أولًا: مقدمة: جوهر المسيحية
-
(١)
فيورباخ والهيجليون الشبان: بالرغم من أن موضوع الاغتراب قد تناوله الكتَّاب والشعراء الرومانسيون مثل روسو (١٧١٣–١٧٧٨م) وجوته (١٧٤٩–١٨٣٢م) وشيلر (١٧٥٩–١٨٠٥م) إلا أنه لم يصبح مفهومًا فلسفيًّا إلا عند فشته (١٧٦٢–١٨١٤م). فاغتراب الأنا لديه هو خلقها لعالم مجرد لا حياة فيه ولا صراع، ثم عند هيجل خاصة في أعمال الشباب اللاهوتية، حيث كان اغترابًا دينيًّا طبقًا للتصوُّرات المسيحية؛ الخطيئة والسقوط والطرد والحرمان.
ولكنه أصبح مفهومًا رئيسيًّا لدى الهيجليين الشبان؛ شتراوس (١٨٠٨–١٨٧٤م) وباور (١٧٩٢–١٨٨٢م) وفيورباخ (١٨٠٤–١٨٧٢م)، وشترنر (١٨٠٦–١٨٥٦م) بمعنى اغتراب الشعور أو العقل أولًا، ثم عند ماركس وأنجلز بمعنى الاغتراب الاجتماعي، اغتراب العامل عن عمله، وغربة الإنسان عما ينتج في المجتمع الرأسمالي. وهو المعنى الذي كان سائدًا في كتابات الليبراليين الألمان وفلاسفة التنوير نتيجة لضياع الشخصية الإنسانية في علاقات الملكية الاجتماعية. فالاغتراب، بصرف النظر عن معانيه القانونية والطبية والنفسية، يتأرجح بين المعنيَيْن الديني والاجتماعي؛ لذلك جعل الهيجليون الشبان نقد الدين مقدمة لنقد المجتمع. والنقد هنا لا يعني الهدم أو التجريح بل يعني بيان الإمكانيات والوظائف التي يقوم بها الذهن البشري في إدراكه للعالم وتصوره له (فالهيجليون كلهم في نهاية الأمر تلاميذ كانط وشارحو فلسفته النقدية).
ويبدو أن البناء الفلسفي الثلاثي الأبدي قد تحكَّم أيضًا في الهيجليين الشبان. فإذا كانت المذاهب الفلسفية ثلاثة؛ المثالية والواقعية والوجودية أو الفكر والواقع والوجود الإنساني، فالموضوعات الفلسفية ثلاثة؛ الله والعالم والإنسان، فقد ظهر هذا البناء في تاريخ الفكر البشري في كل حضارة. فعند اليونان ظهر أفلاطون وأرسطو وسقراط. وفي الفلسفة المسيحية ظهر القديس بونافنتير والقديس توما الأكويني والقديس أوغسطين (بصرف النظر عن الترتيب الزماني). وفي الفلسفة الأوروبية ظهرت المثالية عند العقليين والواقعية عند التجريبيين والوجودية عند الوجوديين. كما ظهر عند الهيجليين الشبان باور، وفيورباخ، وشترنر. فقد ركز باور على الجانب العقلي المثالي والوعي الذاتي كما اتجه فيورباج نحو الطبيعة والواقع العيني ثم لجأ شترنر إلى الوجود الإنساني، الواحد وصفاته. يمثِّل الهيجليون الشبان أو اليسار الهيجلي وحدة فكرية، ونسقًا واحدًا، منذ بدايتهم عند شتراوس أو مركزهم عند باور وفيورباخ وشترنر أو نهايتهم عند ماركس وأنجلز.
ويمثِّل الهيجليون الشبان بالنسبة لنا أهمية خاصة؛ ففي فكرنا العربي المعاصر قفزنا من هيجل إلى ماركس دون المرور بهذه المرحلة الانتقالية التي يمثِّلها الهيجليون اليساريون، وهي مرحلة التحوُّل من الفكر إلى الواقع، دون نقد الدين كما فعل فيورباخ أو نقد الفكر كما فعل باور أو نقد الأنا كما فعل شترنر، وكأن النقد الاجتماعي عند ماركس وأنجلز ما هو إلا حصيلة مجهود طويل في نقد الأسس النظرية للبناء الاجتماعي في الدين والفكر والشعور. ما زلنا في فكرنا العربي المعاصر متأرجحين بين هيجل وماركس، بين المثالية والواقعية دون الانتقال من أحدهما إلى الآخر على نحوٍ طبيعي. وأغفلنا التاريخ وحركته لغياب البُعد التاريخي في وجداننا المعاصر؛ لذلك لم نصبح لا هيجليين ولا ماركسيين، وأصبح الاختيار بينهما عشوائيًّا صرفًا يتم عن طريق المزاج والتربية دون تحليل للواقع المباشر، والتعرُّف على اللحظة التاريخية التي نمر بها. إن اكتشاف الهيجليين الشبان باور وفيورباخ وشترنر في جيلنا هو في الوقت نفسه اكتشاف للحلقة المفقودة في تطوُّرنا، وتأصيل لما نحاوله منذ فجر نهضتنا القومية من تقدم ونهضة وازدهار، وكأن مأساتنا كانت في فقد الحلقات المتوسطة التي تربط بين الأطراف المتباعدة من أجل نظرة تكاملية. وهو ما قام به تراثنا القديم بمحاولته الجمع بين رأيي الحكيمين؛ أفلاطون الإلهي وأرسطاطاليس الحكيم.١كان فيورباخ بحقٍّ، وعلى ما يقول ماركس «قناة النار» كما يدلُّ عليه اشتقاق الاسم «Feuer, Feurbach = نار، Bach = قناة» يتطهَّر من خلالها كل فيلسوف يريد الانتقال من المثالية إلى الواقعية، ولكن للأسف انتقل البعض منا إلى الماركسية دون أن يتطهَّر في «قناة النار»؛ ومن ثم تحوَّلت الماركسية إما إلى دجماطيقية من داخلها أو عارضتها الدجماطيقية من خارجها ومنعتها من إحداث الأثر التنويري في أذهان الناس. إن المجتمع النامي الناهض الذي ينتقل من القديم إلى الجديد، ومن التسليم إلى التفكير، ومن الموروث إلى النقد في حاجةٍ إلى تنويرٍ أكثر مما هو في حاجةٍ إلى تثوير؛ فالتنوير شرط التثوير، والتثوير بلا تنوير مجرد تغيُّر اجتماعي أو انقلاب في الأوضاع تُحدثه السلطة القائمة في المجتمع ويتغير بتغير السلطة؛ فهو تغير اجتماعي يقوم على أساس نظري متخلف، ولا بقاء له إلا ببقاء السلطة الضامنة له؛ وبالتالي يظل خارجيًّا لا يُحدث أثرًا فعليًّا لا يخلقه وعيٌ ولا يخلق هو وعيًا.إن نقد ماركس للهيجليين اليساريين نشأ بعد أن تمثَّل الوعي الأوروبي كلَّ القيم الليبرالية في القرن الثامن عشر وحدثت الثورة الفرنسية بشعاراتها الثلاث؛ الحرية والإخاء والمساواة. تصوَّر الهيجليون الشبان أن الأيديولوجية يمكن أن تظل العامل الأول لتحقيق الأهداف القومية مثل الوحدة الألمانية، تحرر الأقليات المضطهدة (اليهود)، إعادة بناء المواطن؛ وبالتالي يمثل نقد ماركس للهيجليين اليساريين تقدمًا بالنسبة لِليبرالية وذلك بعبارته المشهورة: «إن الحزب البروليتاري هو الوريث الوحيد للأفكار.» وذلك لأن أفكار الحرية والعدالة والمساواة والوعي الذاتي والفردية لا تُحدِث بذاتها تغييرًا اجتماعيًّا دون عمل جماعي يحققها بالفعل. فالحزب البروليتاري هو الذي سيربط الجرس في رقبة القط أي أنه هو الذي سيحقِّق بالفعل هذه الأفكار في الواقع العملي.
