مشكلة السعادة
(١) العودة إلى الفردوس
لأحد الكُتَّاب الفرنسيين المعاصرين — كليمان فوتيل — قصة طريفة شائقة تستهوي القارئ من مطلعها وتحمله على مواصلة القراءة بشغف متزايد؛ لما حوته من أساليب التهكم؛ ولما تضمنته من فلسفة مُرَّة، وعنوان الكتاب وحده كفيل باستدراج القارئ؛ إذ يحمل بين طياته فتنة ساحرة لا يكاد أحد يقوى على مقاومتها، وهذا العنوان هو «العودة إلى الفردوس».
ومدار القصة أن عالمًا هولنديًّا من أساتذة الاجتماعيات الخلقية قصد يومًا إلى أحد أصحاب الملايين الفرنسيين وقدَّم له مجلدًا ضخمًا ضمَّنه بحوثه عن الفردوس الذي كان ينعم فيه آدم وحواء قبل أن يأكلا من ثمار شجرة معرفة الخير والشر، وكان الثري يعيش عيشة مملَّة قاتمة رغم ما توفر له من أسباب الترف والبذخ، ولم تكن الآيات الفنية الرائعة التي كان يبذل المال بسخاء في سبيل اقتنائها لتبعث في قلبه المظلم وميضًا من الفرح والاغتباط.
فأثبت له العالِم أنه اكتشف بالقرب من سواحل مصر الشمالية جزيرة غنَّاء هي الجنة الأرضية المفقودة، وأقنعه بأن يشتري الجزيرة ويقيم وبعض رفاقه المنتخبين في هذا الفردوس بعيدًا عن ضوضاء المدنية وصخبها؛ فراقت الفكرة صاحبنا واستهوته طرافتها وأخذ يقنع رفاقه — وهم أعضاء «نادي النورستانيا» — بأن ينضموا إليه في هذه الرحلة إلى عالم السعادة والهناء، غير أنه وجد في بادئ الأمر مشقَّة كبرى في إقناعهم، فقد ثاروا عليه وهو رئيسهم وهدَّدوه بعزله من الرئاسة؛ لأنه خرج على قوانين النادي بإبداء رأي غريب طريف قد يدعو إلى المرح والعبث، وكان السبب الحقيقي الدفين لما أبداه هؤلاء النورستانيون من المقاومة بإزاء الفكرة الجديدة أنهم وجدوا في مرضهم النفساني سلوى كبيرة ومبررًا قويًّا لتجنب كل تبعة مهما كانت يسيرة.
ولنترك هؤلاء القوم يسعون في تحقيق غرضهم الخيالي، ولنرثُ لحالهم إذ إن تجربتهم انتهت بالملل والفوضى، فإنهم لم يفروا من داء إلا للوقوع في داء آخر، إذ إن نِشْدان الأوهام ونكران قدسية العمل والانفصال عن المجتمع وانطواء النفس على ذاتها كل هذا من ضروب الفرار من الواقع ومن أدلة العجز عن مواجهة مشاكل الحياة بطريقة صريحة جدية. ولكن لهذه القصة مغزيان يجدر الإشارة إليهما، أحدهما صريح من اليسير إدراكه وإقرار صحته، والآخر خفي يعزُّ على الأغلبية الكبرى الاعتراف به. والحقيقة الأولى التي لا جدال فيها هي أن الرغبة الملحَّة في تحقيق ما يبدو أنه السعادة الكبرى قد فُطِرَت في طبيعة الإنسان، وهو لا يفتأ يبغيها وينشدها بشتى الوسائل، أما الحقيقة الثانية وهي التي لا تنجلي إلا بعد بحث طويل شاق وفي ثنايا تجارب تصهر في لظاها القلوب فهي أننا نجهل غالبًا كيفية تحقيق السعادة ونأبى الاعتراف بجهلنا.
فأولئك قوم ينشدون السعادة، ولكنهم ظنوا أن السعادة أمر ثابت يمكن اقتناؤه والمحافظة عليه والتمتع به بدون أن يفقد جاذبيته.
