أولًا: نشأة الجامعات في أوروبا
منذ نشأة الجامعات في أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي،
تطرَّق الفلاسفة إلى موضوع الجامعة، خاصة فيما يتعلق بحرية البحث
العلمي، أو بدورها في المجتمع، وتحقيق الأهداف القومية للبلاد،
وليس هنالك فيلسوف إلا تطرَّق للبحث العلمي منهجًا وموضوعًا، أو
معهدًا ومؤسسة. لقد أنشأ أفلاطون «الأكاديمية»، وأسَّس أرسطو
«اللقيوم»، بينما آثر سقراط التعليم في الأسواق. كما رفض أوغسطين
مناهج التعليم في عصره، وآثَر استمداد علمه من تجاربه الذاتية. وقد
ظهر فكر «المعلم الملائكي» توما الأكويني من تدريسه في نابلي، مثل
فكر أستاذه ألبير الكبير. ومنذ بداية العصور الحديثة وموضوع
الجامعات يُثار على أوسع نطاق حتى ثورات الشباب عام ١٩٦٨م، وتحديد
ماركيوز لدور الطلبة في قيادة حركة التغيُّر الاجتماعي، بعدما
حدَّده ماركس في العمَّال، وماو تسي تونج في الفلاحين.
وإذا كان ديكارت هو الذي بدأ العصور الحديثة بنقد عقم التعليم في
المدارس القائمة، فإن كانط في القرن الثامن عشر هو الذي حوَّل ذلك
إلى موضوع مستقل، وكتب فيه مؤلَّفه الشهير «الصراع بين الكليات»،
بين كلية الفلسفة من ناحيةٍ وكليات اللاهوت والقانون والطب من
ناحيةٍ أخرى، واضعًا بذلك مشكلة الحريات الأكاديمية ودور الجامعات
في البحث عن الحقيقة، وأزمة هذا البحث بين سلطة الحكومة وتربية
الجماهير. ثم جاء أساتذة الجامعات الألمان، الكانطيون في القرن
التاسع عشر، وساهموا في خلق ثقافة وطنية: «الأيديولوجية الألمانية»
وحددوا دورهم في تربية الوعي القومي، خاصة فشته، ومقاومة المحتل،
بل وتحقيق الأهداف القومية، في الاستقلال والوحدة والاشتراكية
خاصة، فكانت الجامعات الألمانية قلب الأمة، وعقلها، ومنطلق قواها.
ثم جاء دور الجامعات ومراكز البحث العلمي في القرن العشرين، في
إعداد البحوث، وتجهيز المعلومات لمراكز اتخاذ القرارات في الدولة،
أو للقيام بالصناعات الحربية أو المدنية، وتمويل الشركات الكبرى،
أو مراكز الاستخبارات، لمعظم مشروعات البحوث، بطريقةٍ مباشرةٍ أو
غير مباشرة، كما هو الحال في أميركا حاليًّا. ثم ثار الطلاب
والمثقفون ورجال البحث العلمي على هذا الدور، وآثروا اتخاذ موقفٍ
نقدي من المجتمع الصناعي المتقدم، ووضع الحقيقة والتعبير عنها فيه،
مما جعل دور الجامعات في أوروبا أقرب إلى دور الجامعات الجديد الذي
كان صدى لتجارب البلاد النامية التي حاربت الاستعمار دفاعًا عن
استقلالها الوطني، وهذا الدور الجديد هو قيادة العمل الوطني،
وقيادة الثورة الوطنية، كما كان الحال في الجامعات المصرية منذ
نشأتها، وكما كان الحال إبان قيادة الثورة الإسلامية الكبرى في
إيران، وانطلاقها من جامعة طهران.
