الفصل الثامن

الحُبُّ

«أحبِب جارك»

انظر إلى العالم أمامك بأطيافه المتعددة؛ إنه أشبه بمسرحية، باستثناء أن تعدديته أكثرُ بكثير. وكل واحد من هؤلاء الأفراد الذين لا يُحصَون، نظرًا إلى اختلاف بعضهم عن بعض، هو شيء استثنائي في حد ذاته، ويمثِّل شيئًا استثنائيًّا، لكنه في جوهره شيء آخر. غير أنك لن تتمكَّن من رؤية هذه الحقيقة في هذه الحياة؛ هنا، أنت ترى فقط ما يمثِّله الفرد، وكيف يفعل ذلك. الأمر تمامًا كما في المسرحية. لكن عندما يُسدل الستار على المسرح، حينها يكون مَن لعِب دور الملك، ومَن لعِب دور الشحاذ، وغيرهم، سواءً؛ جميعهم متماثلون؛ جميعهم ممثِّلون. وعندما يُسدل ستار الموت على مسرح الواقع … حينها، يكون الجميع أيضًا متماثلين، جميعهم بشر. جميعهم يكونون كما كانوا في جوهرهم، ما عجزت أنت عن رؤيته بسبب اختلافاتهم؛ إنهم بشر.

إن مسرح الفن يشبه عالمًا مسحورًا. لكن لنفترض أن جميع الممثِّلين التبس عليهم الأمر في مساءٍ ما، وباتوا في حالة شرودٍ ذهني، إلى درجةٍ جعلتهم يعتقدون أنهم حقًّا ما يمثِّلونه على المسرح. ألن يكون هذا ما يمكن أن نطلِق عليه، مقارنةً بتعويذة الفنون الدرامية، تعويذة الروح الشريرة، أو السِّحر؟ وبالمثل، ماذا لو أننا، بتأثيرٍ من تعويذة الواقع (فكلنا بالفعل مسحورون، كلُّ فرد متأثر بسحر اختلافه)، باتت أفكارنا الأساسية مشوشةً إلى درجةٍ جعلتنا نعتقد أننا حقًّا ما نمثِّله؟ للأسف الشديد، أليس هذا ما يحدث ببساطة؟ يبدو أننا قد نسينا أن تباينات الحياة الدنيوية هي مثل زي ممثِّل، أو عباءة مسافر، ينبغي لكل امرئ الحذَر، ومراعاة ترك أربطة ردائه الخارجي مرتخيةً، والأهم من هذا، ألا يكون بها عُقد محكَمة، حتى يتمكن من خلع ردائه بسهولة في لحظات التحول … لكن، وا أسفاه، في الحياة الواقعية، يُحكِم المرء ربطَ ردائه الخارجي بشدة إلى درجةٍ تجعله يخفي حقيقة أن هذا التباين هو مجرد زي خارجي؛ لأن التألق الباطني للمساواة لم يشِع منه يومًا، أو نادرًا ما يشيع منه كما ينبغي له أن يكون دومًا.

لكن إذا أحبَّ شخص جارَه حقًّا، يجب أن يضع نصب عينيه دومًا أن كل هذا الاختلاف هو مجرد قِناع … منذ بداية العالم، ما من إنسان ينطبق عليه مسمَّى «الجار» من حيث كون الملك ملِكًا، أو العالِم عالِمًا، أو القريب قريبًا — أي من حيث أدوارهم المتمايزة، أو من حيث اختلافاتهم — أي إننا لا يمكن أن نُعِدَّ كلَّ إنسان جارًا بحسب هذا المفهوم. بكونك ملِكًا، أو شحاذًا، غنيًّا، أو فقيرًا، رجلًا أو امرأة … إلخ، فنحن لا يشبه بعضنا بعضًا … حينها، نكون بالفعل مختلفين. لكن بكوننا جيرانًا، فنحن جميعًا متشابهون دون شروط. التباين هو وسيلةُ دنيانا الزائلة لإرباكنا، لتميز كلَّ إنسان بشكل مختلف، لكن الجار هو الختم الذي تسِم به الأبدية كلَّ البشر.

