التي أستخدمها لا تربطها أيُّ علاقة عَرَضية مع شخصي … بل لها أساس جوهري في المنتَج الأدبي نفسه، فقد استدعى النص، والحاجة إلى التعبير عن طيف الاختلافات النفسية بين الأفراد، عرْضًا شاعريًّا لهذا التفاوت دون تمييز بين الخير والشر، الأسى والفرح، اليأس والثقة المفرطة، المعاناة والابتهاج، وما إلى ذلك، وهي اختلافات يقيدها فقط، مثاليًّا، الاتساقُ النفسي لهذه الأسماء، وفي واقع الأمر، ما من أحدٍ يجرؤ على أن يسمح لنفسه بتجاوز هذا الاتساق في سياق الحدود الأخلاقية للواقع. ما كُتب، إذن، هو مِلكي، لكن هذه المِلكية حدثت فقط لأنني وضعت وجهات نظر حياتية على لسان أسماء مستعارة فعلية بأسلوبٍ شاعري، فعلاقتي بما هو مكتوب أبعدُ من علاقة الشاعر بما يكتبه، فالشاعر يرسم الشخصيات لكنه يعلن أنه المؤلِّف في مقدِّمة الديوان. يعني هذا أنني، بشكلٍ شخصي أو غير شخصي، طرفٌ ثالث مثل ملقِّن، أنتج بأسلوب شاعري هؤلاء المؤلفين، الذين كتبوا بدورهم تمهيدات هذه الكتب، ووقَّعوها بأسمائهم. لذا، ما من كلمة واحدة في الكتب الموقَّعة بأسماء مستعارة تعود إليَّ. فلا رأي لي فيها باستثناء كوني طرفًا ثالثًا، ولا معرفة لي عن معانيها باستثناء كوني قارئًا لها، ولا تربطني بها أيُّ صلة خاصة مهما كانت بعيدة لأنه من المستحيل أن يشتمل أيُّ تواصل، مبني على التأمل المضاعف للمعنى، على مثل هذه العلاقة المباشرة بين الكاتب وما يكتبه … وبهذا، فأنا غير متحيز لما قيل، بمعنى أن الحديث عمَّن أنا، أو كيف أنا ليس مهمًّا، تحديدًا لأن ما أكونه في أعماق كياني لا علاقة له مطلقًا بهذه الأعمال المنتَجة … إن صورتي وهيئتي، مثل ما إذا كنت أرتدي قبعة أو قلنسوة، قد تصبح محطَّ انتباه فقط لدى هؤلاء الذين أصبح غيرُ المهم مهمًّا بالنسبة إليهم؛ ربما لأن المهم أصبح غيرَ مهم بالنسبة إليهم.
تقع مسئولية هذه الكتب على عاتقي بالمعنى القانوني والأدبي؛ إذ إنني أنا، وهو ما يمكن فهمه بسهولة بطريقة جدلية، مَن كان سببًا في إخراج هذا الإنتاج إلى عالم الواقع، الذي لا يمكنه بالطبع أن يتعامل مع الأسماء المستعارة لمؤلفي هذه الكتب؛ لذا فإن الحقوق القانونية الأدبية كافةً منسوبةٌ دومًا إليَّ … وبهذا، إذا أراد أيُّ شخص اقتباسَ فقرة معينة من الكتب، فرجائي ودعائي أن يقدِّم لي معروفًا بأن يشير إلى الاسم المستعار للمؤلِّف، لا إلى اسمي …
إن دوري هنا هو دورٌ مشترك بين كوني السكرتير والكاتب الذي ألَّف هؤلاء الكُتَّاب في مفارقة جدلية تامة … ولكن، من ناحية أخرى، أنا مؤلِّف كتب مثل «الخطابات البنَّاءة»، وكل كلمة فيها بالمعنى الحرفي والمباشر … وإذا ما خَدع … أيُّ شخص … نفسه بالانشغال بشخصيتي الحقيقية بدلًا من الانشغال بالمؤلِّف التخيلي المتصوَّر … فإن المسئولية لا تقع عليَّ …
