خامسًا: حساب الماضي، وأزمة الحاضر، وهموم المستقبل في الوعي الأوروبي
وفي الوقت نفسه الذي يحاول فيه جيلنا تحديد مهمته ومرحلته التاريخية المحددة وذلك لاستئناف النهضة الحديثة بالرغم مما اعتراها من عَثَرات، فإن الوعي الأوروبي اليوم ومنذ جيل أو جيلين يحاول أيضًا نفس الشيء أي تحديد مهمته الحالية، وعمل كشف حساب للماضي ولتشخيص أزمته الحاضرة، والتعبير عن هموم المستقبل. وكما كان لديه إحساس بالبداية الثانية إبان عصور الإحياء والإصلاح والنهضة لديه هو الآن إحساس بالنهاية لهذه البداية كما كان لدى ابن خلدون بالنسبة لنهضتنا الإسلامية الأولى. والوعي الحضاري عندما يبدأ يؤرخ لنفسه يكون ذلك مؤشرًا لبداية النهاية كما كان الحال عند أرسطو مؤرخًا وعند ابن خلدون مؤرخًا وعند نيتشه، وشيلر، وهوسرل، وبرجسون، واشبنجلر، وتوينبي مؤرخين للوعي الأوروبي ومعلنين نهايته و«أفول الغرب». إذ يكاد يجمع فلاسفة الغرب في هذا العصر على أن الوعي الأوروبي قد شارف على نهايته بعد أن بدأ في عصر النهضة وتحدد مساره من البداية إلى النهاية. فإذا كانت نقطة البداية في الكوجيتو عند ديكارت، تكون نقطة النهاية في الكوجيتو عند هوسرل، أو الزمان عند برجسون، أو الشخص عند شيلر ومونييه، أو الوجود الإنساني عند الفلاسفة الوجوديين، أو الحياة عند فلاسفة الحياة، أو الفعل عند بلوندل، أو الإرادة عند نيتشه أو العمل عند ديوي وجيمس.
- (١) بالرغم من انتصارات العقل ونقده للموروث وصراعه ضد السلطتين الدينية والسياسية، وإخضاعه النصوص الدينية للنقد، وتأسيسه علمًا جديدًا وهو النقد التاريخي للكتب المقدسة، ورفضه للتقاليد، ونبذه للتقليد، وأخذ الوضوح والتميز مقياسين للصدق، وطلب الدليل للبرهان، وصياغته للتفكير المنهجي ولخطوات المنهج العقلي إلا أن العقل بعد جهادٍ دام خمسة قرون قد انتهى إلى الصورية والتجريد حتى أصبح فارغًا بلا مضمون بالرغم من محاولة هيجل التوحيد بينه وبين الواقع. ويتضح ذلك جيدًا في صورية كانط وحساب ليبنتز مما جعله ينقلب إلى الضد في الحركة الرومانسية وثورة الوجود عليه في الفلسفة الوجودية المعاصرة، واعتباره مضادًّا للحياة لدى فلاسفة الحياة مثل أونامونو ونيتشه وبرجسون. أصبح غير قادر على إدراك العنصر الحركي في الحياة، ولا يتجاوز إدراك العناصر الثابتة فيها، فغابت الحركة منه، وأصبح أقرب إلى الآلية مما سبب رد فعل الرومانسية عليه. كانت وظيفته أحيانًا تبرير المعطيات المسبقة الدينية أو الفلسفة أو الواقعية. يفهم كل شيء، ويجد أسبابه ومبرراته. فالدين والعقل شيء واحد عند العقليين، والطبيعة والعقل شيء واحد عند الحسيين، والعقل والواقع شيء واحد عند الهيجليين، ما دامت وظيفة العقل هو الفهم، والفهم هو إيجاد الاتساق الداخلي للموضوع. وتظهر خطورة الأمر إذا ما انتقل العقل إلى تبرير المعطيات القديمة الموروثة أو النظم السياسية القائمة مما جعل ماركيوز يجعل من العقل مقدمة للثورة وباعثًا عليها. اقتصر العقل على السطحي والخارجي دون أن يكون قادرًا على الدخول إلى جواهر الأشياء وإدراك مضامينها الداخلية والاتحاد بحقائقها حتى جعله برجسون أقرب إلى جهاز التصوير الخارجي