(«أعمال الحب»، الصفحات ٨٦–٨٩)١
باعتباره «ناقدًا ثقافيًّا»، انتقد كيركجارد ثقافةَ نُظم تكنولوجيا الاتصالات الناشئة حديثًا. لكن بصفته مسيحيًّا، لم يستطِع أن يجعل هذا الرأي هو الرأي الأخير. لم يكن في إمكانه قطُّ قبول ازدراء «العوام»؛ ذلك لأن عامة الناس هم جوهر مملكة الله، ويحظَون باهتمامٍ خاصٍّ من يسوع. إذا كان كيركجارد يصرُّ على أن كلَّ فرد يقف بمفرده أمام الله، فهو لم يتجاهل واجب المحبة المسيحية، التي يجب أن يحملها كل شخص لجيرانه. هناك نوعٌ آخر من إلغاء الفروق بين الأفراد أو المساواة، وهي المساواة المسيحية لكل الأفراد أمام الله. في كتاب «أعمال الحب»، والمأخوذ منه هذا المقتطَف، نسمع تقريبًا نقيضَ ما ظللنا نسمعه حتى الآن: أن «اختلافاتنا» هي مجرد أزياء، وأسفلها نكون جميعًا متماثلين؛ الإنسان العام. لقد غيَّر كيركجارد منظوره. هناك نزعة تَقَوِيَّة لدى كيركجارد، الذي جادل دومًا بأن التديُّن القلبي البسيط لدى الناس العادية ليس أقلَّ شأنًا من «التأمُّل الفكري»، أو التكهن الفلسفي المعقَّد. لذا، كان كيركجارد حريصًا على التمييز بين «أدنى نوعٍ من إلغاء الفروق بين الأفراد» الذي يختزل الأفراد إلى أدنى قاسمٍ مشتركٍ بينهم، وبين نوعٍ آخر من إلغاء الفروق بين الأفراد وهو نوعٌ أعلى شأنًا: «الحياة الأبدية هي أيضًا نوعٌ من إلغاء الفروق بين الأفراد، لكنها مختلفة، فالقاسم المشترك هو ما يلي: أن تكون، بشكلٍ أساسي، إنسانًا بالمعنى الديني.»٢ إن إلغاء الفروق بين الأفراد المتأثر بالحياة الأبدية يشير إلى القاسم المشترك الأعظم بيننا؛ الكرامة التي لا يُنتقص منها لكل شخصٍ أمام الله. يجب التمييز بين ازدراء كيركجارد لتحقيق المساواة المُجانِسة بين الأفراد بتأثيرٍ من العامة، وبين المساواة الأكثر عمقًا والأعلى شأنًا، التي نُعَدُّ بموجبها جميعًا، وكلٌّ على حدة، متساوين تمامًا أمام الله، بغضِّ النظر عن ظروفنا الخارجية:٣

في المسيحية، كل إنسان (الفرد الواحد)، كل إنسان من دون شروط، ومجددًا أقول كل إنسان من دون شروط، قريبٌ من الله بدرجة متساوية — إلى أي مدًى هو قريب، وكيف هو قريب بدرجة متساوية؟ — ومحبوب منه. لهذا، هناك مساواة، مساواة لا نهائية بين جميع البشر.

ما هو مشترك بين الجميع، بغضِّ النظر عن موقعهم في الحياة، هو أن كل امرئ مدعوٌّ إلى الدخول في علاقة شخصية واستثنائية مع الله، بنفس الطريقة التي تكون بها كل نقطة على محيط الدائرة في علاقة مباشِرة مع المركز، الذي تقف جميع النقط على مسافة واحدة متساوية منه. إن المساواة (المسافة المتساوية)، والفردانية يكمل بعضهما بعضًا. يتطابق هذا النوع الأعمق من العمومية مع الفردانية الأصيلة أمام الله، وهي تختلف جوهريًّا عن إرهاب الأفراد كي يذعنوا للآخرين بتأثيرٍ من قوة العامة. إن البشَر أرقى من الحيوانات، ليس فقط بسبب اختلافٍ عامٍّ محددٍ، بل أيضًا بسبب:

أن كل فرد مختلفٌ ومميز بشكلٍ جوهري داخل النوع الواحد. هذا السمو هو سموٌّ بشري بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى … بالفعل، إذا لم يستطِع إنسان، صادق، ومستقيم، ومحترم، ويخاف الله أن يفعل شيئًا مغايرًا تمامًا لِما قد يفعله شخص آخر صادق، ومحترم، ويخاف الله أيضًا تحت نفس الظروف، فلن يكون للعلاقة مع الله وجودٌ بمعنًى جوهري، لن تكون موجودة في أعمق معانيها (٢٣٠).

