أولًا: مقدمة: من النقل إلى الإبداع
يستطيع الباحث من جيلنا وفي عصرنا بالنسبة لمصادره العلمية أن
يعتمد على طرقٍ ثلاث:
- الأولى: الاعتماد على التراث الغربي مستمدًّا منه مادته العلمية، وما أكثرها في الفلسفة المعاصرة في علم الهرمنطيقا. وقد قام الباحث بذلك مراتٍ عديدة في كتب مستقلة أو في مقالات خاصة.١ ويؤيد ذلك أن علم الهرمنطيقا في صياغاته الحالية علم غربي ارتبط بالفلسفة المعاصرة ثم استقلَّ عنها وعن باقي العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإن كانت مادته العلمية وبعض صياغاته الأولى موجودة في كل تراث ديني وفي كل حضارة غربية أم شرقية، ولكن عيب هذه الطريقة هو الابتسار الحضاري، أي جعل علوم التفسير مقصورة على التراث الغربي دون غيره باستثناء بداياتها الأولى ثم تعميمها على كل تراثٍ مع تعميم ظروفها الخاصة وطمس معالم أية ظروف مغايرة في حضارات أخرى تنشأ علوم التفسير منها. مع العلم بأن واضعي أصول هذا العلم في التراث الغربي المعاصر يعترفون بأنه كذلك وليس علمًا عامًّا للبشرية جمعاء على ما يدَّعيه المستغربون أنصار التراث الغربي كممثل وحيد للثقافة العالمية.٢ وفي علوم التفسير هناك مدارس فرنسية وألمانية وبريطانية، وهناك مادة إسلامية ومسيحية ويهودية وبوذية.٣ وتكون نتيجة هذا الابتسار الحضاري هو إطالة مرحلة النقل وتأخير مرحلة الإبداع طالما أن معدل الإنتاج الثقافي في الغرب أعلى بكثيرٍ من معدل نقله إلى خارج الغرب، وتُصبح حضارة واحدة هي المبدعة والرائدة والمركز والحضارات الأخرى الناقلة والتابعة والمحيط.
- والطريقة الثانية: الاعتماد على تراثنا القديم وما أفرزه من مادة علمية تكشف عن مناهج واتجاهات في التفسير. وقد قام الباحث بذلك أيضًا في مؤلَّفات مستقلة أو في دراسات خاصة.٤ وصعوبة هذه الطريقة أن الباحث قد يكرِّر ما قاله القدماء دون قراءةٍ جديدة، وإن قرأ فإنه قد يعتمد في قراءته على علوم التفسير المعاصرة في الغرب فيسيء التأويل للتراثين معًا. كما تؤدي كثرة المصادر وتعدُّد الإحالات إلى إيثار تراث على آخر بالضرورة مع إغفال الظروف القديمة أو المعاصرة التي نشأ منها كل تراث مع أن ظروف عصرنا قد تغيرت. وهذا من شأنه أن يجعل النقل مجرد إضافة معلومات على واقع لم تنشأ منه وبالتالي لا تؤثر فيه. كما يجعل الدراسة الجديدة مجرد مراجعة للأدبيات القديمة أو الحديثة، عرضًا أو نقدًا لها وربما إضافة عليها دون التعامل مع الواقع ذاته الذي يظل في حاجة إلى تنظير مباشر ينبع منه ويقدر على التأثير فيه.
- والطريقة الثالثة: الاعتماد على منطق العقل الخالص وتحليل التجارب الإنسانية المشتركة لكل المشتغلين بموضوع النصوص أيًّا كان نوعها دون الإحالة إلى تراثنا القديم أو إلى التراث الغربي، وهما زاخران بالمادة العلمية بهدف تجاوز مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع؛ فالاعتماد على المصادر كنقطة بداية تُفقد العمل الفكري وحدته الداخلية وبناءه العضوي، وتجعل الباحث مجرد جامع لمادة أو شارح وملخص لها، وفي أحسن الأحوال يكون ناقدًا لها. ويظل الموضوع ذاته خارج دائرة الاهتمام. تتجاوز هذه الطريقة المداخل الحضارية، حضارة الذات وحضارة الغير٥ وتتجه نحو الموضوع ذاته لاكتشاف بنيته كما فعل القدماء والمحدَثون على حدٍّ سواء. وفي هذه الحالة لا توجد إحالة إلى مراجع لا في الهوامش ولا في نهاية المقال ولا ذكر لأسماء أعلام أو مذاهب أو حضارات أو نماذج سابقة في صلب الدراسة. ويكون المرجع الأول والأخير هو شعور الباحث وشعور القارئ والتجربة المشتركة بينهما. والقدرة على التعميم في النهاية هي إحدى سمات الإبداع، والقدرة على إخفاء المصادر وعدم الإحالة إلى الخارج والاعتماد على البنية الداخلية للموضوع هي إحدى مواصفات الإبداع، والوصول إلى قدرٍ من الصورية الخالصة هي إحدى لحظات الإبداع. وباكتشاف القانون الطبيعي، وفي حالة قراءة النص القاعدة اللغوية النفسية الاجتماعية التاريخية، تتتابع وقائعه، وتنتظم حوادثه المتفرقة. لقد تأخر الإبداع في فكرنا المعاصر، وطالت مرحلة النقل لعدم ثقة بالنفس ولطول الألفة لموقف المتعلم ونسيان لموقف الأستاذ المترسِّب في الوعي التاريخي. والثقة بالذات شيء، والتواضع أو الغرور شيء آخر. لا يعني الوضوح السطحية، ولا تعني التعميمات العموميات. ومع ذلك، هي مغامرة محسوبة العواقب، مخاسرها أقل من مكاسبها في حين أن مخاسر النقل أكثر من مكاسبه.