(أما بالنسبة لنا فإننا لم نتمثل الليبرالية بعد، ولم نتحقق بمثلها، ولم تُحدِث الأفكار الأثر المرجو في نهضتنا المعاصرة. لم تحدث لدينا ثورة فرنسية قامت على أكتاف المفكرين الأحرار بل قامت ثوراتنا على أيدي الضباط الأحرار فحدث تغيُّر في الهيكل الاجتماعي دون إحداث تغيير موازٍ في البناء الفوقي، مما أدَّى إلى انتكاس معظمها؛ ومن ثم فإن نقد ماركس للهيجليين الشبان يصبح غير ذي موضوع بالنسبة لجيلنا الحالي. ويظل الهيجليون الشبان بالنسبة لجيلنا يعبرون عن لحظتنا التاريخية الراهنة في التحديث وإقامة أسس النهضة.)
ويمتاز فيورباخ عن أقرانه بأنه أوقعهم صدى، وأبلغهم أثرًا، وأكثرهم تحديًا مثل اسبينوزا في القرن السابع عشر وفولتير في القرن الثامن عشر (وقد يصعب الحديث عن فيورباخ من فيورباخي، وعن الهيجليين الشبان من هيجلي شاب؛ فلذلك ميزة وعيب، ميزة الاتحاد مع الموضوع وفهمه من الداخل، وعيب استحالة التفرقة بين العرض والتحليل، بين فيورباخ الموضوع وفيورباخ الباحث في عصر يحتاج إلى فيورباخ). ومع ذلك فقد تناولت هذه الدراسة عرض «الاغتراب الديني عند فيورباخ» من خلال تحليل مؤلفه الأساسي «جوهر المسيحية»، فالأفكار كلها فيورباخ مسئول عنها وليس للباحث إلا التحليل والشرح والعرض والتأويل (كما فعل فلاسفة المسلمين مع فلاسفة اليونان بوجهٍ عام وكما فعل ابن رشد مع أرسطو خاصة). ولم نشأ عقد مقدمة عن حياة فيورباخ وأعماله فذلك ما سيتم في دراسة مستقلة عن قريب.٢ واقتصرنا على عرض «جوهر المسيحية» للكشف عن الاغتراب الديني الذي هو أساس الاغتراب الاجتماعي. وأكرر وأقول: ليس الباحث مسئولًا عن أفكار فيورباخ بل المسئولية تقع على عاتق فيورباخ وحده.ظهرت الطبعة الأولى لكتاب فيورباخ «جوهر المسيحية» في ١٨٤١م والطبعة الثانية في ١٨٤٣م. وأصبحت مقدمة كل طبعة من الذيوع والشهرة لدرجة أن كلًّا منهما تمثل عملًا فلسفيًّا بمفرده.٣ وتعني كلمة Wessen بالألمانية ماهية أو جوهرًا أو وجودًا أو حقيقة. وتدل على هذه المعاني الأربع داخل الكتاب. وتُترجم بألفاظ مختلفة. يبحث فيورباخ عن ماهية المسيحية أي أساسها وجوهرها وحقيقتها، وهو بذلك يكون سابقًا على هوسرل في بحثه عن الماهية وجعل الفينومينولوجيا «علم الماهيات». ولا يبحث فيورباخ عن ماهية المسيحية وحدها بل يعمِّم أحكامه حتى تشمل الدين بوجه عام.٤ -
(٢)
الكشف عن الاغتراب من خلال فلسفة الدين: يرى فيورباخ أنه لا يتمُّ الكشف عن الاغتراب إلا من خلال فلسفة الدين؛ فالاغتراب أساسًا هو الاغتراب الديني، والاغتراب الديني هو أساس كل اغتراب فلسفي أو اجتماعي أو نفسي أو بدني. فإذا كان الاغتراب هو انقلاب الأنا إلى آخر فإن هذا الانقلاب يحدث أساسًا في تحوُّل الإنسان إلى الله قبل أن يتحوَّل الإنسان إلى عمل أو إلى نظام أو إلى مؤسسة أو إلى كون. فالاغتراب الديني هو أسهل اغتراب وأسرعه وأكثره مباشرة. فإذا ما حدث زلزال في كيان الإنسان وخلل في وجوده الشرعي ظهر ذلك في اللجوء إلى الله كسند وتعويض، وأصبح الإنسان في موقف زائف. فلسفة الدين إذن هي الميدان الذي يمكن من خلاله اكتشاف الاغتراب. فما هو الوضع الحالي لفلسفة الدين؟
هناك خطآن أساسيان في الفكر الديني؛ الأول: اعتبار الروايات الدينية والأخبار والقصص والآراء والأساطير وكل ما يرويه الرواة وتقصُّه النساء حقائق تاريخية تقابل شيئًا في الواقع، وهو خطأ الفلسفة الوضعية التي لا تفترق عن الفلسفة العامية الشعبية في شيء؛ والثاني: اعتبار قواعد الإيمان حقائق فلسفية يمكن البرهنة عليها عقلًا بالمنطق والدليل، وهو خطأ الفلسفة التأمُّلية التي حوَّلت العقائد إلى نظريات خاصة. وكانت النتيجة أن ضحَّت الفلسفة الوضعية بالفلسفة من أجل الدين كما ضحَّت الفلسفة التأملية بالدين من أجل الفلسفة. الأولى تجعل العقل ألعوبةً في يد المادية الشعبية، والثانية تجعل الدين ألعوبةً في يد التأمل الفلسفي. الأولى تجعل الدين يتحدَّث بدلًا عن العقل، والثانية تسمح للدين أن يقول ما تستطيع هي أن تقوله على نحو أفضل. الأولى عاجزة عن الوصول إلى حقائق الأشياء فتحيل الصور إلى وقائع، والثانية عاجزة عن الخروج عن نفسها والاتصال بالصور فتحيلها إلى أفكار ونظريات.
والحقيقة أن الفلسفة والدين شيء واحد على الرغم مما يبدو بينهما من خلاف لأن هناك وجودًا واحدًا مفكرًا يعبر عن فكره في صور وأشكال مختلفة لا تناقض بينها بل على مستويات مختلفة من التعبير الأدبي. فالقدرة الإلهية المطلقة كفكرة تعني المعجزات كصورةٍ ومُثُل، كما تعني البعث والنُّشور. ولا يظهر التناقض إلا بعد الفصل بين الإيمان والعقل وهو ما لا يقبله أي اتجاه مستنير في فلسفة الدين.
