رابعًا: حيرة الحاضر في وجداننا القومي، في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟
ونظرًا لغياب المستقبل كبُعد أصلي في تراثنا القديم وفي وجداننا المعاصر واتجاهنا نحو الماضي في تراثنا القديم وانطباع ذلك الغياب في وجداننا المعاصر حُوصر الحاضر بين الماضي والمستقبل ولم يعد له وجود مستقل؛ فهو إما رجوع إلى الماضي أو دنو إلى المستقبل ولكنه لا وجود له بذاته. وأصبحت اتجاهاتنا الفكرية والسياسية إما رجوعًا إلى الماضي كما هو الحال في الحركة السلفية وفي الفكر الديني التقليدي الذي تمثِّله الأشعرية أو قفز إلى المستقبل كما هو الحال في الحركة التقدمية وفي الفكر العلماني التقليدي الذي تمثِّل الماركسية أحد روافده؛ وبالتالي غاب الحاضر في كليهما، وحوصر بين الماضي والمستقبل. والحقيقة أن كليهما يخضع لمنهج واحد وهو النقل؛ إما النقل عن القديم المتمثِّل في تراثنا القديم أو النقل عن الجديد المتمثِّل في تراث الغرب؛ ومن ثم ساد النقل في حياتنا سواء كان نقلًا مباشرًا من القديم أو نقلًا عقلانيًّا من الجديد. وإذا كان الحاضر هو الواقع، وغاب الحاضر، غاب الواقع أيضًا. فأصبحنا مُعلَّقين في الهواء بلا زمان وفي الفضاء بلا مكان؛ لذلك لم نعد نعلم في أي مرحلةٍ من التاريخ نحن نعيش؟ بقينا خارج مسار التاريخ، ولم نعرف منه إلا الماضي العتيد أو المستقبل البعيد؛ الأول مضى وانقضى إلى غير رجعة والثاني لن يتحقَّق في جيلنا؛ وبالتالي أسقطنا من الحساب ما هو ممكن التحقيق في الزمان وفي جيلنا وفي عصرنا. ونظرًا لغياب الحاضر والمستقبل القريب جاءت حيرتنا أمامه: في أي لحظة من التاريخ نحن نعيش؟ ومن هنا جاء التخبُّط في التخطيط، والعشوائية في القرارات، والتضارب في القوانين، والعزلة عن الواقع، والنقل فوقه من كل اتجاه ومذهب بلا نهاية لمحاولات التجربة والخطأ بلا تعلم من التجارب، ومن غير اعتراف بالحقائق، ودون وعيٍ بدروس التاريخ وعبر الأمم.
-
(١)
هل نحن جيل الإحياء نعيش عصر الإحياء ونقوم بدور الإحياء؟ في حقيقة الأمر لقد مررنا بعصر الإحياء، وهو معروف في أدبنا الحديث بهذا الاسم ممثلًا في البارودي أولًا ثم في شوقي في «نهج البردة». وكان القصد منه إحياء الآداب القديمة والنسج على منوال القصيدة العربية، وإحياء المعارك العربية القديمة. وما زلنا نقوم بذلك حتى الآن، نطبع المعلقات السبع ونشرحها ونتناقش في صحتها وانتحالها، ونعيد النظر في المناقضات بين جرير والفرزدق، ونهاجم الأدباء الشبان الذين خرجوا على القصيدة العمودية، وندعو إلى أدب القدماء حتى انتصر القدماء على المحدَثين، واستولوا على أعِنَّة الأدب فهاجر المحدَثون إلى الخارج أو إلى الداخل ريثما يوافي القدماء الأجل؛ وبالتالي لم ينشأ الاتجاه نحو المستقبل في حاضرنا نظرًا لسيطرة القدماء على المحدثين، وامتداد الماضي على الحاضر والمستقبل. لقد استطاع الإحياء ولا شك بعث الماضي، وبث العزَّة القومية في لحظات الضعف والهوان أمام الاستعمار والاحتلال، تجاوزًا لمظاهر التخلف والانهيار الحضاري وباعثًا للنهضة الحديثة. كما استطاع ربط الحاضر بالماضي عن طريق الأدب خاصة في الشعر، وتحقيق التواصل الحضاري، وتثبيت الهوية القومية في اللغة والأدب، وتحقيق التجانس في الزمان عبر التاريخ. كما استطاع شعراء الإحياء تأسيس إبداع الحاضر على إبداع الماضي، والتعبير عن تجارب العصر في قوالب الماضي كما هو الحال في شعر البارودي وشوقي وحافظ على اختلاف النسبة بينهم بين الماضي والحاضر إذ إنه أقرب إلى الماضي عند شوقي وأقرب إلى الحاضر عند حافظ ووسط بين الاثنين عند البارودي. وأخيرًا استطاع شعراء الإحياء المساهمة في الحركة الوطنية، سواء في الثورة العرابية كما هو الحال عند البارودي أو في الثورة الوطنية كما هو الحال عند حافظ، ومن ثم أصبح الشعر منبرًا للروح الوطنية ومَعْبرًا لها. ومع ذلك فقد اقتصر الإحياء