سابعًا: الفلسفة والمنهج
تموت الفلسفة إذا تحولت إلى جمع المعلومات دون منهج، وإلى تصنيف
المعارف دون طريقة في الاستدلال، فالفلسفة أساسًا منهج أو طريق
وليست معرفةً أو علمًا. وقد كانت معظم التحوُّلات الأساسية في
الفكر البشري تحوُّلات في المنهج أكثر منها زيادة في المعارف
والعلوم؛ لذلك كان المنطق أو مناهج البحث جزءًا من الفلسفة.
فالمنطق بتعريف القدماء آلة للعلوم يَعصِم الذهن من الخطأ. ومناهج
البحث هي طرق الاستدلال التي لا يستغني عنها باحثٌ في أي علم.
وينشأ من هذا العلم الكمِّي تضاربُ المعلومات دون أي اتِّساق فيما
بينها ووضع الصواب مع الخطأ، الصحيح مع الباطل، العلمي مع الأسطوري
دون أي معيار للصدق بينهما. ويكون حينئذٍ الطريق الوحيد لزيادة
المعارف هو النقل أو الرواية عن القدماء، جيلًا بعد جيل، والاعتماد
على المأثور دون المعقول، والأخذ بالأثر دون الرأي. ويغيب الواقع
كلية وتتوقَّف الحياة ويلحق الضرر بالمصالح العامة إذ يكون العلم
في جانبٍ وواقع الناس في جانبٍ آخر. ثم تستأثر جماعةٌ معينة بالعلم
فلا يشيع بين الجميع، وتنشأ طبقةٌ من الكهان والحَفَظة والكَتَبة
والفقهاء وحَمَلة العلم، يحفظونه في الرءوس أو يدوِّنونه في
مجلَّدات؛ لذلك عُرف الفكر القديم باسم الفكر الموسوعي. فالعالِم
هو الذي يحيط به، والجاهل هو الذي لا يعلمه.
وقد يكون السبب في ذلك أن الحضارة الإنسانية في بداياتها كانت
أقرب إلى المعارف منها إلى المناهج؛ فقد كان يهمُّها تجميع المعارف
بصرف النظر عن طريق الوصول إليها. وبتراكُم المعارف تنشأ الحضارة
البشرية، جيلًا بعد جيل، وإضافةً بعد إضافة. كانت العَلاقة بين
الإنسان والطبيعية آنذاك ينقصها التكيُّف المعرفي بالإضافة إلى
التكيُّف المادي؛ وبالتالي نشأت الحاجة إلى المعارف، أية معارف
لملء هذا الفراغ النظري بين
الإنسان والطبيعة بصرف النظر عن مصدرها. وكان الغالبُ على هذه
المصادر السحر والخرافة واستدعاء أرواح الموتى، والأساطير والحكمة
الشعبية، وهي كلها مصادر للمعرفة لا يقين لها، الغاية منها
التكيُّف المعرفي مع الطبيعة. ثم قام الأنبياء بعد ذلك بالدور
نفسِه كاشفين عن النبوة كمصدرٍ للعلم، هم وحدهم المتَّصلون به،
وعلى الآخرين أخذ المعارف دون المناهج. ثم تراكمت النبوات ودُوِّنت
في كتب، مَن علمها أصبح عالمًا، وشرحها الشرَّاح، وتراكمت الشروح،
ومن علمها أيضًا أصبح عالمًا. وهكذا في بدايات التاريخ البشري كانت
للمعلومات والمعارف الأولويةُ المطلقة على المناهج وطرق الاستدلال.