كل فرد يستحق الحب، بغضِّ النظر عن «اختلافاتنا» الدنيوية، وهو مبدأ يتبوَّأ أعلى مكانةٍ في جميع المذاهب المسيحية. حتى وإن كان نموذج كيركجارد، عن الفرد الذي يقف وحدَه أمام الله، قد أقصى أيَّ دور حقيقي للكنيسة، سواء كانت كنيسة رسمية للدولة، أو كاثوليكية، أو بروتستانتية — وهو رأيٌّ أشعل موجةَ غضب ضده في نهاية حياته — لم يكن مفهوم حبِّ الجار غائبًا عنه. كان هذا موضوع كتاب «أعمال الحب» (١٨٤٧)، وهو من كلاسيكيات الأدب الديني الحديث، وأحد أبرز أعمال الموجة الثانية من الأعمال الموقَّعة باسمه.

يناقش المقتطف كيف أن الأبدية قد ألقَت بظلالها على الزمن. يمكن للمرء أن يشبِّه الحياةَ المؤقتة بمسرحية، يلعب فيها كلٌّ منا دورًا مختلفًا، ومعه نص مختلف لإلقائه، وملابس مختلفة لارتدائها. وسواء كنت غنيًّا أو فقيرًا، رجلًا أو امرأة؛ كلُّ ذلك مجرد أزياء عديدة نرتديها في هذه الحياة. تخيَّل الجنون الذي يمكن أن يحدث إذا ما استمر ممثِّل، بعد انتهاء العرض وبعد خلع الممثلين أزياءهم، في لعب دوره، مقتنعًا أنه فعلًا نابليون، أو إمبراطور اليابان، مُصدِرًا الأوامر لزملائه، متوقِّعًا أن يطيعوه. تخيَّل الجنون الذي يمكن أن يحدث إذا ما اختلط الأمر على هذا الشخص وظن أنه فعلًا ما يرتديه أو ما يمثِّله. وعلى نفس المنوال، يقول كيركجارد عندما يُنهي الموتُ مسرحيةَ الإنسان، عندما يُسدَل ستار الزمن، ويُكشف عن حياة الأبدية الحقيقة، حينها سنرى حقيقتنا عاريةً كما هي أمام الله، أننا جميعًا سواء. على هؤلاء الذين يعيشون متمتعين بالثراء، والنفوذ، والمزايا الدنيوية، أن يحذروا: لا تحكموا ربطَ أردية الاختلاف. لا تفرِّطوا في أخذ اختلافاتنا البشرية على محملٍ من الجِد، فهي مجرد وظائف لظروفنا الخارجية. تلك مجرد صدفٍ خارجية وعابرة لا تمس جوهر إنسانيتنا (على النقيض من الفلاسفة «الوجوديين» الآخرين؛ فإن تركيز كيركجارد على «الوجود» لا يلغي مفهوم «الجوهر» العام المشترك بيننا). يوفِّر لنا الموت الملخَّص الأهم والأكثر إيجازًا للحياة. إن الموت هو أداةُ إزالة الفروق العظيمة، والأبدية هي أداة تحقيق المساواة العظيمة. في القبر، ما من أحدٍ يمتلك أفضليةً على الآخرين، حتى وإن كانت رقعته أكبرَ من جاره بنصف قدم.

تُشكِّل المساواة الأبدية والمطلَقة بين جميع الأفراد أساسَ تفسير كيركجارد لثاني أهم وصايا المسيحية التي تقول «أَحبِب جارك مثلما تحبُّ نفسك» (إنجيل مرقس ٢٢: ٣٩)، بينما الوصية الأولى، بالطبع، هي أن تحبَّ الله. إن السِّمة العامة والمشتركة في الوجود البشري هي أن كل فرد موجود ولديه علاقة استثنائية مع الله، أن كل إنسان مشمول بحب الله، ومقابل هذا، فنحن مأمورون بالحب أيضًا. هذه العمومية هي تحديدًا السببُ الذي جعل الحبَّ أولى الوصايا، هي السبب في إصدار أمرٍ بالحب، خشيةَ أن يكون عرضةً لأهواء وتقلُّبات اختلافاتنا، التي تجعل البعض محبوبًا أكثرَ من الآخرين.