على الأدب عامة والشعر خاصة دون باقي مظاهر الإبداع الحضاري في الفلسفة والعلم. فسبق الشعر وتأخرت الفلسفة. ولم يحدث حتى الآن إبداع ذو شأن في العلم. كما استمرَّت فترة الإحياء مدة أطول مما ينبغي بل إنها لم تَنْتهِ حتى الآن. فما زلنا ندعو إلى إحياء التراث، نشرًا وتحقيقًا وبعثًا وقراءة، ونجد فيه أنفسنا وهو بيننا. يدل على ذلك رواج كتب التراث دون غيرها. كما أن الإحياء في حد ذاته أقرب إلى القديم منه إلى الجديد بدليل ثورة الأدباء الشبان على شعراء الإحياء بالرغم من إبداعهم وقدراتهم الشعرية، ووجود صور أدبية جديدة ليست عند القدماء مثل المسرحية والرواية. وما زالت تُصوَّر دعوات الإحياء وكأنها فيها خلاصنا من مآسينا الحاضرة وتظهر مجلات الإحياء وصحف الإحياء. بل إن هذه الدعوة بالرغم من حدودها ما زال واقعنا التقليدي بنزوعه نحو الماضي وباستخدام الأنظمة السياسية لهذا النزوع تدعيمًا لها، فإنها ما زالت تمثل خطرًا على الأنظمة السياسية. فإذا ما كانت الأنظمة القائمة نسبة الحاضر فيها أكثر من الماضي، والدعوة إلى الجديد أقوى من الدعوة إلى القديم، وأنصار المحدثين فيها أكثر من أنصار القدماء أصبحت مهددة بدعوى الإحياء الذي يكون في هذه الحالة ردة إلى الماضي ودعوة إلى القديم. وإذا كانت الأنظمة القائمة نسبة الماضي فيها أكثر من الحاضر والدعوة إلى القديم فيها أقوى من الدعوة إلى الجديد وأنصار القدماء فيها أكثر من أنصار المحدثين استغلت الإحياء واستعملته تدعيمًا للنظام ضد دعاة الجديد، وأصبحت دعوة الإحياء نفسها دعوة للرجعية والتخلف. وفي حقيقة الأمر لقد تجاوز جيلنا عصر الإحياء، ولم يعد إحياء الآداب القديمة يحتل بالنسبة له تلبية لكل حاجاته وتحقيقًا لكل مطالبه في العقلانية والعلمية والثورة. بل إن مكتسبات الإحياء ذاتها مثل تذوق القديم قد افتقدناها فأصبح الشبان اليوم لا يتذوقون القديم ويقلِّدون الجديد؛ ومن ثم انتهى الإحياء إلى قطيعة في جيلنا واقتصر بعث القديم على النشر والتحقيق والطبع دون تذوق أو فهم أو تطوير.٢
-
(٢)
هل نحن جيل الإصلاح، نعيش في عصر الإصلاح ونقوم بدور الإصلاح؟ وهي المرحلة التي اشتهرت في حياتنا المعاصرة باسم الإصلاح الديني والتي نتحدث عنها دائمًا والتي نربط أنفسنا بها باستمرار إذا ما أعيتنا الحيل، وتخبطت بنا السبل، وأرادت الأنظمة السياسية أن تجد لها شرعية تاريخية من الماضي أو تحديثية من الحاضر خاصة أن البعض منها كوَّن رصيدًا له في جيلنا من مناهضة الاستعمار والاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني للبلاد، لكن الإصلاح ما زال حركة نسبية على مستوى العقائد وعلى مستوى الممارسة في سلوك الأفراد وفي النظم الاجتماعية والسياسية تجاوزها واقعُنا بمراحل وهو الذي في حاجة إلى إحكام نظري وإلى عمل ثوري جذري. فالإصلاح يدعو إلى ملكية مقيدة أو ملكية دستورية أو نظام المستبد العادل في إطار النظم القائمة، وإلى العدالة الاجتماعية في إطار توزيع الدخل القائم على أساس أخلاقي ديني. كما سادتْه بعض الجوانب التقليدية المحافظة في العقائد مثل الهجوم على النزعة المادية في «الرد على الدهريين»، في حين أن المنطق الإسلامي، كما بدا في علم أصول الفقه، منطق مادي يبحث عن العلل المادية الفاعلة والمؤثرة في السلوك الفردي والاجتماعي، ويقوم على الدفاع عن مصالح الأمة. لم يحدث تفسير ثوري للعقائد يتفق مع متطلبات العصر مما جعل المصلحين يبدءون ثوارًا وينتهون مرتدين كما هو الحال مع محمد عبده والثورة العرابية. لم تتحوَّل الشريعة إلى أيديولوجية سياسية شاملة، وغلبت العبادات على المعاملات، والواجبات على الحقوق. كما سادت الحركة بعض الجوانب الصوفية كما هو الحال عند إقبال في «تجديد التفكير الديني في الإسلام» وعند محمد عبده في «رسالة الواردات»؛ وبالتالي لم يتم التغلب على التصوف كأحد مظاهر التخلف الاجتماعي في