الفصل التاسع

الذات

الإنسان هو روح. لكن ما هي الروح؟ الروح هي الذات. لكن ما هي الذات؟ الذات هي علاقة تنسب نفسَها إلى نفسها، أو هي انتسابُ العلاقة إلى نفسها في العلاقة؛ الذات ليست العلاقة، بل هي انتساب العلاقة إلى نفسها. الإنسان هو تركيب من اللامحدود والمحدود، المؤقت والأبدي، الحرية والاضطرار، باختصارٍ، هو تركيب. التركيب هو علاقة بين شيئين. إذا نظرنا إلى الأمر بهذه الطريقة، فالإنسان ليس ذاتًا بعد.

في العلاقة بين شيئين، تكون العلاقة بينهما هي الشيء الثالث، ولكنها بمنزلة وحدة سلبية، ويكون الشيئان مرتبطَين بعضهما ببعض ومرتبطَين بالعلاقة؛ لذا، وفقًا للسِّمات النفسية، فإن العلاقة بين النفسي والجسدي هي علاقة فقط. لكن، إذا ما نسبت العلاقة نفسها إلى نفسها، تصبح العلاقة عنصرًا ثالثًا إيجابيًّا، وهي الذات.

ومن ثَم فإن الذات الإنسانية هي علاقةٌ مشتقة أو علاقةٌ منشَأة، هي علاقة تنسب نفسها إلى نفسها، وهي عندما تنسب نفسها إلى نفسها، فهي أيضًا تنسب نفسها إلى شيء آخر. لهذا يوجد نوعان من اليأس إذا ما أردنا التدقيق. إذا كانت ذات الإنسان قد أنشأت نفسها بنفسها، فهذا يقتضي أن يكون هناك نوعٌ واحدٌ من اليأس: وهو عدم رغبة المرء في أن يكون ذاته، أو رغبته في التخلُّص من ذاته، لكن لن يكون هناك، حينها، النوع الثاني من اليأس: وهو اليأس المصاحب للرغبة في أن تكون ذاتك. يعبِّر هذا النوع الثاني عن الاعتمادية الكاملة للعلاقة (للذات)، ويعبِّر عن عجز الذات عن الوصول إلى حالة من التوازن والاستقرار بنفسها، لكنها تستطيع أن تفعل هذا فقط، بينما تنسب نفسها إلى نفسها، عن طريق نسب نفسها إلى من أنشأ هذه العلاقة كلها. أجل، هذا النوع الثاني من اليأس يمكن تتبُّع جذوره وعلاجه في العلاقة. إذا كان الشخص اليائس واعيًا بيأسه، مثلما يعتقد، ولا يتحدَّث بكلماتٍ لا معنَى لها كأن هذا اليأس هو شيء يحدث له دون مسئولية من جانبه … والآن، إذا ما سعى هذا الشخص إلى التحرُّر من يأسه مستعينًا بكل قوَّته، معتمدًا على نفسه، ونفسه فحسب؛ فهو لا يزال يائسًا، وهو بكل جهوده المفترَضة، لا يفعل شيئًا سوى أنه يغوص بنفسه أكثرَ في يأسٍ أعمق. إن العلاقة المعيبة لليأس ليست ببساطة علاقةً معيبة، بل هي علاقة معيبة لعلاقة تنتسب إلى نفسها وهي مُنشَأة بواسطة شيء آخر؛ لذا فالعلاقة المعيبة في هذه العلاقة تتأمَّل نفسها أيضًا بشكلٍ لا نهائي في علاقتها بالقوة التي أنشأتها.

إن الصيغة التي تصف حالة الذات عندما يُقتَلع اليأس كليًّا من داخلها هي كالتالي: بنسب نفسها إلى نفسها، وبرغبتها في أن تكون نفسها، تستند الذات مباشرةً إلى القوة التي أنشأتها.

