ثامنًا: الإحالة إلى الذات
إن نظرية المعاني الأربعة للكتاب المقدس التي اشتهرت في العصر
الوسيط الأوروبي من خلال التراث المسيحي الكنسي إنما تدور كلها حول
الصراع بين المعنى الظاهري الحرفي والمعنى الباطني الروحي للنص مثل
الصراع الذي نشأ بين التنزيل والتأويل، بين الفقهاء والصوفية في
تراثنا القديم. فالتفسير الحرفي تضحية بالمعنى من أجل الحفاظ على
اللفظ مما أدى إلى الوقوع في التجسيم والتشبيه. والتفسير الرمزي هو
حفاظ على المعنى والتضحية باللفظ كرد فعل على التفسير الأول حرصًا
على التنزيه. أما المعنى الصوفي الإشراقي فهو المعنى الذي يهدف إلى
الارتقاء بالروح والعروج بها إلى أعلى من أجل رؤية الحقائق في
الملأ الأعلى والتي تتحول إلى أشياء وعقائد بديلة عن العالم.
وأخيرًا، المعنى الأخلاقي أو الموضوعي فهو المعنى الأكثر ارتباطًا
بالإنسان وسلوكه وقيمه، يحاول العودة بالنص إلى العالم. فإذا كان
المعنيان الأوليان الحرفي والرمزي يمثلان جدل التشبيه والتنزيه فإن
المعنيين الأخريين، الصوفي والأخلاقي يمثلان جدل الملأ والإنسان،
العقائد والأخلاق.١
أما التفسيرات العقائدية فإنها أيضًا تجعل النص مصدرًا لحقائق
قطعية منغلقة على ذاتها، منفصلة عن العالم، تخلق عالمًا بديلًا من
الوهم وتخلق موقف الاغتراب؛ فالعقائد ليست أشياء أو وقائع بل هي
أسس لتصوُّرات العالم وبواعث على السلوك. ليست بديلًا عن العالم بل
تنظير له، كما هو الحال في النظريات والمذاهب والأيديولوجيات. يهدف
التفسير العقائدي للنصوص إلى الخروج من العالم الطبيعي إلى عالم ما
فوق الطبيعة وبالتالي يتحول الواقع إلى وهم والحقيقة إلى زيف. وقد
حدث ذلك في التفسيرات الكاثوليكية، والأشعرية.٢
أما التفسير الطبيعي الذي يعتمد على نتائج العلوم الطبيعية ويقرأ
من خلالها النص فإنه يقوم على إحساس بالنقص أمام العلم الطبيعي،
فالظن لا يغني عن اليقين، والأهواء والانفعالات لا تقاس بالوقائع
والحقائق. كما أنه نوع من الدعاية الخطابية بأن الدين يختلف عن
العلم وبالتالي تطمئن العامة إلى جهلها وينشأ فريق للتكسب بالبرامج
الدينية العلمية. الحقيقة أن هذا التفسير يجعل القيادة والريادة
للعلم، والدين مجرد لاحق وتابع. تضيع ثوابت الأديان أمام متغيرات
العلم، ويُقضى على وحدة الأديان أمام اختلاف العلماء. ويظل العلم
متميزًا بمنهج الاكتشاف ويقتصر الدين على منهج التبرير. التفسير
الطبيعي للنصوص الدينية لا هو علم ولا هو تفسير بل مجرد خداع وهم
يكون الدين فيه هو الضحية. العلوم الطبيعية مستقلة بذاتها من حيث
هي علوم ونظريات ولو أن قراءة النص الديني أو الأدبي قد تكون
باعثًا على التوجه نحو الطبيعة أو مثيرًا للخيال العلمي. وقد تكون
قراءة الطبيعة قراءة مباشرة باعتبارها آيات أكثر علمية من العلوم
الطبيعية لأن هذه القراءة تحيل إلى المعنى والمعنى مقروء في النص.