حياتنا المعاصرة. لم يستقل العقل كلية بل كان عمله محدودًا في نطاق العقليات، ولكنه في الشرعيات ما زال في حاجةٍ إلى وصي وهو النبي مما جعلنا ما زلنا ندعو للعقلانية واستقلال العقل. ونظرًا لحدود حركة الإصلاح وتجاوز واقعنا لها، فإن مكتسبات الإصلاح ذاتها التي بدت للجيل الماضي قد ضاعت في هذا الجيل، وتسربت منجزاته من بين أيدينا، وانهارت تحت أقدامنا، واختفت نداءاته من وعينا فعدنا إلى مرحلة ما قبل الإصلاح وعيًا وواقعًا. انتهت العقلانية المحدودة التي كانت في العدل دون التوحيد، وتحولت إلى صوفية إلهامية. وساد التصوف على الأشعرية بعد أن ازدوجا في وعينا القومي منذ ألف عام منذ هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس الهجري. وانتهى التجديد النسبي إلى محافظة وتقليدية، وسادت روح المحافظة كتيار أساسي وجذري في التاريخ على روح المعاصرة التي تعبِّر عن متطلبات جيل واحد. وخَمَدت الروح الثورية لمناهضة الاستعمار والتسلط وتحولت إلى نقيضها من موالاة للاستعمار وقبول لمظاهر الطغيان. وتفتَّتت الأمة وقُضي على الوحدة الشاملة ابتداءً من وَحْدة مصر والسودان، وحدة وادي النيل، أو وحدة مصر والشام، أو وحدة المغرب العربي أو وحدة الأمة العربية أو الجامعة الإسلامية أو الجامعة الشرقية، وحلَّت محلها الروابط والمؤتمرات والجامعات الشكلية بل ومصالح المُتْجِرين بالدعوات. توقفت الدعوة إلى العلم وسادت الخرافة وأُعطيت الأولوية المطلقة للإيمان على العلم. وانتهت الدعوة إلى القوة والصناعة، وتحوَّلت إلى الاعتماد على الغير واستيراد المصنوعات، وتوارت الصناعات الوطنية، وخبا من وعينا الاستقلال الوطني وعدم الانحياز للشرق أو للغرب، وقبلنا الدخول في سياسة الأحلاف ومناطق النفوذ والمعسكرات والتكتلات. فنحن إذن جيل الإصلاح الذي لم يتم، نشاهد نهاية الإصلاح وانقلابه إلى الضد مما يجعلنا في حاجة إلى إصلاح أكثر جذرية وشمولًا وعمقًا وتأثيرًا، يبقى ويدوم، ويتأصَّل في نفوس الجماهير، وتحميه بسواعدها، يُرضي جماهير المثقفين، ويشبع فيهم الطموح النظري، ويكون قادرًا على تحدِّي الأيديولوجيات المعاصرة بإحكامه النظري وتأصيله التاريخي، وقدرته على تلبية مطالب العصر، والاستجابة لحاجاته، والتأثير في الناس، وتجنيدهم له. لقد تجاوزنا جيل الإصلاح حتى قبل أن ينتهي، هذا الجيل الذي تركناه وراءنا بأربعة أجيال.٣
-
(٣)
هل نحن جيل النهضة، نعيش عصر النهضة، ونقوم بدور النهضة؟ لقد ظهر هذا المفهوم في حياتنا منذ رفاعة رافع الطهطاوي وتأسيسه لحركة النهضة الحديثة وبناء الدولة العصرية كما وضح ذلك في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية». وقد استطاعت النهضة ولا شك إرساء قواعد الإصلاح الشامل في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون. كما استطاعت أن تبنيَ الدولة الحديثة صناعة وزراعة وتجارة، وأن تكوِّن لها الكادر الفني المؤهَّل لها، وأن تستمر هذه الدولة حتى جيلنا. كما قامت على الولاء الوطني وإذكاء الروح الوطنية وتربية المواطنين على أن «حب الوطن من الإيمان»، لا فرق في ذلك بين البنين والبنات. كما قامت على الحرية والعدل والمساواة وانتشار هذه الأفكار مما سبب قيام حركة تنوير حديثة. ومع ذلك ظلَّت هذه الحركة نسبيةً في حياتنا دون أن تُحدث أثرًا فعالًا مستمرًّا. ظلَّت في نطاق المثقفين، ولم تتحول إلى حركة جماهيرية عامة، وظلت قاصرة على أيديولوجية الصفوة. ظلَّت في إطار الدولة القائمة التي استفادَت منها ولكنها سرعان ما انقلبت عليها دفاعًا عن الحاكم الذي استبد. ظلَّت أشعرية في تصوُّرها للعالم، ولم تستطع تأصيل نهضتها من خلال التنوير القديم الذي مثَّله الاعتزال، وكانت في كثيرٍ من الأحيان وعلى ما يبدو أثرًا من آثار الغرب بوجه عام والثورة الفرنسية بوجه خاص؛ لذلك سرعان ما انتهت من حياتنا، وخبَت من وجداننا القومي، حتى