(«المرض طريق الموت»، صفحة ١٣-١٤)١
إن هذا المقتطَف، المأخوذ من بداية كتاب «المرض طريق الموت»، يُشتهر بغموض، ينافس أيَّ غموض يمكن أن نجده في نصوص هيجل. لكن كيركجارد يقول في تمهيد الكتاب إنه لأمرٌ مؤسف إذا ما تركتْ لغته النظرية المعقَّدة انطباعًا بأن الكتاب صارم وعلمي للغاية إلى درجةٍ تحدُّ من قدرته على تنوير القراء. بالنسبة إلى المسيحية الأصيلة، ينبغي أن يكون كل شيء ذا طبيعة تنويرية، وهو ما يجعل مفهوم التعليم المجرَّد مزحة. إن ما يتحدَّث عنه هذا الكتاب بسيط، ويمكن لأي شخص أن يفهمه — أن تكون ذاتك عبر الوقوف بمفردك أمام الله، وأن تتولى مسئولية حياتك، وذلك على النقيض من التكهنات الفلسفية الجوفاء حول معنى تاريخ العالم. تقال هذه الكلمات على لسانِ اسم مستعار جديد وهو «أنتي كليماكوس». ومقارنةً بالأسماء المستعارة السابقة، فإن أنتي كليماكوس راوٍ، واضح، ومباشِر، وغير شاعري، ويفتقر إلى الحس الساخر والمرح الذي كانت تتسم به الأسماء المستعارة في الفترة الأولى من كتابات كيركجارد. إن وظيفته الوحيدة كراوٍ هي نقلُّ حسِّ التواضع. يطرح أنتي كليماكوس قضيةَ المسيحية مستخدمًا مصطلحاتٍ صارمة وراقية، ما جعل كيركجارد لا يريد أن يترك انطباعًا بأنه هو نفسه قد وصل إلى هذا المستوى من الفهم المعقَّد. كان سيتحقَّق نفس هذا الغرض إذا كان كيركجارد قد نشر نفيًا موقَّعًا باسمه ويحمل هذا المعنى. من المهم ألا يختلط علينا الأمر بكلمة anti الموجودة في اسم Anti-Climacus. فهذا الاسم الاستعاري لا يعني أن المؤلِّف «ضد» شخصية يوهانس كليماكوس الاستعارية الموجودة في المرحلة الدينية. لكن كلمة anti هنا تعني «قبل» أو «سابق ﻟ» أو «له الأسبقية»؛ لذا فاسمه يحمل معنَى أنه أعلى من كليماكوس، الذي، بصفته ساخرًا، لم يزعم أنه وصل إلى المسيحية الحقيقية.

يحتوي الكتاب على أكثر صياغات كيركجارد تعقيدًا، تلك التي تتناول تصوُّره الوجودي و«الجدلي» عن الذات. يدور الكتاب حول استعارة صحة الروح، وما يقابلها من «مرض» يهدِّدها، ويُسمى هذا المرض في الكتاب باليأس. الإنسان هو روح، والروح هي ذات، حيث الذات لا هي بكائن مادي بحت، ولا هي بكائن غير مادي تمامًا، ليست حيوانًا وحشيًّا ولا ملاكًا. الذات هي «تركيبة» من عالَمين مختلفين — الزمن والأبدية، الجسد والروح، المحدود واللامحدود، الظاهر والباطن، الواقع والمثالي، الممكن والمستحيل. لكن هذا لا يعني، مثلما توحي الصياغة، أن الذات هي مزيجٌ مركَّب من كل هذا، بل هي «علاقة»، أو صراع جدلي بين نقيضين، وهو ما ينشئ عنصرًا ثالثًا مسئولًا عن الموازنة بين النقيضين، والتعامل مع الصراعات الجدلية بينهما.

الذات ليست تركيبة بسيطة أو علاقة، بل هي، بحسب المفردات المعقَّدة للفقرة، «العلاقة التي تنسب نفسها إلى نفسها». في أي علاقة، هناك ثلاثةُ أشياء — الشيئان المرتبطان بعضهما ببعض (لاستخدام مثال حسابي، لنقل ٥ و١٠) والعلاقة بينهما (النصف، الضِّعف). نجد علاقة «سلبية» بحتة بين الأشياء السلبية غير الشخصية، سواء كانت أشياء مادية، أو مثالية (منطق، رياضيات).

