ثالثًا: التحول من الماضي والاتجاه نحو المستقبل وصياغة التقدم في التراث الغربي
لم تظهر الدراسات المستقبلية في التراث الغربي في فراغ بل سبقتها جهود عديدة لاكتشاف المستقبل في صورة تقدم وحركة وتغير وثورة وقانون. ولم يحدث هذا الاكتشاف فجأةً وفي عصر واحد بل مهَّدت له شروط وساعدت عليه عوامل وتراكمت فيه خبرات. وحدث ذلك على مراحل مختلفة حتى كمُل مفهوم التقدم الإنساني العام الذي يشمل القدرات الذهنية والمعارف الإنسانية والإنجازات البشرية.
-
(١)
فقد انتقلت الحضارة الأوروبية كلها من التمركز حول الله Theocentrism إلى التمركز حول الإنسان Anthropocentrism وقد ظهر ذلك في عصر الإحياء في القرن الرابع عشر عندما تم بعث الآداب القديمة التي تُعلي من شأن الإنسان في مواجهة الآلهة. كما استمر ذلك الإصلاح الديني في الخامس عشر بدخول الإنسان في علاقة مباشرة بينه وبين الله، وإيمانه في اللحظة دون توسُّط الكنيسة، وحريته في الفهم والتفسير للكتاب المقدس. وقوي ذلك في عصر النهضة في السادس عشر حين أصبح الإنسان هو الموضوع الأول للعلوم. فنشأت العلوم البيولوجية مع العلوم الطبيعية والرياضية، بل ونشأ الاتجاه الإنساني Humanism عند أراسم (١٤٦٩–١٥٣٦م). فقد كان يستحيل ظهور مفهوم التقدم أو التاريخ في عالم يطويه الله بين يديه، ويضعه تحت إبطيه دون أن يكون للعالم استقلاله ووجوده الخاص، ودون أن يكون له حركته وتطوره وقانونه؛ ومن ثم تم اكتشاف الحركة في الدراما والارتقاء في العلوم البيولوجية قبل اكتشاف التقدُّم في العلوم التاريخية.
-
(٢)
كما انتقلت الحضارة الأوروبية الحديثة من التصور الدائري للزمان، ذلك التصور الذي كان سائدًا في الحضارات القديمة إلى التصور التقدمي للزمان. كان التصور الأول مرتبطًا بالخلود، وبالعود على بدء، وبالبداية والنهاية من أجل حل قضية الصلة بين الزمان والخلود. وفي هذا التصور تكون الأولوية فيه للخلود على الزمان. في حين ارتبط التصور الثاني بالزمان دون الخلود، وبمراحل الزمان وفترات التاريخ وتعاقب الأجيال وتوالي العصور والأزمان. هذا التصور الأول جعل التقدم يسير إلى الوراء طبقًا لقانون القهقري Recoursi لحاقًا بالفردوس المفقود، وهروبًا من هذه الأرض الخراب، ورجوعًا إلى العصر الذهبي، وابتعادًا عن عصر الفساد والانهيار. في حين أصبح التقدم في التصور الثاني تقدمًا مستمرًّا، اليوم أفضل من الأمس، والغد أفضل من اليوم. لا رجوع إلى الوراء، ولا عودة بالزمن، فالزمان يسير في خطٍّ مستمر إلى الأمام. لا انتكاس فيه ولا نكوص؛ لذلك انتقل الوعي الأوروبي من التشاؤم إلى التفاؤل، ومن الإحجام إلى الإقدام، ومن الخوف والشك ومن والترقُّب إلى الثقة بالنفس واليقين والعمل.١
-
(٣)