إن إيجابياتها ومكتسباتها وإنجازاتها قد تحوَّلت إلى نقائضها. فقد تحولت النخبة المثقفة إما إلى طبقة حاكمة تركت الثقافة إلى الحكم، وتحوَّلت إلى طبقة من الفنيين أو إلى مجموعات منعزلة لا أثر لها في الحكم، تعيش من الثقافة على هامش الدولة. ونادرًا ما وجد المثقف المؤثر الذي سرعان ما يصطدم بالنظام وينتهي إما بالاستشهاد أو الهجرة إلى الداخل أو الهجرة إلى الخارج. انتهت النهضة الشاملة، وحدث انفصام بين التحديث والنهضة، وكلما زاد التحديث الخارجي قويت المحافظة الداخلية نظرًا للجذور التقليدية التي تكمن وراء النهضة. كما انتهت الدولة الحديثة وتحولت إلى دولة تقوم على حكم الفرد، وحكومة العسكر، سوقًا للأسواق العالمية، ومنحازة للغرب، تستجدي السلاح بعد أن كانت تصنعه، وتستورد التحديث بعد أن كانت من روَّاده. كما ضاع الولاء للوطن وحل محله الولاء للأجنبي. وانتهت مُثُل الحرية والعدالة والمساواة، وانقلبت إلى نقائضها مثل التسلُّط والظلم والتفاوت الطبقي. وظلت النهضة حاليًّا مجرد أمل يحدو البعض، وكلمة تُردِّدها الألسن، وأصبح أقصى آمالنا أن نلحق بنهضة الأجيال السابقة مع أن واقعنا قد تجاوزها بمراحل بعد ضياع الأرض والثروات ويأس الجماهير وخوفها وضياع كرامة الفرد وإنسانيته.٤
-
(٤)
هل نحن جيل العقلانية، نعيش عصر العقلانية، ونقوم بدور العقلانية؟ تتمثَّل الدعوة العقلانية في كل التيارات الفكرية الحديثة في حياتنا المعاصرة. فهي القاسم المشترك بين الإصلاح الديني والفكر العلماني والتيار الليبرالي. أحيانًا يكون العقل مرتبطًا بالدين، وتكون العقلانية فهمًا مستنيرًا للدين، وتكون فيه الأولوية للعقل على النقل. وقد يُضم العقل إلى الوجدان فيكون مثالية وجدانية مثل «الجوانية» تطويرًا للإيمان الديني. وقد يرتبط العقل بالحس والمشاهدة والاستدلال والاستنباط والاستقراء والبحث عن العلل، فهو أساس التفكير العلمي. وقد يتوجه نحو التجربة الإنسانية فيكون دعوة إلى التأمل والتفكير وتحليل التجارب البشرية لمعرفة ماهياتها والواقع من خلالها. وما زالت الدعوة قائمةً فينا حتى اليوم لإقامة مجتمع عقلاني، وتأسيس حياتنا العامة على العقلانية. وبالرغم من صحة الدعوة وصدقها على مستوى النظر إلا أنها أصبحت شماعة سهلة لتعليق كل أخطاء العصر على غيابها، ومفتاحًا سحريًّا يحل كل أزمات العصر حتى تحولت إلى مجرد كلمة تتناقلها الألسن، وتتراشق بها الأفواه. دخلت في أجهزة الإعلام، وتحولت إلى شعارات فلسفية واجتماعية، ومقالات صحفية حتى فقدت أي أثر لها، وتحولت إلى تجارة ودعاية مثل كل الدعوات الحديثة. كما أنها اقتصرت على التوجيه العام دون أن تتحول إلى برامج تفصيلية وتخطيط لمظاهر الحياة العامة على أساس عقلاني. فماذا يعني الاقتصاد العقلاني؟ والسياسة العقلانية؟ والاجتماع العقلاني؟ والقانون العقلاني؟ والفن العقلاني؟ ولم تخلُ الدعوة من بعض تقليد للغرب دون أن تكون تأصيلًا لعقلانية التراث وتطويرًا لها. والعقلانية في نهاية الأمر ابتسار للنهضة لأن العقلانية أحد مظاهر النهضة، والنهضة أوسع منها وأشمل، ولا يمكن رد الكل إلى الجزء. ومع ذلك فقد ضاعت منا مآثر العقلانية ومنجزاتها في حياتنا الفكرية والسياسية. وتحولنا إلى الإشراقية والإلهامية والكشفية والمعارف اللدنية. وتحولنا من عقلاء إلى دراويش، ومن علماء إلى أولياء، ومن طلاب وأساتذة إلى مريدين ومشايح. وما زالت الدعوة قائمة تتكرر كل يوم ولا تؤدي إلى شيء. والعقل المبتسر من الواقع الحسي والنقد الاجتماعي والتغيير الفعلي والثورة الشعبية فإنه عقل فارغ صوري يؤدي إلى الهروب أكثر مما يؤدي إلى الاقتحام. إن مهمة جيلنا قد تجاوزت الدعوة إلى العقل والعقلانية نظرًا لضرورة توجيه العقل إلى الماضي في نقد الموروث وإلى الحاضر في نقد المجتمع وإلى المستقبل في الإعداد للثورة.٥
-
(٥)