لم يشكِّل أيَّ فارقٍ بالنسبة إلى هايدجر، أو كامو، أو سارتر، حقيقةُ أن الأفكار الثورية عن فئة «الوجود»، قد صيغت على لسان الاسم المستعار كليماكوس، الذي احتجَّ قائلًا «إنه ليس فيلسوفًا ماهرًا» ظهر كي «يخلق توجهًا جديدًا» في الفلسفة (٦٢١). إذا ما واجهنا هؤلاء الفلاسفة بهذه الفكرة، فسيكون ردُّهم، على الأغلب، أن هذا مجرد خيال أدبي. في نهاية المطاف، إذا ما أتانا حلٌّ لمعضلة رياضية في حُلم، فهذا لا يقلل من أهمية هذا الحل. حتى الراهب الورِع نيكولاس كوبرنيكوس لم يقبل «النظرية الكوبرنيكية» بوصفها حقيقةً — إذ إن الحقيقة، أخي نيكولاس، تعتمد على الكتاب المقدس — بل تعامل معها على أنها مجرد اختصارات ورموز مفيدة للبحَّارة. لكن هذا لم ينتقص من قوة حقيقة نظريته. وإذا ما ألَّف موتسارت أوبرا «دون جيوفاني»، ثم «أنكرها»، معلنًا أنها مجرَّد مزحة موسيقية، فسيظل لدينا أوبرا «دون جيوفاني». فالأعمال الرئيسية والتحف الفنية لا يمكن إلغاء أثرها. وعلى نفس المنوال، فإن ما قيل على لسان الأسماء المستعارة عن فئة الوجود «جليٌّ للعِيان» بغضِّ النظر عمن وقَّع اسمه باعتباره المؤلِّف.
كما أن الأسماء المستعارة في كتابات كيركجارد لم تشكِّل أيَّ فارق بالنسبة إلى علماء الدين مثل كارل بارث. ما شكَّل أهميةً بالنسبة إليهم هو الإيمان المسيحي نفسه، الذي استطاع الفلاسفة تحييدَه بمهارة في هذه الكتب إلى حدٍّ كبير. في نهاية المطاف، لا يمكننا أن ننسى أن كيركجارد كاتبٌ ديني، على حد وصفه الشخصي. إن أعلى درجات «الوجود» أو «الشغف الوجودي» بالنسبة إليه تكمُن في «الشغف الإيماني» أو «القفزة الإيمانية»، التي وصفها بطريقةٍ يصعب نسيانها في كتابَي «ملحق ختامي»، و«خوف ورِعدة». كان مبدأ «التناقض المطلَق»، الذي يمثِّله نموذج الله-الإنسان، بمنزلة نقطة أرخميدية أو نقطة أساس في روح كيركجارد. والدليل على هذا واضح. في مقابل كل كتاب ألَّفه كيركجارد في فترة استخدامه أسماءً مستعارة (١٨٤١–١٨٤٥)، كان هناك عمل آخر (تثقيفي) أو خطاب «بنَّاء»، (وفقًا للتسمية التي صاغها هوارد وإدنا هونج، في ترجمتهما غير المتقَنة لكتابات كيركجارد)، موقَّع باسم كيركجارد نفسه، وهو ما أوضح وجهةَ النظر الأخلاقية الدينية المصاغة على لسان الشخصيات ذات الأسماء المستعارة في صورة «خطاب مباشر». يمكن بوضوحٍ نسبُ كيركجارد إلى الخط اللاهوتي الذي يمتد من خطابات القديس بولس، مرورًا بالقديس أوغسطينوس، ووصولًا إلى الراهب مارتن لوثر، وهو ما أسهم في تعميق الأفكار اللاهوتية في فلسفة كيركجارد مثل السقوط من الجنة، والذنب، والخطيئة، والنعمة، والإيمان من ناحية، والتعالي المتناهي لله في الأبدية من ناحية أخرى. إن لم يكن كيركجارد عالِمًا في اللاهوت بالمعنى الحرفي، فهو على الأقل كاتب شديد التديُّن، وهو وصفٌ ذاتي ازداد وضوحًا بمرور الوقت. في كتابه «وجهة نظري بصفتي مؤلفًا»، حاول كيركجارد إظهارَ أن هذه كانت أفكاره منذ البداية. قد لا يختلف الفلاسفة بالضرورة مع علماء اللاهوت حول هذا الأمر، لكنهم يَعُدُّون هذه النزعة اللاهوتية قيدًا في أفكار كيركجارد، وأنهم قد حرَّروا فلسفته من هذا القيد.