١
ويشهد التاريخ أن الفلسفة تموت عندما يغيب المنهج، وتتحوَّل
الفلسفة إلى معارف موروثةٍ يتراكم بعضها فوق بعضٍ دون طريقة للوصول
إليها. ماتت مرتين؛ مرة في العصر الوسيط الأوروبي عندما تحوَّلت
إلى موسوعات ودوائر للمعارف؛ ومرة لدينا في تراثنا القديم عندما
تحولت أيضًا إلى موسوعات ضخمة تضم كل المعارف والعلوم، ويقتصر دور
الفيلسوف على التنسيق والربط بينها فتتراكم المعلومات، وتتعدَّد
المصادر، وتحتضن الكنيسة كل ذلك وتنظمها بحيث تكون أكبر دفاع عن
العقائد وأقوى دليل على صحتها. ولا يهم أن تنتقل من مصدر إلى مصدر
أو أن تعتمد على فيلسوف ثم تغيره إلى فيلسوف آخر مناقض للأول؛ لذلك
خرجت المسيحية أفلاطونيةً مرة لدى آباء الكنيسة ثم أرسطية مرة أخرى
لدى توما الأكويني، وداروينيةً مرة ثالثة عند تيار دي شاردان؛ ومن
ثم تحول الدين إلى حضارة، وأصبحت المعارف البشرية هي أساس الدين
وفهم العقائد.
٢
ولم يختلف الحال كثيرًا في تراثنا الفلسفي القديم؛ فقد كانت
الفلسفة فكرًا موسوعيًّا يقوم على تجميع المعارف والعلوم وتصنيفها
وإعادة ترتيبها وتبويبها حتى دون نسبة المعارف إلى أصحابها
والمعلومات إلى مصادرها. فالمعارف مشاع للجميع بل ودون تحقُّق من
صحة النسبة حتى كثُر الانتحال والآراء المجهولة المؤلف. فلا يهم إن
كان مؤلف «أثولوجيا أرسططاليس» أرسطو أم أفلوطين، ولا يهم
إن كان كتاب «التفاحة» من وضع
أرسطو أم منتحَلًا. وكأن الذهن البشري به قوالبه المسبقة
وتصوُّراته للعالم، وما على الفيلسوف إلا ملْءُ الفراغات والبحث عن
المضامين البَعْدية لهذه الإشكالات القَبْلية. وأكبر نموذج على ذلك
«رسائل إخوان الصفاء» وموسوعة «الشفاء» لابن سينا. خرجت الفلسفة
أقسامًا: المنطق والطبيعيات والإلهيات إلى آخر ما وصلت إليه
الحضارة البشرية في هذه العلوم؛ لذلك ظلت الفلسفةُ غريبةً على
مجتمعها، دوائر منعزلة على هامش الحضارة، نقاطًا على المحيط بعيدة
عن المركز حتى لقد سُمي الفلاسفة المشَّاءون أتباع أرسطو.
ولا يزال الحال كذلك في جامعاتنا ومعاهدنا، كمٌّ من المعلومات
يحفظها الطلاب ويضعها الأساتذة في كتبٍ مقرَّرة دون منهج للتفكير
أو طريقة في البحث. فالعالِم هو الحاوي للمعارف، والحافِظ والناقِل
والمحدِّث والراوي وليس المخترع أو المكتشف. وإن كثيرًا من
الاضطراب في حياتنا الفكرية المعاصرة ناشئٌ من اضطراب في الفكر
المنهجي؛ فقد غلب على ثقافتنا المعاصرة إما النقل عن الغرب أو
النقل عن القدماء دون ما منهج لتحليل الواقع ومن ثم غاب الإبداع
وماتت الفلسفة.
٣
ولكن تحيا الفلسفة بالفكر المنهجي، فطريقة وضع السؤال أهم من
الإجابة على السؤال، وكما قال القدماء نصف الإجابة في طريقة وضع
السؤال. لقد ظلَّت الفلسفة اليونانية باقيةً في الفكر البشري
لمناهجِها التي وضعتها، وليس لعلومها واكتشافاتها ومعارفها. فقد
وضع سقراط منهج التهكُّم والتوليد القائم على السخرية من الخصوم
وتوليد الحقائق منهم دون أن يدروا وعلى غير وعي منهم. ووضع أفلاطون
المنهج الجدلي، الجدل النازل للانتقال من المثال العقلي إلى العالم
الحسي، والمنهج الصاعد للانتقال من العالم الحسي إلى المثال
العقلي، وكلاهما يكوِّنان منهجًا جدليًّا رأسيًّا مزدوجًا يجمع بين
المثال والواقع، بين المعقول والمحسوس. مما يدل على أن الصراع بين
المثالية والواقعية هو في حقيقة الأمر صراعٌ منهجي. ثم جاء أرسطو
وأراد البحث عن الصوري والفردي، عن العام والخاص، ووضع المنطق آلةً
للعلوم كلها؛ لذلك كانت تجد كل محاولة للجمع بين المثالية
والواقعية في أرسطو رائدًا لها. واتبع السوفسطائيون منهجًا آخر،
منهج تحليل الألفاظ لمعرفة معانيها الدقيقة منعًا للبس والاشتباه،
وهو المنهج الذي شاع في الفلسفة المعاصرة بنفس الاسم.
