ثالثًا: الجوهر الزائف، أي ثيولوجيا الدين
يبين فيورباخ في القسم الثاني تناقضات اللاهوت أي الثيولوجيا، مبينًا أن الثيولوجيا هي تزييف للأنثروبولوجيا وأن ثيولوجيا الدين هي اغتراب لأنثروبولوجيا الدين. ويكشف عن جوهر الدين، ويبين التناقضات اللاهوتية في إثبات وجود الله وفي وصف ماهيته وفي التصوُّرات الفلسفية لله، وفي التثليث وفي الوحي وفي الطقوس وفي الإيمان والحب وفي الإنسان بوجه عام. ويكشف عن هذه التناقضات لا على نحو جدلي كما هو الحال عند هيجل، بل يكشف عنها في الزمان وفي حياة الإنسان وفي شعور الإنسان. وحل هذه التناقضات بإرجاعها إلى مصادرها الأولية في أنثروبولوجيا الدين أي بالقضاء على الزيف والعود إلى الصحيح.
-
(١)
وجهة النظر الجوهرية للدين: إن وجهة النظر الجوهرية للدين عملية، أي ذاتية! فغاية الدين هي الخير والخلاص. وسعادة الإنسان وعلاقة الإنسان بالله ليست إلا علاقة الإنسان بخَلَاصِه، والله ليس إلا تحقيق الخلاص أو القوة المتناهية لتحقيق الخلاص وسعادة الإنسان؛ لذلك كانت المسيحية عقيدةً في الخلاص أكثر منها عقيدة في الله. ولا يتأتَّى الخلاص بالحصول على نعيم أرضي لأنه انحراف من الله، بل إن الآلام والبؤس والشقاء والأمراض تُعتبَر امتحانًا من الله ووسيلة للتقرُّب إليه، فالمؤمن هو المصاب. وبصرف النظر عما في ذلك من ماسوشية اللذة في عذاب النفس، فإن ذاتية الألم تميل إلى موضوعية التأليه كتعويضٍ وسَنَدٍ وحماية. في الألم يحتاج الإنسان إلى الله، ويشعر بالله كأنه حاجة، ويدعوه ساعة الضر فإذا كشف الله عنه الضر كأنه لم يدعه بالأمس، فينبسط الإنسان في السرور والفرج وينقبض في الألم والشقاء. في الألم ينفي الإنسان حقيقة العالم، وكل ما يثير الفنان وخياله يضيع معناه، فيغوص في نفسه، ويلجأ إلى العواطف ويكون مثاليًّا في العالم، طبيعيًّا في نفسه، مهتمًّا بخلاصه. ويضع الدينُ ضمن معتقداته اللعنةَ والبركة، الإدانة والبراءة، العقابَ والثواب. فالسعادة للمؤمن، والشقاء لمن لا يؤمن. ولا يلجأ الدين في ذلك إلى العقل بل إلى العاطفة، عواطف الخوف والرجاء، ولا يعرض المسائل نظريًّا بل يوجهها عمليًّا، فالدين سلوك عاطفي. ثم يشخِّص الدين خارج الإنسان وخارج الطبيعة حاجاته وأوهامه في صورة وجود شخص خاص هو الله. ثم يعزو إليه الإنسانُ كلَّ الخير، كما يعزو إلى الشيطان كل شر. الشيطان هو الشر اللاإرادي الذي لا يمكن تفسيره، والله هو الخير اللاإرادي الذي لا يمكن أيضًا تفسيره. فالله والشيطان قرينان، والله مُوجِبٌ والشيطان سالب. ثم يأتي الفضل الإلهي للوقوف أمام قوى الشيطان وقهرها. فالفضل الإلهي من مخترعات العبقرية الدينية، وهو في الحقيقة المصادفة الدينية لأنه بلا شرط أو علة، مجاني يعبر عن الذات، وليس له تبرير موضوعي. الفضل نفي للعلل الثانية وهي العلل المؤثرة في حين أن العالم مستقل ويخضع لقوانين الطبيعة؛ وبالتالي تكون كل الكونيات الدينية تحصيل حاصل وخداع. ولم يزد الخلق شيئًا إلا إضافة قصور آلي للكونيات القديمة. لقد وُجدت المعجزات في الماضي ولكنها لا توجد في الحاضر أو في المستقبل، فالله تصور يكمل النقص النظري ويفسر ما لا يمكن تفسيره (الله هو ليل الدين، والليل بحر الدين، والمعرفة تحل كل لغز، وتوضح كل غامض، فيتحول الليل إلى نهار، فتظهر شطآن البحر. والصلاة عمل الدين الأساسي، تعبر عن جوهره، الصلاة قادرة على الإطلاق، وما يرغبه المؤمن التقي في صلاته يعطيه الله إياه. والطلبات ليست روحية بل نفعية مادية. الصلاة وسيلة خارجة عن الطبيعة للسيطرة على الطبيعة التي يعجز الفعل الإنساني عن السيطرة عليها. الصلاة إنكار للعلل الثانية