ويبدو فيورباخ هنا معتزليًّا يفسِّر اليدَ بالقُدرة، والعين بالعلم، ويحوِّل التشبيه إلى تنزيه بشرط أن يكون هذا العقل هو العقل الشامل. العقل الطبيعي الذي يتَّسق مع نفسه ويتَّسق مع الطبيعة وليس العقل الخاص عقل الإيمان، العقل هو القاعدة العامة، والإيمان هو الاستثناء الخاص؛ لذلك ارتبط الإيمان بعصر تاريخي معين، وبمكان محدد، وباسم خاص. التوحيد بين العقل والإيمان يذيب الإيمان ويحيله إلى عقل فيتحول الخاص إلى عام؛ فالخطيئة تعني أن الإنسان الطبيعي ليس كما ينبغي أن يكون، وهو ما يسلم به الناس جميعًا. لا يؤمن بالخطيئة الأولى إلا المعتقدون بها. مهمة الفكر إذن تحويل مضمون الإيمان إلى عقل. وهنا يبدو فيورباخ هيجليًّا صرفًا. يهدف من «جوهر المسيحية» إلى بيان هذه الحقائق الإنسانية البسيطة وراء الأسرار الخارجة على الطبيعة. ومع ذلك يبقى الدين والفلسفة متمايزين بالصورة. فالدين في جوهره مأساة، والله نفسه وجود مأساوي أي موجود شخصي. ومَن ينزع الصورة عن الدين ينتزع منه موضوعه ويتركه جثة هامدة لأن الصورة من حيث هي كذلك صورة شيء. ويعالج فيورباخ هذه الصور لا من حيث هي أفكار أو تدل على أفكار كما هو الحال في الفلسفة التأملية للدين لدى هيجل، ولا من حيث هي أشياء كما هو الحال في اللاهوت بل كصور. والصورة تعكس موقفًا نفسيًّا. فلا يستعمل فيورباخ اللاهوت كعلمٍ عملي صوفي كما هو الحال في الأساطير الدينية أو كأنطولوجيا كما هو الحال في الفلسفة التأملية، بل باعتباره مرضًا نفسيًّا يعبر عن اهتزاز شعوري وارتجاج في المخ وهلوسة واضطراب. لقد استطاعت الحرية والشخصية في العصر الحديث تناول الدين واللاهوت وابتلاعهما كلية. وانتهت التفرقة بين الروح القدس المنتجة والروح الإنسانية المستهلكة. وتم تحويل ما فوق الطبيعة إلى الطبيعة. ومع ذلك ظل العصر الحاضر عاجزًا أمام المسيحية كصورة، غير قادر على مواجهة هذا الشبح والحكم عليه بأنه مجرد وهم وخداع ذاتي. إن الأشباح ظلال الماضي؛ وبالتالي فإن تحليل الماضي يهدف إلى علاج الحاضر. يهدف فيورباخ إلى تأسيس علم الأمراض أو علم وظائف الأعضاء كمقدمة لعلم العلاج والعودة إلى طبائع الأشياء؛ إلى ماء الأيونيين عند طاليس وإلى نشأة الأشياء عند شيشرون عن طريق ممارسة شعار سقراط «اعرف نفسك بنفسك.» الاغتراب إذن هو موقف مَرَضي كما يصفه علم النفس. والقضاء عليه قضاء على المرض وجلب للشفاء. وهنا يبدو فيورباخ محلِّلًا نفسيًّا سابقًا على فرويد في كتابه المشهور «مستقبل وهم» The Future of Illusion. ويسمِّي فيورباخ منهج الكتاب منهج الكيمياء التحليلية أي تحليل النصوص من أجل إثبات نتائج التحليل وتأسيسها على نحوٍ موضوعي. فإذا صدمت النتائجُ مشاعرَ الناس فالمسئولية لا تقع على الباحث فيورباخ بل تقع على عاتق الموضوع ذاته، وكأن فيورباخ يريد تطبيق منهج تحليل المضمون على النصوص الدينية. والرجوع إلى النصوص الأصلية القديمة أفضل بكثير من الرجوع إلى المسيحية المعاصرة؛ فالنصوص القديمة هي الوحيدة الجديرة بالتأمُّل أما أقوال المعاصرين فسطحية حسية ينقصها الشجاعة، ويغلِّفها الجبن والنفاق. النصوص القديمة تكشف عن المسيحية وهي عذراء في حين أن أقوال المعاصرين فَقَدَت طهارتها وعفَّتها. كانت المسيحية القديمة غنيةً بكنوزها السماوية، فقيرةً بممتلكاتها الأرضية، في حين أن المسيحية المعاصرة فقيرةٌ بممتلكاتها السماوية غنيةٌ بكنوزها الأرضية. ولا توجد شواهد مسيحية معاصرة إلا هذه الشواهد الفقيرة التي لم توجدها المسيحية ذاتها بل التي أنتجتها العصور.(يحاول فيورباخ إذن الكشف عن الاغتراب عن طريق تحليل النصوص القديمة وإثبات أن الثيولوجيا ما هي إلا أنثربولوجيا مقلوبة وأن ما يظنُّه اللاهوتي على أنه وصف لله هو في حقيقة الأمر وصف للإنسان؛ فاللاهوتي يصف نفسه ظانًّا أنه يصف الله. ويقوم بعملية خفية وهي تشخيص صفاته الخاصة ثم إخراجها وتثبيتها على آخر، شخص خاص هو الله.)
(يحاول فيورباخ أخذ النصوص القديمة عن الله وإعادة تحليلها تحليلًا نفسيًّا وجوديًّا ليكشف عن المضمون الإنساني لهذه النصوص. ويقوم بعملية تفسير جديد لها، وذلك بإعادة بناء الموقف الماضي على أساسٍ من الموقف الحاضر؛ وبالتالي يكون فيورباخ سابقًا على بولتمان وهيدجر وعلم التفسير الحديث في الكشف عن الواقعة الإنسانية الحية من خلال تحليل النصوص الدينية القديمة. الأنثربولوجيا هي سر الثيولوجيا، وتاريخ العقيدة أو تاريخ اللاهوت هو في حد ذاته نقد للعقيدة في اللاهوت. لقد كانت الثيولوجيا في تاريخها الطويل أنثروبولوجيا، وكان موضوعها وهو الله وصفًا للواقعة الإنسانية؛ وبالتالي يكون هيجل على حق في مهمته التاريخية في الكشف عن الروح في التاريخ، ولكن ما حاوله القدماء على نَحْو بَعْدي — بناء العقيدة في التاريخ — يحاوله فيورباخ على نحوٍ قَبْلي بإرجاع النصوص إلى الواقعة الإنسانية. الثيولوجيا إذن اغترابٌ للأنثروبولوجيا، وعالَم اللاهوت مغترب عن عالم الإنسان، والتفكير في الله اغتراب عن التفكير في الإنسان.)