وقد ارتبطت نشأة الجامعات في أوروبا بالفلسفة الإسلامية وبمناهج
التعليم في الشرق الإسلامي، فخرجت العلوم والمعارف من الكنائس
والأديرة إلى المدارس والجامعات، وحمل العلمَ، لا رجالُ الدين
(آباء الكنيسة، والقساوسة، والرهبان) فقط، بل أيضًا رجالُ الثقافة
وأساتذةُ الجامعات. فانتقل العلم من الدين إلى الدنيا، ومن علوم
الغايات إلى علوم الوسائل. وبعد الحروب الصليبية، وإثر القوافل
التجارية، وعبر إسبانيا وجنوب إيطاليا والقسطنطينية، تعرَّفت
أوروبا على نماذج جديدة للعلم، موضوعًا ومنهجًا وطرقًا للتدريس؛
فقد اعتمدت الفلسفة الإسلامية على منهج الحوار، والجدل، والمناقشة،
والإقناع، والبرهان. كما بحثت في كل شيء ولم تعد هناك أسرار إلهية
أو محرمات دينية يؤمن بها العقل ويسلم بها الإنسان دون برهان. كان
العقل والإيمان شيئًا واحدًا، والفلسفة والدين حكمة واحدة؛ فلا
سلطان إلا للعقل وحده، وهو مقياس الإيمان الصحيح. ولقد انتشر هذا
النموذج الإسلامي الجديد في الغرب لدرجة أن الفيلسوف المسلم أصبح
النموذج الجديد للفيلسوف، في مقابل اللاهوتي المسيحي واللاهوتي
اليهودي، كما عرض ذلك أبيلار في كتابه المشهور «حوار بين يهودي
وفيلسوف ومسيحي». وتحول النموذج الإسلامي إلى الحقيقة ذاتها في
الوعي الأوروبي، وأصبح مرادفًا لها على نحو لا شعوري. ومن ثَمَّ تم
اتهام الفلاسفة العقليين في أواخر العصر الوسيط وبدايات العصور
الحديثة بالإلحاد والخروج عن الدين، وأنهم تلاميذ المسلمين. وبدأت
حركة رد فعل لتحويل المسلمين عن دينهم، باستعمال قواعد الجدل
والمنطق الجديد، كما كان الحال عند ريمون الليلي. ومع ذلك، بدأ
الصراع في الغرب بين العقل والعلم من ناحية، وبين اللاهوت والنظُم
السياسية من ناحية أخرى، أي بين النموذج الإسلامي والسلطتين
الدينية والسياسية في الغرب. وقد انتصر النموذج الإسلامي في
النهاية، بالرغم من محاكم التفتيش واضطهاد العلماء، وإحراق
جيوردانو برونو، وسجن جاليليو، حتى انتصر العلم في عصر النهضة،
والعقل في القرن السابع عشر، والثورة الاشتراكية الإنسانية في
القرن الثامن عشر، معلنة المبادئ الثلاثة: الحرية، والإخاء،
والمساواة، وأصبحت الحضارة الأوروبية كلها ترتكز على العلم والعقل
في القرن التاسع عشر، قبل أن تستغل ذلك كله من أجل الاستعمار،
والسيطرة، ونهب ثروات الشعوب غير الأوروبية. وتبدأ أزمة القرن
العشرين في الغرب: أزمة القيم، وأزمة الموارد، وأزمة الطاقة، ومن
يدري؟ فربما عاد النموذج الإسلامي من جديد فارضًا نفسه على الغرب،
كما فعل أول الأمر في بدايات العصور الحديثة، فيجد الغرب فيه
خلاصَه من أزمته، وهو في نهايات دورته الحضارية الأولى.
لم تكن الجامعة تعني في العصر الوسيط في أوروبا كليات عديدة في
مكان واحد، بل كانت مجموعة من الكليات في أماكن متفرقة، وهذه
الحالة ما زالت سائدةً حتى الآن. وكانت تُشير إلى الأبنية والطلاب
والأساتذة والحياة الجامعية، بما فيها من تقاليد وأعراف. وهذا ما
يدل عليه لفظ Universitas أي ما
يشمل ويضم ويجمع، مثل «الجامع» في تراثنا الإسلامي، حين يشير إلى
ما يجمع الناس في مكانٍ واحد، لهدفٍ واحد؛ لذلك كانت جامعاتُنا
القديمة في جوامعنا، ولم تنفصل الجامعات عن الجوامع إلا بعد أن
تخلينا عن نموذجنا الإسلامي وتقليدنا النموذج الغربي الحديث الذي
ورث نموذجنا الإسلامي القديم بعد «علمنته»، نظرًا لما أصاب الوعي
الأوروبي الحديث من عقدة نقص تجاه كل ما هو «ديني» إثر طبيعة
المعطَى الديني الذي كان لديه، وتعامله معه، والظروف التي أحاطت
بتطور هذا المُعطَى الديني، وتحويله إلى كتاب، أو سلطة، أو عقائد،
أو تصوُّرات، كانت السبب في ثورة الوعي الأوروبي عليها ورفضها إلى
الأبد، دون ما رجعة إلى الوراء تحت أي ظرف، ولأي سبب. كان هناك
الحرم الجامعي العام أو الرسمي الذي يضم الكنيسة والمكتبة ومحور
الحياة الجامعية، وكان مأهولًا بالطلاب والأساتذة، ثم الحرم
الجامعي الخاص الذي تشغله بعض الكليات المتفرقة، وصلتهما كصلة
القلب بالأطراف، وهو التصور الشائع في العصر الوسيط.