الذي لا يعلم بواطن الأمور، مما دفع بالفكر المعاصر إلى الواقع في رد الفعل المضاد، أعني الاشتباه والاقتباس والتأويل والظلام والليل والإيحاء والتصوف أحيانًا. كما انتهت المثالية الناتجة عن العقل إلى مبادئ عامة شاملة أحدثت ثورات، لكنها لم تستطع تجاوز حدود القوميات، فالشمول للوعي الأوروبي دون غيره، بل والوقوع أحيانًا في نطاق القوميات الضيقة، الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية مما دفع الوعي الأوروبي إلى الانقسام على ذاته والوقوع في أسر العنصرية والشوفينية. كما أمكن استخدام العقل لخدمة مصالح الطبقات المتوسطة لقدراته على تنظيم العمل، وكشف قوانين السوق، وتنظير العالم، فأصبحت العقلانية دعامة للرأسمالية الناشئة مما أدى إلى اتهامه بعد ذلك بأنه قادر على فهم العالم دون تغييره، وقدرته على صياغة العالم وعجزه عن تغييره، واستعماله للدفاع عن الطبقات العليا دون الدفاع عن الطبقات الكادحة؛ لذلك كان الحزب البروليتاري عند ماركس هو الوريث الوحيد للأيديولوجية الألمانية.٢
- (٢) وبالرغم من انتصارات التيار التجريبي، واعتبار التجربة مقياسًا للصدق، وإعادة الثقة بالمعرفة الحسية، ونشأة العلم، واحترام الطبيعة، واستقلال قوانينها واطرادها، وكشف أخطاء المعارف المسبقة التي تعتمد على السلطة والعقائد الموروثة والثقة بالعالم الخارجي والاعتراف بوجوده إلا أنه انتهى أيضًا إلى إنكار كل المعارف المسبقة وكل المعطيات القَبْلية، ورفض الاتساق العقلي، وبداهات العقل وقوانينه الثابتة حتى أصبحت التجربة نوعًا من التحيُّز المسبق والحكم المبتسر مما أضر بالعلم ذاته. كما أنه تصوَّر كل معطى على أنه ظاهرة مادية مرئية تقاس في المكان، وأغفل الظواهر الكيفية الخالصة واستحالة تحولها إلى ظواهر كمية. وقع في التصور الكمي للعالم الذي يعتمد على القياس، وأغفل الكيفيات الخالصة، ولم تنفعه الرياضيات البحتة في الحصول على الكيف بل وقع في حساب الكم، مما دفع بعض المعاصرين إلى وضع العلم الكيفي في مقابل العلم الكمي كما فعل برجسون وهوسرل. وقد قام هذا التيار على إيمان لا حدود له بالتطور والتغير مما جعل الثبات يتوارى. بل إن العلم الحديث يقوم كله على الاحتمال وليس على الثبات، وعلى حساب الاحتمالات وليس على ثبات قوانين الطبيعة. وبلغ الحد من الإيمان بقدرة العلم على اختراع كل شيء إلى أن تحول الطبيعي إلى صناعي والغائب إلى الشاهد؛ لذلك تم استخدامه في الصناعة إلى أقصى حد، وحول المجتمع كله إلى مجتمع صناعي بكل عيوب هذا المجتمع التي تدخل حاليًّا في أزمة الحاضر وهموم المستقبل. كما تم استخدامه في الحروب وصناعة السلاح من أجل التدمير والفناء. وأصبح التقدم العلمي مرادفًا للخراب. هذا بالإضافة إلى ما سببه العلم من تخزين للمعلومات وإضرار بالعقل البشري الطبيعي وبقدراته على الخلق والتخطيط والإبداع بعد أن تنازل عن وظائفه هذه كلها إلى الحاسبات الآلية؛ ومن ثم تحول الذهن البشري إلى مسطح يخلو من العمق، وتحول العلم إلى جهل. وكثيرًا ما كان التيار الحسي التجريبي أقرب إلى النظم المحافظة الرجعية في السياسة كما لاحظ ذلك ماركيوز على الوضعية التي تؤمن بالوضع القائم دون تغييره والثورة عليه.٣
