ثالثًا: ما هو النص؟
النص هو تدوينٌ لروح عصرٍ
من خلال تجارب فردية وجماعية في مواقف معينة متعددة ومتباينة.
والغاية من تدوين التاريخ توريث كل جيل خبراته للأجيال التالية،
استمرارًا لسلطانه أو على الأقل ترشيدًا للمستقبل وتوجيهًا له.
النص هو تحوُّل إرادي من الشفاهي إلى الكتابي حرصًا على تسجيل
المواقف وسرعة تقنينها انتقالًا من التعدُّد إلى الوحدة، ومن
الاختلاف إلى الاتفاق. فالنص بهذا المعنى قضاء على التعدُّدية في
الحاضر وإيثار لوحدة المستقبل، تضييق على الحاضر وامتداد في
المستقبل حتى تبقى الروح في التاريخ، وتتوارث الأجيال الفكر جيلًا
بعد جيل. النص إذن ليس وثيقة مدونة أقرب إلى المرويات أو السجلات
القديمة بل هو كائن حي في حالة سكون يُبعث بالقراءة فيحيا من جديد
وبأشكال جديدة كما هو الحال في تناسخ الأرواح عندما تظهر نفس
الروح، وهو المعنى، في أجسادٍ جديدة، وهي مجموعة القراءات. النص هو
الميت الحي أشبه بعبادة الأسلاف وأرواح الأجداد. حدث ذلك في كل
حضارةٍ بانتقالها من العصر الشفاهي إلى عصر التدوين. فقد ظهرت عدة
أناجيل متباينة وتمَّ حفظُها كتابةً كنوعٍ من الذكرى الجماعية في
القرن الثاني الميلادي حتى وقع بينها التضارب والاختلاف نظرًا
لتباين القراءات طبقًا للبيئات الثقافية المتعددة حتى تم تقنينها
في القرن الرابع إيثارًا لوحدة القراءة على تعدُّدها. وحدث ذلك
بدرجة أقل في عصر تدوين القرآن بلهجة قريش حرصًا على وحدة القراءة
أي وحدة الفهم منعًا للاختلاف والتعدد. وفي هذه الحالة يكون
التفسير للشهادات الإنسانية المحفوظة عن طريق الكتابة.١ ثم يدخل التفسير كجزءٍ من النص، ويمَّحي الفرق بين
البداية والنهاية، بين الوحدات الأولى والمقاطع الأخيرة، ويصبح
القارئ مؤلفًا كما كان المؤلف قارئًا، ويتحوَّل العمل الفردي إلى
عملٍ جماعي كما هو الحال في المأثورات الشعبية. النص إذن إبداع
مستمر وخلق جماعي لا فرق بين تأليفه وقراءته، بين وضعه وانتحاله،
بين فهمه وشرحه؛ لذلك ظهرت «مدرسة الأشكال الأدبية» للبحث عن
الوحدات الأولى التي تكوَّن منها النص وذلك من خلال أشكالها
الأدبية، وأصبح نقد الأشكال الأدبية أحدث فروع نقد النصوص.٢
والنص ليس مجرد تدوين
للحفظ والتسجيل ولكنه يمثل سلطة توجيه وتقنين وتشريع؛ فالنص الأدبي
يؤثر في أجيال الأدباء الشبان ويكون أحد مصادر الإلهام في
التشريعات وفي تكوين القادة والأبطال. والنصوص التاريخية تعبِّر عن
روح الأمة وتكشف عن مسارها في التاريخ. والنصوص القانونية هي أساس
الدولة ودعامة مؤسساتها. والنصوص الدينية هي بالأصالة سلطة تصدر عن
الوحي وطاعة الأنبياء، تعطي شرعية للسلطان ضد معارضيه كما تشرِّع
للثورة ضد السلطان. يظهر النص كسلطةٍ في النصوص الدينية أكثر من
ظهورها في النصوص الأدبية أو التاريخية أو القانونية. وتقتضي
النصوص الدينية والقانونية الطاعة أكثر مما تقتضيه النصوص
التاريخية والنصوص الأدبية؛ لذلك تُستعمل النصوص كشواهد في الخطاب
في المجتمعات النصية التي لا يزال النص يمثِّل فيها سلطة؛ ومن ثم
انقسمت الحجج قسمين؛ حجة سلطة وحجة عقل بتعبير المعاصرين أو حجة
نقلية وحجة عقلية بتعبير القدماء.٣ لا يحتوي النص إذن على مجرد فكرةٍ أو تصور نظري بل هو
أمر أو نهي، خطاب يقتضي الطاعة بإتيان فعل أو بالإمساك عن فعل.
يتضمَّن النص توجهًا عمليًّا أكثر مما يتضمن معرفة نظرية؛ فهو أقرب
إلى الأخلاق منه إلى المعرفة؛ لذلك ارتبطت علوم التفسير بعلوم
النفس والأخلاق وكأن مهمة النص هي الإصلاح والتغيير، التخلِّي عن
العادات السيئة واكتساب العادات الحسنة. النص دعوةٌ إلى الإصلاح في
الأرض دون الإفساد فيها؛ لذلك كثرت قراءة النصوص في الخلايا
والجمعيات السرية.٤
١
W. Dithey: Le Monde de l’Esprit. vo. I,
p. 321.
٢
نقد الأشكال
الأدبية Form Criticism، نقد النصوص Textual Criticism،
انظر أيضًا: O. Kaiser & G. Kümmel:
Exegetical Method, translated by E. V. N. Goetchius.
Seabury, New York, 1967.
٣
انظر أيضًا مقالينا: «التراث والتغير الاجتماعي»،
و«التراث والعمل السياسي»، في الجزء الأول من هذا
الكتاب.
٤
A. B. Michelsen: Op. cit.; Devotion and
Conduct, pp. 356–368; Balance through care and
practice, pp. 375–382; W. Dilthey, Op. cit., p. 336;
F. Geny: Op. cit, p. 1–55.