وللحرية وللفعل الإنساني، وإثبات للحصول على الغايات عن طريق الواسطة. وحيث يبدأ الدين تبدأ المعجزات، فكل صلاةٍ صادقة معجزة، وفعل لقوة خارقة للعادة. المعجزة تعبير عاطفي عن الدين، وتشبع حاجات عملية نفعية، وتقع في تناقض مع قوانين الطبيعة التي تفرض نفسها على العقل. المعجزة أنانية دينية أو روحية لإشباع حاجات المحتاج. وباختصار تتمثل وجهة النظر الجوهرية للدين في أن الله هو الأنا الآخر، نصف الأنا المفقود، يجد فيه الإنسان نصفه الضائع، وفي أن الدين قتل للعالم وضياع للفن، وتنكر للواقع اللانهائي ولِلانهائي الواقعي. يستغرق الدين بالله، وينقص نظريته الجمالية، ويضع في الله غائيته الذاتية).
-
(٢)
التناقض في وجود الله: الدين هو علاقة الإنسان بماهيته الخاصة ولكنها ماهية منفصلة عنه، خارجة منه، غريبة عليه بل ومعارضة له. وهنا يكون الموقف الزائف المعارض للعقل والأخلاق وللطبيعة. وهنا ينشأ الخيال الديني ليصور الموقف الزائف وليحدث كل المآسي الدينية في التاريخ. إن حضور الماهية الإنسانية المنفصلة عنه رؤية إرادية صبيانية ساذجة تميز بين الإنسان والله ثم توحِّد بينهما. وبمجرد نشأة الفكر وعمل الذهن واستيقاظ الشعور المزيف ينشأ اللاهوت وتتحول الرؤية اللاإرادية إلى رؤية قَصْدية واعية من أجل تفريغ هذه الوحدة والتمايز خارج الشعور بعد بدايتها فيه. كلما كان الدين في بدايته لم يكن هناك فرق بين الإنسان والله. فكان العِبْراني القديم يفصل بين الله والإنسان في الوجود ولكنه في الصفات يُعطي الله كل صفات الإنسان. وقد تم التغلُّب على ذلك في اليهودية المتأخرة بالرمز. وقد حدث الأمر نفسه في المسيحية، فلم تظهر ألوهية المسيح إلا متأخرًا خاصة عند بولس والكنيسة البدائية. كانت أول محاولة للفصل بين الله والإنسان واعتبار الله خارج الإنسان في وجود الله ومحاولة البرهنة عليه بالبراهين العقلية، ولكن هذه البراهين تناقض جوهر الدين. فالله هو ما لا يتصور الإنسان أعظم منه كما هو الحال في الدليل الأنطولوجي أي ما يعبِّر عن الإنسان (وما يعتبره الإنسان أسمى وأعظم ما هو إلا هادٍ للعقل وأخلاق للعاطفة والتمني والرغبات. فعواطفه اعتقاده هو الله بالنسبة له في حين أن الوجود هو الوجود الحسي العياني الذي لا يمكن استنباطه؛ ومن ثم يجعل فيورباخ الأحمق على حق وأنسيلم على خطأ في المعركة بين أعداء الدليل الأنطولوجي وأنصاره. الدليل الأنطولوجي مجرد إسقاط ورغبة تولِّد المرغوب فيه، وتمنٍّ يتحول إلى وجود. الله هو نفس القلب الحسي، وما السماء إلا المسرح الحر للانفعالات، ولكن الدين لا يعي هذا القياس اللاشعوري. إن مهمة البراهين على وجود الله إخراج الداخل، وتخريج الانفعالات، وتشخيص العواطف خارج الإنسان وليست إثبات أي موجود واقعي في الخارج. ومن نتائج هذا التناقض أيضًا الإلحاد، وهي تهمة لا توجَّه للمحلدين بل للمؤمنين الذين يُنكرون وجود الله الفعلي، ويؤمنون بماهية الإنسان المتموضِعة خارجه على أنها إله وهو وَهْم. وينتج عن الإلحاد نفي لكل المبادئ الخلقية، ونفي وجود الله هو نفي لكل أساسٍ للتمييز بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة. ويقوم الخيال بدور كبير في الإيقاع في الوهم. وقد بدأت دلائل أخرى على وجود الله، وهي التي سماها كانط الدلائل البَعْدية أو الكونية أو الفيزيقية ابتداءً من العالم والحقائق التجريبية والمادية المزدهرة في العصر ولكنها أيضًا تبدأ من العالم الحسي ثم تتحوَّل إلى وهم عن طريق تخيُّل موجودٍ في الخارج. والحقيقة أنه إذا ما تم التوحيد بين الاعتقاد بالله والاعتقاد بالعالم تم القضاء على الزيف وينتهي الاغتراب).