- (٣) وبالرغم من نجاح الفلسفات المعاصرة الإنسانية والوجودية والبراجماتية والشخصانية والظاهراتية في اكتشاف الإنسان من جديد والدفاع عن وجوده وحريته والكشف عن عيب الاتجاهين الرئيسين في الوعي الأوروبي الصوري والمادي، العقلي والتجريبي، وبدايات النقد الاجتماعي لروح العصر، والتعبير عن هموم المستقبل إلا أنها انتهت أيضًا إلى الوقوع في العبث واللامعقول والتناقض وهي بصدد نقد صورية العقل، وإعلان عجز العقل كلية عن إدراك أي اتساق في الواقع، والإيمان بالعنصر اللاعقلي، وإعطاء الأولوية المطلقة له على أي عنصر عقلي في الحياة كما اتضح ذلك خاصة عند كيركجارد وكامو. كما تم الرفض التام للعلم باعتبار أن الذاتية شيء مخالف للموضوعية، وبأن الإنسان ليس ظاهرة علمية أو واقعًا ماديًّا أو موضوعًا يخضع لملاحظة العلم وقوانينه. الإنسان ذاتية خالصة، إمكانية وحركة، ومشروع يتحقق، وحرية كامنة لا يمكن التنبؤ بمسارها. فوقعت في النزعات غير العلمية وأحيانًا في النزعات الصوفية الإشراقية. كما انتهت معظم هذه الفلسفات إلى نوع من العَدَمية النسبية أو المطلقة بعد تحليل تجارب الموت والهم والحصر والغثيان والرغي وحب الاستطلاع والنفي والتساؤل، والدعوة إلى الانتحار وتصور الإنسان في الحياة مثل سيزيف يعيش بلا أمل ومحكوم عليه بالشقاء. وقعت في التشاؤم واليأس، وضاعت روح الأمل والتفاؤل التي كانت سائدة في بداية الوعي الأوروبي والتي ظهرت في فلسفة التاريخ، وانتفت الغائية، وسادت العشوائية والاحتمال وعدم القدرة على التنبؤ بأي شيء. وأصبح المجهول أكثر إغراء من المعلوم، والليل أكثر دلالة من النهار، والغموض يوحي أكثر مما يوحي الوضوح. اشتدت النزعة الفردية التي تغفل دور الجماعة بالرغم من «ثورة الجماهير» عند أورتيجا و«نقد العقل الجدلي» عند سارتر، و«العقل والثورة» عند ماركيوز، وبالرغم من محاولات التوفيق بين الوجودية والماركسية خاصة عند لوكاتش واكتشاف الوعي الطبقي في التاريخ. اشتدت أزمة العلوم الإنسانية بعد أن احتارت بين مناهج العلوم الرياضية أولًا بعد نجاحها في القرن السابع عشر وبين مناهج العلم الطبيعية بعد نجاحها في القرن التاسع عشر، وعودتها إلى الرياضة البحتة أو إغراقها في تحليلات الشعور والتجارب الحية.٤
- (٤)
وهكذا تحدد بناء الشعور الثلاثي الأوروبي بين الصورية والمادية والشعور وظل يتأرجح منهجيًّا بينها، يجرب كل منها مرة ثم يعاود التجربة من جديد حتى لم يعد يستقر له حال، وأُصيب بداء التردد والحيرة، وتحول ذلك إلى بحثٍ دائب مستمر دون الوصول إلى شيءٍ مما أدى في النهاية إلى الوقوع في النسبية والشك. واتسم الوعي الأوروبي بطابع التجريب المستمر، والحيرة والقلق والتردد وعدم الثبات والاستقرار مما جعل الجديد فيه باعثًا دائمًا ضد القديم ومطلبًا ملحًّا ضد الشائع. يصيبه الملل باستمرار، ويرنو إلى الآخر والبعيد، ويتطلع إلى المستقبل دائمًا. غاب المركز الذي يبعث على الاستقرار والثبات، وضاع أي غطاء نظري مسبق وأي تصور دائم يضمن للإنسان الحد الأدنى من اليقين النظري. وقد يمر على المركز مرات عدة ويعتبره أحد نقاط المحيط.