يواجه قراء كيركجارد معضلةَ «إما/أو»: إما كيركجارد عالِم اللاهوت، أو كيركجارد الفيلسوف. في كلتا الحالتين، سيندم كيركجارد على ما يبدو. في كلتا الحالتين، يتجاهل القارئ طلب كيركجارد بتركه خارج الصورة. تغيَّر هذا الجدل، على نحوٍ جذري، في سبعينيات القرن العشرين بتأثيرٍ من نظرية أدبية راديكالية تسمَّى «التفكيكية»، التي طوَّرها جاك دريدا (١٩٣٠–٢٠٠٤). حينها، ولأول مرة، بدأت مدرسة من القراء في إيلاء الاهتمام لإصرار كيركجارد على أنه لم يكن سوى مجرَّد «سبب» لظهور هذه الكتب، وأن مسئوليته تكمُن في «إخراج هذا الإنتاج إلى عالم الواقع»، وأنه «ما من كلمة واحدة في الكتب الموقَّعة بأسماء مستعارة تعود إليَّ».
رغم ذلك، لدى بول وجهةُ نظر جديرة بالاهتمام. فالقراء المتبلِّدون يضعفون شيئًا ما. هم يضعفون التمييز بين المثالية الشاعرية للكاتب وبين الواقعية الوجودية للقارئ. يعرض الكُتَّاب على القراء، أو الأفراد الموجودين — على الجميع بدايةً من كيركجارد ووصولًا إلينا نحن — مهمةَ تحقيق ذواتنا، والقيام بالقفزة الإيمانية، وتحويل المثالية «الشاعرية» النقية، التي تتخلل كلَّ واحد منهم، إلى واقع. تُضعِف القراءة المتبلدة المفارقةَ السقراطية-المسيحية والفكاهة الدينية التي استخدمها كيركجارد للتعامل مع هذه الفجوة، التي يصِفها هنا ﺑ «التخيُّل المباعِد» للانشغال ﺑ «المؤلِّف التخيلي المتصوَّر». إن المسرحية هي جوهر الأمر — المسرحية الشاعرية للأسماء المستعارة في الأعمال المنتجة — لا كيركجارد نفسه. يعرض كيركجارد أمام القارئ رقصةً لمجموعة من الاحتمالات، أو وجهات نظر عن عالمنا، والتي تعبِّر عنها عدةُ أسماء مستعارة أملًا في جذب اهتمام القارئ إلى مضمون مسرحيتهم. لكن المهمة المُلقاة على عاتق القارئ هي أن يختار لنفسه، أن يقرر، أن يكون موجودًا؛ وهو ما يعني أن يجعل المتخيَّل واقعًا، وأن يحوِّل هذه الخيالات إلى عملة الوجود، أن يقوم بالقفزة. إن النقطة التي أغفلها بول نفسه، هي أن هذا الحديث ينطبق أيضًا على كيركجارد نفسه بصفته قارئًا، فهو أيضًا مكلَّف بمهمة أن يصبح مسيحيًّا، مثل الطبيب الذي يجب عليه أن يتبع ما ينصح به مرضاه، أو مثل مؤلِّف كتاب عن الحميات الغذائية!