على الجانب الآخر، «الذات» هي علاقة شخصية وإيجابية. في الذات، يتولَّى المرء مسئولية العلاقة، ويُفعِّلها، ويؤديها؛ فالعنصر الثالث يحقِّق العلاقة بين الشيئين المرتبطين ببعضهما، ويراقبها. ولأن الذات يجب أن تُركِّب نفسها، بفعالية، من عوامل مختلفة، فإن مدى نجاحنا في تفعيل هذه التركيبة يتحقَّق بدرجاتٍ متفاوتة. عندما تتحقَّق هذه العلاقة بطريقة جيدة، يمكننا أن نقول إن الذات حقيقية مع نفسها، أو إن الذات هي نفسها، أو ببساطة هي ذات (في صحة جيدة). وعندما تتحقَّق هذه العلاقة بطريقة سيئة، تنهار الذات، وتعجز عن أن تكون نفسها، ويصبح الصراع الذي تتشكَّل منه غير متوازن. يحدث هذا عندما يطغى المحدود على اللامحدود، وهو ما يجعل التركيبة كلَّها تهوي صوبَ نوعٍ من الخلل الوظيفي، أو العلاقة السيئة. هذا الخلل الوظيفي هو «المرض»، الذي يسميه كيركجارد «اليأس»، وهو لا يعني بهذا اكتئابًا نفسيًّا، بل خللًا عميقًا في التوازن أو في الديناميات الداخلية للروح. اليأس هو نوعٌ من الانفصال عن ذاتك، والعجز عن أن تكون ذاتك.

يطرح كيركجارد بعد ذلك مزيدًا من التداعيات لهذه الفكرة. فالذات البشرية ليست علاقةً مكتفية بذاتها أو مستقلة، بل هي علاقة مشتقة أو معتمِدة على شيء آخر، علاقة «أنشأها شيء آخر»، وهو يقصد بهذا أنها من صنع الله. لذا، فإن رعاية الذات، أي الحفاظ على توازن صحي لهذه العلاقة الذاتية، يشمل الله. إذا كان البشَر مستقلين أو غير معتمِدين على الله، فسيكون اليأس ببساطة عبارة عن عدم رغبة المرء في أن يكون نفسه. على سبيل المثال، العجز عن «أن تعرف نفسك»، وهي وصية وثنية يونانية، هو نوعٌ من اليأس على مستوًى بشري بحت. لكن حدَّة اليأس تشتد عندما تعجز الذات عن تكوين علاقة جيدة بينها وبين الله. حينها، قد يتمنى المرء أن يكون نفسه، لكنه يفعل هذا «بيأس». تتصرف النفس الاعتمادية كأنها مستقلة وتشدِّد على استقلاليتها في مواجهة الله. لذا، إذا حاول المرء أن يخرج من يأسه بنفسه، فستكون النتيجة الوحيدة هي أنه سيحفِر لنفسه حفرةً أعمق من اليأس. إن الطريق الوحيد للخروج من هذا اليأس الأعمق هو أن ترغب في أن تكون ذاتك، بينما تتخلى عن شعور الاكتفاء الذاتي، لتستندَ إلى «القوة التي أنشأتها»، أي الله. لدينا مثال على هذه النقطة في كتاب «إما/أو». فالشخص الجمالي، لأنه لا يريد أن يكون نفسه على الإطلاق، يقع في أول شكلٍ من أشكال اليأس (وهو عدم الرغبة في أن تكون نفسك)، لكنَّ نص «الإنذار الأخير» الذي أرسله القس إلى القاضي يحذِّر من شكلٍ ثانٍ لليأس؛ وهو محاولة أن تكون ذاتًا مستقلة، من دون الله.