- (٥) لقد مر الغرب بمراحله كلها، ولم يعد له رؤية مستقبلية محددة للمرحلة المقبلة التي هو في الطريق إليها. لقد مر بعصر الإحياء في القرن الرابع عشر، إحياء الآداب القديمة عند بوكاتشيو وبترارك فلعله يجد في أدب القدماء ما يبحث عنه من تأكيد للإنسان وقدرته أمام الآلهة في صراعه مع الطبيعة وفي الإيمان بحريته. ثم مر بالإصلاح الديني في الخامس عشر حتى يمكنه البداية من جديد من الجذور الأولى للوعي في الدين بعد الأدب. وقد حصل على ما ينبغي من تأكيدٍ لحرية المسيحي في الفعل والسلوك وفي التفسير والفهم، والصلة المباشرة بين الإنسان والله دون توسط، والإيمان في اللحظة دون ما حاجة إلى التاريخ المقدس أو تاريخ الكنيسة، وإثبات الكتاب المقدس وحده كمصدر للإيمان دون التراث الكنسي، والتأكيد على القومية واللغة الوطنية، ودحض جميع مظاهر النفاق والاتجار بالدين. ثم مر بعصر النهضة بعد أن نجح الإصلاح، وبدأ يضع الإنسان محور الكون، يتوجه بعقله نحو الموروث القديم ناقدًا لنظرياته، ومحررًا وجدانه من تقاليده وآثاره، يتجه بإرادته وحسه نحو الطبيعية يستلهم منها معارف جديدة يستطيع بها أن يسيطر على قوانينها، ويتنبأ بمسارها. وظهر المذهب الإنساني عند أراسم ليؤكد الإنسان كقيمة مستقلة مطلقة بدنًا وعقلًا. ثم أتت العقلانية في القرن السابع عشر لتعلن أن العقل له سلطان على كل شيء، وأنه منهج قادر على أن يصل إلى حقائق الأشياء وأن الطبيعة عاقلة، والله عقل، والعالم كله يحكمه قانون عقلي، والحياة كلها تنتظم طبقًا لقوانين عقلية. بعدها بدأ التنوير في القرن الثامن عشر، ليفجر العقل في النظم الاجتماعية والسياسية، ويتحول من حرية الفرد إلى حرية المجتمع، ومن حرية السلوك إلى الديموقراطية في النظم السياسية، وإقامة المجتمع الجديد على أساس من الحرية والإخاء والمساواة. وكانت من إنجازات التنوير الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية. ثم أتى التصنيع، والانقلاب الصناعي في القرن التاسع عشر، وانتصارات العلم الطبيعي، وتحويل المجتمع المستنير إلى مجتمع صناعي، يسيطر فيه العقل على الطبيعة، ويستثمر فيه الإنسان بإرادته ثروتها. وتحققت المكتشفات العلمية وتمتع الإنسان بنتائج جهده الطويل منذ الإحياء حتى العلم. بل إن الوعي الأوروبي من وجهة نظره استطاع الخروج خارج حدوده بحثًا عن الأسواق، والأيدي العاملة والمواد الأولية، والنقاط الاستراتيجية للسيطرة على العالم. وأخيرًا وصل الوعي الأوروبي إلى الثورة الصناعية الثانية، ثورة التكنولوجيا في القرن العشرين. وأصبح قادرًا على حساب الماضي والحاضر والمستقبل بالحاسبات الآلية، وغزو الفضاء واستثمار قاع المحيطات، والاستشعار عن بعد لما في باطن الأرض، ولم يعد يقف أمامه أي عائق أو مستحيل.٥
- (٦) وفي أوج انتصار ثورة القرن العشرين بدأت أزمة الحاضر تتكشَّف سواء على المستوى المادي في نقد المجتمع الصناعي أو على المستوى المعنوي في نقد الحضارة الحديثة. وقامت الفلسفات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المعاصرة على هذا النقد المزدوج مثل فلسفات هوسرل وبرجسون وشيلر ورسل وتوينبي. ولم تخل العلوم الإنسانية مثل الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلوم الحضارة من تناول هذا الموضوع بالتحليل والوصف. فقد سادت الآلة على الحياة، وتحول الإنسان إلى آلة، وأصبح شيئًا يماثل الآلة، يتكرر، لا فردية له، يساوي قدر إنتاجه من البضائع، لا حياة