العصر الحالي
لوقتٍ طويلٍ، ظل التوجُّه الرئيسي لعصرنا الحالي منصبًّا على إلغاء الفروق بين الأفراد عن طريق الثورات العديدة؛ لكن لم تستطِع إحداها تحقيق هذا لأنها لم تكن مجردةً كفاية، بل اتسمت بالمادية الواقعية … فكي تُلغى هذه الفروق فعلًا، يجب استحضار شبحٍ ما، روح المساواة، نوع بشع من التجريد، شيء يضم كل الأشياء لكنه لا يساوي شيئًا في الوقت نفسه — هذا الشبح هو «العامة». فقط في عصر، مولع بالتفكير ومفتقر إلى الشغف، يمكن لهذا الشبح أن يتطور بمساعدة الصحافة، عندما تصبح الصحافة نفسها شبحًا. في الأوقات العاصفة المفعمة بالشغف والحيوية، لا يوجد شيء اسمه العامة … حينها، يكون هناك جماعات، وهناك مادية واقعية. العامة هي مفهوم لم يكن من الممكن، ببساطة، أن يظهر في العصور القديمة … فقط عندما لا يكون هناك حياةٌ تشاركية قوية تعزِّز الواقع المادي، ستخلق الصحافة هذا المفهوم المجرد «العامة»، المكوَّن من أفراد وهميين، لا يمكن توحيدهم مطلقًا في أي موقف أو مؤسسة على نحوٍ متزامنٍ، ومع ذلك، يزعمون أنهم كِيان كلي. العامة عبارة عن كيان، يفوق عدده أعدادَ الناس كلها مجتمعة، لكن هذا الكيان لا يمكن إخضاعه للتحقيق مطلقًا؛ بل إنه لا يمكن حتى أن يكون هناك ممثلٌ واحد عنه؛ لأنه في حد ذاته تمثيل مجرد … إن معاصرة أشخاص فعليين، يُعد كلٌّ منهم فردًا قائمًا بذاته، في اللحظة الفعلية، والموقف الفعلي، يوفِّر الدعم للفرد الواحد. لكن وجود العامة لا يخلق أيَّ موقف أو أي مجتمع. فعلى أي حال، الفرد الواحد الذي يقرأ ليس هو العامة، ثم تدريجيًّا يقرأ العديد من الأفراد، وربما يقرأ الجميع، لكن ليس بشكلٍ متزامن. قد يستغرق العامة عامًا أو يومًا كي يتجمعوا، وعندما يتجمعون، يَظلون غير موجودين … أن تتبنَّى نفس الرأي الذي يتبنَّاه العامة لهو تعزية مخادعة؛ ذلك لأن العامة موجودون فقط كمفهوم مجرد … وسواء كان الأمر يتعلق بجيل، أو أمة، أو جمعية عامة، أو مجتمع، فالفرد لا يزال يتعيَّن عليه تحمُّل مسئولية أن يكون شيئًا ما، ولا يزال يشعر بالخجل من تقلُّب الأهواء وعدم الولاء، أما العامة فتظل العامة … إن مفهوم العامة لا يعني الناس، ولا الجيل، ولا عصرًا معينًا، ولا جمعية، ولا رابطة، ولا أشخاصًا بعينهم؛ ذلك لأن كل هؤلاء هم ما هم بكياناتهم المادية الواقعية فقط. نعم، ما من أحدٍ في العامة يشارك في الواقع بأي شكل كان … ولأن مفهوم العامة مكوَّن من أشخاصٍ كهؤلاء، أو من أفراد في اللحظة التي يكونون فيها لا أحد، يمكن القول بأن العامة هي شيء ضخم، فراغ مجرد، خواء، يمثِّل كلَّ شيء ولا شيء في الوقت ذاته … العامة هي كل شيء ولا شيء، أكثر القوى خطرًا، وأكثر الأشياء المفرغة من المعنى … إن فئة «العامة» هي وهمُ التأمُّل الفكري الذي يخدع الأشخاص بأن يجعلهم مغترِّين بأنفسهم؛ فكل واحد فيهم يمكنه أن يدَّعي لنفسه هذا الماموث، الذي يبدو الواقع المادي أمامه كشيء تافه … في ظل عصر مولع بالتفكير ومفتقر إلى الشغف، يقوم التجريد «الصحافة» … بتمهيد الطريق أمام ظهور شبح التجريد «العامة»، مما يُعَد أداةَ إلغاء الفروق الحقيقية … كلُّ مَن قرأ للمؤلفين القدماء يعرف كمْ من الأشياء يستطيع الإمبراطور أن يبتدعها كي يخدع عصره. وبنفس الطريقة، تحتفظ العامة بكلبٍ لمتعتها. هذا الكلب هو الجزء الدنيء الوضيع من العالم الأدبي. فإذا ظهر شخص متميز … يتحمَّس الكلب لمهاجمته، ثم يبدأ المرح … والعامة ليست بنادمة، فعلى أي حال، لم تكن العامة هي مَن فعلت هذا، بل الكلب … وفي حالة رفع دعوى قضائية، ستقول العامة: هذا ليس كلبي؛ الكلب ليس له صاحب.