-
(٣)
التناقض في الوحي الإلهي: الوحي هو البرهان الوحيد على وجود الله؛ فالله يكشف عن نفسه من خلال الوحي، ويرسل دليلًا حسيًّا ملموسًا على وجوده. فالوحي شهادة من الله على نفسه بأنه موجود. الوحي هو البرهان الوحيد الموضوعي في حين أن البراهين العقلية ذاتية خالصة. الله يتحدَّث، ويكلِّم الإنسان، فالوحي هو كلام الله للإنسان، صوت يخلب اللب، ويستولي على المشاعر. الإيمان بالوحي هو ذروة الموضوعية الدينية، يتحوَّل فيه اليقين الذاتي إلى واقعة تاريخية خارجية لا يمكن الشك فيها. لقد برهن الله بنفسه على وجود ذاته. وظهر على أنه إله موضوعي. لم يعد الله إلهًا لي، بل إله في ذاته له وجوده المستقل عني. الله هو الرابطة المشخصة بين الماهية والجنس (المنطقي)، وبين الطبيعة الإنسانية والشعور الإنساني. وبالرغم من ذلك فإن الوحي يضم عدة تناقضات؛ أولًا: أن الإنسان لا يمكنه معرفة شيء عن الله، وأن كل معرفة عبث، وأن الإنسان لا يمكن أن يعلم شيئًا عن الله إلا ما يُعْلمه الله إياه عن نفسه من خلال الوحي. المعرفة الإنسانية مجرد ظن ورأي في حين أن الوحي حقيقة ويقين، وهكذا يتمُّ التنكُّر للمعرفة الإنسانية والحط من قيمتها والشك فيها وهدمها. ثانيًا: الله يفكر في الإنسان ولأنه يرسل إليه وحيًا، فالإنسان مقصد الله ومُحدِّثه. ولكن يقع اللاهوتي في خطأ شنيع عندما يجعل الإنسان يفكر في الله، ويجعل الله مقصد الإنسان ومحدثه أي قلب الأنثروبولوجيا إلى ثيولوجيا في حين أن سر الثيولوجيا في الأنثروبولوجيا. ثالثًا: الإيمان بالوحي إيمان صبياني، مرتبط بالمراحل الأولى لتطور البشرية. الوحي تربية للجنس البشري من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب. ويختفي بمجرد استقلال الإنسان عقلًا وإرادة. وهي الفكرة التي ورثها فيورباخ من فلاسفة التنوير الألمان وعلى رأسهم كانط ولسنج. رابعًا: الوحي قضاء على الحس والتذوق الخلقي والجمالي للفضيلة، بل هو قتل وتسميم للحس الإلهي للإنسان، حس الحقيقة والإحساس بها. الوحي حقيقة خاصة محدودة وليس حقيقة عامة وشاملة في كل زمان ومكان، مسطورة في الطبيعة، يدركها الذهن الإنساني؛ لذلك يجب تدوين الوحي في لغته الأولى حتى يتمَّ حفظُه في صورته الأولى. خامسًا، يعارض الوحيُ العقلَ بما فيه من معجزات وخرافات وأساطير. ولما كان الحق لا يعارضه بل الحق يوافقه ويشهد له لزم تأويل نصوص الوحي حتى تتفق مع العقل وتحل التناقضات. سادسًا: لما كان الوحي مكتوبًا فقد حدث فيه بالضرورة خطأ في النقل والرواية أي في الوحي الموضوعي. ولما كانت الحقيقة أيضًا معطاة ذاتيًّا في الإيمان، حدث تناقض بين الوحي المكتوب والوحي الروحي، وانشطر الإنسان.