ولما كان الدين هو ينبوع الحضارة ومركزها فقد تمت عدة تحوُّلات في تصور العقائد الدينية من المحور الرأسي إلى المحور الأفقي. حدث ذلك في تصور عقيدة العناية الإلهية التي تحفظ العالم وتعتني به بعد الخلق من خارجه وليس من داخله، وتحوُّله إلى تصور آخر جعلها قانونًا لتطوُّر التاريخ ولتحديد مساره من داخله وليس من خارجه. كما تحوَّلت عقيدة التثليث؛ الأب والابن والروح القدس من قبل في القرن الثاني عشر عند يواكيم الفيوري (١١٣٠–١٢٠٣م) إلى قانون لتطور التاريخ ذي ثلاث مراحل؛ مرحلة الآب وهو الذي يمثل السلطة، ومرحلة الابن وهو الذي يمثل المعارضة، ومرحلة الروح القدس وهو الذي يمثل استقلال الإنسان وعيًا وعقلًا وإرادة.٢ وظهر ذلك بوضوحٍ في فلسفة التاريخ عند هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م) حيث تحول ملكوت الآب وملكوت الابن وملكوت الروح القدس إلى جدل التاريخ، إلى مسار حضاري شامل يتجلَّى فيه الروح المطلق. كما تحول تطور النبوة من اليهودية إلى المسيحية إلى التنوير إلى قانونٍ عامٍّ لتربية الجنس البشري كما هو الحال عند لسنج (١٧٢٩–١٧٨١م) ابتداءً من مرحلة الحس والتشبيه الحسي وإله الغضب والعقاب والخوف إلى مرحلة العاطفة والوجدان وإله المحبة والعفو والتسامح والغفران إلى مرحلة العقل والحرية والطبيعة ودين التنوير، دين الإنسانية الجديد، خاتم الأديان، ونهاية التطور وكمال الإنسانية. ولم تعد المعجزة خَرْقًا لقوانين الطبيعة ونفيًا لاستقلالها بل حادثة تقع طبقًا لقانونٍ طبيعي نجهله. وتقدم العلم يمكن اكتشافه والتنبؤ بمسار الحوادث.٣ أصبح مستقبل الإنسان في هذه الدنيا وليس في الآخرة؛ وبالتالي بدأ الاهتمام بالعالم وبالإنتاج وبالإبداع وبتعمير الأرض وليس فقط بإذكاء الروح وتربية النفس استعدادًا للآخرة. اعتمد الإنسان على عقله وإرادته دون الاعتماد على الكتاب المقدس كمصدر للعلم أو على الإرادة الإلهية كوسيلة للتنفيذ. وتم الانتقال من الإرادة الخارجية المشخَّصة إلى الإرادة الإنسانية الفعلية، ومن الحكمة الإلهية إلى إرادة الشعوب. لم تعد الطبيعة البشرية فاسدةً بفعل الخطيئة الأولى لا تقوى على النهوض، ولا تنهض إلا لكي تتعثر من جديد دون منقذ أو مخلِّص ولكنها أصبحت طبيعة خيرة قادرة على النهوض بذاتها وعلى التقدم بنفسها. وهكذا بدأ مفهوم التقدم في الظهور ابتداءً من إعادة تفسير العقائد حتى يمكن الكشف عن الوعي بالتقدم في وعي التاريخ.
-
(٤)
وقد استطاع العلم اكتشاف قانون تطوُّر الأحياء. وقد بلغ هذا الاكتشاف الذروة في نظرية النشوء والارتقاء عند دارون (١٨٠٩–١٨٨٢م) في القرن التاسع عشر. وقد أعطى ذلك مفهوم التقدم أساسًا علميًّا طبيعيًّا ماديًّا حيويًّا. وامتد ذلك إلى هذا القرن، وظهرت الأنطولوجيا العامة الشاملة عند بيير تيار دي شاردان (١٨٨١–١٩٥٥م) Pierre Teillard de Chardin وتصوره لتطور العالم على حرف أوميجا W وبالتالي إمكانية التنبؤ بتطور المستقبل وبمسار حوادثه. أصبح من منجزات العلم الإيمان المطلق به وبقدرة القانون العلمي على التنبؤ بالمستقبل نظرًا لاطِّراد قوانين الطبيعة وثباتها وحتميتها. وقد جاء هذا الإيمان بالعلم نتيجةً لجهاد طويل استغرق عدة أجيال منذ قيام روجر بيكون (١٢١٤–١٢٩٤م) في القرن الثالث عشر بإصلاح التعليم العالي وإعادة بناء الجامعات على أساسٍ ليبرالي بالاعتماد