وببصيرة نافذة، توقَّع كيركجارد فساد المؤسسات الواقعية «المادية»، التي تقرِّر سياساتِها دكتاتوريةٌ خفيةٌ ممثَّلة في شبحٍ «مجرد» هو «العامة». وبينما لم تكن ظاهرة بناء السياسيين قراراتهم على أساس استطلاعات الرأي العام شائعة حينها، كان لدى كيركجارد تصورٌ جيدٌ عن فساد الكتابة، عندما تغذي الصحافة وصناعة النشر شهيةَ العامة للنميمة، والفضائح، والجنس، والعنف بدلًا من تقديم صحافة واعية وأدب جاد. هناك صفحات مما كتبه كيركجارد تصلح حرفيًّا؛ لأن تكون مقالَ رأي في عدد صحيفة «نيويورك تايمز» غدًا.
إن المقتطَف الموجود في بداية هذا الفصل مأخوذٌ من تحليل نقدي طويل لكتاب. في بداية عام ١٨٤٦، وبعد أن سلَّم كتاب «ملحق ختامي» لناشريه، بدأ كيركجارد معركةً مع صحيفة «ذا كورسير»، وهي صحيفة أسبوعية كانت ذائعة الصيت حينها، واشتُهرت بآرائها السياسية والثقافية، وهجائها اللاذع. في المقابل، شنَّت الصحيفة حملةً ساخرة قاسية ضده، استمرت شهرين، وشملت رسومًا كاريكاتورية مؤلمة، تصوِّر مظهره الجسدي. أقنع كيركجارد نفسه أنه إذا ما انسحب لينضم إلى بيت القساوسة في ظل هذا الهجوم، فسيُرى هذا على أنه اعتراف جبان بالهزيمة. لذا، قرَّر أن يكمِل حياته كاتبًا، ولكن للتحليلات النقدية للكتب فحسبْ، ليكون بهذا قد التزم بقراره إنهاءَ مشواره مؤلِّفًا بكتاب «ملحق ختامي». لكن هذا التحليل النقدي، الذي كان الأول بالنسبة إليه، تحوَّلَ سريعًا إلى كتاب (ليتخلى بهذا عن قراره)، وقد بلغ الكتاب ذُروته بهجوم كيركجارد على ميل عصره إلى إلغاء الفروق بين الأفراد، مستهدفًا الصحافة بصفتها شريرًا من نوعٍ خاص. وبهذا، انطلقت المجموعة الثانية من كتاباته، المكوَّنة من الأعمال الموقَّعة باسمه.