-
(٤)
التناقض في ماهية الله بوجه عام: الله هو ماهية الإنسان التي تتحوَّل إلى ماهية فوق إنسانية Surhumain. الله ماهية خالصة وكائن شخصي في آنٍ واحد، عام وخاص، كلي وجزئي، شامل ومحدود، هذا هو التناقض. فما يجب أن يكون ينفي بالضرورة ما هو كائن. والله الذي لا يسمع لصلواتنا ولا يرعانا ولا يعتني بنا لا يكون إلهًا وبالتالي تتحول الإنسانية إلى صفة لله. ولما كان ذلك لا يكفي نسب إليه الإنسان صفة ما فوق الإنسان وما فوق الطبيعة. فالله تأليه. والوحدة هنا جزء لا يتجزأ من الله. ثم أتى اللاهوت وأغرق ذلك في خضمٍّ من الأوهام والخيالات والتناقضات والسفسطات. فمثلًا يقول اللاهوت: «إن الله يتجاوز حدود الفهم وسر لا يمكن النفاذ إليه.» وينقل صفة معروفة إلى صفة أخرى غير معروفة، وصفة طبيعية إلى صفة أخرى فوق الطبيعية للإيهام بأن الله مخالفٌ للإنسان. وعدم الفهم هذا موقف انفعالي يتدخَّل فيه الخيال الذي هو العضو والماهية الأصلية للدين. لا نهائية الله لا نهائية كمية لأنها صفة إنسانية مقلوبة، الإنسان كَمٌّ. الله موجود حسي سُلب منه الحس، وحل محله الخيال، وهو حس بلا حدود. فالله خالد مطلقًا وعالم مطلقًا أي حس مدفوع إلى آخر حدوده. فالخلود والحضور على الإطلاق صفات حسية. ووظيفة الخيال توسيع أفق الحس. الأنا المحدود والنسبي المحدود يتم إطلاقهما بالخيال، وهكذا الحال في باقي الصفات. فالبداية هي الحس والواقع الجزئي (وبالتالي كانت الوثنية أقرب إلى الدين الصحيح. الله إذن هو ضَرْب الإنسان في نفسه إلى ما لا نهاية فيصبح الله كل شيء، كل خير وكل وجود، ويكون الخلاف بين الله والإنسان مجرد خلاف في الكم لا في الكيف. ليس الدين في حاجة إلى عقل بل في حاجة إلى خيال. الدين نفسه تعويض عن نقص الحضارة، فالمتديِّن ليس في حاجة إلى ثقافة. هو سعيد بخياله، ولا يحتاج إلى الخروج عن ذاته. المسيحية بماهيتها لا تفهم مبدأ الحضارة. لذلك كان العِبْرانيون على عكس اليونان).
(ومثل ثانٍ لتناقضات اللاهوت هو مفهوم النشاط أو العمل أو الصنع أو الخلق؛ ففي الفعل يجد الإنسان نفسه حرًّا سعيدًا بلا حدود في حين أنه يجد نفسه في الانفعال محدودًا، مقهورًا، شقيًّا. الفعل هو الشعور الإيجابي للذات. ويحدث الشيء نفسه بالنسبة لله. فالله هو السرور أو الفرح اللامحدود نتيجة للفعل، فيخلق كل شيء. ونجاح الفعل ودقة الصنع إنما ينشآن من أننا نحب ما نفعل. الخلق إذن نظرية سهلة لتفسير العالم تدل على عدم تحمل الذهن وسيادة العاطفة لسد نقص غياب نظرية فيزيقية للعالم في الدين.)
(لقد وضعت المسيحية أمام الوثنية التي تفسر نشأة العالم على نحو طبيعي نظريةً ذاتيةً عاطفيةً عمليةً بل أقرب إلى الأسطورة منها إلى النظرية وهي الخلق. ولما كان من الضروري التمييز بين عمل الإنسان وعمل الله فتم تصور الخلق من عدم لنفي أي تشابه أو تماثل بينهما.)
(ومثال ثالث هو توليد الابن من الآب، توليدًا خارقًا للعادة من فوق الطبيعة وتمييزه عن التوليد الطبيعي، توليدًا ليس له حدود، ضد العقل وضد الطبيعة من فعل الخيال، وهمًا خدَّاعًا، بالرغم من محاولته تفسير البعيد بالقريب، والأسمى بالأدنى، وما فوق الطبيعي بالطبيعي. ومثال رابع، تصور الفردية أو الاستقلال أو الشخصية. فالله شخص يرسل وحيًا، وصفاته صفات الإنسان، والشخص ضد وحدة الوجود الذي هو في قلب المسيحية. فاللوجوس هو الإنسان السر، المتضمن، الخفي. والإنسان هو اللوجوس الظاهر المتجلِّي. الله حي مثل الإنسان، والدين هو الإنسان قاسمًا نفسه قسمين بفعل الخيال.)