على المواد العلمية والدراسات العلمانية في «الكتاب الكبير»، والاعتماد على المنهج التجريبي في «الكتاب الرئيسي». ظهر علماء جدد ينقدون الأنساق العلمية القديمة، كوبرنيقس (١٤٧٣–١٥٤٣م) ضد بطليموس، فساليوس (١٥١٤–١٥٦٤م) ضد جالينوس، تلزيو (١٥٠٨–١٥٨٨م)، وبرونو (١٥٤٨–١٦٠٠م)، وراموس (١٥١٥–١٥٧٢م) ضد أرسطو. كما ركَّز فرنسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م) على أن تقدُّم العلم ليس فقط في علوم الطبيعة بل أيضًا في الذهن البشري وإقامته على أسس يقينية بعيدًا عن الخرافة والأساطير. وفي نفس الوقت ظهر حساب الاحتمالات، وحساب الإمكانيات، وبانت إمكانية التنبؤ بالمستقبل من خلال الأعداد والعلوم الرياضية وظهور فروع جديدة للرياضة. كما نشأت الجمعيات العلمية ليُدافع فيها العلماء عن حقائق العلم ضد العقائد الدينية والتقاليد الموروثة ولتأسيسه على التجربة البشرية والترويج للعلم ونتائجه كي يحل محل العقائد الدينية القديمة في وجدان الشعوب.٤
-
(٥)
ونشبت معركة القدماء والمُحدَثين، بين أنصار القديم وأنصار الجديد، بين دُعاة الرجوع إلى الماضي وأنصار التوجُّه نحو المستقبل، وانتصار المُحدَثين على القدماء، أنصار الجديد على أنصار القديم، ودُعاة المستقبل على دعاة الماضي مما جعل الوعي الأوروبي يثق بالتقدُّم، ويتصور الزمان والتاريخ على أنهما عنصر إيجابي فعال، ويترك وراءه التصور القديم القائم على أن السلف لم يتركوا للخلف شيئًا، وأن التاريخ في انهيار مستمر. وقد بدأت هذه الحركة في الأدب أولًا وبوجه عام وفي الشعر بوجه خاص لتحرير قواعد النقد الأدبي وإعادة الثقة إلى الطبيعة في مقابل نظرية النكوص والقهقرى، والإيمان بالتقدم المستمر للجنس البشري وقدرته على الخلق والإبداع. وبالرغم من أن المعركة بدأت في فرنسا إلا أن الذي أشعلها هو الشاعر الإيطالي تاسوني (١٥٦٥–١٦٣٥م). فما دام الفن يعتمد على التجربة يكون المحدَثون بالضرورة أفضل من القدماء. وتبعه ديماريه دي سان سورلاف إيثارًا للمسيحية على الوثنية القديمة. كما دافع عن المحدَثين شارل بيرو (١٦٢٨–١٧٠٣م) في مقابل دفاع بوالو (١٦٣٦–١٧١١م) عن القدماء ودفاعًا عن روح العصر. فلكل عصر تجربته، وكل تجربة لاحقة تكون بالضرورة أغنى من التجربة السابقة وهذا لا يمنع من حصول لحظات انكسار وتوقف سرعان ما يندفع التقدم بعدها في لحظات الثورة والتغير الكيفي. أهم شيء إذن هو فكُّ إسار الماضي لحساب الحاضر وإن لم يظهر المستقبل. وقامت نفس المعركة في إنكلترا. فهاجم جورج هيكويل نظرية النكوص أو القهقرى القائلة بالتدهور الدائم والمستمر والحتمي للطبيعة البشرية لأنها ضارة بنشاط الإنسان إذ تولِّد فيه اليأس والخمول، فالإيمان بالتقدم شرط التقدم. ظهر إذن مفهوم التقدم كأحد مكاسب هذه المعركة، وظهر فلاسفة التقدم ومفكروه يرونه محورًا للحياة الإنسانية الفردية الاجتماعية وأساسًا لحركات الشعوب. فدافع بيير بيل (١٦٤٧–١٧٠٦م) عن تطبيق منهج ديكارت (١٥٦٦–١٦٥٠م) في التقاليد الاجتماعية والعقائد الموروثة. كما دافع