كانت جامعة بولونيا هي أول جامعة بالمعنى الحديث. وكانت أقرب إلى
مركز للدراسات القانونية؛ لأن كلية اللاهوت، ككلية نظامية، لم تنشأ
فيها إلا في عهد البابا إنوسنت
السادس lnnocent VI عام ١٣٥٢م، ولكن جامعة باريس بعد إنشائها،
وضمها للعلوم الفلسفية في القرن الثالث عشر، تفوَّقت على جامعة
بولونيا السابقة عليها، كما تفوقت على جامعة أكسفورد اللاحقة لها.
وأصبحت جامعة باريس مركز الحياة الدينية والفلسفية في الغرب. وقد
ساعد على ذلك ازدهار البيئة الثقافية في المدارس العليا في القرن
الثاني عشر، إثر تعاليم الفكتوريين (ريتشارد وهيوج سان فكتور)،
وكذلك دروس أساتذة عظام (مثلًا أبيلار) الذين بلغت شهرتهم حد
استقطاب عديد من الطلاب من إيطاليا وألمانيا وانجلترا. وقد تجمَّعت
هذه المدارس كلها في «جزيرة
المدينة» lle de la Cité وعلى سفوح تل «سان جانفيف». ثم شعر
الطلاب والأساتذة بضرورة الوحدة فيما بينهم درءًا للمخاطر التي
تهددهم من بقايا السلطتينِ الدينية والسياسية، ودفاعًا عن مصالحهم
المشتركة في ضرورة البحث عن الحقيقة، وتأسيس العلوم الجديدة. وقد
سعَت هاتان السلطتان إثر ظهور هذا الخطر الجديد إلى خطب وده، من
أجل الالتفاف حوله، دون الدخول في مواجهة علنية معه، واستطاعتا
التوفيق بين مصلحتيهما ومصلحة الجامعات الجديدة الناشئة. وكان يمثل
هاتين السلطتين ملوك فرنسا والبابوات. وقد سعد ملوك فرنسا بهذا
الطوفان الجارف من الطلاب من جميع أنحاء أوروبا إلى مقاطعاتهم
لتعلُّم العلوم والفنون والآداب بمختلف أنواعها. لقد ازدهرت
عواصمهم، كما زادت قوتهم وسطوتهم خارج البلاد، من خلال الطلاب
الأجانب الذين تعلَّموا في بلادهم، ثم غادروها إلى مواطنهم
الأصلية، ينشرون الثقافات التي تعلموها ويدينون ببعض الولاء إلى
أماكن دراستهم ويحنُّون إليها، الأمر الذي ما زال سائدًا حتى الآن،
حتى خُلقت طبقةٌ من المثقفين المستغربين حاملي الثقافات الأجنبية
التي تعلموها في وقتٍ كان الشعور الوطني فيه متواريًا وراء الشعور
الديني. وأعظم دليل على ذلك شهادة يوحنا السالزبوري وغيره من
فلاسفة العصر الوسيط على هذا الإعجاب الشديد الذي تحظى به فرنسا،
عادات وتقاليد وأخلاقًا وعمرانًا، لدى الطلاب الأجانب، وما نعموا
به من لذة الحياة، وما شاهدوه من النعم المادية والروحية. كان من
الطبيعي إذن أن يقوم ملوك فرنسا بحماية الطلاب الفرنسيين والأجانب
ضد أي مخاطر تهددهم من الداخل أو الخارج، ما دام الرصيد في نهاية
الأمر راجعًا إليهم. ولكي يزدهر الحرم الجامعي الباريسي، كان لا بد
من تأمين الطلاب، وتوفير أسباب الراحة والهدوء لديهم، وحمايتهم من
الاستغلال الفكري والمعنوي، وصياغة اللوائح التنظيمية لهذا
الغرض.