-
(٥)
التناقض في النظرة التأمُّلية لله: وهي نظرية المثالية الألمانية سواء في صورتها الصوفية عند جاكوب بوهمه أو في صورتها الفلسفية الميتافيزيقية عند اسبينوزا وكانط وهيجل وشلنج. وهي النظرية التي تجعل الله تصورًا عقليًّا، وأنه لا يوجد إلا من خلال الإدراك الإنساني كما أن الإنسان يوجد من خلال الإدراك الإلهي، ولكن الدين يجعل من الشخصية الإلهية الوسيلة التي يقلب الإنسان بها تحديداته وتمثُّلاته لماهيته الخاصة إلى تحديداتٍ وتمثلاتٍ لموجود آخر خارجه. فالشخصية الإلهية ليست إلا إخراج الشخصية الإنسانية من مَوْضَعتها. لقد حول هيجل الشعور الذي لدى الإنسان عن الله إلى شعور الله بذاته. فأصبح الله موضوع ذهننا وتصوُّراتنا. وأصبح هذا الموضوع الفكري هو الموضوع الفكري لله. يذهب التأمُّل إذن أبعد مما يذهب الدين؛ لأن الله كموجودٍ فكريٍّ ليس هو الله كموضوع خارجي. الله موجود داخلي روحي فكري شعوري، فعل داخلي محض. هذه الموضوعية التأملية تعني شيئين: الأول أن الله موضوع لفكرنا والثاني أن الله موضوع لفكر نفسه. أصبح الله في الفلسفة التأمُّلية شعورًا ذاتيًّا خالصًا، يفكر في ذاته، كإله اليونان. وهذه هي النزعة الوجدانية الإنسانية في الدين. وطالما أن الله لا يُعرف إلا من خلال الإنسان، فهو إنسان مشخَّص. الإنسان لا شيء بدون الله، والله لا شيء بدون الإنسان. في الإنسان وحده يصبح الله موضوعًا كإله، وتصبح كل تحديدات الإنسان وصفاته الفيزيقية والعاطفية تحديدات وصفات لله. لقد بدأ جاكوب بوهمه بالكشف عن عواطف الإنسان ثم أخرجها وشخَّصها فأصبحت إلهًا (ومع أن الله عند شلنج يجمع بين قوى عديدة إلا أنه غير قادر بالفعل. الشعور الديني أكثر عقلانية منه لأنه يكشف عن ذاته ويتحقق من خلال الإنسان الواقعي بالطبيعة الفعلية. الإنسان هو الدم الذي ينطق بمدائح الله. فالعاطفة التي يشعر بها الإنسان تجاه الله هي نفس العاطفة التي يشعر بها الله تجاه ذاته. وعند هيجل أيضًا، شعور الإنسان بالله هو شعور الله بذاته. فالشعور الإنساني هو شعور إلهي، واغتراب الإنسان عن شعوره هو جعله إياه شعورًا إلهيًّا موضوعيًّا. فلماذا يوصف الله بصفات الإنسان؟ لماذا يكون الله شعورًا في الإنسان وللإنسان ماهية الله؟ لماذا يكون لله ماهية وللإنسان شعور؟ لأن المعرفة التي عند الإنسان عن الله هي نفس المعرفة التي عند الله عن ذاته؛ وبالتالي يُصبح كل اتجاهٍ تأمُّلي في الدين اغترابًا، فالدين لا يجعل الإنسان متأملًا في الكون بل يجعله فاعلًا فيه. ويكون موقف هيجل بفلسفته التأمُّلية موقفًا مغتربًا).