توهَّموا أن السعادة هي التحرُّر من القيود والأنظمة، وإطلاق العِنان للنزوات العابرة والبدوات الخادعة، ولكنهم لم يلبثوا طويلًا بعد أن ظفروا بالجنة الأرضية التي كانوا ينشدونها أن شعروا بحنين عميق إلى تلك المتاعب والمضايقات التي كانت تتخلَّل حياتهم بين حين وآخر، وتجعلهم يتذوَّقون طعم الظَّفَر؛ لأنهم مهدوا له ببذل الجهد وتحمُّل المشقة.
إن الحقيقة الواقعية التي تواجه كل امرئ — مهما كانت بيئته ومرتبته الاجتماعية — أن الحياة نضال وكفاح، ولكن عدد مَنْ يحسنون أساليب الكفاح الناجحة ويفهمون غرضه قليل ضئيل، وأقوى دليل على خيبة الأفراد والجماعات في تحقيق السعادة الحقة تلك الأمراض الاجتماعية والخلقية والنفسية التي تنوء بأعبائها حضارة القرن العشرين، إن الإنسان قد يهتز عُجْبًا لما وصلت إليه العلوم الطبيعية من الاختراعات التي سخَّرت الزمان والمكان، ولكن نشوة الإعجاب بقوة عقله جعلته يُغْفِل ذاته ويَعْمَى عن إدراك مواطن الضعف فيه، كما أنها حالت دون أن يشعر شعورًا جليًّا قويًّا بالخصائص التي تسمو به فوق عالم القوى الغاشمة والدوافع الحيوانية العمياء.
ولا شك أن أخطر الأمراض الخلقية وأشقها استئصالًا ما يدور حول معنى الخداع — خداع النفس وخداع الغير — وما يتصل بذلك كله من رياء ونفاق وتصنُّع وتظاهر ومخاتلة وإضمار للشر. ويرجع خطر الخداع إلى أنه يحول دون الوقوف على كثير من الانحرافات التي تعمل عملها الهدَّام من وراء الستار، ولعلَّ شغف الإنسان المتحضِّر بكل ما يتصل من قريب أو من بعيد بمظاهر المدنية المادية يعود خاصةً إلى أن هذه المدنية تمكنه من أن يلبس رداء متصنعًا، وأن يُخفي شخصيته الحقيقية وراء قناع خدَّاع، وتلك هي الطامة الكبرى؛ إذ إن منع الآخرين من معرفتنا على حقيقتنا يقضي علينا بأن نجهل كثيرًا من أنحاء أنفسنا، كما أن عجزنا عن فهم الآخرين يزيدنا جهلًا بأنفسنا؛ لأننا لما كنا حتمًا أفرادًا في مجتمع فنحن نعكس على صفحات أنفسنا الأشعة الصادرة عما يحيط بنا من أشخاص ومعانٍ، وهذه الأشعة المنعكسة تصبح من لُحْمَة ذاتنا وسَداها. إن في نظرتنا إلى أنفسنا كثيرًا من نظرة غيرنا إلينا.
الفرد والمجتمع وحدتان متفاعلتان، بل هما وحدة متكاملة لا تقبل التجزئة، غير أنها وحدة ذات قطبين يقوِّم أحدهما الآخر، فكل تأثير من إفساد أو إصلاح يلحق بأحد القطبين يتغلغل في أنحاء الوحدة كلها ويتزايد تزايدًا مطردًا بفعل الانعكاسات المتبادلة، ومن المشاكل الجدلية التي تثار أحيانًا معرفة ما يرجع إلى الفرد وما يرجع إلى المجتمع، أو محاولة تحديد أثر العوامل الفطرية وأثر عوامل البيئة كلٌّ على حِدَة. وضع المشكلة في هذه الصورة فاسد لا يقوم على معرفة حقة لخصائص الطبيعة البشرية ولقوانين نشاطها، فالمشكلة الحقيقية هي دراسة سلوك الأفراد وسلوك الجماعات كوقائع تعينها مجموعة من العوامل المتلازمة المترابطة في الزمان والمكان.