فونتنل (١٦٥٧–١٧٠٧م) عن المحدثين وتطبيق منهج ديكارت في العلوم والروح الهندسية في المعرفة الإنسانية كلها في «حوار بين الأموات» مبينًا أهمية النظريات العلمية الحديثة عن الدورة الدموية وحركات الأرض وأسباب التأخُّر في النظم السياسية والاجتماعية والأوضاع العامة. فالإعجاب بالقدماء لديه أحد عقبات التقدُّم. ثم نقل الخوري سان بيير التنوير العقلي إلى التغيير الاجتماعي وانتقل من رفض التقاليد القديمة والعقائد الموروثة إلى رفض مظاهر الطغيان والقهر السياسي والتسلط الاجتماعي. وقد استمرت المعركة في إنكلترا للتخلص من سلطة القدماء عند سير وليم تمبل (١٦٢٨–١٦٩٩م) وعند وتون وسويفت (١٦٦٧–١٧٤٥م) مع التركيز على التقدم في ميدان الفنون لأن العلم واحدٌ ومقاييسه عامة وشاملة.٥
-
(٦)
وقد تأسَّست العلوم التاريخية التي ركزت اهتمامها أساسًا على تطور المجتمعات محاولة العثور على قانون له يشابه قانون تطور الأحياء. وقد ظهر ذلك بوضوح عند فيكو (١٦٦٧–١٧٤٤م) وتأسيسه للعلم الجديد: فلسفة التاريخ، وتوحيده مع هيكويل وهردر بين العناية الإلهية وتقدم التاريخ. فقد حاول إخضاع الطبيعة البشرية إلى قانون واحد يماثل القانون الطبيعي في العلوم الطبيعية؛ ومن ثم كان همُّ الفلاسفة هو صياغة هذا القانون وتحديد مراحله وكيفية الانتقال من مرحلة إلى أخرى. وقد تفاوتوا في هذه الصياغة بين قانون ثنائي أو رباعي (مضروب في نفسه) أو ثلاثي أو تساعي (مضروب أيضًا في نفسه). فالقانون الثنائي يحدد انتقال الإنسانية من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة تكون الثانية أكثر تقدمًا ورقيًّا بالضرورة من الأولى؛ إذ تنتقل من عهد الفطرة إلى عهد المدنية عند فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨م) وروسو (١٧١٢–١٧٧٨م). وفي هذا التصور لا تخلو الحالة الأولى من بعض الخير كما لا تخلو الحالة الثانية من بعض الشر الذي يمكن التغلب عليه بالعقد الاجتماعي، ولكن الصياغة الرباعية للقانون كانت أكثر شيوعًا حتى عند القدماء. فقد قسم أفلاطون مراحل التطور إلى أربعة؛ الزراعة ثم نشأة المدنية على سفوح الجبال ثم تأسيس المدن في السهول والوديان ثم إقامة المدن الساحلية. وتقابل هذه المراحل الاجتماعية الأربعة مراحل أربعة أخرى تمثل تطور النظم السياسية من الحكم السعيد إلى حكم الأقلية إلى الحكم الديموقراطي وأخيرًا إلى الحكم التسلطي. ثم انتقل هذا التقسيم الرباعي القديم بعد اكتشاف التقدم إلى مراحل أربعة لتطور التاريخ من الشرق إلى الغرب، من العصر البابلي إلى الفارسي إلى المقدوني وأخيرًا إلى الروماني. وظل الحال كذلك حتى بودان (١٥٣٠–١٥٩٦م) في القرن السادس عشر. ولما دخلت العصور الحديثة، وفرضت نفسها على التاريخ أصبحت المراحل الأربعة من الشرق (الكلدانيون والمصريون) إلى اليونان إلى الرومان وأخيرًا إلى بترارك كما هو الحال عند هيكويل. وأخيرًا أعطى هردر هذا التقسيم الرباعي أساسه الحيوي مشبِّهًا إياه بدورات الحياة من الطفولة إلى الشباب إلى الرجولة إلى الشيخوخة.