فكر في الفَرق بين «الكاتب» و«القارئ» باعتباره فرقًا بين «موقعين» مختلفين، موقع مُرسِلٍ متخيَّل، وموقع مُتلقٍّ واقعي. وبالنظر إلى الأمر بهذه الطريقة، سنجد أن سورين آبي كيركجارد، باعتباره شخصًا واقعيًّا مسئولًا عن حياته، يقف في موقع القارئ. كيركجارد أيضًا «مُتلقٍّ» لهذه الكلمات، التي تتحدَّث عن مهمة أن يصبح المرء مسيحيًّا، وهو هنا ليس بكاتبٍ، أو ممثِّلٍ لسلطةٍ ما، أو نموذجٍ للمسيحي الحق، الأمر الذي دفعه إلى القول بأن هذه الكتب كانت جزءًا من تعليمه الخاص، وهي نقطة ستحظى بتقدير العديد من الكتَّاب. (فالطبيب يعالج نفسه. والكاتب يقرأ ما يكتبه.) يقف «الكاتب» في موقع المتخيَّل، وحقيقته الفعلية ليست مهمة. فقد لا نكون متأكدين من الاسم الحقيقي للكاتب، أو ما إذا كان «هوميروس» شخصًا واحدًا أو عدة أفراد، أو اسمًا مستعارًا، أو غير ذلك. لقد أسهم توظيف الأسماء المستعارة في تعميق معنَى شيءٍ ما وإبرازه، وهو شيء حقيقيٌّ هيكليًّا بغضِّ النظر عن هوية «الكاتب». وبناءً على ذلك، يمكن النظر إلى الكاتب الحقيقي بوصفه شخصيةً تاريخية، ونفسية، واعتبارية؛ بوصفه محررًا لتراث قصص تناقلتها الأجيال شفهيًّا؛ بوصفه السببَ الفعلي وراء الكتب، والذي تذهب إليه أموال حقوق الملكية الفكرية. أو يمكن النظر إلى «الكاتب» بوصفه «موقعًا»، تصدر منه الاحتمالات التخيلية، بينما نقف «نحن» في «موقع القارئ»، وهو موقعٌ موجود دائمًا في «الوجود» الفعلي.
سعى كيركجارد إلى التفاوض بشأن الفجوة بين الموقِعَين، وتسليط الضوء على الصعوبة الحقيقية لمهمة أن يصبح المرء مسيحيًّا حقًّا. وقد فعل هذا بأن جعل كليماكوس «يقدم» عصر المسيحية، ليس على طريقة الكتيبات الإرشادية التي تطرح ملخصًا سهلًا للموضوع، بل عبر لفت انتباه القارئ إلى المهمة نفسها؛ وليس عبر إظهارها مهمةً سهلة، بل بالتأكيد على صعوبتها المتأصلة (٣٨١). مثل سقراط، الذي زعم بأن الشيء الوحيد الذي يعرفه هو أنه لا يعرف، كان كيركجارد متفوقًا على عصره لأنه، على الأقل، قد أدرك أنه لم يتمكَّن من الوصول إلى المسيحية، التي هي أصعب المهام على الإطلاق، بينما كان معاصروه مشغولين بتضليل أنفسهم بأنهم قد تجاوزوا المسيحية.
بالطبع، كان استخدام كيركجارد للأسماء المستعارة في كتاباته استراتيجيةً غير مدروسة بعناية؛ إذ إنها لفتت الانتباه أكثرَ إلى شخصه عبْر إثارة جدلٍ لم يكن ليحدث في المقام الأول إذا لم يلجأ إلى هذا الأسلوب. لقد استخدم كلَّ مهارات «المراوغة الجدلية» لإبقاء «واقعه الشخصي»، و«سِماته الفردية الخاصة»، خارج الصورة. لكنَّ «قطاعًا فضوليًّا من قرائه» حاول، بلا هوادة، إرجاعَ هذه الكتابات إلى شخصه (٦٢٨). الأكثر من هذا، يُعَد كل كتاب بمنزلة سيرة ذاتية له إلى حدٍّ كبير، فحياته معروضة في كل صفحة تقريبًا، إلى درجةٍ تجعل من شخصه محطَّ أنظار في المقام الأول. لكن القراءة الأولية، التي تميل إلى تتبُّع سيرة كيركجارد الذاتية بوصفها مرجعًا لفهم سياق النص، ينبغي ألا تكون قراءة نهائية، تغلق الطريق أمام النقطة المحورية الأوسع، وهي أن على كل فرد أن يجد طريقه الخاص.