بعد ذلك يأتي مخزونٌ من التحليلات اللافتة إلى الطرق والأساليب المحتملة التي يمكن أن يقع بها المرء في مثل هذا اليأس، وهي تحليلات تتَّسم بعمقٍ وحساسية إلى درجةٍ جعلتها تحظى بتقدير نظريات التحليل النفسي اللاحقة، لتصبح نموذجًا لها. في تحليلٍ مهَّد الطريق لتأملات فرويد عن «الإنكار» وآليات الكبت اللاواعي، فضلًا عن مفهوم هايدجر عن الزيف، ومفهوم سارتر عن الإيمان السيئ، يركِّز أنتي كليماكوس انتباهَه على نقطة محورية بشأن اليأس، وهي، تحديدًا، مدى وعي المرء بيأسه. لم يشعر أحدٌ بدرجةٍ من اليأس في جانبٍ ما خفيٍّ من روحه. ما من أحدٍ لم يشعر «بقلقٍ» داخله (والذي يُطلَق عليه في الألمانية angst)، وإن كان خفيًّا، بشأن حرية أن يكون شيئًا مغايرًا لِما هو عليه. وما من دليل أفضلَ على الحرية من الرحلة التي نقوم بها عندما نواجه حريتنا في لحظةٍ مجرَّدة من القيود والتأثيرات الخارجية. (طوَّر كيركجارد هذا التحليل بشكلٍ مفصَّل في كتابٍ سابق يحمل اسم «مفهوم القلق»، والذي كان مصدرًا مهمًّا للغاية لكتاب هايدجر «الكينونة والزمان»، ولغيره من الفلاسفة الوجوديين اللاحقيين. وكان كتابه هو المصدر الذي شقَّت منه الكلمة الألمانية angst طريقَها إلى مصطلحات المثقفين.) القلق ليس يأسًا، بل هو «فرضية مسبقة» لليأس. وحدَه الكائن الحر في اختيار أن يكون ذاتًا هو القادر على الشعور باليأس، الذي هو علامةٌ مميزة للروح. يخمِّن أنتي كليماكوس أن الحيوانات لا تعرف اليأس، وهو أمرٌ غير مستغرَب؛ لأن الفرق بين الحيوانات والبشَر هو باتساع الفجوة الموجودة بين الزمن والأبدية، التي يشدِّد عليها كيركجارد. إن احتجاج المرء بأنه ليس يائسًا لا يثبت أيَّ شيء، إن لم يكن يثبت العكس؛ لأن إنكارَ يأسك هو أيضًا نوعٌ من اليأس، ولأن الفرد قد لا يعي أنه يائس بينما هو كذلك. يحرز المرء تقدُّمًا فقط عندما يعترف بيأسه، وهو ما يعني أن شعورَي الهدوء والطمأنينة قد يكونان علامةً خطرة — على يأسٍ مكبوت — تمامًا مثل المرض العضوي الذي يكون أشدَّ خطورة عندما لا نعاني أيَّ أعراض ظاهرة. في أقصى الطرف الآخر، نجد «المقاومة»، حيث يعي المرء أنه يائس لكنه يرفض أن يُنقَذ. هنا، يريد المرء أن يظل في بؤسه، مستسلمًا ليأسه، رافضًا المساعدةَ من أي شخص آخر أو من الله (٢٠٥).

إن مفاتن المرأة، على سبيل المثال، مصدرٌ للسعادة، لكن السعادة في الزمن ليست من سِمات الروح:

«في الأعماق، بين أكثر مكامن السعادة سريةً، هناك، يقطن القلق، الذي هو اليأس» (٢٥). تحديدًا، عندما نكون سعداء، نشعر في أعماقنا بأن هناك خطْبًا ما. ما هو؟ يجيب اليأس: «لا شيء». بالفعل، الأمر يتعلَّق بالطبيعة العابرة والزائلة للسعادة الدنيوية التي تفرِّغها من معناها — وهو اقتباسٌ آخر في كتاب «الكينونة والزمان» غير منسوب إلى كيركجارد. بالنسبة إلى الفلاسفة الوجوديين الفرنسيين، فإن الطبيعة العابرة للسعادة المؤقتة هي شرطٌ لجمالها؛ لكن بالنسبة إلى كيركجارد، فإن طبيعتها المؤقتة هي سببُ فسادها؛ إذ بدا جليًّا له أن السعادة الحقيقية يجب أن تكون دائمة وأبدية.٢ وعلى نفس المنوال، فإن التعاسة والمعاناة، بالنسبة إلى كيركجارد، هما هدية، «نعمة لا نهائية»، بنفس الطريقة التي تحذِّرنا بها الأعراض المؤلمة من وجودِ مرضٍ ما، بما يسمح لنا بمعالجته في الوقت المناسب. فالتعاسة توقظ وعينا كأرواح، تجعلنا واعين أن ذواتنا موجودة أمام الله، وتذكِّرنا بالشيء الوحيد المهم:

وعندما تنفد الساعة الرملية للزمن، ساعةُ المؤقِّت … عندما يصبح كل شيء حولنا ساكنًا، مثلما هي الحال في الأبدية، حينها — سواء كنت رجلًا أو امرأة، غنيًّا أو فقيرًا، مستقلًّا أو متواكِلًا … سواء كان اسمك سيُذكَر ما دام العالم قائمًا — ستسألك الأبدية، وستسأل كلَّ فرد من هؤلاء الملايين عن شيء واحد فقط: ما إذا كنت قد عشتَ حياتك في يأسٍ أم لا (٢٧).