إن التحليل النقدي الذي كتبه كيركجارد كان لرواية «عصران» للكاتبة الدنماركية مدام توماسين جايلمبورج، التي تقارِن بين عصر ثوري والعصر الحالي المستقر (في أعقاب الثورات السياسية التي اجتاحت أوروبا في عام ١٨٤٨). يتَّسم العصر الثوري — المتمثِّل في مشاهد الثورة الفرنسية؛ ونابليون وهو يجول أوروبا على صهوة حصانه؛ والقس مارتن لوثر وهو يثبت أطروحاته الخمس والتسعين على باب مدينة فيتنبرج — بالحماسة، والشغف، والجرأة، والحسم، والبطولة، بينما العصر الحالي قد أصابه الوهن بسبب الإفراط في التفكير والجدل. ويظهر هذا الضَّعف في السِّمات الثلاث المميزة لهذا العصر. فبدلًا من تحويل الأشياء من الأسفل إلى الأعلى، يترك العصر الحالي الأشياء على حالها باستخدام خدعة، يُطلِق عليها كيركجارد اسم «الغموض»، وهو ما يجعلك تعتقد بأن هناك إجراءً ما قد اتُّخِذ بينما لم يحدث أيُّ تغيير في واقع الأمر. وبدلًا من الإعجاب بالأبطال الحقيقيين، يظل العصر المولَع بالتفكير حبيسًا للحقد، مهاجمًا بامتعاضٍ أيَّ شخص يجرؤ على أن يكون بطلًا. وأخيرًا، يفعل العصر الحالي كلَّ ما في وُسعه لقمع الفرد الاستثنائي أو جعله مساويًا للآخرين، وإخماد أي فعل حاسم، وأي ثورة حقيقية. إذا كان العالم القديم قد ولَّد قادة، فقد قدَّمت لنا الحداثة العامة، التي تمثِّل وهمًا، مُفاده أن ما لم يستطِع المرء أن يكونه بشكلٍ فردي — أي أن يكون حاسمًا في حياته — يمكن تعويضه بالجموع الكبيرة، عبر تجميع الأشخاص المجهولين (النكِرات) معًا، وهو أمرٌ أشبه بإضافة أصفار على يسار الرقم لا على يمينه. إن الحشود هي نوعٌ من الأخطاء الحسابية، كأن القوة يمكن بلوغها بجمع الكيانات الضعيفة، أو بلوغ الجمال بجمع الكيانات القبيحة، أو بلوغ الحُكم السليم بجمع الأفواه التي تثرثر بكلامٍ فارغٍ (١٠٦).
إن السِّمة الرئيسية المميزة للعامة، التي هي موضوع هذا المقتطَف، وهي أداة إلغاء الفروق بين الأفراد، هي أنها عبارة عن «مفهوم مجرد»، وليست فردًا ماديًّا؛ ولا مجموعة من الأفراد، ولا مؤسسة فعلية. في أي عصر ثوري، لا يوجد فقط قادةٌ عظماء، بل يوجد أيضًا مجتمعات ملموسة، يحرِّكها هؤلاء الأفراد العظماء، الذين يكوِّنون وحدةً عضوية، وهم قادرون على الفعل الجماعي، وتحمُّل مسئولية اختياراتهم. أما «العامة» فهم في الحقيقة نكراتٌ مجهولون غير مسئولين على الإطلاق. «العامة» هي سِمة مميزة للحياة الحديثة، أنتجتها وسائل الاتصال التكنولوجية غير الشخصية المتاحة لدينا. فقد أدَّت إعادة الإنتاج الآلي للكتابة في عصر الصحافة إلى ظهور «الرأي العام» الخالي من الملامح، وهو ما وصفه هايدجر بكلمة «هم يقولون». يمثِّل الرأي العام شيئًا كليًّا، لن يعترف أحدٌ بأنه جزء منه؛ هو رأي يمتلك نفوذًا كبيرًا، لكن «لا أحد على وجه الخصوص» يتبنَّاه، ولذا فالعامة هي، في واقع الأمر، «لا أحد»، حتى الشخص الذي تتشكَّل آراؤه كليًّا بالرأي العام، مفرغ من أي ذات، أو أي كيان فردي. تمارس العامة نوعًا من الاستبداد، وقد شبَّهها كيركجارد بإمبراطور روماني فاسد أخلاقيًّا، يسلِّي نفسه بتربية الكلاب كي يهاجم بها العبيد. الإمبراطور هو العامة، والكلب هو الصحافة. عندما يهاجم الكلب ضحيَّته، نشعر جميعًا بالتسلية، وعندما يقال إن الكلب قد أفرط في وحشيته، نقول إن هذا ليس كلبنا، وإذا ما قُتل الكلب لوحشيَّته المفرطة، نقول جميعًا (علنًا) إننا نوافق على هذا الفعل؛ يضيف كيركجارد بأنه «حتى المشتركون في الصحيفة» يوافقون.