في ملحقٍ يحمل عنوان «فهم مع القارئ»، والذي أُضيف تحت اسم يوهانس كليماكوس، ويظهر في الكتاب قبل «النص التوضيحي» لكيركجارد مباشرة، يقول كليماكوس إنه يتوق إلى لقاء «معلِّم الفن الغامض المعني بالتفكير في الوجود والحضور». إن الغموض، الذي يشير إليه هنا، هو الصعوبة التي يواجهها المعلِّم عند محاولة حثِّ الفرد على الانتقال من «التفكير» إلى «الحضور». يحتاج هذا إلى معلِّم يخاطر بأن يكون «متدخلًا في الحرية الشخصية لفردٍ آخر» (٦٢٠) يدرك كيركجارد حالة الغموض التي تكتنف تأليفَ كتاب عن المسيحية يقول إن المسيحية لا يمكن العثور عليها في كتاب، وإنها شيء يكمُن فقط في العلاقة بين الفرد والله. إذا صدق القارئ الكاتب — إذا هُرع القارئ إلى الشارع صائحًا بأنه قد عثر على الكتاب الذي يجيب عن سؤال المسيحية — فقد أساء فهْم هذا الكتاب. فالكتاب يقول إن كل شيء يكمُن في العلاقة بين الفرد والله. ولم يكن غرض الكاتب أن يتدخل في حياة القارئ أو أن يمثِّل سلطةً ما للفرد. فالله هو السلطة الوحيدة. وفي الوقت الذي يكتب فيه الكاثوليك كتابًا، ثم يحصلون على إذن نشر من الأسقف، يكتب كليماكوس كتابًا، ثم يضيف نصًّا يبطله. فهو يأمل في وجود نوعية القارئ «القادر على فهم الفَرق بين تأليف كتاب، ثم إبطاله، وبين الامتناع عن كتابته من الأساس؛ أن تؤلِّف كتابًا لا يطالب بأن يحظى بأهميةٍ لدى أي شخص ليس مثل عدم كتابته». (٦٢١) «لذا، لا تدَع أحدًا يتكبَّد عناء الاحتكام إلى هذا الكتاب؛ لأن مَن يحتكم إليه قد أساء فهمه. أن تصبح سلطة هو حالة وجودية متعبة للغاية بالنسبة إلى ساخر». يعيش الكاتب في خفة التخيُّل، ولا يمكنه أن يرزح تحت جاذبية الحضور الفعلي.