له ولا كيان. ضعف العقل بعد اعتماده المستمر على الحاسبات الآلية حتى ضاعت منه قدراته على الخلق والإبداع بعد أن تحول عمل العقل إلى عمل الآلة. بل وضاع أخذ زمام المبادرة بعد أن تحولت إرادة القرار إلى حاسبات القرار. عم الاستغلال، استغلال الأفراد والجماعات والشعوب، وتراكم رأس المال لدى الشركات المتعددة الأجناس التي حلت محل الاستعمار القديم. كثرت الحروب الناتجة عن الصناعات العسكرية في أيدي الشركات الصناعية الكبرى. ضاعت الحقيقة بسبب توجيه أجهزة الإعلام للرأي العام، وصياغة حقائق أخرى بديلة نمطية حتى سلب الإنسان حرية التفكير، والقدرة على الحكم، والاختيار الحر بين البدائل حتى أصبح الإنسان كما يقول ماركيوز «ذا بعد واحد» موجه التفكير والسلوك. زادت العنصرية، فالملونون غير مواطنين أو مواطنون من الدرجة الأولى في البلدان الأوروبية لا تنطبق عليهم حقوق الإنسان. عظُم استغلال الشعوب غير الأوروبية، واستغلال مواردها الأولية وأسواقها وعمالتها، ونهب عقول البشر واستدراجها في البلدان الصناعية، وتفريغ الشعوب غير الأوروبية من عقولها وإبداعها، وسلب حضارتها وتاريخها. تفاقمت مشاكل المجتمع الصناعي مثل تلوث البيئة والاعتداء المستمر على الطبيعة، وتدمير المحاصيل الزراعية، والإسراف في الاستهلاك. زادت حوادث الانتحار، وعمَّ الشقاء، ولم يعد الإنسان سعيدًا بالرغم من الوفرة ومجتمع الاستهلاك، وكثرت الأمراض النفسية، وأصبح لكل مواطن طبيب نفسي معالج لشفائه من أمراض العصر. زادت الأمراض البدنية، واستشرى السرطان في كل أعضاء المجتمع الصناعي نظرًا للتدخل المفتعل في تطور الخلايا في المزروعات أو في الحيوانات مما تسبب عنه تطور مصطنع لخلايا الكائن الحي في الإنسان نتيجة للمواد الكيميائية التي أصبحت خالقة لطبيعة ثانية بديلة عن الطبيعة الأولى. ضاع الولاء للأوطان والقضايا العامة وتحول الانتماء إلى المصلحة الشخصية والكسب الفردي. سادت قيم مجتمع الرفاهية والوفرة والاستهلاك بحيث لم يعد الإنسان قادرًا على التفكير في أي شيء، أو الانتماء إلى أي شيء، أو التضحية في سبيل أي شيء. انقلبت القيم رأسًا على عقب، ولم يعد للوفاء والإخلاص والشجاعة والصدق والصراحة أي معنى. ظهرت قيم جديدة رافضة وثقافة مضادة لا تضع جديدًا، بل تثور ضد القديم، وتهدم ما هو قائم، وتجعل الضياع واللانظام واللامألوف أسلوبًا للحياة. عمت الحيرة والتردد والشك بعد الوعي بعيوب المجتمع الرأسمالي الصناعي، وبعيوب المجتمعات الاشتراكية الشمولية، وبعيوب مجتمعات العالم الثالث التي لم تتمثل مميزات المجتمعات القائمة مثل الحرية والاشتراكية والوطنية بل تمثَّلت عيوبها جميعًا، التسلط والاستغلال والخيانة والعمالة. وانتشر في الروح الموت، وتأصَّل في النفس الغثيان. وكثُر الحديث عن أزمة العصر، وكرب الزمن، وزلزلة الأرض، وتهتك السماء، وانقراض البشر.٦
- (٧) ثم بدأ الوعي الأوروبي يعبر عن هموم المستقبل بعد أن استعصت عليه أزمة الحاضر، وشارف على النهاية. بدأ يخشى سباق التسلح، وخطر الحرب الذرية، وتدمير البشرية. تحدث الفلاسفة عن مستقبل البشرية، وضرورة نزع السلاح، ووضع المعاهدات، وإبرام الاتفاقيات لمنع انتشار السلاح النووي. وظهرت الأعمال الأدبية والفنية تصور العالم بعد أن حل عليه الدمار، يبدأ من جديد باكتشاف النار باحتكاك حجر الصوان، وبداية الإنسانية من مرحلة الصيد والقنص وجني الثمار! بدأ الحديث عن أزمة الطاقة، واكتشاف موارد جديدة وبديلة