٤
ثم حَيِيت الفلسفة من جديد على يد القديس أوغسطين في عصر آباء
الكنيسة بالعودة إلى منهج سقراط في الحوار. وأضاف على تحليل
الألفاظ تحليل التجارب البشرية للبحث عن دلالاتها وإيجاد المضمون
الإنساني للعقائد في الوجود الإنساني ذاته. كما حول الأفلاطونيون
المسيحيون الجدل الصاعد عند أفلاطون إلى طريق إلى الله كما هو
الحال عند القديس بونافنتير، وحوَّله الجدليون في العصر الوسيط
المتأخر إلى منطق في الإقناع والتبشير ومحاورة الخصوم على ما هو
الحال في «المنطق الجديد» عند ريمون الليلي. فاشتدَّت الحركة
الفكرية وازدهرت الفلسفة معلنةً بدايات العصور الحديثة.
٥
ثم جاءت العصور الحديثة وأحدثت تغيرًا كيفيًّا في مسار الوعي
الأوروبي وتحولًا جذريًّا في حضارته التي أبدعها وذلك بوضعها
المناهج الحديثة من أجل إعادة تأسيس العلوم فنشأت المناهج الثلاثة
التي أصبحت تميز الحضارة الأوروبية والتي تعيد إحكام نفس المناهج
التي صاغها القدماء. وضع ديكارت قواعد المنهج الاستنباطي من أجل
الحصول على اليقين في العلوم، واستعار منهج العلوم الرياضية الذي
يعتمد على المسلَّمات والبديهيات والمصادرات واستنباط النتائج منها
باعتبارها مقدمات. ويكون مقياس صدق النتائج هو تطابقها مع المقدمات
وليس مع الواقع. وقد تم تطبيق هذا المنهج في الدين والأخلاق كما هو
واضح عند اسبينوزا. كما وضع بيكون قواعد المنهج التجريبي اعتمادًا
على شهادة الحس والتجربة وابتداءً من الملاحظة وانتهاءً بالقانون
العلمي بعد الفرض والتجريب، ويكون صدق النتائج مرهونًا باتِّساقها
مع الواقع وتحقيقها في التجربة. وتم تطبيق هذا المنهج في العلوم
الطبيعية خاصة ثم تبنته العلوم الإنسانية فيما بعد نظرًا لنجاحه
وإنجازاته. وقد حاول البعض، مثل جون ستيورات مل وغيره، ضم المنهجين
معًا في منهج استنباطي استقرائي من أجل صياغة منهج متكامل شامل،
ولكن نقصتْه الحياة التي لا يمكن تبخيرها في الصورة بالاستنباط أو
ردها إلى المادة بالاستقراء. وهنا ظهر هوسرل وفلاسفة الحياة، دريش
ودلتاي وبرجسون وشيلر، ووضع قواعد المنهج الفينومينولوجي من أجل
تحليل التجارب الحية وإدراك ماهياتها بالحدْس في الشعور في الإحساس
الداخلي بالزمان ومن أجل الكشف عن الأشياء ذاتها، ويكون مقياس
الصحة هو تطابق النتائج مع التجارب الحية للفرد وللجماعة في مدينة
العلماء. هذا بالإضافة إلى المنهج الجدلي الذي وضعه هيجل من أجل
الوصول إلى الحقيقة والانتقال من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى
مركَّب الموضوع، ثلاث لحظات تحدِّد مسار كل موضوع. وكان لكل منهج
شقَّان؛ الأول سلبي للتخلُّص من المعارف القديمة وتطهير النفس من
أخطائها والبداية من جديد على أسس أكثر يقينًا سماه ديكارت الشك،
وبيكون القضاء على الأوهام، وهوسرل الرد أو الاقتضاب أو التوقُّف
عن الحكم أو الوضع بين قوسين، وهيجل النفي أو الهدم أو الرفع بمعنى
الإزالة وهو أحد معاني فعل
Aufheben؛ والثاني إيجابي
لبداية الطريق للحصول على المعارف الجديدة وهداية الذهن سمَّاه
ديكارت اليقين، وبيكون التجربة، وهوسرل البناء أو التكوين، وهيجل
الإثبات. أصبح الفكر الأوروبي كله نتيجة طبيعية لاستعمال هذه
المناهج وازدهرت الفلسفة بفضلها، وأصبحت معظم التحوُّلات الجذرية
فيه نتيجة لاكتشافات منهجية.