-
(٣)
الاغتراب ونفاق العصر: وفي مقدمة الطبعة الثانية وبعد صدور الكتاب أول مرة، يدافع فيورباخ عن مشروعه الذي قضى به على اغتراب الإنسان، وفنَّد الاتهامات الموجهة إليه وعلى رأسها الإلحاد. لقد أعاد فيورباخ اكتشاف الله كنشاطٍ وفاعليةٍ في العالم، وهو الهيجلي الشاب، وقضى على اغتراب الإنسان وقَذْفه بنفسه خارجها وتشخيصها في صورة آخر وتَأْليه إياه. كان من الطبيعي أن تسوء علاقة فيورباخ مع كل المغتربين عن العالم وعن الذات وعن الله، ولكنها في الوقت نفسه كانت علاقة طيبة وصحيحة مع الأصحَّاء في العالم ومع ذواتهم ومع الله. كان من الطبيعي أن يحدثَ التمايُزُ بين الحق والباطل، بين الصدق والكذب، بين الصواب والخطأ، بين الصحيح والزائف حتى يمكن إنقاذ المسيحية مما وقعت فيه من خطأ ومما اكتنفها من إظلام وإرجاعها إلى الموقف الصحيح. ومع ذلك نُظر إلى فيورباخ على أنه مجرم في حق المسيحية واعتبره اللاهوتيون قد قضى على الدين إلى الأبد، في حين أن فيورباخ قد نقد كل الفلسفات الشائعة في عصره والتي اعتمد عليها اللاهوتيون للدفاع عن الدين أي عن الموقف الزائف للإنسان؛ فقد هاجم الفلسفة التأملية التي ابتلعت الدين، وقضت على خصوصيته لحساب الفكر. كما هاجم الفلسفة الوضعية لإنقاذ الإنسان وعدم تحويله إلى صنم ووثن. وقد كانت الضربة الكبرى هي التي وجهها فيورباخ إلى نفاق العصر، ومزايداته على الإيمان على لسان مُدَّعي العلم في مجتمع طيب، مجتمع الحياد واللامبالاة وغياب الحماس، مجتمع الأوهام والحقائق المزيفة والشائعات (هذا المجتمع الذي يعتبر كل مَنْ يقول الحقيقة فيه وقحًا، سيئ التربية، عديم الأخلاق. أصبحت الحقيقة هي اللاأخلاقية، واللاأخلاقية هي النفاق الذي ينفي المسيحية ويدَّعي إثباتها. اللاأخلاقية هو النفي الحقيقي للمسيحية، النفي الذي يعبِّر عن نفسه كنفي، هو التلاعب التعسفي بالمسيحية والإلغاء الفعلي لقواعد الإيمان وترك البعض الآخر، وكما يقول لوثر: إن قلب كل قواعد الإيمان أفضل من قلب واحدة فقط، هو الإلحاد في الحرية وليس في الله، هو أنصاف الحلول القائمة على الغباء دون يقين ثابت للذات، هو التناقض الفج دون دقة في التحليل وصدق في النتائج، هو التفاهة لأنها تقف عند منتصف الطريق ولا تنتهي إلى جوهر الأشياء ودون وصول إلى النهاية. هو الكذب الذي يُخفي الحقيقة وشرَّها في قلبها والتفكر فيها. وهكذا يصف فيورباخ حال العصر وعدم قدرته على مواجهة الحقائق في حين أن الاعتراف بالحق فضيلة، ولكن مشكلة العصر في أساسها مشكلة أخلاقية في نقص الشجاعة وسيادة النفاق).
بحث فيورباخ عن العلم الحي وليس عن العلم الميت، وأراد حقيقة مكتوبة بدماء القلب على صفحات التاريخ وليس حقيقة مكتوبة بالمِداد على ورق أجوف. الحقيقة هي الإنسان وليس العقل المجرد، وعلى هذا النحو يمكن القضاء على الاغتراب الذي هو تضحية بالعياني في سبيل المجرد، وقضاء على الإنسان في سبيل الآخر الذي تم خلقه وهمًا وخداعًا. ليس العلم هو العلم الميت البارد كما هو الحال في علم العصر، بل هو العلم الحي الذي يختلط بلحم الإنسان وبدمه، ويبدو فيورباخ هنا كيركجارديًّا خالصًا. العالم هو الذي يتناول مشاكل العصر ويغوص فيها، ويستقصي جذورها، وينتهي به الأمر إلى حبل المشنقة فيكون شهيد عصره وشاهدًا عليه. ولا عجب ألَّا يستمع العصر إلى نداء «جوهر المسيحية» فيما يتعلَّق بالإيمان والمعجزة والعناية وفناء العالم وشهادة التاريخ، في حين أن معارك العصر مثل الصراع بين الكاثوليكية والبروتستانتية، والزواج المختلط لا تهم بقدر أهمية ماهية المسيحية التي تُثبت أن الزواج الحقيقي هو تآلُف الأرواح وأن النسل الحقيقي هو النسل السماوي. وهنا يبدو فيورباخ أفلاطونيًّا في الفرق بين الحب الإنساني البدني والحب الفلسفي الروحي ولكن على نحو هيجلي باعتبار أن الروح هي العياني والبدني هو المجرد. لقد حاول فيورباخ أن يترجم الصور الذهنية في الدين المسيحي ويعثر على حقائقها العيانية معتمدًا على التحليل التجريبي والتاريخي والفلسفي للأسرار المسيحية. كما فسر العقائد وقواعد الإيمان القَبْلية على أنها موضوعات حسية تاريخية لا شأن لها بالتأملات الخيالية التي تستمد مادتها من ذاتها. وأقام نتائجه على الحس والرؤية ولم يستنبطها بالتأمُّل استنباط الموضوع من الفكر، واستقرأ الفكر من الموضوعات. فالموضوعات موجودة خارج الفكر. ويصر فيورباخ على أنه مثالي في ميدان الفلسفة العملية وحدها. فلا حدود للإنسانية. والفكرة لها دلالة سياسية واجتماعية وأخلاقية. ويُسمي فيورباخ نفسه روحيًّا وضعيًّا، صاحب فلسفة إنسانية تجعل الوجود الإنساني هو الوجود الحقيقي، ويقيم فلسفة لا تأملية، فلسفة دون ماهية مسبقة مثل جوهر اسبينوزا أو ذات كانط وفشته، أو الهوية المطلقة عند شلنج أو الروح المطلق عند هيجل، فلسفة وجود واقعي، والإنسان هو أكثر الموجودات واقعية وموضوعية في علاقاته الحسية بالأشياء.