ولكن يبدو أن هذه النظم التي فرضها ملوك فرنسا والظروف المساعدة
على ذلك لم تكن إلا عاملًا ثانويًّا لنشأة الجامعات وازدهارها،
ممثلة في جامعة باريس؛ لأن المؤسِّس الحقيقي لها كان إنوسنت
الثالث، ثم جريجوار التاسع. ومع أن الجامعة نشأت دون تدخُّل
البابا، إلا أنه لا يمكن فهم دورها القيادي الخاص بين جامعات العصر
الوسيط دون أن نأخذ في الاعتبار التدخل الفعَّال والمباشر للبابا
والمقاصد الدينية التي حددها لها. ومع أن الجامعة هي المكان الذي
يجتمع فيه الطلاب والأساتذة لدراسة بعض العلوم حبًّا في العلم، إلا
أن هذا المثَل الأعلى المجرد لم يكن يخلو من بعض المنافع العملية
التي لا تعارض حب الاستطلاع وطلب العلم لذاته؛ لذلك ضمَّت
الجامعاتُ المعارفَ النظرية الشاملة لتوسيع المدارك الإنسانية
والتخصصات العلمية الدقيقة لتحقيق بعض النفع في الحياة
اليومية.
ولكن جامعة باريس في القرن الثالث عشر كان يتنازعها هذان
التياران المتعارضان؛ الأول يُريد أن يجعلها مركزًا علميًّا
محايدًا منزَّهًا عن الأغراض؛ والثاني يريد استخدام العلوم
والمعارف من أجل إثبات أهداف ومقاصد دينية، ويجعل الجامعة سلطةً
عقلية ودينية في آنٍ واحد. ويمكن ملاحظة هذين التيارين من قراءة
لائحة جامعة باريس، يتحدان مرة، ويتصارعان مرة أخرى. فمثلًا، لم
تكن دراسة الطب رائجةً في جامعة باريس في القرن الثالث عشر، على
عكس بعض الجامعات الفرنسية في جنوب فرنسا فيما بعد، تحت تأثير الطب
الإسلامي وامتداده من الأندلس، ولكن كانت دراسة القانون على العكس
رائجة تحظى باهتمام عديد من الطلاب. وكانت هذه الجامعات تدرِّس
القانون الروماني كأساس للمجتمع المدني المستقل الذي لا يعتمد إلا
على ذاته. ثم أتَت الكنيسة، ومنعَت هذه الدراسة، وأصرَّت على تدريس
القانون الكنسي.
أما فيما يتعلق بتدريس الفلسفة، فمنذ أن انتشرت الفنون الثلاثة
المشهورة في العصر الوسيط: البلاغة والنحو والمنطق، عاد الجدل إلى
مكانته الأولى، وشغف به معظم الأساتذة، رافضين الدخول في موضوعات
اللاهوت. ولقد ظل أبيلار نفسه لمدةٍ طويلة جدليًّا. ومنذ اكتشاف
مؤلَّفات أرسطو حصل أساتذة الفنون الحرة (البلاغة، والنحو،
والمنطق، والحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك) على سلطةٍ أكبر
مما كان لديهم في القرن الثاني عشر؛ فقد طبق أساتذة الجدل مناهجهم
من منطق وفيزيقا وميتافيزيقا أرسطو، دون أي مادة علمية أخرى؛ لذلك
ظل الجدل فارغًا عقيمًا لا يُستعمل في موضوعات اللاهوت التي ترفض
بطبيعتها أن تخضع لقوانين الجدل. ثم طالب الأساتذة فيما بعد بتطبيق
مناهج الجدل في علوم وَضْعية أخرى، لها مضمون واقعي، ولكن ظل
التيار الغالب على الأساتذة في كليات الآداب في باريس أثناء القرن
الثالث عشر كله هو تدريس المنطق والفيزيقا وميتافيزيقا أرسطو دون
الاهتمام بأي علوم أخرى أو حتى باللاهوت. وكانت «الرُّشْدية»
الباريسية تمثِّل هذا التيار.
أما فيما يتعلق بتدريس اللاهوت، فقد زاد الاهتمام بكلية اللاهوت،
وزادت أهميتها، حتى طغَت على كلية الآداب، وفاقتها في الأهمية.