هل نحن جيل التنوير، نعيش عصر التنوير، ونقوم بدور التنوير؟ والتنوير هو العمل الشامل للعقل، وامتداده في شتى نواحي الحياة، وأثر من آثار العقل، وأحد نتائجه، وتطبيق لمبادئه، وتوسيع لدائرة نشاطه، وتحقيق لمنجزاته. وقد كانت الدعوة إلى التنوير مواكبة للدعوة إلى العقل وأحد مظاهرها. وقد اشتدَّت بعد الهزائم العربية الأخيرة، وكثر الداعون لها بل ونشأت حركة تنوير فعلية عامة تضم كافة الاتجاهات الفكرية والوطنية في تاريخنا الحديث. وبالرغم من أهمية الدعوة وجدواها، والخروج بالعقل من المنهجية العلمية إلى الحياة العامة إلا أنها محدودة الأثر، مغلقة الحدود، تتمثلها مجموعة من الأفراد، وليست تيارًا حضاريًّا عامًّا يعبر عن روح العصر أو حركة جماهيرية شعبية تحدد مسار التاريخ. هي رد فعل على هزائم العصر أكثر منها فعلًا إراديًّا فرديًّا وجماعيًّا خاصة بعد هزيمة أيديولوجيات التقدم؛ الماركسية والناصرية والقومية التي سادت جيلنا وإحساسها بنقصها في عدم العقل والحرية. هي دعوة مجتثَّة الجذور عن الجماهير خاصة وأن كثيرًا من دوائرها تتركَّز خارج العالم العربي في الغرب، حيث يسهل الدعوة إلى التنوير في العالم الثالث. ففي الغرب تكون الحرية وتتمركز جماعات الحرية حتى لقد اتهمت بتأييد الغرب لها إذ رآها الغرب بديلًا وحليفًا. هذا بالإضافة إلى غياب برامج مفصلة. ماذا يعني التنوير في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وكأنها مجرد دعوة ثقافية إصلاحية عامة؟ لمْ تتأصَّل الدعوة في تراثنا الاعتزالي الذي كان يقوم بمهمة التنوير في مواجهة الأشعرية التقليدية المحافظة. ومع ذلك فالدعوة إلى التنوير الشامل وإطلاق العقل من عِقاله وتسليط نوره على النظم السياسية والاجتماعية والعادات والعرف والتقاليد والعقائد الموروثة، مرحلة تاريخية يمر بها كل مجتمع يتجه من التقليد إلى التحرر؛ فهي تجعل العقل والبرهان معيار الصدق، وتواجه الرأي بالرأي، ولا تواجه الرأي بالسيف، والفكرة بالمقصلة، والدليل بالاعتقال، والبرهان بالتعذيب. تحترم الآراء الأخرى، وتدافع عن حريات الآخرين. فحرية الفكر قيمة في ذاتها، أحد حقوق الإنسان. لا بد من تحول التنوير إلى نظرة إلى الحياة اليومية، ونظرة تقدمية إلى الأوضاع الاجتماعية حتى يتحول بعد ذلك إلى ثورة فعلية. ومع ذلك ضاعت منجزات التنوير النسبية، ووقع جيلنا في التعتيم والإظلام، فلا يحتكم إلى العقل، وتسيطر على حياته الإرادة المشخَّصة للحكام أو العرف والعادات والتقاليد. وتظهر المحافظة التقليدية كوريث وحيد للتاريخ. وقد تجاوز جيلنا التنوير كحركة ثقافية إلى التنوير كحركة اجتماعية نقدية تمهِّد للثورة وترسي قواعدها، وتهيئ ظروفها، وتضع شروطها. فالتنوير في هذه الحالة يكون وعيًا اجتماعيًّا لحركة التاريخ.٦
-
(٦)
هل نحن جيل العلم، يعيش عصر العلم، ويقوم بدور العلم؟ كانت الدعوة إلى العلم مثل الدعوة إلى العقل والتنوير قاسمًا مشتركًا بين الاتجاهات الرئيسية الثلاثة في حياتنا المعاصرة. وكان العلم هو العلم الطبيعي الذي قدم إنجازات رائعة في الغرب في اكتشافه قوانين الطبيعة والسيطرة عليها والتنبؤ بحوادثها. كان العلم في الإصلاح الديني نسقًا للعقل، وتصورًا للطبيعة، وتحكمًا في قوانينها وتسخيرها لصالح الإنسان. وكان في التيار العلماني العلم الطبيعي المادي خاصة علوم الحياة ونظرية النشوء والارتقاء. وكان في الفكر الوطني القومي العلم الاجتماعي الذي يدرس الحياة الاجتماعية والسياسية. ومنذ أكثر من أربعة أجيال، منذ رؤية علماء الأزهر للتجارب العلمية التي أجراها علماء الثورة الفرنسية في حملة نابليون على مصر، والدعوة ما زالت قائمة، ولم تتحول مجتمعاتنا إلى مجتمعات علمية، ولم يحدث لدينا أي تصور علمي للعالم باستثناء لحظات فريدة في تاريخنا مثل حرب أكتوبر، ودفعًا لعار الهزيمة. وما زالت الدعوة مجتثة الجذور لا صلة لها بتصور العلم في تراثنا القديم وتعبيره عن التوحيد