٦
وقد حَيِيت الفلسفة في تراثنا القديم بعد وضع المناهج الإسلامية
وتجاوز الفكر الإسلامي للمعلومات المتراكمة التي بدت في علوم
الحكمة. فقد وضع علماء أصول الفقه «منهج التنزيل»، كما وضع الصوفية
«منهج التأويل». ومنهج التنزيل هو المنهج الشرعي الذي يقوم على
الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والاجتهاد أو القياس، يهدف
إلى البحث عن العلة المؤثرة في الحكم لتعديته من الأصل إلى الفرع
إذا ما تشابهت العلة. كما أنه يضم مباحث الألفاظ لضبط فهم النصوص
مثل الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المُحكَم والمُتَشابه،
المُجمَل والمبيَّن، المطلق والمقيَّد … إلخ. ويشمل أيضًا مباحث
المعاني أو دلالات الألفاظ لمعرفة اقتضاء اللفظ ومدلول الخطاب. كما
يشمل مناهج الرواية لضبط صحة النصوص خاصة الحديث والتمييز بين
التواتر والآحاد والنقل باللفظ والنقل بالمعنى. وأخيرًا وضع منطق
للأفعال وتقسيمها إلى مقاصد وأحكام، ووصف سلوك الإنسان في العالم
بين الإيجاب والسلب، وبين الإمكان والضرورة، يرتبط بمصالح الأمة
وبحاجات العصر، ويلبي متطلبات كل جيل. فهو منهج متكامل يدل على
جوانب الإبداع في تراثنا القديم. وعلى أساسه تم نقد المنطق الأرسطي
ووضْع منطق جديد مكانه هو المنهج الإسلامي. ولولا إعطاء الأولوية
للأصل على الفرع وسيادة المنهج النصي وعدم الجرأة على تحليل العلل
المؤثرة لكان للمنهج الأصولي أبلغ الأثر في حياتنا المعاصرة.
٧ وفي مقابل هذا المنهج وضع الصوفية منهج التأويل لفهم
النصوص والرجوع بها إلى مصدرها الأول وهو الله يرتفع فيه الخلق إلى
الخالق، وتسقط الأوصاف الإنسانية وتثبت الصفات الإلهية، فيتحد
الخلق بالحق ويفنى الإنسان ويتحد بالله. يسير في هذا الطريق
ابتداءً من المرحلة الأخلاقية من أجل التحلِّي بالأخلاق الكريمة
إلى المرحلة النفسية من أجل علم بواطن القلوب إلى المرحلة
الميتافيزيقية من أجل الوحدة المطلقة. يتدرَّج الإنسان فيه من مقام
إلى مقام، وتُعرض عليه الأحوال حتى يصل إلى الفناء المطلق. ولولا
معاداة العقل (باستثناء حكمة الإشراق) والإيغال في العلوم اللدنية
والعروج إلى السماء والهروب من العالم والنزعة الفردية لأمكن لهذا
المنهج أن يقيلنا من عثرتنا في حياتنا المعاصرة.
٨