في نصٍّ لم يُنشر خلال حياته، ويحمل اسم «وجهة نظري بصفتي مؤلِّفًا» (١٨٤٨)، يشرح كيركجارد التشبيه السقراطي. تمامًا مثلما كانت حكمة سقراط هي معرفة أنه لا يعرف، كانت ميزة كيركجارد هي فهم أن الحياة المسيحية الأصيلة صعبةٌ في المطلَق، ونادرة ومكلِّفة، بينما اعتقد معاصروه أن جميع الموجودين في بلادٍ مسيحية هم مسيحيون بالضرورة، وأن المسيحية شيء يمكن الحصول عليه بثمنٍ رخيص. فقد عُمِّدوا جميعًا، وهم يحملون أسماءً مسيحية، ويحتفلون بالأعياد المسيحية، ويغنُّون الترانيم المسيحية، وهم بكل تأكيد ليسوا بهندوس أو مسلمين. لذا، كان يتعيَّن على كيركجارد أولًا أن يقنِع هؤلاء المسيحيين بأنهم ليسوا مسيحيين دون أن ينصِّب نفسه كمسيحي قدوة، يجب عليهم أن يتَّبعوه. (كان الأمر سيصبح أسهلَ بكثيرٍ إذا كانت الدنمارك بلدًا لم يسمع عن المسيحية مطلقًا.) إن مشكلة كتاباته هي أنها تحثُّ الناس على إدراك أنهم ليسوا كما يعتقدون، وأن عليهم أن يكونوا فعلًا ما يعتقدون أنهم يمثِّلونه، والأكثر من هذا، أن يفعلوا هذا بمفردهم تمامًا، وليس لأنه حثَّهم على فعل هذا. لقد أراد كيركجارد أن يكون سقراط الله، أن يكون كقابِلة مسيحية تساعد على إعادة ولادة الروح المسيحية، ثم يختفي من المشهد الذي يحدُث في خفاءٍ بين الفرد والله المحسن.
في كتاب «ملحق ختامي»، وهو عمل فلسفي بديع، ينازل كيركجارد الفلاسفة على أرضهم، منتقدًا بشدة نظامَ الفلسفة الهيجلي العظيم، ولكنه في الوقت نفسه يستخدم مصطلحاته، ليكون ألمانيًّا أكثرَ من الفلاسفة الألمان أنفسهم، الذين يقول لهم ما يلي: «إذا ما حوَّلتم معضلةَ المسيحية إلى مشكلة فلسفية موضوعية، فسيتعيَّن عليكم ابتكار فئاتٍ جديدة مثل الوجود والفرد الواحد، تمامًا مثلما فعل كليماكوس. ما فعله كليماكوس دلالة على أن المسيحية ليست معضلة فلسفية في الأساس. لذا، توقَّفوا عن التفكير في المسيحية كأنها أحجية تكهنية، كأنها إحدى مفارقات زينون؛ وكونوا مسيحيين.»
فعل كيركجارد كلَّ هذا بطريقة دقيقة، وملائمة، وجذابة كي يقدِّم للعالم المعاصر ما يُعَد أولَ نموذج جيد لما يمكن تسميته بالفلسفة المضادة للفلسفة — سيكون نيتشه ثاني مَن يفعل هذا — وهو ما نطلِق عليه اليوم فلسفةَ «ما بعد الحداثة»؛ ففي حين تعني «الحداثة» العقلانية المفرطة، أو كما يقول كيركجارد، التفكير بطريقة «موضوعية» (بينما يسمِّيه نيتشه «روح الجاذبية»). فبدلًا من وضع الفلسفة وراءه وتجاهلها إلى الأبد، أنتج كيركجارد نموذجًا بديلًا أحدثَ ثورة في الفلسفة. فقد أدى هجومه على الفلسفة التقليدية إلى إنتاج فلسفة جديدة؛ فلسفة خاضعة للانتقاد والهجوم؛ نموذج جديد ينزِع الفلسفة من نطاق التكهُّن، ويغرسها بعمقٍ في النسيج الممزق للتجربة الإنسانية الفعلية أكثرَ من أي وقتٍ مضى. لقد أطلق كيركجارد أحد المشروعات الرئيسية في الفلسفة المعاصرة، محوِّلًا انتباه الفلاسفة إلى واقعية الحياة كيفما تُعاش، قبل أن يشوِّهها التأمل والتفكير. ابتكر كيركجارد خطابًا فلسفيًّا جديدًا، خطابًا عامله هو نفسه بتهكمٍ وسخرية واضحة، وذلك عبر ذكر أفضل عباراته على لسان شخصيات ساخرة. ولكن ما من حركة فلسفية رئيسية ظهرت في القرن العشرين بالقارة الأوروبية — بدءًا من «الوجودية» وصولًا إلى «التفكيكية» — لم تتأثَّر بأفكاره.