فالآية واحدة، آية نصية أو آية طبيعية.٣
لقد استطاعت العصور الغربية الحديثة منذ رتشل وشليرماخر ودلتاي
حتى بولتمان وهيدجر وإيبلتج وفوكس وأوط وبابنبرج اكتشاف عالم
الذات، وأصبح علم التفسير جامعًا لعدة علوم مثل علم النفس وعلم
اللغة وعلم الاجتماع، كما أصبح عَصَبًا لنظريات المعرفة والوجود
والقيم على حدٍّ سواء. أصبحت مهمة علم التفسير إقامة جسورٍ بين
الله والإنسان، بين الماضي والحاضر، بين الذات والموضوع، بين اللفظ
والمعنى، بين العلم والدين، بين الأسطورة والواقع، بين الكتاب
المقدس والدعاية، لا فرق في ذلك بين نص أدبي أو نص ديني. تم اكتشاف
الوجود الإنساني باعتباره تفسيرًا يرجع إليه تفسير النص، كما تم
اكتشاف العالم الذاتي باعتباره موطن التفسير القادر على تأويل الأساطير.٤ ولقراءة النص مراحل عدة تبدأ بالذات وتنتهي بالموضوع،
تبدأ بالداخل، وتنتهي بالخارج على النحو التالي:
- (١) الالتزام بموقف: كل قراءة تبدأ بمعرفة شيء ما، معرفة ما يحتاجه القارئ أولًا، ماذا يريد أن يقرأ في النص، وماذا يريد النص أن يقول له. فالقارئ هو الذي يقرأ النص، وهو الذي يعطيه دلالته. والنص يتجاوب معه نظرًا لاشتباهاته وأوجهه؛ وبالتالي فإن القراءة غير الموجَّهة تحصيل حاصل لا تؤدي إلى معنى لأن القارئ يقرأ من غير أن يوجِّه النص نحو معنى معين لتحقيق هدف. فالمعنى هدف قبل التحقق، والهدف معنى متحقق. القراءة إذن موقف، والقارئ صاحب موقف. وفي هذه الحالة يصبح النص دالًّا ذا معنى. قراءة النص بلا موقف والتي تؤدي إلى تحصيل الحاصل هي القراءة الغالبة على معظم الخطاب الديني الرسمي لأنها مجرد ملء فراغ وإشغال وقت وتنفيذ مهمة رسمية وأداء وظيفة حكومية. هي إيهام الناس بأن القارئ يقول شيئًا وهو لا يقول شيئًا. وهو خداع للمصلين بأن ما يقوله يأتي من النص الموضوعي وهو لا يأتي منه لأنه في هذه الحالة لا شيء يأتي من الذات أولًا باستثناء أهواء مثل الخوف والجبن والتكسب بالدين. هذه المعرفة المسبقة الضرورية لتفسير النص ليست أحكامًا مسبقة ولا أهواء بشرية ولا آراء شخصية، بل يمكن أن يكون لها قدر من العموم والموضوعية تتجاوز النسبية والشخصية، أشبه بالمصالح العامة وبداهات العقول.٥
- (٢) التعبير عن مصالح الناس: إذا كانت القراءة تستحيل دون الالتزام بموقف، فإن السؤال بعد ذلك: بأي موقف يكون الالتزام ولصالح مَن؟ ولما كان النص موضوعًا لصالح الغالبية العظمى من الناس — خاصة النص الديني والنص القانوني — فإن تفسيره يكون لصالح هذه الأغلبية نفسها. وإذا كان النص سلطة، وكانت السلطةُ نوعين؛ سلطة الحاكم وسلطة المحكومين، وكانت سلطة الحاكم مستمدة من سلطة المحكومين لكونها عقدًا وبيعة واختيارًا فإن تفسير النص يكون بالضرورة لسلطة المحكومين مصدر سلطة الحاكم. وإذا ما اختلفت السلطتان، وعبَّرت سلطة الحاكم عن إرادته المشخصة أو عن فئته أو طبقته فإن سلطة المحكومين تتمايز عنها وتقف أمامها. فتكون في المجتمع سلطتان، كل منها تدَّعى الشرعية وتقرأ النص لصالحها. ولما كان الحاكم له فقهاؤه يفسِّرون النص لحسابه ظهر فقهاء المحكومين يقرءون النص دفاعًا عن مصالح الناس. فالصراع بين فقهاء السلطان وفقهاء الجمهور هو في الحقيقة صراع بين سلطتين؛ وبالتالي تكشف معارك التفسير للنصوص عن المعارك السياسية والاجتماعية في الدولة، وكما هو واقع حاليًّا في الصراع الدائر بين علمانية الحاكم ودينية المحكومين. ومن هذه القاعدة العريضة نشأت في تراثنا القديم قواعد فقهية مساندة مثل: «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن.» «لا ضرر ولا ضرار.» «المصلحة أساس الشرع.» «دَرْء المضار مقدم على جلب المنافع.» … إلخ. لذلك ارتبطت مناهج التفسير بالحركة الإصلاحية والحركات الاجتماعية فظهرت قراءات للنص الديني متمركزة حول الإنسان والطبيعة لصالح الناس في مقابل قراءة أخرى له متمركزة حول الله والكنيسة لصالح الحاكم.٦