غير أن السلوك ظاهرة من نوع خاص تختلف كل الاختلاف عن الظاهرة المادية. لكل سلوك تاريخه، فهو ظاهرة تبتدئ في وقت معين، ثم تنمو وترتقي وتتطور، فتعتريها تغيرات عدة وتبديلات شتى، ثم تتلاشى تاركة المجال لغيرها، ولكن هذا التلاشي الذي ينتهي عند الموت لا يكون أبدًا كليًّا مطلقًا، فلسلوك الأفراد والجماعات آثار تبقى بعدها وتتمثَّل في تراث الإنسانية الثقافي، وتظهر هذه الآثار في صورتين متكاملتين: صورة ما حُقِّق فعلًا من رقي وسعادة، وصورة ما يُرْجَى تحقيقه، أي أن التراث الثقافي هو النقطة التي تلتقي عندها تجارب الماضي وآمال المستقبل.
لا يمكن إذن تفسير الظاهرة السيكولوجية أو الظاهرة الاجتماعية إلا بإرجاعها إلى مجموعة الشروط التي تعين حدوثها، ولا بد لفهم الشروط الحاضرة من الربط بينها وبين ما سبقها من شروط ماضية، أي أنه لا بد من الاعتماد على المنهج التكويني الذي يحاول تحديد المراحل التي يقطعها الفرد في أثناء نموه وترقيه. ومن أهم الحقائق التي تسترعي النظر في دراسة حالات الانحرافات والأمراض النفسية الدور العظيم الذي تؤديه البيئة المنزلية في غرز بذور الشذوذ والانحراف والفساد في نفوس الأطفال.
غير أن التعليل بوساطة الماضي والحاضر لا يكفي لفهم سلوك الفرد فهمًا تامًّا، فهناك الأهداف المثالية التي يسقطها الشخص على ستار المستقبل القريب أو البعيد، وشدة نزوعه إلى تحقيق هذه الأهداف، فليست الشخصية مجرد مجموعة التجارب السابقة وتفاعل هذه التجارب بالظروف التي تحيط بالشخص في وقت من الأوقات، بل هي أيضًا ما تحمله في طيَّاتها من ممكنات يُرْجَى تحقيقها في المستقبل.
(٢) اعرف نفسك
معرفة الإنسان نفسه هي الشرط الأساسي لتحقيق السعادة، ومن ثَمَّ هي الوسيلة الوحيدة لتجنب أسباب الشقاء والخيبة ولمعالجة الانحرافات والأمراض النفسية؛ وعلى ذلك يكون العلم الذي يبحث في طبيعة الإنسان — وهو علم النفس — الأساس الذي تقوم عليه مجموعة العلوم الاجتماعية والفلسفية.
علم النفس هو حلقة الاتصال بين الطبيعة والعقل، بين الوسائل المادية والأغراض الروحية، وعلى تقدُّمه ورقيه يتوقَّف تقدم العلوم الاجتماعية ورقيها، ومهما أصابت مختلف العلوم من تقدُّم وارتقاء فإن محاولة تطبيق حقائقها في الحياة العلمية لا تنجح إلا إذا روعي في تطبيقها خصائص طبيعة الإنسان من حيث هو وحدة معنوية، فلا ينجح الطبيب في مهمته وفي تأدية رسالته الاجتماعية إلا إذا كانت له ثقافة سيكولوجية، وكذلك لا يمكن إقامة التربية والعلوم الخلقية والسياسية والاجتماعية على أساس متين وبطريقة مجدية إلا في ضوء حقائق علم النفس، ولكن من بين مختلف العلوم والفنون يوجد فن يفوق جميع الفنون جمالًا كما يفوقها فائدة، ألا وهو فن الحياة المتزنة المنسجمة، فن تدبير النفس، وغني عن البيان أن هذا الفن الجميل الذي لا يعالج رخامًا أو ألوانًا أو أصواتًا لخلق آياته الرائعة، بل يعالج منبع القوى النفسية التي بدونها لم تخلق هذه الآيات، لا يمكن إنشاؤه إلا على أساس متين من الحقائق السيكولوجية، كما أنه لا يمكن تعلمه وتعليمه إلا بالاسترشاد بهذه الحقائق، فإن كل فن لا يقوم على أسس نظرية علمية متينة يصبح حتمًا من عوامل الفساد والتبذير، وكلما سَمَت المادة التي يعالجها الفن وتعقَّدت، كانت أكثر عرضة للفساد والاختلال من جراء سموها وتعقُّدها، واشتدت الضرورة إلى الاعتماد على حقائق العلم اليقينية.