-
(٧)
وبالرغم من محاولة ماركس في شبابه صياغة قانون خماسي؛ من قطف الثمار والصيد إلى الزراعة إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية إلا أن الصياغة الشائعة هو القانون الثلاثي منذ لوكريس حتى أوجست كونت (١٧٩٨–١٧٥٧م). فقد تصوَّر لوكريس أن الإنسانية قد تطورت في ثلاث مراحل؛ العهد الحجري حيث كان الإنسان يعيش سعيدًا على الطبيعة، العهد البرونزي حيث قلَّت السعادة وبدأت الحروب، والعهد الحديدي حيث كثُرت الحروب وعم الشقاء. وبإدخال دورات الشعوب عند بودان، تنتقل الدورة من سيادة شعوب جنوب الشرق إلى سيادة شعوب الوسط إلى سيادة شعوب الشمال. وكل مرحلة تتميز بأحد الإبداعات البشرية من الدين إلى الحكمة العملية إلى المهارات اليدوية الخلاقة وفنون الحرب. واستمرت هذه الدورة الثلاثية عند بيكون من العصور القديمة إلى العصور الحديثة (اليونان والرومان) إلى العصر الحاضر، وكل عصر يمثل تقدمًا بالنسبة إلى العصر السابق. وهي نفس الدورة عند فيكو من المرحلة الدينية حيث يسود الخوف والاستبداد كما هو الحال في الشرق القديم إلى المرحلة البطولية حين حكم الأباطرة والملوك كما هو الحال عند اليونان إلى المرحلة الإنسانية حين يصبح كل إنسان عاقلًا وحرًّا ومساويًا للإنسان الآخر. وقد تبنَّى ترجو (١٧٢٧–١٧٨١م) الدورات الثلاث نفسها من المرحلة الدينية إلى المرحلة الفلسفية إلى المرحلة التجريبية. وهو القانون نفسه، قانون الحالات الثلاث الذي صاغه كونت من المرحلة الدينية إلى المرحلة الميتافيزيقية إلى المرحلة الوضعية، والدورات الحضارية نفسها التي تصوَّرها هيجل من الشرق القديم إلى اليونان والرومان حتى تصل قمة الحضارة في النهاية لدى الشعوب الأوروبية وفي مقدمتها الشعب الجرماني. وقد أخذ هذا التصوُّر صورة حيوية تمثِّل أدوار البشرية بأدوار العمر من الطفولة إلى الشباب إلى الرجولة كما هو الحال عند فونتنل (١٦٥٧–١٧٥٧م). ففي الأولى تسود الرغبات والحاجات، وفي الثانية تظهر فنون البلاغة والشعر وطرق الاستدلال وأساليب التضامُن الاجتماعي، وفي الثالثة تظهر الإنسانية المستنيرة العاقلة لولا اصطدامها ببشاعة الحروب. وهو التصوُّر نفسه عند لاموته من الطفولة والشباب إلى الرجولة والنضج إلى الاكتمال في إنسانية جديدة. وقد عبر عن ذلك أيضًا لسنج في «تربية الجنس البشري» وتصوُّره الإنسانية أيضًا تسير في مراحل ثلاث هي نفسها مراحل النبوة، من الطفولة إلى الصبا إلى الشباب، من اليهودية إلى المسيحية إلى التنوير.٦
-
(٨)
بل لقد استطاع الوعي الأوروبي تجاوُز فلسفة الدورات الحضارية إلى فلسفة التقدم المستمر الذي لا رجعة فيه. فالدورات الحضارية في النهاية تقوم على تصور دائري للحضارات البشرية بدايةً وتطورًا واكتمالًا ونهاية حتى ولو بدأت الدورة الثانية من خطوة إلى الأمام وليس من الصفر كما هو الحال عند فيكو في التصور اللولبي الذي يجمع بين التصور الدائري والتقدم في الزمان. فالغائية عند كانط جوهر التاريخ إذ تسير الإنسانية نحو غايتها من الغريزة إلى الحس إلى العاطفية حتى تصل في النهاية إلى العقل، ولا رجعة إلى الوراء مثل الطفل تمامًا الذي ينتقل من مرحلة الغريزة إلى المعرفة الحسية إلى المعرفة الوجدانية ثم إلى المعرفة العقلية في النهاية. وفي كل مرحلة تكتشف الإنسانية مقوِّمات التقدم مثل الحرية وإقامة المجتمع المدني المستنير وإقامة دستور سياسي شامل للشعوب كلها. وكان الفلاسفة قبل كانط قد ركزوا على هذا التقدم المستمر دون دورات ورجوع إلى الوراء بروح التفاؤل الخالص كما هو الحال عند فرنسيس بيكون ولاموته. فكل قرن يتضمَّن بالضرورة تقدمًا عن القرن الماضي دون خسائر ودون شيخوخة. فالتقدُّم نتيجة طبيعية وحتمية لتكوين العقل الإنساني.