يطرح كيركجارد فرقًا أساسيًّا بين «الحب التفضيلي»، و«الحب المأمورين به». النوع الأول، والذي يشمل الحب الشهواني والصداقة، هو ما نطلِق عليه جميعًا الحب، وهو يُثار بالسِّمات التي يتصف بها المحبوب (أو التي لا يتصف بها). ينبع مثل هذا الحب من الميل، والمشاعر، والعاطفة، ولا يمكن الأمر به. يتسم الحب الشهواني والصداقة بالتقلب، والاختلاف، والخصوصية، وهما يحدثان عند مستوى اختلافاتنا، المستوى الذي يكون فيه كل شخص مختلفًا عن الآخر، ما يجعل هذا النوع من الحب محصورًا ضمن دائرة تفضيلات محدودة بدرجةٍ أو بأخرى. يقول كيركجارد إن الحبَّ التفضيلي «وثني»، وهو لا يعني بهذا إنكاره، لكنه يقول فقط إنه ينتمي إلى نظام الطبيعة بدلًا من كونه فضلًا من الله، بدلًا من كونه مهتديًا بالإحسان الإنجيلي. لقد ظل سِحر هذا النوع من الحب، وطبيعته العابرة، وما يصاحبه من ضَعف، وتقلُّب، وقلق، وغَيرة، مصدرَ إلهام للشعراء منذ قديم الأزل. لكن بالنسبة إلى كيركجارد، الحب التفضيلي هو، في نهاية المطاف، نوعٌ من حب الذات؛ ذلك لأنني عندما أحب زوجي، أو أطفالي، أو أصدقائي، فأنا أحب الدائرة الأوسع من نفسي، نفسي الأخرى الممتدة، حتى وإن كنت أعتبرهم نصفي الأفضل.

في المقابل، فإن الحب المأمورين به هو حب عادل غير تفضيلي في جوهره، وهو موجَّه إلى «الجار». ولا يقصد كيركجارد بكلمة الجار هنا معناها الشائع، أي هؤلاء الأقرب والأعز (كما تشير كلمة neigh أو near في اللغة الإنجليزية). لكنه، يقصد «الشخص التالي» الذي ستقابله (كما تشير كلمة nachst في اللغة الدنماركية)، الشخص التالي الذي سيدخل من الباب، أيًّا كان هو، ما يعني أيَّ شخص، أو الجميع. لذا، الجار يشمل، بكل تأكيد، الغريبَ، وحتى العدوَّ. هناك كلمة يونانية ثالثة، وهي agape (أجابي)، تُطلَق على هذا النوع من الحب، الذي يقول كيركجارد عنه، في تشبيه رائع، إنه يفتح قُفل حُب النفس. إن الكلمة الدنماركية التي يستخدمها كيركجارد هي Kærlighed، وهي مأخوذةٌ من الكلمة اللاتينية caritas، وتُستخدَم بنفس الطريقة التي تُستخدَم بها كلمة cher في اللغة الفرنسية، وتعني حبَّ الله، والحبُّ الذي يأمرنا الله أن نمنحه للجار؛ حبٌّ منزَّه من المصالح، ويتطلب إنكارًا للذات، وتضحيةً بالنفس. ويُقصد بالمحبة المسيحية (أجابي) أن تتمنَّى من قلبك الخيرَ الحقيقي والأبدي للآخرين، حتى وإن كنت لا تحبُّهم على مستوى العاطفة، أي إنك لا تحبهم وفقًا لمعاييرَ تفضيلية مؤقتة. إن المرء مأمورٌ بأن يحب أعداءه، وحتى بأن يحب نفسه بطريقة منظَّمة، وليس بطريقة نرجسية. ينبغي ألا يكون الحبُّ المأمورون به متقلبًا، أو متغيرًا، أو تفضيليًّا، أو إقصائيًّا. وهو لا يوفِّر مادةً خصبة للشعراء والروائيين لأن سلوكه هادئ وغير ظاهر. وهو موجَّه إلى الجميع بغض النظر عن اختلافاتهم الدنيوية. لا ينبغي أن يستنتج البعض أن مثل هذا الحب هو مجرَّد مرادف لمفهوم «العدل» — أن نعطيَ كلَّ ذي حق حقَّه — ذلك لأن هذا الحب يتمنى الخير للآخر، حتى وإن كان أكثرَ مما يستحقه.