ومن العجيب أنا نبذل جهودًا عظيمة في تحصيل شتى العلوم والفنون، بينا لا نكاد نُعنى بعلم أنفسنا بطريقة مجدية منظمة تؤدِّي بنا إلى إتقان فنِّ تدبير الحياة وما يجديه علينا من اتزان ومتعة وانسجام، فلو أنَّا إلى جانب العناية بتوجيه النشء وإعداده للصناعة أو الطب أو المحاماة عُنينا بتعليمهم كيف يدبِّرون نفوسهم وكيف يحاولون فهم نفوس من يلقونهم في الحياة، لأسدينا إليهم بذلك عونًا يدفع بهم لا إلى النجاح فيما سوف يقومون به فحسب، بل إلى المتعة بهذا النجاح، وإلى الشعور بما تفيض به الحياة الغنية المتوازنة من رضا ومن هناء.
نعم، إن التجارب اليومية الاتفاقية تزوِّد المرء ببعض المعلومات عن نفسيته ونفسية من يحيطون به، ولكن هل يمكن أن تضارع هذه المعلومات الناقصة المفككة والمشوهة في كثير من الأحيان المعلومات التي تحصل بطريقة منظمة وبفضل بذل المجهودات المتواصلة التي تقتضيها كل دراسة جدية وافية؟ قد يرجع إهمال دراسة العلوم النفسية وتعلمها إلى الاعتقاد بأن الخبرة الشخصية وحدها تكفي لمعرفة أسرار النفس الإنسانية ولاكتساب الكفاية في تدبير شئونها، وإن ما يسمى بعلم النفس أو بعلم الطبيعة البشرية علم يسير سهل، ولكن الأمر على خلاف ذلك، وقد أساءت الكتب الشعبية في علم النفس أكبر الإساءة إلى القراء وإلى العلم ذاته بتصوير الحياة النفسية تصويرًا مسرحيًّا خياليًّا، وبتفسير مظاهر السلوك بإرجاعها إلى عدد لا يُحْصَى من القوى والملكات والغرائز بدون الإشارة إلى العوامل والشروط التي يمكن ملاحظتها ودراستها بطريقة دقيقة منظمة، إن التعليل بوساطة معانٍ مبهمة وألفاظ جوفاء بعيد كل البعد عن التعليل العلمي الذي يعتمد على الملاحظة المضبوطة والتجريب المتواصل، فالإنسان هو المشكلة الكبرى، لا الإنسان من حيث هو حيوان بل من حيث هو عقل، وجميع مشاكل الكون تصغر إذا قورنت بمشكلة العقل، فالإنسان عالم صغير ولكنه يفوق في تعقُّده تعقُّد العالم الكبير، والعقل الإنساني هو الذي يفسر العالم الكبير، لا العكس، فمعرفتنا الكون بأسره ومعرفتنا ما يصدر عن نشاط الإنسان من تأثيرات في الكون مرهونة بمعرفتنا لطبيعة العقل الإنساني، فكل نواحي النقص التي نلمسها في علومنا وكل أسباب الخيبة التي تصيبنا في محاولاتنا التطبيقية تعود في نهاية الأمر إلى نقص علمنا بوظائف العقل، وإذا تصفَّحنا تاريخ الفكر الإنساني منذ عهد سقراط حتى يومنا هذا لألفينا أن جميع الفلاسفة لم يُعْنوا بمشاكل الكون الطبيعي عنايتهم بمشكلة العقل، وما كان يردِّده سقراط على أسماع تلامذته بأن يحاولوا قبل كل شيء معرفة أنفسهم لا يزال المهمة الكبرى الملقاة على عاتق المفكرين والفلاسفة.