إن قدرة العامة على إلغاء الفروق بين الأفراد «تقضي على مبدأ التناقض» بطرقٍ مختلفة. فلغة العامة هي «الثرثرة»، التي تبطل التمييزَ بين أن يكون لديك شيء حقيقي لقوله، عندما يكون التحدث مطلوبًا، وأن تعرف كيف تبقى صامتًا، التي هي علامة على التوجُّه نحو الباطن. لا يبقى الثرثار صامتًا، لكنه لا ينجح أيضًا في قول أي شيء ذي معنًى، رغم كل هذا الكلام. إن الصمت الحقيقي، في حد ذاته، يتمتع بقدرة عالية على التواصل، وعندما يُكسر هذا الصمت، تصبح الكلمات القليلة ذاتَ قيمة أكبر. لكن في حالة الثرثرة، كلما كثرت الكلمات، قَل ما تنقله من معنًى حقيقي؛ كلما كثر «الإسهاب» (زاد اللغو)، أصبح المعنى أقلَّ تكثيفًا (قلَّ المعنى الحقيقي للخطاب). تبطِل العامة أيضًا الفرقَ بين الشكل والمحتوى، فبدلًا من أن يمتلك الفرد مبادئ مستقاةً من قضايا ينشغل بها الفرد بشغف، يفعل المرء أشياءَ دون أن يؤمن بها شخصيًّا، بل يؤمن بها فقط «من حيث المبدأ». وينتقد كيركجارد هنا عقيدةً أساسية من عقائد الليبرالية، تضع الإجراءَ قبل الجوهر، وتدافع عن حق الآخر في قول أو فعل شيء، حتى وإن كان المرء لا يوافق عليه «شخصيًّا». تلغي العامة أيضًا الفرق بين الكتمان والكشف عبر التحدث عما يجيش في صدورنا دون إتاحة الوقت الكافي لنضج الأفكار داخلنا، ومن ثَم لا نستطيع التعبير بأسلوبٍ صحيحٍ عن أفكارنا. وأخيرًا، تلغي العامة الفرق بين الحقيقة الذاتية والموضوعية، فنجد المرء يجازف بإبداء رأيه في أي شيء، بعد أن التقط هذا الرأي من أحدث الصحف. وبدلًا من الكلمات الصادرة من القلب، تسمع العامة ما «يقوله الآخرون»، وهو ما يصفه كيركجارد بأنه نوعٌ من «الضوضاء التجريدية»، شيء أشبه بخشخشة الآلات. ليس مستغربًا أن الناس بات لديها المزيد من المعلومات — فهناك كتيباتٌ عن كل شيء بدءًا من الميتافيزيقا الهيجلية ووصولًا إلى ممارسة الحب — لكن ما يَنقُص هذا الإسهاب المعلوماتي هو الشغف المكثَّف للحقيقة الذاتية؛ أي الإقدام على الفعل. وعندما يُقدِم أحدٌ على الفعل، يُقابَل بعاصفة من الانتقادات المليئة بالحقد والامتعاض، لكن ليس قبل أن يشير هؤلاء المنتقدون إلى أنهم قد عرفوا ما ينبغي فعله منذ البداية، الفرق الوحيد أنهم لم يقدِموا على الفعل!
طرح نيتشه تشخيصًا مشابهًا للغاية للطبقة البرجوازية الأوروبية في القرن التاسع عشر، لكنه ألقى باللوم على المسيحية؛ إذ إن «أخلاقيات العبيد» الموجودة بها غرست شعورًا بالذنب لدى الطبقة الأرستقراطية. لو أن نيتشه استخدم مصطلح «العالم المسيحي» — وهو تصنيف اجتماعي لا ديني — بدلًا من مصطلح «المسيحية»، لكان كيركجارد وافق على ما يقوله. بالنسبة إلى نيتشه، كان ترياق المَيل إلى إلغاء الفروق بين الأفراد في القرن التاسع عشر هو الفنَّ، وخاصة الفنَّ التراجيدي لدى اليونانيين القدماء. لكن بالنسبة إلى كيركجارد، فإن هذا الترياق يتمثَّل في الشغف الديني، في القفزة الإيمانية الشغوفة التي يقوم بها الفرد الواحد.