وفيها أيضًا ظهرت الاتجاهات الجديدة في مواجهة التراث التقليدي
السائد الذي بدأ يتزعزع. فمنذ القديس أوغسطين ومع أساتذة سان
فيكتور، كان اللاهوت أوغسطينيًّا في جوهره، دون رفض جدل أرسطو؛ إذ
لم يقدم أرسطو إلى هذا اللاهوت إلا طرق العرض والشرح. ولم يكن لدى
طلبة جامعة باريس وأساتذتها وخرِّيجيها أيُّ رغبةٍ في تغيير هذا
التراث الشائع، لدرجة أنه حتى الانتصار النهائي للتوماوية
الأرسطية، كان أشهر الأساتذة، مثل: الإسكندر الهالي، والقديس
بونافنتير، وأساقفة باريس (مثل: وليم الأوفرني، وأتين تجييه)،
أوغسطينيين. وكانت عبقرية ألبير الكبير وتوما الأكويني وسبب
انتصارهما النهائي التوفيق بين هذين التيارين المتعارضين في جامعة
باريس. لقد أعطيا الشرعية لكل المضمون الوضعي الذي أثرى الفنون
الحرة السبعة، وفي الوقت نفسه أعادا تنظيم اللاهوت القديم على أسسٍ
أكثر رسوخًا مما كان عليه.
ومنذ أن بدأت جامعة باريس في تدريس اللاهوت لم تعد صاحبة الكلمة
الأخيرة فيه، وخضعت لتشريع آخر أعلى من العقل الفردي والتراث
المدرسي. ونظرًا لأهميتها وازدياد عدد أساتذتها وطلابها من كل
أرجاء العالم المسيحي أصبحت مشرِّعةً للخطأ والصواب في مجال
العقيدة لكل المسيحيين كما كان حال الأزهر في مصر. وهذا ما أدركه
البابوات، وحاولوا الاستفادة منه في سياساتهم الجامعية؛ فلم تكن
جامعة باريس في نظر إنوسنت الثالث أو جريجوار التاسع إلا أكثر
الوسائل التي تمتلكها الكنيسة فاعليةً لنشر الحقيقة الدينية في كل
أرجاء العالم المسيحي أو أكثر الوسائل خطورةً لدسِّ السم القاتل في
قلوب المسيحيين. كان إنوستت أولَ مَنْ أراد أن يجعل من هذه الجامعة
راعيةً للحقيقة المسيحية كما تتصورها الكنيسة، وأن يحول مركز البحث
هذا إلى هيئة لها هيكلها، ووظيفتها، ومكانتها، لتحقيق هذا الغرض،
فالجامعة قوة روحية وخلقية، وليست فرنسية، أو باريسية، بل مسيحية
كنسية، وجزءًا من الكنيسة، كما كان كهنوت روما جزءًا من
الإمبراطورية الرومانية. والحقيقة أن التمسُّك بالجامعة كان
تعويضًا عن انهيار البابوية والإمبراطورية معا. وقد وضع إنوسنت
الثالث بعض التشريعات لحماية الجامعة من الأخطار التي تتصورها
الكنيسة؛ فمنع نائبه روبير
دي كورسون Ropbert de Courçon عام ١٢١٥م من تدريس الفيزيقا
والميتافيزيقا لأرسطو. كما أيَّد أونوريوس الثالث Honorius III استقرار الدومنيكان
والفرنسيسكان في باريس، وأوصى بإدخالهما إلى الجامعة عام ١٢٢٠م.
وأدخل جريجوار التاسع الدراسات العلمية واللاهوتية في النظام
الفرنسيسكاني، وأسَّس نظام «المساكين» Mendiants من أجل توظيف دراساتهم لخدمة
اللاهوت، وهو العلم الذي يحمل الحقيقة المسيحية للعالم كله. لقد
كان اللاهوت يسود كل العلوم، وله السلطان عليها، من أجل توجيهها
التوجيه الصحيح، بعيدًا عن الأخطاء التي يقع فيها بعض مُدَّعي
الفلسفة الذين يسنُّون البدع، ويتجاوزون الحدود التي وضعها آباء
الكنيسة، ويدرِّسون الفلسفة الوثنية، ويعتبرونها وسيلةً لتفسير
الكتاب المقدس، وهو الكتاب الذي طواه الآباء، وأصبح من الكفر إعادة
فتحه من جديد. فمن الطبيعي أن تسيطر الروح على الجسد، كما يسيطر
اللاهوت على الفلسفة. ويذكرنا هذا بموقف بعض الفقهاء المسلمين من
الفلسفة، مثل ابن الصلاح في فتواه المشهورة.