ويبرِّئ فيورباخ نفسه من كل الاتهامات التي وجِّهت ضده وفي مقدمتها الإلحاد بأنه لم يقُل شيئًا على الإطلاق (بل إن الدين هو الذي تحدث عن نفسه وأن فيورباخ قد سمح له بذلك فحسب. لم يبتدع فيورباخ شيئًا بل كشف الدينُ عن ذاته، ورأى فيورباخ هذا الكشف. إنه الدين الذي يؤلِّه الإنسان في حين يُنكره اللاهوت. إنه الدين، وليس فيورباخ، الذي يقول بأن الله هو الإنسان الشخصي المنفصل عن الذات المتخارج في العالم، وأن الإنسان هو الله بعد أن دفع بالإنسان بذاته خارجًا عنه مغتربًا عن نفسه في آخر. إنه الدين وليس فيورباخ، الذي يُنكر الله الذي ليس هو الإنسان، ثم يجعله موضوعًا للفكر عندما يحيل الله إلى إنسان ثم يستعيد صفات الإنسان وينسبها إلى الله ثم يؤلِّهه ويعبده. لم يفعل فيورباخ أكثر من إذاعته للسر المسيحي والكشف عن زيف اللاهوتيين وخداعهم وتناقضاتهم).
(وإذا كان كتاب «جوهر المسيحية» نافيًا، لا متديِّنًا، ملحدًا؛ فلأن الإلحاد هو جوهر الدين لأن الدين في جوهره وليس في صورته. وصياغاته هو الإنسان في الوجود والإنسان في إنسانيته وألوهيته. وإن لم يقتنع أحدٌ بذلك فعليه تفنيد حجج فيورباخ العقلية وبراهينه التاريخية وتحليلاته النفسية ولا تهم سفسطة القضاة أو رياء المُرائين أو العبارات التأمُّلية البراقة أو قواعد اللاهوتيين الضحلة.) صحيح أن الكتاب نافٍ، ولكنه نافٍ للجوهر اللاإنساني للدين وليس نافيًا للجوهر الإنساني؛ لذلك شمل الكتاب جزءين؛ جزء مثبت، وجزء نافٍ، وتناول الموضوع نفسه على نحوين مختلفين؛ الأول يعرض للدين في جوهره، والثاني يعرض للدين في تناقضاته، الأول تطوير وكشف لمفهوم الدين، والثاني جدل وهَدْم لِلَّاهوت. الأول هادئ والثاني عنيف، وفي كليهما معركة. الأول يبين أن المعنى الحقيقي للثيولوجيا هي الأنثروبولوجيا وأنه لا يوجد فرقٌ بين صفات الوجود الإلهي والوجود الإنساني، المحمولات تعبِّر عن جوهر الموضوع (ويمكن الاستشهاد في ذلك بالتحليلات الأولى لأرسطو أو بمقدمة فورفوريوس)، ولا فرق بين ذات الله ووجوده من ناحية وذات الإنسان ووجوده من ناحية أخرى؛ ومن ثم فلا فرق بين المحمولات الإلهية والمحمولات الإنسانية. يثبت الجزء الأول أن ابن الله هو الابن الحقيقي أي ابن الإنسان وأن الدين يخطئ بتصوُّره هذه البُنوة في الله بالفعل. ويثبت الجزء الثاني أن ابن الله في الدين ليس ابنًا طبيعيًّا؛ وبالتالي يكون معارضًا للطبيعة وللعقل. يعطي الجزء الأول البرهان المباشر، ويعطي الثاني البرهان غير المباشر.
الجزء الثاني عَوْد إلى الأول، يبيِّن الثاني الزيف بينما يكشف الأول الحقيقة. الأول عن الدين والثاني عن اللاهوت. ولا يعني اللاهوت هذا المعنى الضيق عند اللاهوتيين الحرفيين بل يشمل أيضًا الفلسفة التأملية، وعلم اللاهوت. فالمهم هو الأصل لا الفرع، المبدأ وليس الأشخاص، والعصور والأماكن. لو كان «جوهر المسيحية» به الجزء الثاني فقط لكان نافيًا ولكان الله عدمًا، والثالوث عدمًا، وكلام الله عدمًا، ولكنه أثبت أن الدين له أساس في الوجود الإنساني الحق. والحقيقة أن فيورباخ يرفع الأنثروبولوجيا إلى مستوى الثيولوجيا كما ترفع المسيحية الإنسان إلى مستوى الله. إن الدين هو الروح الإنساني ولكن الحلم لا يكون في السماء بل على الأرض. المهم هو قلب النظرة من الداخل إلى الخارج، وفتح على الدين، وتحويل موضوع التمثل إلى موضوع فعلي، ولكن العصر ما زال يُفضل الصورة على الشيء، والنسخة على الأصل، والتمثُّل على الواقع، والظاهر على الوجود. والدين وهم، والحقيقة دنيوية، ولكن العصر لم يحفظ من الدين إلا الغباء. وتجد الكنيسة شرعيتها في هذا المظهر. وتجد الطقوس دلالتها لو تم تفسيرها على نحو أنثروبولوجي خالص. فالخمر والخبز ليسا إلا في التمثُّل والخيال، والدين والفلسفة التأملية يتعاملان مع الوهم والخيال ولا يتعاملان مع الواقع والحس. لقد طالب لوثر من قبل بالعودة إلى العالم، فالخبز يعني الطعام، والماء يعني الشراب، والعِماد يعني الاستحمام. لا يهم الأصل الوثني لهذه الطقوس؛ شرب الدم وأكل لحم الضحايا، بل المهم دلالتها بالنسبة للإنسان. كما لا يهم بيان تناقضات معجزات المسيح بل المهم بيان دلالتها الإنسانية الخالصة. يُريد فيورباخ العَوْد إلى ماء الأيونيين عند طاليس، الماء البارد للعقل الطبيعي حيث تنشأ الأشياء؛ فالماء ليس فقط سبب النماء ودورة الحياة بل هو أيضًا علاج للنفس والعين. الماء يُساعدنا على اكتشاف الطبيعة وسَبْر غور الوعي الذاتي. الماء يطهِّر الإنسان من الخوف والأوهام الناشئة عما يأتي من فوق الطبيعة؛ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء: ٣٠).وتظهر مآسي العصر أيضًا ليس في لاأخلاقيته وحدها بل في غياب الروح العلمية. أصبحت الحقيقة حدًّا للعلم وليست إطلاقًا له من كل الحدود. وعندما يصل العلم إلى الحقيقة ويصبح حقيقة لا يكون علمًا بل يصبح موضوعًا للبوليس. فالبوليس يمثِّل حدود الحقيقة والعلم، وكأن السلطة السياسية يهمها الإبقاء على الزيف حتى تأمن المعارضة. وبالرغم من أن فيورباخ بوجه عام أعطى تفسيرًا لا سياسيًّا للدين وأعطاه تفسيرًا أنثروبولوجيًّا خالصًا طبقًا للضرورة الخلقية والفلسفية، إلا أن السياسيين غضبوا عليه لأنهم يعتبرون الدين أسهل وسيلة لاستعباد الإنسان سياسيًّا ولا يودون زعزعته وفهمه الفهم الصحيح. كما غضب عليه مَنْ لا يُعطون الدين أية أهمية سياسية، لأن إعادة تفكير الناس في الدين على نحوٍ شرعي وبعد القضاء على الاغتراب الديني يجعلهم أكثر قدرة على الممارسة السياسية فيثورون ضد الحكَّام، ويدافعون عن حقوقهم. وغضب عليه أيضًا أصدقاء التنوير والحرية في مبادئ الصناعة والسياسة وأعداؤها في ميدان الدين؛ لأن التنوير الديني يكشف عن مساوئ الليبرالية والنظام الرأسمالي. ويُشير فيورباخ في ملاحظة أخيرة أيضًا إلى صلة الدين بالسياسة. فالدين أساس النظم السياسية. ففي الوقت الذي يكون فيه الدين مقدسًا نجد تقديس الزواج والملكية وقوانين الدولة. لم تكن الملكية مقدسة لأنها شريعة إلهية بل تم تقديسها أولًا باعتبارها شريعة إلهية. لم يطور فيورباخ هذه العلاقة كما طورها ماركس بعد ذلك، وظل بروتستانتيًّا حرًّا يؤسس الدين على الأخلاق.