بالنسبة إلى نيتشه وكيركجارد، فإن الترياق الحقيقي والوحيد لحالة تسطيح الحياة البرجوازية هو تعميق حدة التفرد الشغوف. لكن نيتشه كان ينظر إلى هذا التفرُّد الاستثنائي على أنه مصادفة هشَّة نتجت عن تجمُّع قوًى كونية، كأنه ضربة حظ كونية. لكن بالنسبة إلى كيركجارد، يُعد هذا الحديث صيغةً وثنية جمالية بحتة (وهو ما أراده نيتشه تحديدًا)؛ بالنسبة إليه، التفرُّد هو حدَث باطني، يقف المرء فيه وحدَه أمام الله. إن الفرق بين نيتشه وكيركجارد هو الفرق بين شغف الوثني وشغف المسيحي؛ بين رمية حظ للنرد الكوني والفضل الإلهي؛ بين القوى الموضوعية والقوى الذاتية؛ هو ببساطة الفرق بين هرقليطس ولوثر. وقد أدَّى هذا التعارض إلى ظهور فرعَين مما نسميه الآن حركةَ ما بعد الحداثة؛ أحدهما يمتد تقريبًا من كيركجارد وصولًا إلى ليفيناس، ودريدا، والآخر يمتد من نيتشه وصولًا إلى فوكو ودولوز. وقد استخدمت كلمة «تقريبًا» لأن أيَّ نسخة من حركةِ ما بعد الحداثة ستكون ناقدة للباطنية المطلَقة التي يتسم بها مفهوم الذاتية لدى كيركجارد، والتي يتعامل معها نقادُ ما بعد الحداثة باعتبارها أحد المبادئ المعيبة لدى الحداثة. فكُتَّاب ما بعد الحداثة ينتقدون مفهومَ الوعي الداخلي، المستقل عن القوى الاجتماعية، واللغوية، وحتى قوى اللاوعي، التي شكَّلته مقدمًا.
يختتم كيركجارد كلامه بتعليقٍ مفيدٍ عن التواصل «غير المباشر»، وهو ما يوضح أن أيَّ تواصل ديني يجب أن يكون غير مباشر بدرجةٍ ما، وأن هذا الأسلوب ليس مقتصرًا على استخدام أسماء مستعارة. يتعلق الأمر بابتكار استراتيجية تدخُّل استطرادي غير مباشِرة، سواء كان النص موقَّعًا باسم الكاتب أم لا. إن استخدام أسماء مستعارة هو فقط إحدى طرق التواصل غير المباشر. بات كيركجارد يكتب باسمه الآن في أغلب الأوقات محاولًا ترسيخ هُويته ككاتبٍ ديني — في منطقةٍ ما وسطى بين كليف ستيبلز جاك لويس وهايدجر — خشيةَ أن يتذكَّره الناس، بشكلٍ أساسي، على أنه مؤلف «يوميات مُغوٍ». الآن، حان وقت شن «الحرب» المشار إليها في التدوينة الموقَّعة باسمه في يوميات كيليلاجي. استنتج كيركجارد أن ما قاله كان كافيًا (بعد كتابة مقال نقدي تجاوز حجمه ١٠٠ صفحة)؛ خشيةَ أن يضيف إلى حالة اللغو السائدة في عصره. فعلى كل فرد أن يشقَّ طريقه صوب نجاته، وحدَه أمام الله.