ولكن جامعة أكسفورد كانت أحسن حالًا من جامعة باريس؛ فقد تم
تأسيسها بعد أن مُنع الطلبة الإنكليز، لأسبابٍ سياسية، من الذهاب
إلى باريس. كان أساتذتها أيضًا أوغسطينيين، ولهم ميلٌ خاص إلى
الأفلاطونية والرياضة والعلوم الوضعية في الفلسفة. ونظرًا
لانعزالها وعدم اهتمام البابوات بها لم تغزها الأرسطية التوماوية
والاتجاه التقليدي في الفلسفة بسرعة، كما كان الحال في جامعة
باريس. كان لأكسفورد طابعها الخاص وأصالتها بعيدًا عن جدل أرسطو
ومنطقه. وكان اهتمامها يرجع إلى أثر الفلسفة الإسلامية التي جعلت
العلم جزءًا منها، وليس مضادًّا لها. وكان التعامل مع اللاهوت يتم
بطريقة أكثر حرية ومرونة دون أن يكون لها نفع مادي عاجل لصالح فريق
دون فريق أو مؤسسة على مؤسسة أخرى. اهتمت أكسفورد بالعنصر
التجريبي، وليس بالجانب الجدلي المنطقي الميتافيزيقي كما كان الحال
في جامعة باريس. كانت أكسفورد تتبع العلوم الطبيعية عند الحسن بن
الهيثم أكثر من تبعيتها لأرسطو. وكان اهتمامها مركزًا على الرباعي:
«الحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك»، أكثر من اهتمامها
بالثلاثي: «النحو، والبلاغة، والمنطق» الذي كان سائدًا في جامعة
باريس؛ لذلك ظهرت التجربة عند وليم الأوكامي في القرن الرابع عشر
لتهز التوماويَّةَ الأرسطية وليتحول التيار التجريبي إلى أحد
العناصر المميزة للفلسفة الإنكليزية حتى الآن. وكان هناك منهجان
سائدان للتدريس في كل جامعات العصر الوسيط: الدرس، والمناقشة؛
فالدرس محاضرة وشرح نص من أعمال أرسطو في كلية الفنون الحرة
(الآداب)، أو نص من التوراة، أو من «حِكَم» بطرس اللومباردي في
كلية اللاهوت. ومن الدرس والشرح خرجت معظم الأعمال الشارحة في
العصر الوسيط محتوية على أصالة متخفية في ثنايا النص المشروح. أما
المناقشة، فكانت نوعًا من الجدل تحت إشراف أساتذة عديدين، يبدأ
بإثارة المسألة، ثم إيراد الحلول المختلفة، بالاعتماد على الحجج
والحجج المضادة. وبعد عدة أيام يقوم الأستاذ بجمع الحجج المؤيدة
والمعارضة، ويعطي الحل. وكانت المناقشة في آخر كل أسبوع أو
أسبوعين، ويختار الأستاذ الموضوعات، ومن هنا جاء هذا النوع من
التأليف بعنوان: «المسائل
المُتنازَع عليها» Questions Disputae في العصر الوسيط. وكانت بعض
المناقشات المهمة تُعقد مرة واحدة أو مرتين في السنة، في عيد الفصح
وعيد الميلاد. ومنها خرج أيضًا نوعٌ آخر من التأليف في العصر
الوسيط كان يُسمى «الماشائيات» Questiones QuodIibetales، مثل بعض مؤلَّفات توما الأكويني
ووليم الأوفرني. كما كانت كل أعمال توما الأكويني باستثناء «الرد
على الأمم» حصيلة هذه الدروس. وكذلك كانت أعمال القديس بونافنتير،
ودنز سكوت، ووليم الأوكامي، حصيلة شروحهم كتاب «الحكم» لبطرس
اللومباردي.
هذه هي الخلفية التاريخية التي منها سيثير كانط مسألة حرية البحث
العلمي، محاولًا حل أزمته في صراعه بين السلطات السياسية والسلطات
الدينية، ومحاولًا إيجاد مخرج للفحص الفلسفي الحر، من أجل تربية
الشعب، ودون الخروج على نظام الدولة.
١