وإذا كانت معرفة الإنسان نفسه شرطًا ضروريًّا لتقدم العلوم الخاصة فهي بالأحرى الشرط الأساسي لتدبير الحياة العملية تدبيرًا ناجحًا. ونشاهد منذ حوالي نصف قرن تقدمًا كبيرًا في العلوم السيكولوجية منذ أن أخذ علماء النفس يُنْشِئون المعامل والمجلات ويُطبِّقون أساليب التجريب المنظم في أبحاثهم، كانت النتيجة الطبيعية لتقدم علم النفس تعدد الميادين التي طُبِّقَت فيها الحقائق السيكولوجية لتنظيم النشاط وزيادة الإنتاج وتوفير المجهود وضمان التوفيق والنجاح. ومن ميادين التطبيق التربية والتعليم والطب والصناعة والتجارة والتحقيق الجنائي والدعاية في وقت السلم والحرب … إلخ، ولكن أقرب جانب من العلوم السيكولوجية التطبيقية إلى سعادة الأفراد والجماعات هو الطب النفساني بوجهتيه العلاجية والوقائية.
وأساليب العلاج النفساني قديمة جدًّا قِدَم الإنسانية نفسها، غير أن هذه الأساليب متفاوتة في الشكل والقيمة، وقد عُني العلماء والأطباء بطرق علاج الأمراض العقلية والنفسية أكثر من عنايتهم بطرق الوقاية، غير أنه كثيرًا ما كان العلاج يبوء بالفشل؛ لأن المريض لم يكن يلجأ إلى الطبيب إلا بعد استفحال المرض، ولم تكن السلطات تهتم بأمر الحالات الخفيفة المتوسطة ظنًّا منها أنها لا تعود على الحياة الاجتماعية وعلى الإنتاج الجمعي بأي ضرر محسوس، وكان الاعتقاد الفاسد، بأن حالات الجنون والاختلال النفسي والانحراف الخلقي من الحالات التي لا يمكن تفاديها، منتشرًا في جميع الأوساط حتى العلمية منها، أو بعبارة أخرى: كان يُنْظَر إلى الوراثة كأنها العامل الأساسي الذي يُعَيِّن مصير صحة الجسم والعقل.
غير أن البحوث التي قام بها علماء الأحياء منذ ربع قرن في موضوع الوراثة، وكذلك الملاحظات العِدَّة التي سجَّلها علماء السلوك الإنساني، وخاصة في دراساتهم لحالات الشذوذ والانحراف، أدت إلى الإقلال من حتمية الوراثة واعتبار البيئة قادرة على الحد من آثار الوراثة، وعلى توجيه السلوك اتجاهات جديدة غير مُنتَظرة. يمتاز إذن الكائن الحي بكثير من المرونة في وظائفه الفسيولوجية، وتزداد هذه المرونة نطاقًا وعمقًا عندما ننظر إلى وظائف الإنسان السيكولوجية وإلى سلوكه، فسلوك الإنسان قابل للتغير والتحسن، ويتوقَّف نجاح التربية والتوجيه والإصلاح إلى حد كبير على إحكام طرق التربية وإتقان أساليب التوجيه والإصلاح. ليس الإنسان أسير وراثته وجبلَّته إلى الحد الذي كان يعتقد في أواخر القرن التاسع عشر، فإنه يملك إلى حد كبير أسباب شقائه كما أنه يملك أسباب سعادته، وعليه تقع تبعة مصيره، سواء أكان هذا المصير يائسًا أم هانئًا. وعندما نتحدَّث عن الإنسان لا نتحدَّث عن الفرد منعزلًا عن المجتمع، بل عن الإنسان المندمج في جماعة، والذي من حقه أن يطالب المجتمع بأن يوفِّر له أدنى ما يجب من الضروريات لكي يحقق السعادة التي تمكنه طبيعته البشرية من أن يحققها؛ نظرًا لما أوتي من عقل وعاطفة، ولكي يؤدي رسالته الاجتماعية مهما كانت وضيعة.