-
(٦)
التناقض في التثليث: لا يُموضِع الدين أو اللاهوت ماهية الإنسان أو الله فقط باعتباره موجودًا شخصيًّا، بل يعطي أيضًا تحديداتٍ أساسيةً لهذه الماهية في أشخاص. فالتثليث ليس إلا مجموع الفروق الجوهرية الأساسية التي يراها الإنسان في ماهيته. وهي تماثل التحديدات في الشخصية الإلهية. فتغترب الشخصية الإنسانية عن ذاتها بإدخالها هذه التحديدات في الشخصية الإلهية. الشخصية الإلهية لا توجد إلا في الخيال ولا توجد أيضًا تحديداتها إلا بالخيال. التثليث تناقض من حيث إنه يضع تعدُّد الآلهة في تصوُّر الإله الواحد، فيضع الخيال في العقل، ويدمج الأسطورة في الواقع. يفترض العقل وَحْدة الأشخاص ولكن الخيال يضع التثليث. وفي حكم العقل، هذه التمييزات من صنع الخيال، أي مجرد وهم في حين أنها في نظر الخيال وجود. يقتضي التثليث أن يفكر الإنسان عكس ما يتخيَّل، وأن يتخيَّل عكس ما يفكر، يقتضي التفكير في أشباح وكأنها موجوداتٌ حقيقية، فالعقل يستبعد تعدُّد الآلهة من الألوهية (ففي سر الثالوث المقدس بقدر ما هو حقيقة مستقلة عن ماهية الإنسان كل شيء فيه ينتهي إلى خداع وخيال وتناقض وسفسطة. وكأن فيورباخ هنا يرد على إعلاء الرومانسيين من شأن الخيال والحلم).
-
(٧)
التناقض في الطقوس: وكما يتضمَّن الجوهر الموضوعي للدين تناقضات واضحة كذلك يتضمَّن الجوهر الذاتي تناقضاتٍ أوضح. وتناقضات الجوهر الذاتي للدين هي الإيمان والحب اللذان يتخارجان في الشعائر وطقوس العماد والمشاركة؛ فطقس الإيمان هو العماد، وطقس الحب هو المشاركة. الإيمان والحب هما عنصرا الدين الذاتيان. الإيمان هو الأمل بالنسبة للمستقبل ولكنه يتشخَّص ويتحول إلى وجود خاص كما تحولت من قبل ماهية الإنسان وتشخصت في الله. يتحول الماء من ماء طبيعي إلى ماء فوق طبيعي Surhumain. وكما يوقعنا الدين في اغتراب عن ماهيتنا الخاصة وكما نغترب عن ذواتنا يغترب الماء عن ذاته ويتم ذلك أيضًا بفعل الخيال. وكما يغترب الخمر فيصبح دمًا، ويغترب الخبز فيصبح جسدًا إذ يتم ذلك بفعل المعجزة. لا يمكن فهم العماد بدون المعجزة، كما لا يمكن أن يحصل الإيمان بدون المعجزة إذ لا يعتمد على الذات ولا على النشاط المستقل أو على حرية الحكم والاعتقاد. المعجزة هي التي تجعلني أومن بحقيقة فاعل الأعاجيب Thaumaturge. والملحد ينكر الله لأنه لا يجده في التجربة، ولا يريد الاعتماد على المعجزة. وإذا كان العماد للأطفال فالمشاركة للكبار، غرضها المشاركة في جسد المسيح، الجسد الحقيقي. فالمسيحي قبل الإفطار في الصباح وهو صائم يتمثَّل جسد المسيح بالتناول، بالفعل وليس بالروح وحده. الحقيقة أن ذلك لا يتم إلا في الخيال مثل تحويل الخمر إلى دم، والخبز إلى جسد. الإيمان قوة الخيال التي تحول الواقع إلى لا واقع، واللاواقع إلى واقع، وهو ما يعارض شهادة الحس وبرهان العقل. يُنكر الإيمان ما يُثبته العقل، ويُثبت ما يُنكره العقل. لقد استطاعت البروتستانتية أن تقيم مشاركة أفضل تتم بالكلام وباللغة وليس بالخمر والخبز. ومع ذلك فالنتيجة واحدة: الخرافة واللاأخلاقية.