-
(٤)
الاغتراب في ماهية الإنسان وجوهر الدين: يبدأ فيورباخ كتابه «جوهر المسيحية» بتمهيد عن ماهية الإنسان بوجه عام وجوهرية الدين بوجه عام، ويستعمل لكليهما كلمة Wesen وهي الثنائية التي سيتبعها فيما بعد في تقسيم الكتاب بين الماهية الحقيقية أي أنثروبولوجيا الدين، والماهية المزيفة أي ثيولوجيا الدين، فيبدأ بالإثبات وهو الإنسان ويثنِّي بالنفي وهو الله.
فما هي ماهية الإنسان بوجه عام؟ يرى فيورباخ أن التديُّن هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان. ويرجع هذا التمييز إلى أن الإنسان لديه شعور أو وعي بالمعنى الدقيق وليس مجموعة الإحساسات والإدراكات والأحكام أي مجموعة الوظائف النفسية. ولا يتأتَّى الوعي إلا لوجودٍ تكون ماهيتُه عين موضوعه؛ فالعلم الإنساني هو الوعي بالأجناس في حين أن الحيوان لا يدرك إلا نفسه. عند الحيوان الحياة الداخلية والحياة الخارجية شيء واحد، وعند الإنسان تتميز الحياة الداخلية عن الحياة الخارجية، فالحياة الداخلية هي علاقته بجنسه وماهيته والتعبير عن ذلك بالفكر واللغة. الإنسان هو الأنا والآخر، هو الذات والموضوع، هو الموضوع والمحمول. ليس الفرق بين الإنسان والحيوان في التديُّن فقط فالدين هو الوعي باللانهائي؛ ومن ثم يكون وعي الإنسان بماهيته لا نهائيًّا دون أن يكون ذلك وعيًا بموجود لا نهائي. الوعي هو وعي باللانهائي، وهو ما يقابل الغريزة عند الحشرات. الوعي باللانهائي هو الوعي بلا نهائية الوعي. وفي الوعي باللانهائي يكون موضوع الوجود الواعي واعيًا بذاته. الإنسان بلا موضوع لا يكون شيئًا، فهذا ما تؤكده حياة العظماء. يشعر العظيم أن له رسالةً عليه أن يحقِّقها وهي الهدف الأسمى من نشاطه. تكون ماهيته وتكون في علاقةٍ جوهرية وضرورية معه. ماهية الإنسان وجوده وغايته وموضوعه، وتتوحَّد الماهية والوجود كما يتوحَّد الذات والموضوع في الإنسان. فيصبح الإنسان إذن واعيًا بذاته عن طريق الموضوع. والوعي بالموضوع هو وعي بالذات. يمكن معرفة الإنسان إذن ابتداءً من الموضوع. وفيه تبدو الماهية، فالموضوع هو الماهية عندما تظهر أنانيته الحقيقية الموضوعية. وهذا ينطبق على الموضوعات الروحية والموضوعات الحسية على حد سواء. وهنا يأخذ شعار سقراط «اعرف نفسك بنفسك.» معنى أنطولوجيًّا جديدًا.
ماهية الإنسان هو جنسه أو الإنسانية؛ العقل، والإرادة، والقلب. العقل وظيفته الفكر، والإرادة للاجتهاد والفعل والسلوك، والقلب هو الحب. وهنا يعود فيورباخ من جديدٍ إلى قوى النفس الثلاث عند أفلاطون دون تمييزٍ بين النفس والبدن أو بين المثال والواقع. العقل والإرادة والقلب ثلاث كمالات أو مَلَكات سامية تكوِّن الماهية المطلقة للإنسان من حيث هو إنسان، وتكون الغاية من وجوده. فالإنسان يوجد كي يعرف ويحب ويفعل. الغاية من المعرفة المعرفة، ومن الإرادة الإرادة، ومن الحب الحب، وهي نفس الصفات؛ حقيقي، كامل، إلهي. نستعملها عندما نصف الشيء في ذاته. هو الثالوث الإلهي الذي يجمع بين العقل والحب والإرادة كما قال أوغسطين من قبل شارحًا التثليث المسيحي. هذه الصفات الثلاث ليست مجرد كمالات يتمتع بها الإنسان بل قدرات إلهية مطلقة لا يمكن للإنسان مقاومتها. كيف يقاوم الحبُّ الحبَّ، والمعرفةُ المعرفةَ، والإرادةُ الإرادةَ؟ إن الحب يدفع الإنسان إلى الموت في سبيل مَنْ يحب، والفكر يدفع الإنسانَ إلى أن يفكر، والحياة تدفع الإنسان إلى أن يفعل.
الوجود المطلق إذن، وهو إله الإنسان، هو عين ماهيته، وموضوعه ماهيته وقوة ومعرفة وإرادة، حبه هو معرفته وإرادته وحبه. التناهي هو العدم ولا يمكن أن يكون الإنسان واعيًا بالتناهي وإلا كان عدمًا، الوعي هو ظهور الذات، وتأكيد الذات، وحب الذات، والانشراح بكماله الخاص. الوعي علامة مميزة لوجود كامل، والوجود خير. التناهي سقوط وتفاهة وعار وقلق، ثم يمتد التناهي للماهية محوًا للعار! ويا للعار!
كل وجود مكتفٍ بذاته، كل موجود له إلهه أي وجوده الأعظم في ذاته. وكل تحديد هو بالنسبة للآخر الخارجي الأعظم منه كما يظهر في مقارنة الحيوانات بالحشرات وكما يفعل دارون في وصف تطور الأحياء فيما بعد. إن الذي يجعل الموجود موجودًا هو عبقريته وقوته وغِناه وجماله، فكيف يكون الوجود عدمًا عاجزًا؟ وكأن فيورباخ هنا يُوحي بلغة نيتشه وبرجسون وبما سيقوله إقبال عن الذاتية فيما بعد. ما يثبته الوجود لا يمكن للذهن نفيه، فمقياس الوجود هو مقياس الذهن. وكلما امتد الوجود إلى ما لا نهاية كان هو الله. ولا يمكن الفصل بين الذهن والوجود إلا على نحو ظاهري تعسفي، وهو الدرس المستفاد من هيجل. فلو فكر الإنسان في اللانهائي فإن ذلك إثبات لِلانهائي في الفكر. وإذا شعر باللانهائي فإن ذلك إثباتٌ للانهائي في الشعور. موضوع العقل هو العقل موضوعًا لنفسه. وموضوع العاطفة هي العاطفة موضوعًا لنفسها. إن حوار الفيلسوف هو في الحقيقة مونولوج العقل. الفكر لا يتحدَّث إلا مع الفكر. فالعقلي وحده هو موضوع العقل.