تريد الأبدية أن تعرف: ما إذا كنا قد نظرنا إلى داخلنا، وتولَّينا مسئولية حياتنا أمام الله، أم إننا عشنا في يأسٍ، تاركين أنفسنا لنتشتَّت بملهيات الحياة، متجاهلين، أو حتى كابتين، شيئًا أعمق وأكثر إرباكًا؟

دعونا نأخذ مثالًا على هذا من تحليلٍ نفسي شديد الحساسية. من المفترض أن تكون «الروح الموجودة»، أو الذات، تركيبًا ماديًّا، أو وحدة مكوَّنة من المحدود واللامحدود، ومن المفترض ألا تنزلق إلى حالة «مجردة» أو حالة يسيطر عليها جانب واحد فقط. يمنح المحدود حدودًا وتعريفًا لحياتنا، بينما يواصل اللامحدود دفعنا إلى الأمام، وتوسيع أفقنا. إن إحدى الطرق التي يمكن أن يختل بها هذا التوازن هو المبالغة في الاعتماد على جانب «اللامحدود»، وهو ما يعني الاستسلام لكلِّ ما هو خيالي وغير محدود. عندما يحدث هذا، لا تستطيع واقعية المحدود السيطرةَ على اللامحدود، مما يدفع الأشخاص إلى العيش في عالمٍ خيالي بعيدٍ عن واقعِ حياتهم. وتصبح الذات مجردة. إن الأستاذ الجامعي، الذي يتأمل أهداف تاريخ العالم، بينما يَغفُل عن المتطلبات المفروضة عليه في العالم الواقعي — من طلابه وعائلته — ينسى العمل «الذي يمكن إنجازه في هذا اليوم، وهذه الساعة، وهذه اللحظة» (٣٢). بهذه الطريقة، يفقد المرء ذاته، حتى إنه لا يلاحظ فقْدَها، ليس كما يلاحظ إنه قد فقدَ «ذراعًا، أو ساقًا، أو خمسة دولارات، أو زوجة». أما الاحتمال الآخر لاختلال توازن الذات فهو «يأسُ المحدود»، ويحدث عندما يفتقر المرء إلى اللامحدود. ويعني هذا أن تعيش حياةً محصورة ضمن حدودٍ ضيقة، دون أن تمتلك رؤيةً أوسع، أو أحلامًا، أو أيَّ تصوُّر لِما قد يكون كامنًا وراء الأفق. في النوع الأول من اليأس ينجرف المرء في أحلامِ ما هو ممكن. أما في النوع الثاني، فيكون الفرد محبوسًا داخل عالم القَدَرية والضرورة؛ ويعاني فقدانَ الأمل، ولا يجرؤ على أن يحلُم بأن الأشياء يمكن أن تتخذ مسارًا مختلفًا.