-
(٨)
التناقض في الإيمان والحب: بعد أن تكشف الطقوس عن التناقض بين المثالية والمادية، بين الذاتية والموضوعية، وهما يكوِّنان ماهية الدين، فإن الطقوس ليست شيئًا بدون الإيمان والحب. فالتناقض في الطقوس يؤدي بنا إلى التناقض في الإيمان والحب. ماهية الدين هي التوحيد ولكن الظاهر هو التفريق. فالله ماهية الإنسان المتوحِّد مع وجود ولكنه يعرف في الدين باعتباره آخر منفصلًا. الحب يكشف عن ماهية الدين المتحدة بمضمونه، والإيمان يكشف عن وضعه وصورته (الحب يوحد بين الإنسان والله، والإيمان يفرق بينهما) ولما كان الله هو التصور الجنسي (المنطقي) الصوفي للإنسانية، فالتفرقة بين الإنسان والله تفرقة بين الإنسان ونفسه، وقضاء على الخير المشترك. بالإيمان يتناقض الدين مع الأخلاقية ومع العقل ومع الحس الإنساني بالحقيقة. والحب اتفاق مع الأخلاق والعقل والحس. الإيمان يعزل الله ويجعله موجودًا خاصًّا آخر، والحب يفحم ويعارض هذه التناقضات ويجعل الله موجودًا عامًّا. الإيمان يقسم الإنسان إلى قسمين؛ داخل وخارج، والحب يشفي جراح الإيمان في قلب الإنسان. الإيمان يجعل حب الإنسان لله قانونًا، والحب يجعله حرية. ولا يدين الملحدون لأنهم ملحدون. ولأنهم يُلْغون على الأقل عمليًّا، إن لم يكن نظريًّا، وجود إله خاص معارض للإنسان. الإيمان يفصل، وبالتالي فهو خاطئ، يضع صورته في شكل عقائد صحيحة في مقابل أخرى خاطئة. والحب يجمع ويجد المضمون المشترك بين العقائد المتباينة. الإيمان نفيٌ لا يسمح بقبول شيء داخله Exclusive، والحب إثبات وضم وحنان. الإيمان يتعامل مع شيء خاص، ومع وحي خاص، ومع إله خاص، ولا يعرف ما هو عام ومشترك، والحب على عكس ذلك. الإيمان يحدد الإنسان ويقيده، ينزع منه حريته وقدرته على تقدير الآخر المنفصل عنه، والحب الضد من ذلك. الإيمان مغلق على نفسه. واللاهوتي سجين مذهبه، ويصوغ الإيمان موضوعه على أساس من المصلحة والأنانية بدعوى البحث عن السعادة في وجود شخص خاص. المؤمنون أرستقراطيون وغير المؤمنين من العامة، والله هو تشخيص المؤمنين على حساب غير المؤمنين. الإيمان مغرور بل وأعتى من الغرور الطبيعي لأنه يعتمد على موجود أسمى، المخلِّص والمنقذ، والكريم وصاحب الأيدي والنعمة. تواضع المؤمن إذن غرور مقلوب، تواضع ظاهري. الإيمان محدود، ومن خلال هذا التحدد يكون الله غير المحدود. الإيمان أمر ضروري ومن ثم فهو عقيدة. الإيمان أناني لا يبحث إلا عن خلاص المؤمن ولو غرق الآخرون. الإيمان كراهية (من ليس مع المسيح يكون ضده). الإيمان عداءٌ للآخرين، مُوالاةٌ للمؤمنين، ومعاداة لغير المؤمنين. الإيمان يعارض نصوص الكتاب المقدس باسم العقيدة ومن أجلها. الإيمان يكفِّر ويدين الذين لا يؤمنون، ويلغي ويطرد من الرحمة باسم حب المؤمنين وبُغض الكافرين. الإيمان مجتمع مغلق، والمؤمن لا يعاشر إلا المؤمن. الإيمان عماد الحب وتحويله إلى طقس. الإيمان يقضي على الصلات الطبيعية للإنسانية، ويقيم بدلًا عن العلاقة الشاملة علاقة خاصة بين الناس. الإيمان نفاق وادعاء، الإيمان تحيز ومحاباة. سبب الحروب الدينية والمذابح الطائفية، واضطهاد الفرق (المخالفة في الرأي). الإيمان تعصب لا يعرف التسامح، ومرتبط بالوهم والجنون والطائفية. الإيمان نقيض الحب، والحب صنو العقل (الإيمان تناقض في كل شيء. الإيمان واجبات أمام الله مناقضة للواجبات أمام الإنسانية. الإيمان تشخيص تمَّحي فيه الفضائل والأوامر الخلقية وتصبح شخصية خاصة. الإيمان معارض للأخلاق بالرغم من إيحائه للإنسان بالسعادة وهي في حقيقة الأمر سعادة وهمية. الإيمان على أقصى تقدير، لا يقدِّم إلا أخلاقًا سلبية مثل الصبر، والتوكُّل، والتضحية، والعذرية، مظاهر فضيلة. هكذا يتناقض الإيمان مع نفسه ويتعارض مع الحب. الحب هو الأخلاق والإيمان هو الدين. الحب صفة والإيمان موضوع. الحب بلا إيمان، والإيمان بلا حب. الحب لكل الناس والإيمان لشخص خاص. الحب قانون شامل للعقل والطبيعة، جعله فيلون الفضيلة الأولى، كما جعل أرسطو الصداقة، وهي إحدى صور الحب، توحد بين السيد والعبد وكما جعل الفلسفة، وهي صورة أخرى للحب، توحد بين البشر، وعند الرواقيين يوجد الإنسان للآخر، ويدعو سنيكا لحب الجميع). الحب مباشر بلا واسطة مثل العقل في حين أن الإيمان في حاجة إلى توسط. الإيمان اغتراب لا يُقْضى عليه إلا بالحب.