الإنسان إذن مجموعة من الصفات أو المَلَكات؛ الصفاء، العقلانية، النزاهة في المسرات والانفعالات، ولكن الإنسان يرى، والعين ترى ماهيتها، وكأن الفلاسفة علماء فلك من أجل العين، فالعين هي الطبيعة السماوية، ولكن العاطفة هي المَلَكة الأساسية في الدين، ولا تعبِّر ماهية الله إلا عن ماهية العاطفة. العاطفة هي «العضو الإلهي». العاطفة هي النبل والعظمة أي الإلهي في الإنسان. والله هو العاطفة الخالصة اللانهائية الحرة. العاطفة ملحدة من وجهة نظر الأرثوذكسية لأنها ترفض الله الموضوعي، وتجعل نفسها هو الله. والحقيقة أن نفي العاطفة نفي لله، وهذا هو الإلحاد الديني. وما يُقال عن العاطفة يُقال على باقي المَلَكات في الإنسان: العقل والإرادة.
من هذا التحليل الذي يبدو فيه فيورباخ معاصرًا للغاية، هيجليًّا امتدادًا لبرجسون ونيتشه وهوسرل وهيدجر، يوحد بين الذات والموضوع، بين الفكر والواقع، بين الماهية والوجود، يهدف فيورباخ إلى وصف الإنسان الحقيقي قبل أن يتزيف ويغترب عندما يكون واعيًا بذاته في وحدته الداخلية قبل أن يفصمها الاغتراب الديني، ويبدأ بالعاطفة وهي نقطة البداية في الاغتراب والتي من خلالها يحدث الانفصام والوقوع في الوهم، وهو ما ظهر بالتفصيل عند شليرماخر في «مقال في الدين».
فإذا كانت ماهية الإنسان هي أنه وعيٌ يتحد الذات فيه بالموضوع فما هو جوهر الدين؟ في ماهية الإنسان بوجه عام تم تحديد علاقة الإنسان بالموضوع بوجه عام، ولكن ما هي علاقة الإنسان بالموضوع الديني بوجه خاص؟ في علاقة الإنسان بالموضوعات لا ينفصل الوعي بالذات عن الوعي بالموضوع، ولكن في حالة الموضوع الديني يتَّحد الوعي مباشرة بالوعي بالذات. فإذا وُجد الموضوع الحسي خارج الإنسان فإن الموضوع الديني يوجد في داخله. وهو كما يقول أوغسطين أسهل في معرفته من الموضوعات الخارجية. الموضوع الخارجي محايد ومستقل عن الاعتقاد والحكم، في حين أن موضوع الدين موضوع اختيار الموجود الأول، الأفضل والأسْمَى، ويتضمَّن حكمًا نقديًّا يقوم على التمييز بين الإلهي واللاإلهي. وهنا تبدو أهمية قضية أن موضوع الإنسان ليس إلا الماهية الموضوعية ذاتها. الوعي بالله إذن هو وعي الإنسان بذاته، ومعرفة الله هي معرفة الإنسان بذاته. ابتداءً من الله تعرف نفسك، والعكس صحيح. كلاهما واحد.
إن الله بالنسبة للإنسان هو روحه ونفسه، والإنسان بالنسبة إلى نفسه هو الروح والنفس والقلب، وهذا إله. الله هو الداخلية التي تظهر في الإنسان. والدين هو ظهور كنوز الإنسان، الاعتراف بأخطاره الزمنية، والإقرار العلني بأسرار الحب.
وقد لا يشعر الإنسان أن وعيه بالله هو وعيه بذاته؛ لذلك يمكن القول بأن الدين هو وعي الإنسان بذاته على نحو غير مباشر؛ ولذلك أيضًا سبق الدينُ الفلسفةَ وسبق الخارجُ الداخلَ. الدين هو ماهية الإنسانية وهي في دور طفولتها.٥ يرى الإنسان ماهيته خارجًا عن ذاته؛ لذلك وقع الدين الأول في الوثنية وعبادة الأصنام؛ فقد عبد الإنسان ماهيته، وتموضع الإنسانُ دون أن يعي ماهيته. ثم تقدم الدين، أي تقدَّم الوعي بالذات، وعي الإنسان بذاته. فرفض الدين السابق متصورًا أنه حصل على موضوع أسمى وأعلى من قوانين الطبيعة، ويتصوَّر أنه من خارج الطبيعة مع أن الطبيعة هي الأساس. يرمي فيورباخ من ذلك إلى بيان أن التعارض بين الإلهي والإنساني مجرد وهم لأن الدين هو علاقة الإنسان بذاته، وذاته كموجود آخر، فالوجود الإلهي ليس إلا ماهية الإنسان مستقلة عن حدود الإنسان الفردي الواقعي الموضوعي المجسَّم. فكل تحديدات الوجود الإنساني هي تحديدات لماهية الإنسان. ولا يتعلَّق الأمر بالمحمولات فقط بل يمتد إلى الموضوع ذاته؛ وبالتالي فنفي الذات إلحاد ولا تديُّن أكثر من نفي الصفات، ولكن إلغاء الصفات إلغاء للذات لأن الصفات هي التي تُحدث الأثر والفاعلية وكما تقول المعتزلة: نفي الصفات نفيٌ للذات، والذات بلا صفاتٍ موجودٌ غير موضوعي، والموجود غير الموضوعي عدمُ وجود. وعلى عكس إثبات الصفات ثم إثبات الذات، وكما تقول الأشاعرة، هذا النفي نتاج العصر الحديث.يتحوَّل الله إلى موضوعٍ عندما لا يصبح موضوعًا للمعرفة مع أن هذا العجز نفي لله. كما يمكن نفي صفات الله عن طريق التجسيم والتشبيه وإرجاعها إلى الإنسان، ولكن الفرق بين الله في ذاته والله بالنسبة للإنسان يدمر هذا الموقف الديني، ولكن يظل المتدين سعيدًا لأن الله إلهٌ له، وهي سعادة وهمية. يود كل دينٍ التوحيد بين الله في ذاته والله بالنسبة للإنسان وإلا ظهر الشك واللاتديُّن، وكلاهما ضد الدين. لو كان الله موضوعًا للعصفور فإنه لن يكون موضوعًا إلا من حيث أن له جناحًا، فالعصفور لا يعلم وجودًا أكثر سعادة من الوجود المجنح!