للنفط، والحرب من أجل ضمان تأمين الطاقة التي اكتشف الوعي الأوروبي أنها ليست لديه، وأنه عاش أسطورة التفوق وعناصر التفوق كلها ليست ملكه، وفي غفلة من الزمن. وبدأ البحث عن الموارد الأولية في حالة نفاد المواد الحالية الموجودة في معظمها خارج القارة الأوروبية. وبدأ يخشى من آثار التضخم، ورفع الأسعار والأجور، وازدياد البطالة، والتنافس في الأسواق بين الدول الصناعية، وحماية المنتجات الصناعية لكل دولة، وظهور التناقضات داخل المجتمعات الرأسمالية الصناعية الكبيرة. وظهر التطرُّف الديني والسياسي في المجتمعات الديموقراطية، وأصبح استعمال العنف هو الوسيلة لضمان مستقبل أفضل، كما أصبح العالم يسير فوق حافة الجنون؛ جنون القيادة وجنون الجماعات المغلقة. لقد أحس الوعي الأوروبي بنهاية المشروع الغربي وإفلاسه القائم على أكبر قدر ممكن من الإنتاج لأكبر قدر ممكن من الاستهلاك لأكبر قسط ممكن من السعادة والرفاهية دون أن يجد مشروعًا بديلًا آخر لحاضره ولمستقبله؛ ومن ثم تكشَّف لديه حسرة الماضي، ضياع الحاضر، وغيوم المستقبل.٧
Hassan Hanafi: L’exégèse de la phénoménologie, Dar al-Fikr al-Arabi, Le Caire, 1980.
K. Marx: La Sainte Famille-l’idéologie Allemande, Les Manuscrits de 1844, Sur la religion, Ed. Sociale, Paris.
E. Hussel: Phenomenology and the crisis of philosophy, Harper New York, 1965.
Strasser: Phenomenology and the human sciences, Duquesne, University Press, Louvain, 1963.
H. Marcuse. One-Dimensional Man, essay on the ideology of the advanced industrial society. Boston, 1964.
-
F. G. Juenger: The failure of technology, Chicago, 1956.
-
Jacques Ellul: The technological society, New York, 1964.
-
E. G. Mesthene: Technological change, its impact on man and society, New York, 1970.
-
W. Kuhns: The post-industrial prophets, interpretations of technology, New York, 1971.
-
Peter, F. Ducker: The future of industrial man, New York, 1970.
-
Peter, F. Ducker: The new society, the anatomy of industruial order, New York, 1962.
-
S. M. Lipset, R, Bendix: The social mobility in industrial society. California, 1959.
-
R. Dahrendorf: Class and class conflict in industrial society, Californai, 1959.
-
Ch. E. Silberman: The myths of automation, New York, 1967.
-
G. Terborgh: The automation hysteria, New York, 1965.
-
H. A. Simon: The shape of automation for men and management, New York, 1965.
-
G. Friedmann: The anatomy of work. New York, 1961.
-
Peter, F. Ducker: The end of economic man, New York, 1969.
-
F. Pappenheim: The alienation of modern man, New York. 1969.
-
A. Wheelis: The end of the modern age. New York, 1971.
-
D. N. Michael: The unprepared society. planning for a precarious future, New York, 1967.
-
R. Aron: Progress and disiffusion, the dialectics of modern society. New York, 1968.
-
G. S. Stent: The comnig of the golden age. a view of the end of progress, USA, 1969.
-
D. Ribero: The civilizational process. New York, 1969.
-
D. Bell: Towards the your 2000 work in progress, Boston, 1967.
-
E. Laszlo: A strategy for the future, New York, 1974.