ولكي نحافظ على التوازن الجدلي بين المقوِّمات المكوِّنة لتركيب الذات، يجب أن نفعل هذا أمام الله، عبر الوثوق بالله؛ لأن الاعتقاد بأننا قادرون على علاج هذا اليأس بمجهودنا الشخصي لهو، في حد ذاته، نوعٌ آخر من اليأس. إن «المقاومة»، التي تَعني الرغبةَ في فعل كل شيء بأنفسنا، دون الاعتراف بأي قوة تعلونا، هي يأسٌ بشري فعَّال! فهي تمرُّد ضد الوجود كله، مبنيٌّ على يقينٍ بأن المرء قد وجد دليلًا على انتفاء أي معنًى أو خيرٍ متأصلٍ في الوجود (٧٣)، وهي صياغة ملائمة لوصف وجهة نظر كامو الرئيسية. إن اليأس «المضاعَف»، أيْ رفعَ حدَّة اليأس إلى مستوًى أعلى كما في حالة تربيع الرقم، خطيئةٌ. فاليأس حينها يقف في «مواجهة الله»، وهذا هو تعريف الخطيئة (١٢١). ومن المفارقة أن هذا يعني ضمنيًّا أن الخطيئة البشرية، بمعناها الأعمق، شيء نادر. لدى اليونانيين مفهومُ الحظ السيئ، والشر الأخلاقي، لكن بما أنهم لا يعرفون فكرةَ المثول بشكلٍ شخصي أمام ما يسميه المسيحيون «الله»، فلم تكن لديهم أدنى فكرة عما يسميه المسيحيون «الخطيئة»؛ ومن ناحية أخرى، يرى كيركجارد أن غالبية المسيحيين مدلَّلون بلا روح، هم مسيحيون وثنيون، غير قادرين على ارتكاب الخطيئة الحقيقية. (١٠٠) أما عكس اليأس فهو الإيمان — الاستناد مباشرةً إلى القوة التي أنشأتنا. إن اليأس المصاحب «لحالة الخطيئة» هو خطيئة جديدة، خطيئة اليأس من الخطيئة، حيث تُغلِق الذات نفسَها و«تحمي نفسها» من «الخير». فهي تصمُّ آذانها كي لا تسمع نداء الأخبار السارة. إن الخطيئة هي عمليةُ تعميق ذاتي لليأس: لأن الخطيئة تؤدي إلى خطيئة اليأس من الخطيئة، أي خطيئة اليأس من غفران الخطيئة، والتي تصل في ذروتها إلى هجوم عدواني على المسيحية، التي تُعلِّمنا غفران الخطيئة. إن مثل هذا الهجوم (يفكِّر المرء هنا في نيتشه) يعطي، على الأقل، للمسيحية حقَّها عبر الاعتراف بحقيقتها الجوهرية، التي تفيد بأننا جميعًا نحظى باهتمام الله، وأنه قادر على غفران الخطيئة. إذا كان اليأس يمثِّل رفضًا لجوهر المسيحية، فإن الإيمان يؤكد الفارق النوعي اللامحدود بين البشر المخطئين والله الذي يغفر الخطيئة (١٢٣-١٢٤).

يمكن طرح هذا الكتاب كسؤالٍ على كيركجارد نفسه. يمكننا أن نوجِّه إلى كتابات كيركجارد نفسها السؤال الذي أثاره في بحثه الدقيق والحسَّاس بكتاب «المرض طريق الموت». هل حافظ كيركجارد نفسه على تركيب الذات، أو التوازن الصحي بين الزمن والأبدية، الذي يمثِّل الصراع الجدلي المحوري في كتابه؟ في البداية، كان يُنظر إلى الصراع بين الزمن والأبدية على أنه يمنح الحياةَ شغفها الوجودي، لكن هل ينتهي هذا الصراع بإفراغ الحياة من طاقتها وحيويتها؟ في كتاباته المبكرة، شدَّد كيركجارد على أن المسيحية تشحذ الوجودَ الإنساني لأن سعادتنا الأبدية تعتمد على هذا التوازن في كل لحظة قرار. لكن يبدو أنه يقول الآن إن أيَّ سعادة نشعر بها في هذه الحياة المؤقتة هي إشارةٌ إلى مرضٍ صامتٍ يُفضي إلى الموت. إذا كان ما نتعلَّمه من الكتاب أن المرض هو أن تكون سعيدًا والصحة هي أن تعانيَ، ألا يعني هذا أن السعادة الدنيوية برُمَّتها قد سُحقت، وأن الحياة ما هي إلا وادي دموع؟ أنستنتج من هذا الكتاب أن سعادتنا الدنيوية تتناسب عكسيًّا مع سعادتنا الأبدية، وأن الأولى هي عرضٌ لمرضٍ يفضي إلى الموت؟ إذا سُحق الزمن أمام الأبدية، التي تَبين أنها أقوى منه بكثير، وإذا كان هذا ما تعنيه المسيحية في نهاية المطاف، إذن فالمسيحية أيضًا هي نوع من اليأس.

١  Sickness unto Death, pp. 13-14.
٢  That is what ‘postmodernists’ criticize under the name of the ‘meta-physics of presence’: to assume that only what is enduringly present (ousia), what is permanent, is really real. That is why Heidegger said that Kierkegaard did not raise. the ‘question of Being’, did not put this assumption into question, and why I have said that this distinction between a merely fleeting time and everlasting eternity is his most fundamental background assumption.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