كشرط لحصول تصور علمي للطبيعة. هي دعوة مقلِّدة للغرب بعد انتصارات العلم الطبيعي في القرن الماضي ودون معرفة بأزمة العلم في هذا القرن. كما أنها تخلط بين العلم كقانون طبيعي أو كاكتشاف علمي وبين التصور العلمي للعالم واستعماله المنهج العلمي، فقد يحدث تطبيق لمنجزات العلم في مجتمع تسوده الخرافة ولا يتحول المجتمع بذلك من مجتمع خرافي إلى مجتمع علمي. بل إنه قد ينظر إلى العلم على أنه خرافة أو سحر قادر على فعل المعجزات. والعلم لا ينشأ في فراغ بل هو حركة نضال طويل محفوف بالمخاطر ضد السلطة؛ سلطة رجال الدين وسلطة العقائد الموروثة بل والسلطة السياسية في نظم التسلط والطغيان. وغالبًا ما يقوم بهذه الدعوة العلمانيون المسيحيون حيث يصعب عليهم الدعوة إلى الإصلاح الديني، ويسهل عليهم الاقتباس من الغرب المسيحي الذي ينتمون إليه بالولاء، مما جعل الدعوة محدودة الأثر، تصطدم بتراث الأمة، وتهددها بنزع هويتها واستلابها لصالح الغرب. ومع ذلك لم تستمر هذه الدعوة طويلًا. فسرعان ما اقترن بها الإيمان في جيلنا؛ وبالتالي الوقوع في ازدواجية المعرفة: «العلم والإيمان». والإيمان أصيل والعلم أجنبي مما يجعل الدعوة إلى الأصالة تشجب العلم وتنفر منه. فقلَّ الجانب العلمي في حياتنا، وازداد الجانب الإيماني. وتصورنا العلم مفتاحًا سحريًّا نهزم به الأعداء، ونعمر به الصحراء، ونحل به المشاكل المستعصية. وأصبح غياب العلم شماعة نعلق عليها جميع الأخطاء. ثم تحول العلم إلى أسطورة خاصة بإنجازاته في التكنولوجيا الحديثة في مجتمع لم يتم فيه بعد القضاء على الأساطير حتى أصبح شعار «العلم والتكنولوجيا» أضحوكة يتندَّر بها الناس. إن مهمة جيلنا هو الإعداد للعلم والتمهيد له وذلك بإحكام عمل العقل وتوجيهه نحو الطبيعة واكتشاف الصلة الضرورية بين العلة والمعلول، وتصوير عالم يحكمه القانون.٧
-
(٧)
هل نحن جيل التصنيع، نعيش عصر الصناعة، ومهمتنا تحويل مجتمعاتنا الزراعية إلى مجتمعات صناعية؟ فقد اقترنت دعوة العلم بدعوة أخرى للتصنيع أي لمنجزات العلم وآثاره. فالتصنيع هو القادر على تحديث المجتمعات والانتقال بها من عقلية الريف إلى عقلية الحضر، من حضارة الزراعة إلى حضارة الصناعة؛ وبالتالي ترك القدرية إلى الفعل الحر، والسكون إلى الحركة، والخلود إلى الزمان. فالمجتمع الصناعي يفرض قيمه، ويفرز ثقافته، وإن كل دعوات الإحياء والإصلاح والنهضة والعقل والتنوير والعلم لهي دعوات مثالية فوقية لا تحدث أي أثر في الواقع. وإن كان لهذه الدعوة ما يبررها حتى يتحول المجتمع من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي لزيادة الدخل القومي واكتساب عادات جديدة إلا أنها محددة الأفق تقوم على تقليد الغرب الصناعي، وما حدث في المجتمع الغربي في القرن الماضي. كما أنها تقوم على افتراض خاطئ في علم الاجتماع الغربي وهو أن قيم الريف أقل شأنًا وتطورًا من قيم الحضر، وأن التطور الطبيعي للمجتمعات ومسار تقدمها هو الانتقال من الأولى للثانية. فالقيم الزراعية لا تعبِّر بالضرورة عن التخلف. وهناك مجتمعات زراعية متقدمة مثل المجتمعات الصينية والمصرية القديمة ونهضة فيتنام والصين الحالية، وثورات الفلاحين في أمريكا اللاتينية. كما أن القيم الصناعية لا تعني التقدم بالضرورة. فبالإضافة إلى قيم الزمان والوقت والإيقاع والضبط والدقة والعمل والإنتاج والوفرة هناك أيضًا قيم الآلة وضياع الإنسان وفقدان الترابط الاجتماعي والاستهلاك والاستغلال والاحتكار وكل مظاهر الفساد والرشوة والتهرب من الضرائب والمنافسة والقتل والاغتيال. كما أن تحوُّل المجتمع من نمط الإنتاج الزراعي إلى نمط الإنتاج الصناعي لا يؤدِّي بالضرورة إلى تغيُّر في نَسَق القيم، فقد يتم التصنيع بعقلية الزراعة، وقد تقام الزراعة بعقلية الصناعة. ومع ذلك وبعد محاولة التصنيع الأخيرة لمجتمعاتنا ضاعت منجزاتها ولم تستمر مكاسبها؛ فقد