الصفات الإلهية إذن صفات إنسانية، وعدم الاعتراف بذلك شكٌّ وعدم اعتقاد بل جبن وضعف وخنوع. وإذا كانت الصفات إنسانيةً فالذات أيضًا إنسانية. يجعل الإنسانُ الحبَّ صفة لله لأنه يحب. ويتصور الإنسانُ اللهَ حكيمًا خيِّرًا لأن الإنسان يتصور الحكمة والخير أسمى ما فيه. ويعتقد أن الله موجود لأنه يوجد. والفرق بين الاثنين هو أن عَزْوَ الصفات لله بالتوسط وللإنسان بالمباشرة. الصفة حقيقة الذات، والذات صفة مُشخَّصة. الذات والصفة مثل الوجود والماهية، ونفي أحدهما نفيٌ للآخر. وماذا يبقى من الذات الإنسانية لو انتزعنا عنها صفاتها؟ كما أننا في لغتنا العادية نستبدل بالذات الإلهية صفاتها. هذا التميُّز بين الإنسان والله لا يوجد إلا في هذا العالم. ففي العالم الآخر لا يكون للإنسان إرادةٌ أو عقل أو حب مستقل. فالأرض أو وجود الإنسان في العالم هو سبب الاغتراب أي تمايز الذات عن صفاتها ثم تشخيص صفاتها في ذات مستقلة عنها.
إن يقين الإنسان بوجود الله هو يقينه بوجود ذاته، وليس يقينه بوجود ذات الله، كما أن يقين الإنسان بصفات الله هو يقينه بصفاته وليس يقينه بصفات الله. فهو يقين غير مباشر. وحقيقة الذات والصفات الإنسانية هي الضمان الوحيد لوجود الذات والصفات الإلهية. وكل ما يتمثَّله الإنسان على أنه حقيقي يكون أيضًا واقعيًّا وليس خياليًّا، حلمًا أو تمثُّلًا. فالوجود هو الحقيقة. في البداية يقيم الإنسان الحقيقة على الوجود ثم يقيم فيما بعد الوجود على الحقيقة. فالله هو ماهية الإنسان المدرك كحقيقة عظمى. والدين هو الحدْس المطابق لوجود الإنسان. الشك في الله إذن شكٌّ في الذات. ويتضح تماثل الذات والموضوع بصورةٍ أفضل في تطور الدين المتماثل مع تطور الحضارة الإنسانية. فإذا كانت صفة الإنسانية بدائية كانت صفة الله بدائية كذلك. والملحد العادي هو الذي يلغي صفات الله في حين أن الملحد الحقيقي هو الذي يلغي صفات الإنسان. ليس للدين مضمون خاص به، ولا يوجد في الدين إلا ما يوجد في الإنسان في وعيه بذاته ووعيه بالعالم. ونحن لا نعرف من الله إلا الصفات الإنسانية. أما باقي الصفات التي لا تشابه الإنسان فلا نعلمها. وهذا أيضًا سر إنساني، فالإنسان لا نهاية لصفاته ولغِناه. وقد جعل اسبينوزا لله عددًا لا نهائيًّا من الصفات لم يعد منها إلا الفكر والامتداد. والصفات شخصية وليست ميتافيزيقية. والله شخص، مشرِّع، قديس، عادل، خيِّر، رحيم، أبٌ للبشر. وهي كلها صفات إنسانية.
(ولكن اللاهوتي يرفض هذا التوحيد بين الله والإنسان، ويعطي لله ما يسلبه عن الإنسان، ويعطي للإنسان ما يسلبه عن الله. وهذه سرقة ذهنية وساديَّةٌ نفسية. أما الراهب فإنه يعوض عن حبه الجنسي المفقود وحبه الإنساني حبه لله وللسماء وللعذراء. تغيب عنه المرأة الحقيقية فتحضر له المرأة المثالية، وكلما ضحَّينا بالحس أصبح الله الذي نضحِّي لأجله بالحس حسيًّا. فالراهبة عروس الله، لها زوج سماوي، وكأن فيورباخ هنا يسبق فرويد وما يقوله في الكبت والحرمان والتعويض والإعلاء. يثبت الإنسان لله إذن ما ينفيه عن نفسه؛ وبالتالي يكون الدين تجريدًا للإنسان، واغترابًا عنه، وتزييفًا له. إن أفكار الإنسان عن الله من الأرض وليست من السماء، فالله يقوم بما يقوم به الإنسان، يحب ويعلم؛ وبالتالي يذكر الإنسان ذاته كلما أثبت الله. والحقيقة أن الإنسان هو الرضا الذاتي للأنانية الشخصية. ينكر الدينُ الخيرَ كصفةٍ للإنسان فالإنسان شرير فاسد، عاجز عن فعل الخير، والله وحده هو الخير. المقدس نفيٌ لخطيئة الإنسان، ونفي الخطيئة فصل للموجود عن الماهية وهما مُتَّحدان. والحقيقة أن اعتبار الإنسان عاجز عن فعل الخير يؤدي إلى اعتبار الله كذلك وهو الإلحاد. فالدين مقدِّمة للإلحاد. وهذا هو معنى الصراع القديم بين أوغسطين وبلاجيوس. فقد جعل بلاجيوس الإنسان إلهًا في حين جعل أوغسطين الإله إنسانًا. والأوغسطينية بلاجية مقلوبة. ما جعله بلاجيوس ذاتًا جعله أوغسطين موضوعًا. أوغسطين يعطي الله ويسلب عن الإنسان، وبلاجيوس يسلب عن الله ويعطي للإنسان. أوغسطين ممثِّل اللاهوتي المغترب، وبلاجيوس هو الأنثروبولوجي الفيورباخي. أوغسطين هو اللاهوت المقلوب، وبلاجيوس هو الأنثروبولوجي. أوغسطين هو المزيف، وبلاجيوس هو الصحيح.)
(الله هو ماهية الإنسان الذاتية، وكلما كان الله إنسانيًّا كان ذاتيًّا. وكما أن الإنسان لا يرى إلا ذاته فإن الله لا يرى أيضًا إلا ذاته أي الإنسان، فالإنسان موضوع الله. ثم يغترب الإنسان. وينزع ماهيته ووجوده من ذاته بفعلَيِ الجذب والطرد. ويصبح الله الذي كان يفعل فيَّ ومعي وبي وعليَّ ولي وقد خرج من أحشائي فيغترب الإنسان. لا يعود التقدم للبشرية إلا إذا استردَّ الإنسان من أحشائه المنشورة خارجه بعد بَقْر بطنِه واستردَّ صفاتِه. وهذا هو تطوُّر الدين من اليهودية إلى المسيحية، ونقول أيضًا ومن المسيحية إلى الإسلام لدينا أو إلى التنوير لديهم؛ فقد كان الله كلَّ شيء في اليهودية حتى في الطعام ثم أصبح الله في الإنسان في المسيحية ثم أصبح الله هو الإنسان الكامل في الإسلام وعند فيورباخ؛ وبالتالي يكون إلحادُ اليوم هو دين الغد.)
L. Feuerbach: Manifestes Philosophiques, Textes choisires, (1839–1845), Trad. L. Althuser, PUF, Paris, 1960.
L. Feuerbach: L’Essence du christianisme, Trad. I. p. Osier, I. p. Grossein, F. Maspero, Paris, 1968.
وكذلك على الترجمة الإنكليزية التي قام بها G. EIiot وقدم لها K. Barth & Niebur, Harper & Row, New York, 1957. وراجعناها على النص الألماني، طبعة Reclan, Stuttgart, 1974.