- (٣) لغة الواقع الإحصائي: قد تكون القراءة تفسيرًا للنصوص ولكنها قد تكون أيضًا تفسيرًا للظواهر الاجتماعية والطبيعية طبقًا للمعنى الاشتقاقي لكلمة «آية» التي تعني نصًّا لغويًّا مسموعًا وظاهرة طبيعية مرئية. وكلاهما قراءة، قراءة النص لغويًّا، وقراءة المجتمع سياسيًّا، وقراءة الطبيعة علميًّا. هنا تحيل اللغة إلى المجتمع وإلى الوجود. ويتحوَّل النص من منطوقٍ مُدوَّن إلى واقع مرئي. ويتم الفهم عن طريق تطابق النص والواقع في التجربة المعاشة فتتحدَّد الدلالتان، دلالة النص اللغوية ودلالة الواقع المرئية. فالواقع هو المفسِّر للنص والمحدِّد لأوجهه التي يرتكن عليها. والواقع الإحصائي أقرب إلى تحديد العلل الاجتماعية الطبيعية من الوجود ككل خشية الوقوع في الميتافيزيقا الخالصة والتأملات النظرية. فالنص اقتضاء فعل، وأمر يتطلب طاعة، وتوجه نحو العالم لا خارجًا عنه؛ لذلك ارتبطت قراءة النص بالعلوم الاجتماعية لأنها هي التي تعطي معارف العصر وحركة المجتمعات. كما ارتبطت القراءة بالأيديولوجيات باعتبارها نظريات الحركة الاجتماعية ومناهج التطور الاجتماعي.٧ وتلك آخر مراحل التفسير، التفسير العملي بمعنى تحول النص إلى واقع، واللغة إلى حركة، كما يُسمَّى لاعب الكمان «مفسِّرًا» عندما يعزف النوتة الموسيقية، وكما سمت عائشةُ الرسولَ عندما كان يتهجَّد قائمًا ليلًا «مؤولًا» للقرآن.
١
المعنى
الحرفي Le sens Litéral، المعنى
الرمزي Le sens allégoique، المعنى
الروحي Le sens anagogique، المعنى
الأخلاقي Le sens moral tropologique.
Henri de Lubac: Exégèse Mediévale; Les quatre sens de l’Ecriture, 4 vols., Aubier, Paris, 1959–1964; B. L. Ramm: Biblical interpretation in: Hermeneutics, pp. 15–30.
Henri de Lubac: Exégèse Mediévale; Les quatre sens de l’Ecriture, 4 vols., Aubier, Paris, 1959–1964; B. L. Ramm: Biblical interpretation in: Hermeneutics, pp. 15–30.
٢
B. Ramm: Protestant interpretation of
the Bible: The doctrinal use of the Bible. pp.
163–184 ;The devotional and practical use of the
Bible, pp. 185–200; L. H. Grollenbery: Interpreting
the Bible; Trans. by Jeanne C. Schofflelen Nooijine
& R. Rutherford, C. S. C. Paulist Press, N.
Y., 1968; R. Marlé: Le problème théologique de
I’herméneutique, pp. 125–136; L. Berkhof: Op. cit.,
Theological interpretation, pp. 133–166; S. Neill:
The interpretation of the New Testament, 1861–1961,
Oxford, London, 1973, M. G. Tenney: Interpreting
Revelation, Erdmans, Grand Ropides. Mich., USA,
1970.
٣
A. B. Michelsen: Op. cit., symboles and
symbolic actions pp. 265–279.
٤
Ritchl, Schleiermacher, Dilthey,
Bultmann, Heidegger, Ebeling, Fuchs, Ott,
Papp.enbergl C. E. Braaten: Op. cit., from
Schleiermacher to Bultmann, pp. 120–127, New
hermeneutical options, pp.
137–147.
A. B. Michelsen: Op. cit., Mythology & Demythologizing, pp. 68–73.
A. B. Michelsen: Op. cit., Mythology & Demythologizing, pp. 68–73.
٥
يرى جاداما أن الأحكام المسبقة هي شرط
الفهم: H. G. Gadamer: Vérité
et Méthode, pp.
30–115.
٦
هذا
بإجماع الفقهاء خاصة في أصول الفقه المالكي
وعند الطوفي من فقهاء الأندلس، انظر د. حسن
حنفي، «مناهج التفسير ومصالح الأمة»، الجزائر،
١٩٨١م، وأيضًا: M. W.
Anderson: Reformation Interpretation in
B. L. Ramm: Hermeneutics. pp. 81–93, A.
B. Michelsen: Op. cit., pp.
55–58.
٧
G. H. Gadamer: Vérité et
Méthode: II, Elargissement du problème
de la vérité. Compréhension dans les
sciences sociales, pp.
103–226.