-
(٩)
كما ظهر المستقبل كأحد مراحل تطور البشرية لم تبلغها بعد. فقد رفض فونتنل فكرة النكوص أو قانون القهقرى والعود إلى العصر الذهبي. وتصور مرحلة رابعة مستقبلية بعد الطفولة والشباب والرجولة وهي مرحلة النضج Virility، وفيها تبلغ الإنسانية قمة التقدم. فالتقدم لا حدود له من ناحية المستقبل. ليس للإنسان عصرٌ قديم يرجع إليه، فالإنسانية العاقلة في تقدم مستمر. وهو تقدم حتمي ضروري بصرف النظر عن الأفراد. فلو لم يولد ديكارت لوُلد إنسان غيره ليقوم بنفس المهمة. والتقدم شامل لا يحدث في العلوم والمعارف وحدها بل يحدث في المجتمع والتاريخ. كما رفض خوري سان بيير تصور إنسانية منهارة من العصر الذهبي إلى العصور الفضية والبرونزية والحديدية بل إنه قلب الآية وتصور إنسانية متقدمة ناهضة من العصر الحديدي وهو عصر طفولة الإنسانية حيث كانت فقيرة جاهلة بالفنون، عصر أفريقيا وأمريكا إلى العصر البرونزي وهو عصر الأمان والقانون والفنون إلى العصر الذهبي الذي لم تقطعه أوروبا بعد. وتصور العصر الذهبي الرابع، عصر المستقبل وهو العصر الذي تحكمه الأكاديمية السياسية مع الأكاديمية العلمية. وقد ظهرت هذه المرحلة المستقبلية أيضًا عند كوندرسيه (١٧٤٣–١٧٩٤م) إذ جعل المراحل التسع الأولى لتطوُّر البشرية في الماضي والمرحلة العاشرة للمستقبل. فقد عاش الإنسان أولًا على طبيعته الحسية ثم استأنس الحيوان واعتمد على الرعي ثم عرف الزراعة الثابتة، وبعد ذلك بدأت المرحلة الرابعة؛ المرحلة اليونانية وازدهار العلوم والفنون ثم المرحلة الرومانية ثم مرحلة العصور الوسطى من سقوط روما حتى الحروب الصليبية. ثم تأتي المرحلة السابعة منذ الحروب الصليبية حتى اختراع المطبعة ثم من اختراع المطبعة حتى ديكارت ثم من ديكارت حتى الثورة الفرنسية وهي المرحلة التاسعة. أما المرحلة العاشرة فهي مرحلة المستقبل، وهو العصر الذهبي الذي لم تبلغه الإنسانية بعد ولكن الإنسان قادر على التنبؤ به باستقرائه للعلوم الطبيعية والاجتماعية. وتتحقق في هذا العصر أمور ثلاث؛ المساواة بين الأمم وزوال الفوارق بين الشعوب وتساوي الجميع في الحقوق والواجبات، والمساواة داخل كل أمة وزوال الفوارق بين الطبقات، وارتقاء الإنسان في ذاته وزوال تشتته وتحقيق وحدته. كما تصور ماركس المرحلة الخامسة في تصوره لتطور البشرية من مرحلة الصيد والقنص وقطف الثمار والرعي إلى مرحلة الزراعة إلى مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية، وجعل مرحلة الشيوعية التي ستبلغها الإنسانية في المستقبل.