والحقيقة أن هذه الطرق الثلاث قد لا تستبعد بعضها بعضًا. ويمكن
الجمع بينها من أجل الاستفادة بميزة كل طريقة والإقلال من عيوبها.
وهي تعبِّر عن الجبهات الثلاث في موقفنا الحضاري الحالي، الموقف من
التراث القديم، والموقف من التراث الغربي، والموقف من الواقع ذاته.٦ كما يمكن إلى حدٍّ ما الإشارة إلى بعض المصادر حتى لا
يشعر القارئ أنه في فراغ وحتى يمكن ربط الإبداع بالنقل، والحاضر
بالماضي، والبنية بالتطور على الأقل كمرحلة متوسطةٍ بين النقل
التام والإبداع الخالص. صعب إيجاد موقف متوازن ومتعادل بين هذه
الطرق الثلاث ومع ذلك تظل الطريقة الثالثة هي المُثْلى وهي الطريق
الأفضل في مرحلتنا الحالية. وتبقى الطريقتان الأوليان مجرد عاملين
مساعدين توجيهًا للقارئ وتأكيدًا لوحدة فكره بين نقل متعارف عليه
وإبداع يُخشى منه.
١
Hassan Hanafi:
L’Exégèse de la Phénoménologie, I’état
actuel de Ia méthode phénoménologique et
son application au phénomène religieux,
Dar al-Fikr al-Arabi, Paris, 1966, Le
Caire, 1979. La Phénoménologie de
l’Exégèse; Essai d’une herméneutique
existentielle à partir du Nouveau
Testament, Paris, 1966
(Manuscript).
د. حسن حنفي: مدرسة الأشكال الأدبية، انظر في موضع آخر من هذا الكتاب.
د. حسن حنفي: مدرسة الأشكال الأدبية، انظر في موضع آخر من هذا الكتاب.
٢
H. G. Gadamer: Vérité
et Méthode; l’histoire de la Pensée
Occidentale et son empreinte sur Ie
concept de langue. pp. 254–290; H. G.
Gadamer: L’Art de comprendre;
Herméneutique et Tradition
Philosophique: L’Herméneutique et la
Tradition Occidentale, pp.
157–195.
٣
F. Geny: Méthode
d’lnterprétation et Sources en Droit
Privé Positif; T. II, pp. 56–73;
pp. 235–278.
٤
Hassan Hanafi: Les
Méthodes d’Exégèse; Essai sur la science
des fondements de Ia compréhension. “IIm
Usual al-Fight”. Le Caire, Paris,
1965.
د. حسن حنفي: «هل لدينا نظرية في التفسير؟» قضايا معاصرة، الجزء الأول، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م، «أيهما أسبق؟ نظرية في التفسير أم منهج في تحليل الخبرات؟» نفس المصدر، «عود إلى المنبع أم عود إلى الطبيعة؟» نفس المصدر، «مناهج التفسير ومصالح أمة». الملتقى الإسلامي الخامس عشر، الجزائر، ١٩٨١م، وأيضًا: «الدين والثورة في مصر»، في اليسار الديني، واليمين واليسار في الفكر الديني.
د. حسن حنفي: «هل لدينا نظرية في التفسير؟» قضايا معاصرة، الجزء الأول، دار التنوير، بيروت، ١٩٨١م، «أيهما أسبق؟ نظرية في التفسير أم منهج في تحليل الخبرات؟» نفس المصدر، «عود إلى المنبع أم عود إلى الطبيعة؟» نفس المصدر، «مناهج التفسير ومصالح أمة». الملتقى الإسلامي الخامس عشر، الجزائر، ١٩٨١م، وأيضًا: «الدين والثورة في مصر»، في اليسار الديني، واليمين واليسار في الفكر الديني.
٥
د. حسن حنفي: «موقفنا الحضاري»، قضايا
معاصرة، الجزء الأول، وأيضًا: «موقفنا
الحضاري»، في الجزء الأول من هذا
الكتاب.
٦
د. حسن حنفي: «موقفنا الحضاري» عمان، ١٩٨٣م، في ندوة
الفلسفة في الوطن العربي الأول الذي نظمته الجامعة
الأردنية، ص١٣–٤٢، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،
١٩٨٥م. في الجزء الأول من هذا الكتاب.