يقدِّم كيركجارد سيلًا من التأملات القوية والثاقبة في كتاب «أعمال الحب»، تستحق الدراسة، مثل تأمُّله البديع لفكرة أن الحب يصدِّق كلَّ شيء، لكن لا يمكن خداعه (٢٢٥). لكن هناك أيضًا نغمة مقلِقة تظهر بدرجة أكبر في كتاباته، وهو ما يجعلني مضطرًّا إلى الإشارة إليها. في مسعاه الناجح للنأي بنفسه عن مؤلِّف نص «يوميات مُغوٍ»، وتأسيس هويته كاتبًا دينيًّا، يبدو أن موجة من الصوابية المفرطة قد بدأت تتشكَّل لديه. ونشأت لديه نظريةُ «العالَمَين». فالصراع بين الزمن (عالَمِ الحب التفضيلي) والأبديةِ (عالَمِ الحب المأمورِين به)، بدأ ينزلق إلى ثنائيةٍ غير متوازنة. لا يمكن للزمن أن يحافظ على قوَّته أمام الأبدية. وبالفعل، فإن صورة حياتنا الدنيوية باعتبارها «رداءً» نخلعه عند الموت موجودة في محاورة «فيدون» لأفلاطون، التي تُعَد وثيقةً تأسيسية للنظريات الغربية، التي تتعامل مع حياتنا كأنها رداء يتمزَّق إربًا بفعل الشد والجذب ما بين الزمن والأبدية.

يقول كيركجارد إن المسيحية قد أبطلت العقيدةَ الوثنية القاسية، التي تعتبِر البعضَ عبيدًا بطبيعتهم، وأظهرت «الاختلافات» الدنيوية على حقيقتها بوصفها مجرَّد أردية خارجية، وذلك عبر تزكية كل فرد أمام الله. لكن، على نفس المنوال، فإن المسيحية ليست ساذَجة إلى درجة تجعلها تنغمس في وهمٍ رومانسي يتخيَّل وجودَ نوع من «الإنسانية النقية» (المساواة)، حيث تُمحى جميع اختلافاتنا الدنيوية؛ كما «أنه ليس من شأن المسيحية إزالة هذه الاختلافات». كان يمكن أن يتخذ تحليل كيركجارد للمساواة المطلَقة بين الأفراد منحًى آخر، يتبنى فيه نظريةً لاهوتية سياسية مساواتية وراديكالية، أو اشتراكية مسيحية راديكالية. لكن تحليله، في واقع الأمر، اتخذ شكلًا للمسيحية بوصفها تقوى منعزلة، يعاني الفرد خلالها مَظالمَ العالم حوله بوصفها حدودًا لا مفرَّ منها للحياة في الزمن. تراقب المسيحية «بهدوء الأبدية» كلَّ هذه الاختلافات، التي ستبقى دومًا بيننا، ولا تنحاز إلى جانبٍ على حساب الآخر. «إذن، المسيحية لا تريد أن تزيل الاختلافات، سواء ذات المرتبة العليا أو الدنيا.» (٧١) «لا تنشغل المسيحية بهذا الأمر مطلقًا»، فالانشغال بهذا هو «شأن دنيوي». ورغم أن هناك تفضيلًا للكرَم والطيبة على حساب البخل والخسَّة، لا يُعد هذا شأنًا مسيحيًّا تمامًا. فالمسيحية معنيةٌ بتأمين بيتنا في السماء، وليس بتوفير بيت ملائم لنا هنا على الأرض، معنيةٌ بخلق «مساواة مسيحية» وليس مساواة اقتصادية. أن تكون معنيًّا ببناء مستشفياتٍ لعلاج المرضى والمحتضرين لهو شأنٌ يخص كلَّ ما هو «زمني ومؤقت» وهو علامة على «حسن نية» الشخص، غير أن أغراض الأبدية يمكن تحقيقها إذا كانت نوايا المرء رحيمة، حتى وإن لم تُلبَّ أيٌّ من هذه الاحتياجات (٣٢٦). من المحتمل إذن، أنَّ يسوعَ عندما شرع في معالجة الكسيح والأبرص، وعندما أوصى بكساء العُراة وإطعام الجوعى، كان يتحرك بدافعٍ من جانبه الإنساني «حسن النية»، وليس علامةً على ألوهيته. إذا كان كيركجارد قد اكتشف فئة «الفرد الواحد»، فهو لم يستطِع قَطُّ أن يطوِّر فئة «سياسية» واقعية، أو سياسة مسيحية مستمدَّة من تعاليم الأنبياء اليهود، ومن «تفضيل» يسوع الواضح للفقراء.