-
(٩)
تطبيق أخير: بعد هذه التناقضات يجب تجاوز ماهية المسيحية وماهية الدين بوجه عام. لقد برهن فيورباخ على أن مضمون الدين وموضوعه إنساني كلية، وأن سر الثيولوجيا هو الأنثروبولوجيا، وأن سر اللوجوس الإلهي الماهية الإنسانية، ولكن الدين ليس على وعي بالطبيعة الإنسانية بل يعارض كل ما هو إنساني، ولا يعترف بمضمونه الإنساني. إن تحويل مجرى التاريخ إنما هو في هذا الاعتراف العلني بأن الوعي الإلهي هو الوعي بالجنس (المنطقي)، وأن الإنسان يستطيع بل يجب أن ترتفع حدوده وفرديته وشخصيته ولكن ليس فوق القوانين والتحديدات الجوهرية لجنسه. لا يستطيع الإنسان أن يوجد أو يشعر أو يتخيَّل أو يريد أو يحب إلا ماهيته الخاصة باعتبارها مطلقة وإلهية. ويحدِّد فيورباخ موقفه من الدين بأنه ليس سلبيًّا بل نقديًّا، وأنه ليس هادمًا بل بنَّاءً. الدين هو الشعور الأول للإنسان بذاتِه لأنه شعور الإنسان بذاته، حب الإنسان لذاته، لذلك كانت علاقات الدين هي علاقات الأخلاق، وكانت علاقات الزواج علاقة مقدسة في ذاتها بطبيعة العلاقة وليس لأنه ديني. ويفكر الإنسان المتديِّن في الله لأن الله يفكر فيه، ويحب الله لأن الله يحبه. وكما أن الله غيور من الإنسان فإن الدين غيور من الأخلاق. إننا عندما نؤسس الأخلاق على اللاهوت والقانون على الشريعة الإلهية يمكننا في الوقت نفسه تبرير أكثر الأشياء ظلمًا وعارًا وتأسيس اللاأخلاقية. إننا لا يمكن أن نؤسِّس الأخلاق على اللاهوت إلا إذا تم تأسيس الوجود الإلهي أولًا على الأخلاق، وإلا استحال الحصول على مقياسٍ للأخلاق واللاأخلاق، وتركنا الأمر للعبث والتعسف، وكأن فيورباخ هنا يعيد مشروع كانط للسلام الدائم بتأسيس السياسة على الأخلاق. إننا لسنا في حاجة إلى شريعة الدولة المسيحية بل في حاجة إلى شريعة الدولة العقلية العادلة الإنسانية. فالعادل والخيِّر الحقيقي يحتوي على أساسه في ذاته وهو القادر على هدم الزيف والخداع الذي يفسد الإنسانية والذي يقتل في الإنسان قواه الحيوية. يجب علينا قلب العلاقات الدينية، وتفسير الوسائل على أنها غايات؛ فالماء ليس هو الماء المقدس في العماد بل الماء في الطبيعة. والخبز ليس هو الخبز المقدس بل هو خبز الجَوْعى. والجسد ليس الجسد المقدس بل جسد الإنسان العادي. والدم ليس هو الدم المقدس بل دم الشهداء والضحايا. إن الطبيعة في حاجةٍ إلى الإنسان كما أن الإنسان في حاجةٍ إلى الطبيعة. الطعام والشراب، هذا هو سر المشاركة!وهكذا ينتهي فيورباخ من محاولته لإعادة الدين إلى الموقف الإنساني، وإعادة ملكوت السموات إلى ملكوت الأرض وهو ما حاوله الإسلام قبل ذلك بثلاثة عشر قرنًا، وكأن الفلسفة الغربية كلها منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة وفلسفة التنوير حتى فيورباخ والهيجليين الشبان ما هي إلا محاولة للاقتراب من إنسانية الإسلام وواقعيته ورفضه للكهنوت والأسرار وتأكيده للعقل والتوحيد. فسهام فيورباخ موجهة إلى الدين قبل أن يكتمل وليس بعد اكتماله وتحقُّقه؛ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: ٣).