أخذ العمال حقوقهم دون نضال كافٍ، كهبة من الدولة، ودون وعي عمالي، ودون تصور للعمل الدقيق. كما تمت إدارة المصانع بالعقلية البيروقراطية وليس بعقلية التصنيع والاكتفاء الذاتي وسرعة المبادرة. وأحيانًا يسوء الإنتاج نظرًا لغياب قيم الصناعة مثل الدقة والضبط. إذ قامت الصناعة على القيم التقليدية والعادات الموروثة مثل الإهمال والتكاسل والتهرب والاحتيال والنهب والسلب وحرق المخازن وسرقة المواد الخام. ولما كان التصنيع قرارًا من السلطة السياسية وليس تطورًا طبيعيًّا للمجتمع سرعان ما ضاعت الصناعات الوطنية أو توقفت، عاد الاستيراد من المنتجات الأجنبية فتوقف التصنيع. إن جيلنا هو الجيل الممهد للصناعة الوطنية وذلك بتنمية روح الانتماء للوطن، وببث التصور العلمي للعالم، وبالوعي بالطبيعة والأرض والاستثمار، وبالعمل المنتج. فلا صناعة بدون شروطها في الوعي القومي.٨
-
(٨)
هل نحن جيل التغير الاجتماعي، نعيش عصر التغيير الاجتماعي؛ وبالتالي يكون دورنا هو المساهمة في صياغة عمليات التغير وتحقيقها؟ وهي آخر الدعوات التي قام بها جيلنا والتي قام بتحقيقها بالفعل والمساهمة فيها. وقد سادت حياتنا في الثلث قرن الأخير لإحداث تغيرات هيكلية في مجتمعاتنا، وبث أفكار جديدة تعبر عن واقعنا وتحقق مصالح غالبية الأمة؛ لذلك يعتبر البعض منا نفسه جيل التحوُّلات الاجتماعية وأحيانًا جيل الثورة. ففي هذا الجيل تم القضاء على الملكية والاستعمار والفساد، كما تم تحقيق الاستقلال الوطني للبلاد ومناصرة جميع قضايا التحرر العربي والإفريقي والعالمي. وصدرت قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم لتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية ووضع حد لنهاية الإقطاع ورأس المال، وتذويب الفوارق بين الطبقات. كما بُعثت الروح القومية وتمت أول محاولات الوحدة العربية، وأنشئت حركات عدم الانحياز، وتم اكتشاف الدوائر الحضارية الجديدة للشعوب المستقلة مثل باندونج. كما تم تصنيع البلاد، وتحولت من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي. وتأسس القطاع العام، وسيطر الشعب على وسائل الإنتاج. ومع ذلك فقد كانت المخاسر كبيرة. فقد حدثت تغيرات هيكلية في بناء المجتمعات دون أن توازيها تغيرات جوهرية في الأبنية الفوقية، أي المقولات والتصوُّرات والمفاهيم والأبنية النفسية وأنساق القيم. فسرعان ما حدثت الانتكاسات والردة بغيات القيادة السياسية الثورية، وسيادة المفاهيم التقليدية التي تضرب بجذورها في التاريخ. ولقد تم استعمال هذه المحافظة التقليدية لتدعيم النظام الجديد وإيقاف التحوُّلات الاجتماعية والهجوم على المعارضة السياسية التي تبغي مزيدًا من التقدم ومزيدًا من التأصيل. كان الفكر الحامل لهذه التغيرات الاجتماعية شعارات سطحية خطابية مجتثة الجذور عن ثقافة الشعب، وبينها وبين الواقع مسافة شاسعة جعلتها صعبة التصديق. كما غابت حرية الرأي والمعارضة، واصطدمت الشعارات الجديدة بالتيارات الأصيلة الدينية والعلمانية في المجتمع. وتشخَّصت الزعامة، وغابت المؤسسات، وتهرَّأت التنظيمات الشعبية. صحيح أن بعض الأفراد كان على مستوى الثورية ولكن الكوادر ونظم الدولة كانت محافظة مما أدى إلى نهاية التجربة بنهاية الأفراد. بل إن هذه المكتسبات الأولى قد ضاعت، فضاع الاستقلال الوطني للبلاد، ووقعت في التبعية، وتحالفت مع القوى الاستعمارية، وقام الحكام بدور الملوك والأباطرة الجدد، واستشرى الفساد في الحزب الحاكم دون معارضة أو نقد، وزادت الفروق بين الطبقات، واحتجبت مصر عن الوطن العربي، وتقطعت أوصاله، وانتهى التصنيع، وبدأ الاستيراد. كان يمكن لجيلنا أن يكون جيل التحوُّلات الاجتماعية لولا عزلته وعدم مشاركته وحسرته وألمه وأحزانه وضياعه وبكاؤه على الماضي وضياع حريته.٩
-
(٩)