يلمس القارئ أيضًا في كتاب «أعمال الحب» تزمتًا أخلاقيًّا متزايدًا حول الحياة الجنسية والزواج، وهو ما أخل بالتوازن بين مرحلتي الوجود الأخلاقي والجمالي، الذي أرساه كيركجارد منذ سنوات قليلة عبر دفاع القاضي فيلهلم عن الزواج، وعبر الحوار الجدلي لفارس الإيمان السعيد في زواجه. بالتأكيد، يوجد في الحب الشهواني والحب الزوجي ما هو أكثرُ من حب النفس، أو حب الذات الممتدة، مثلما يقترح كيركجارد، شيء أكثر من كونه «أنانية مزدوجة»، أو أنانية مضاعفة. من المغري تحليل كيركجارد نفسيًّا في هذه المرحلة، لكن التعقيدات الجنسية لشخصيته ليست ذات صلة هنا؛ بالطبع، يمكن أن يؤديَ العذاب النفسي للمرء إلى مساعدته في رؤيةِ حقيقةٍ ما مستترة عن الآخرين. من المغري أيضًا التلميح إلى أن هناك أنانية مفرِطة في كل هذا الانشغال بتنقية الذات من الأنانية. فمثلما يقترح ليفيناس، إن الرغبة في مبادَلة السعادة الدنيوية بسعادة أبدية تنطوي على أنانية طويلة المدى. لكن لا يمكن أيضًا مقاومة الإشارة إلى أن آراء كيركجارد بخصوص الحب الشهواني في كتاب «أعمال الحب» تتَّسم بقِصر النظر. فالحب الشهواني الحقيقي ليس أنانية أو واجبًا، أو مزيجًا من الاثنين، بل شيء مختلف لا يندرج أسفل التصنيفات الثنائية لهذا الكتاب. فهو يتَّسم باستسلام الذات أكثرَ من الحب التفضيلي، وهو أشبه بالهدية أكثر من الحب المأمورين به. يكتشف المرء أن السخرية المتنامية من الوجود الإنساني قد بدأت تطفو على السطح في السنوات الأخيرة من حياة كيركجارد.

رفض الأسقف مينستر مقابلةَ كيركجارد، الذي زاره بعد وقتٍ قصيرٍ من نشر هذا الكتاب. وقد فهِم كيركجارد هذا الرفض باعتباره تحفظًا على الكتاب. ربما كان الأسقف، وهو صديق للعائلة منذ وقتٍ طويلٍ، يأمُل في أن يرى أثرَ خُطَبه على تطور أفكار كيركجارد حول هذا الموضوع المسيحي المحوري. لكن مينستر فهِم شيئًا آخر؛ إذ رأى في الكتاب نقدًا للوضع الحالي للحياة المسيحية في الدنمارك، حيث يتولى هو مسئولية رعايتها. أتساءل ما إذا كان مينستر قد شعر أيضًا بموقفِ كيركجارد التشاؤمي من العالم والجسد، وهو ما يتعارض مع ديانةٍ مبنية على حادثة التجسُّد. في إحدى التدوينات في دفتر يومياته عام ١٨٥٢، قال كيركجارد إن المعاناة هي الشرارة التي تنطلق بسبب اختلاف المرء عن العالم.٤ ولا تنتهي المعاناة المسيحية الحقيقية، على النقيض من معاناة أيوب وإبراهيم، إلا بعد الموت، ولا نحصل على تعويض إلا في الأبدية. لذا، إن لم يكن المرء يعاني، فهذا يعني أنه قد عقَد مساومة مع العالم. إن تبنِّي مثل هذه النظرة السوداوية للحياة لهو أمرٌ يستدعي قلقَ الأسقف.
١  Works of Love, pp. 86–9.
٢  Two Ages, p. 96.
٣  Kierkegaard’s Writings, XVIII, Without Authority, trans. and ed. Howard and Edna Hong (Princeton: Princeton University Press, 1997), p. 165.
٤  Papers and Journals, trans. A. Hannay, pp. 545–8.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