إن التحليل، الذي طرحه كيركجارد في كتاب «العصر الحالي»، يُعَد إحدى الرؤى الأولى الثاقبة حول غموض الحياة الثقافية في العصر التكنولوجي. فقد سمحت إعادة الإنتاج الآلي للكتابة بتوفير الكتب المطبوعة لدى المزيد والمزيد من الأشخاص، وأدَّت في النهاية إلى انتشار الصحف اليومية، وسط افتراض بأن دور الصحافة الحرة هو تثقيف العامة. وعلى نفس المنوال، أدَّت إعادة الإنتاج الآلي للرسوم، والموسيقى، والصور «المتحركة»، إلى إتاحة الفنون لدى قطاعٍ أوسع من العامة. وعندما حلَّت تقنيات الإنتاج الرقمي للكلمات والصور محلَّ الإنتاج الآلي، زادت قوة إعادة الإنتاج أضعافًا مضاعفة، وهو ما أكَّد ملاحظة هايدجر بأنه في عصر التكنولوجيا، استُبدلت «صورة» عن العالم بالعالم نفسه، على نحوٍ متزايدٍ.
لم يستطِع كيركجارد التنبُّؤ بكل هذه التطورات، لكنه كان حساسًا للغاية تجاه المخاطر التي بدأت تنشأ في عصره، بينما لم يعترف حتى بالمزايا التي يمكن أن توفرها هذه التكنولوجيا. في كتاب «ملحق ختامي»، سخِر كليماكوس من افتتاح منتزه تيفولي بوصفه دعوةً فجة إلى الإلهاء، يأتي نجاحها على حساب «الحقيقة بوصفها طريقة شغوفة للوجود الشخصي»، وتأتي جاذبيتها مما توفِّره من تسلية في مقابل التخلي عن «مُتَع الحياة اللاإفسادية». («ملحق ختامي»، ٢٨٦) لم يكن معجبًا بإمكانات الديمقراطية التي توفرها التكنولوجيا الجديدة؛ ولم يُعجب بسَحب الحياة الثقافية من أيدي النخبة الأرستقراطية، ووضْعها في أيدي عامة الناس. بالنسبة إليه، «الشعبُ» يعني «العامةَ»، التي كان يعاملها بازدراء. لقد كان محقًّا في قلقه من أن الكُتَّاب — والسياسيين في حالة الأنظمة الديمقراطية — سيلبُّون أسوأ رغبات «الشعب»، الذين قارن كيركجارد رغباتهم برغبات إمبراطور روماني مجنون. لقد كان قلِقًا من قدرة وسائل الإعلام الجماهيرية على السخرية من كلِّ ما هو مختلفٌ ومحوه، ومن قدرتها على ترسيخ حياة مسطحة تشكَّلت بواسطة المبادئ العامة السائدة بدلًا من الحياة التي يعيشها المرء بشغف، وبشكلٍ فردي، وخاص.
إن لبَّ الحياة البرجوازية الحديثة — مسعاها إلى جعل كل شيء سهلًا وآمنًا — هو ما كان يقلِق كيركجارد. وقد عبَّر يوهانس كليماكوس عن هذا القلق في شرحه الساخر للطريقة التي أصبح بها كاتبًا (كتاب «ملحق ختامي»، ١٨٦-١٨٧). يقول كيلماكوس متأملًا إن الجميع في أوروبا في القرن التاسع عشر يجعلون الأشياء أسهل. أينما ننظر، نجد سككًا حديدية، حافلات عامة، بواخر، تلغرافات، صحفًا، وحتى كتيبات تشرح لنا كيف نقرأ هيجل. لكن إذا كان الجميع يجعل كل شيء أسهل، ما الذي تبقَّى من إسهامات يمكن أن يقدِّمها للبشرية بخلاف أن يجعل الأشياء أصعب؟ أليست الصعوبة الحقيقية التي نواجهها في العصر الحديث هي أن كل الصعوبة قد مُحيت؟ أليس الخطر الحقيقي هو أننا نزيل كلَّ الخطر من الحياة؟ شعر كيركجارد بالقلق من أن حياتنا باتت آمنة، وضئيلة، وعادية، من أن وجودنا قد سُلب منه عمقه وفرديته، بعد أن أغرقناه بفيضان من وسائل الترفيه، والراحة، والآراء الجاهزة. لكن إذا كان العصر الحالي مهددًا بخطر السهولة وانعدام التفكير، فإن دوره بوصفه مؤلِّفًا يجب أن يكون إعادة الحياة إلى صعوبتها الأصلية.