كما ظهرت فلسفات آخر الزمان وعقائد آخر الزمان ونظريات الخلاص التي تتصوَّر الإنسانية في المستقبل. فقد كتب فولني Volney (١٧٥٧–١٨٧٥م) رواية «الأطلال» يتصور فيها البشرية وقد حكمتها نظم الطبيعة الأبدية وقوانينها مثل حب الذات والرغبة في السعادة وكراهية الألم، وتقرير الإنسان لمصيره وثقته بقدراته وتطلُّعه إلى عالم أفضل. كما كتب ستيف دي لابريتون (١٧٥٧–١٨٢٠م) رواية سمَّاها «سنة ٢٠٠٠» يتنبأ فيها بمستقبل الإنسانية. كما ألف سباستيان مرسييه (١٧٤٠–١٨٢٥م) كتابه «سنة ٢٤٤٠» متصورًا الأمم وحدة واحدة لا حرب بينها، ويصف مستقبل العالم متأثرًا بليبنتز في أن الحاضر حامل للمستقبل؛ وبالتالي فإن مستقبل الإنسانية تطور طبيعي لحاضرها. وكان قد بدأ بكتابه «المتوحش» واضعًا مقياس الأخلاقية في قلب الإنسان البدائي ثم رأى المستقبل البعيد حيث لا حرب ولا رق ولا ربا ولا سجون ولا مهور. يعيش الإنسان حياة بسيطة صحية يتذوَّق الفنون من كل حضارة، يعمل ولا يترهَّب، ويتربَّى على مبادئ روسو.
-
(١٠)
كما ظهر أيضًا الفكر الطوباوي الذي يحدد فيه الأفراد والمجتمعات رؤيتهم لبشريةٍ جديدة ستأتي في المستقبل كرد فعل على مآسي الحاضر؛ فالفكر الطوباوي رفض للواقع ورؤية للمستقبل على مستوى التمني والآمال وإن لم يكن على مستوى التحقيق والتخطيط؛ فاليوتوبيا تدل على السلب والرفض. فقد كتب مور (١٤٧٨–١٥٣٥م) يوتوبيا، وكتب فرنسيس بيكون «أطلانطا الجديدة»، مدينة يترأسها العلماء كما ترأس الفلاسفة جمهورية أفلاطون. وكتب كامبانيللا (١٥٦٨–١٦٣٩م) ونظرًا لغياب المستقبل كبُعد «مدينة الشمس» وهارنجتون «أوسيانا». بل إن الحالة الطبيعية التي وصفها روسو، والجماعة الاشتراكية التي تعيش وفقًا للطبيعة التي وضعها مورلي Morelly حيث لا ملكية ولا ظلم ولا طغيان، والاشتراكية الطوباوية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كلها رؤى لمستقبل البشرية تكمن وراء تحويل المستقبل إلى علم كمي حسابي مضبوط دون حركة الشعوب ودون التاريخ.٧
K. Löwith: Meaning in history. Joachim, p. 145–160.
Modern transfiguration of Joachim, p. 208–222. University of Chicago Press. Chicago, 1940.
وأيضًا كتابنا السابق للسنج: تربية الجنس البشري، دار التنوير، ١٩٨١م.
E. Cassirer, p. O. Kristeller. J. H. Randall: The Renaissance of man, University of Chicago Press. Chicago, 1969.
p. O. Kisteller: Renaissance Throught, I, II. Harber. New York, 1962.
p. O. Kristeller: Renaissance concepts of man, Harber and Row, New York, 1972.
M. Boas: The sciencific Renaissance, Harber, New York, 1962.
M. L. Bush: Renaissance, reformation and the outer world Harber, New York, 1967.
A. Von Marlin: Sociology of Renaissance, harber. New York. 1963.
M. p. Gilmore: The World of Humanism, 1453–1517, Harber, New York, 1951.
A. J. Toynbee: L’histoire, un essai d’interprétation, NRF, Paris, 1951.
G. Boas: The history of ideas, Ch. Scribner’s sons, New York, 1969.