هل نحن جيل الثورة الشاملة، نعيش عصر الثورة، ومهمتنا ممارسة الثورة نظرًا وعملًا، فكرًا وتنظيمًا؟ لا تعني الثورة هنا مجرد تغيير الهياكل الاجتماعية والأنظمة السياسية علنًا أو سرًّا. فقد تم ذلك في الدعوة السابقة دون أن تحدث ثورة، ولكن هذه الدعوة تعني الثورة الشاملة التي تضم إنجازات الإحياء والإصلاح والنهضة والعقلانية والتنوير والعلم والتصنيع والتغير الاجتماعي. تبدأ بتنوير المفاهيم والتصوُّرات والقوالب الذهنية والأبنية النفسية، أي إحداث ثورة في الأذهان وفي العقول وفي النفوس وفي المشاعر، ثورة في الحياة اليومية وفي أساليب السلوك. فالثورة ليست منجزاتها بل مقدماتها، وليست نتائجها بل شروطها. ليست الثورة الفرنسية هي اقتحام الجماهير سجن الباستيل في ١٤ يوليو ١٧٨٩م، بل إعداد الوعي القومي لذلك بفضل جهود مفكري الثورة الفرنسية وفلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر. فلا شيء يتغير في الواقع ما لم يتغير في الوعي أولًا. لا شأن لهذه الثورة الشاملة بتغيير النظم السياسية القائمة. ولا تقوم على استعمال العنف بل تعتمد على إعمال العقل، وتحليل الواقع، والتعبير عن الرأي، ومقارنة الحجة بالحجة، ومقابلة البرهان بالبرهان. وهو الطريق الذي سلكه الأنبياء في مُحاجَّة أقوامهم. فالثورة الشاملة هي ثورة الأنبياء، يقوم بها علماء الأمة، فالعلماء ورثة الأنبياء. وتمتاز هذه الثورة بأنها الأبقى والأدوم، والأرسخ والأعمق، والآمن والأسلم دون ردة أو نكوص، ودون تغيرات على السطح، ودون مخاطر ومخاسر. يستمر فيها تاريخ البلاد، وترث حركات التجديد، وتتسم بالأصالة، وتربط الماضي بالحاضر فلا يحدث انقطاع أو تغريب. تبدأ بالجذور، في الأذهان قبل الأعيان. فالوقائع هي تصوُّرات متحققة، والتصوُّرات وقائع ممكنة. تجري حوارًا شاملًا بين كل الآراء والاتجاهات، وتحقق الوحدة الوطنية دون أن تكفر أو أن تخون أحدًا. لا شأن لها بتنظيم الحكم ولا تقوم إلا على النصيحة والرأي، والتعبير الصادق عنه، ودون عنف، ودون استعمال للقوة. ليست موجهة ضد أحد بل تهدف إلى دفع حركة التاريخ إلى الأمام. فقد أثرت أفكار دون سلطة ولم تؤثر سلطة دون أفكار. ترعى مصالح الأمة، وتحقق مطالب الأغلبية الصامتة. تهدف إلى التغيير والإصلاح وتحقيق التقدم وتنحو إلى ما هو أفضل على طريق النبوة وبهدى الوحي. ولا يعاب عليها أنها مثالية، تبدأ بالفكر، فهذه المثالية لدى شعوبنا هي الواقعية، وحصيلة التجارب الطويلة لأجيالنا المتلاحقة. لا تنقل مراحل الغرب بل تشخص مهام أجيالنا. وتحدد مهمة جيلنا بتحليل مباشر للواقع وبوصف لمكاسب الأجيال ومخاسرها. ليست تصورًا آليًّا للتطور لأنه يمكن القيام بهذه المهام كلها في آن واحد مع تغلب مرحلة على مرحلة طبقًا لروح العصر. ولا خوف من هز العادات والتقاليد في النفوس، فالهدف هو رعاية مصالح الأمة، والأبنية الفوقية ذاتها إنما هي تراكم طويل لخبرات السنين يؤوِّلها كل جيل من أجل تحقيق هذه المصالح. تلك مهمة جيلنا التي يمكن من خلالها القضاء على الحيرة في الحاضر حتى يمكن كشفه والإعداد للمستقبل.١٠
د. عون الشريف قاسم: التراث الروحي والبعث القومي، السودان، ١٩٧٦م.
د. عون الشريف قاسم: في معركة التراث، السودان، ١٩٧٢م.
Anouar Abd el-malek: Idéologie et Renaissance Nationale, Anthropos, paris, 1969.
د. محمد عمارة: الإسلام وقضايا العصر، ص١٣٣–١٤٥، دار الوحدة، بيروت، ١٩٨٠م.
د زكي نجيب محمود: المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، دار الشروق، (بلا تاريخ).
د. زكي نجيب محمود: في حياتنا العقلية، دار الشروق، بيروت، ١٩٧٩م.
انظر أيضًا: مجلة «الإحياء العربي» التي صدرت في باريس العام الماضي وتوقفت بعد اغتيال رئيس تحريرها.
د. زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، دار الشروق، بيروت، ١٩٧١م.
د. محمد أحمد خلف الله: القرآن والثورة الثقافية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٧٤م.