عاشرًا: خاتمة
لما كانت الفلسفة ليست مُعطًى مسبقًا أو هبةً طبيعية للشعوب وعبقرية تتميَّز بها أمة عن غيرِها بل كانت جزءًا من حركة التاريخ وحياة الأمم، تموت بموتها وتحيا بحياتها، ارتبطَت بالوعي الفردي والاجتماعي والتاريخي في كل أمة. فالوعي الفردي وإن كان يعبِّر أيضًا عن حركة التاريخ إلا أن له استقلاله وحريته وقدرته على تجاوز المرحلة وإحداث تقدُّم أسرع عن طريق الزعامة والقيادة ودفع التقدم إلى خطوات أكبر وأسرع. والوعي الجماعي المنظَّم قادرٌ على إحداث تغيرات كيفية من خلال ثورة الجماهير وحركتها والعمل الجماعي الهادف الواعي بقوانين التغيُّر الاجتماعي. والوعي بحركة التاريخ والموقف الحضاري للأمة قادر على تحديد مهمة الفلسفة، وكيف تحيا من خلال هذا الوعي التاريخي بالموقف الحضاري. فبالتحليل الموضوعي لحركة الوعي في التاريخ تحيا الفلسفة.
- (١)
الموقف من التراث القديم؛ وذلك لأن التراث ما زال هو المصدر الأول لفكرنا الفلسفي نجترُّه أو نرفضه أو نعيد بناءه طبقًا لحاجات العصر. فكل تعامل مع التراث لأخذ موقف منه هو فلسفة كما كان الحال في عصر النهضة الأوروبي قبل أن يتحرَّر الوعي الأوروبي من أسر القديم ويتوجَّه نحو الجديد، ويُسقط الأغلفة النظرية القديمة، ويبني مذاهب نظرية غيرها هي التي نأخذها الآن على أنها نماذج للفلسفة.
- (٢)
الموقف من التراث الغربي؛ وذلك لأن الغرب منذ عدة أجيال ما زال يمثِّل بالنسبة لنا مصدرًا من مصادر المعرفة بالنقل والاستيعاب أو بالرفض والإنكار أو بالتمثُّل والنقد الحضاري من أجل تحجيمه ورده إلى حدوده الطبيعية حتى يمكن إفساح المجال للإبداع الحضاري للشعوب غير الأوروبية، فكل تعاملٍ مع الغرب هو فلسفة بهذا المعنى. كان الحال كذلك في عصر النهضة عندما بدأ التعامُل مع أرسطو عند الشُّرَّاح المسلمين، ونقد الرُّشدية اللاتينية. وكان الحال كذلك أيضًا بتعامُل الحضارة الإسلامية مع الفلسفات الغازية خاصة اليونانية.
- (٣) الموقف من الواقع الذي تعيشه الأمة، والتحليل المباشر له وإدراك مكوِّناته والتعرُّف على علل ظواهره. فهو الغاية والهدف. وهو الميدان الذي تتصارع فيه قوى القديم والجديد. فكل تعامل مع الواقع المباشر هو فلسفة. وكل رصد لحركته ومعرفة لإمكانياته جزء من عملية التفلسف. فالواقع هو التاريخ والفلسفة فعل في التاريخ، هكذا كان الحال أيضًا في عصر النهضة عندما تم اكتشاف الطبيعة وقوانين البدن واعتبارها المحكَّ لكل الموروث الحضاري القديم سواء من العصر الوسيط المسيحي أو من المنقول الإسلامي من خلال أنصار ابن رشد. وهكذا كان الحال عندما نشأت الفلسفة الإسلامية أولًا بالتعرف على حاجات الأمة ومتطلبات العصر فنشأت العلوم الفلسفية لتلبية هذه الحاجات وتحقيق هذه المتطلبات. ويكون الخطأ خطأنا بتكرار النماذج القديمة بالرغم من تغيُّر الظروف والحاجات.١
تموت الفلسفة عندما يغيب الوعي بالتاريخ، وتنتهي عندما تخرج عن الموقف الحضاري، وتحيا الفلسفة عندما تنبثق عن الوعي بالتاريخ وتعبِّر عن الموقف الحضاري؛ ومن ثم كان فجر النهضة الحديثة بداية للتفلسف حتى وإن لم يبلغ القدْر الكافي من الطرح النظري ومن الإحكام الفلسفي فتلك مهمة عدة أجيال، ويكون الفيلسوف هو الذي يتصدى لهذه الشُّعَب الثلاث في وعينا القومي. الفيلسوف هو صاحب هذا الموقف الحضاري الذي يعبِّر عن الوعي بالتاريخ. الأفغاني والطهطاوي وشميل فلاسفة بهذا المعنى كما كان أراسم ومونتي وتوماس مور فلاسفة قبل ظهور الفكر المنهجي وبدايات الفلسفة عند ديكارت وبيكون قبل أن تُبنى المذاهب الفلسفية التي نعنيها بقولنا. هل ماتت الفلسفة؟ سؤال قد يكشف عن الإحساس بالدونية أو عن احتقار للذات أمام الغرب أو ينمُّ عن يأسٍ دفينٍ وحسرةٍ بالغة الألم على الواقع، ولكنه سؤال إذا وضع في الزمان وفي التاريخ قد يبعث على الأمل ويدفع إلى الاعتزاز بالنفس والثقة بالروح.