(٣) علم الصحة العقلية وفوائده
نلمس في مكافحة الأمراض الجسمانية وفي المجهودات التي تُبْذَل في نشر مبادئ الصحة والوقاية مثلًا قويًّا لما يجب أن تقوم به الجماعات والسلطات من مجهود منظم لمكافحة خطر الجنون والاضطرابات النفسية والانحرافات الخُلُقية الذي يهدد الإنسانية في هذا العصر الذي طغت فيه المادة على الروح؛ عصر السرعة والضوضاء والهوس والخداع، فللمرض النفسي أسباب واقعية كالمرض الجسمي على السواء، لو أمكن معرفتها معرفة تامَّة لأصبح إصلاح النفس ميسورًا كإصلاح البدن، ولأصبحت الوقاية من الأمراض النفسية ممكنة كالوقاية من الأمراض الجسمية، والتجارب التي عُمِلَت في أمريكا في نطاق واسع جدًّا مما يقوِّي الأمل في أننا سنصل قريبًا إلى تنظيم وسائل الوقاية من الأمراض النفسية على غرار ما يُنَفَّذ الآن في ميدان علم الصحة البدنية.
ويوجد الآن في الولايات المتحدة أكثر من ستمائة عيادة سيكولوجية تؤدِّي أجلَّ الخدمات في توجيه الأطفال والشبان، وفي معالجة انحرافاتهم الخلقية ومشاكلهم النفسية، وفي انتزاع بذور الأمراض العقلية قبل نموِّها واستفحال أمرها، وقد زادت نسبة عدد المرضى الذين يتردَّدون على هذه العيادات للاستشارة والمعالجة زيادة مُطَّرِدة، فارتفعت في خلال ٢٢ سنة من ٢٢,٥ إلى ٦٥,٢ لكل مائة ألف من سكان الولايات المتحدة، كما أنه زاد عدد الذين يتركون مستشفيات الأمراض العقلية بعد شفائهم، وكانت النسبة في سنة ١٩٣٢ أكثر من ٣٠ في المائة من عدد الحالات المستجدَّة.
•••
واجب الوقاية من الأمراض النفسية والعقلية أكثر إلحاحًا من واجب الوقاية من الأمراض الجسمية؛ لأن العقل هو الْمَعين الرئيسي الذي ترتوي منه جذور الحضارة، فإذا ما نضبت مياهه أصاب الاضطراب والفوضى جميع ميادين النشاط الإنساني وتعذَّر إصلاح الشئون المادية حتى أتفهها.
إن خطر الأمراض العقلية التي تستلزم عزل المريض عن المجتمع تسترعي النظر لأول وهلة أكثر من الحالات الخفيفة المتوسطة التي يكون أصحابها أحرارًا في تصرفاتهم، ولا شك في أن إيواء أولئك المرضى في مستشفيات خاصة يُحمِّل الدولة مصاريف كبيرة بدون أن تعود هذه المصاريف بفائدة سوى الفائدة السلبية الناتجة عن تجنب ما قد ينجم عن سلوك المجانين من اعتداءات شتى، ولكنَّ عدد الحالات الخطيرة المعضلة ضئيل جدًّا إذا قيس بعدد الحالات الخفيفة المتوسطة، والضرر الذي يلحق الإنتاج القومي من انتشار هذه الحالات وتعدُّدها المتزايد يفوق بكثير ضرر الحالات الأولى، ويرجع خطرها إلى كونها خفيَّة مستترة، فنظام المستشفيات المقصور على علاج الحالات البارزة الواضحة غير كافٍ لتجنيب المجتمع الآثار الضارَّة الناشئة عن سلوك المنحرفين والمصابين بأمراض نفسية، وهؤلاء أكثر من غيرهم عرضة لحالات الهياج الانفعالي الذي يطلق العِنان للدوافع البهيمية التي لا تتفق والنظم الاجتماعية السامية، فإن معظم المجرمين وخاصة المعاودين منهم هم في الواقع من المنحرفين نفسيًّا، ولا شك في أنه لو كُشِفَت هذه الانحرافات مبكرًا لكان من الممكن أن نتفادى كثيرًا من نتائجها المُخِلَّة بالنظام الاجتماعي، وأن نحفظ قسطًا غير يسير من الأموال التي تصرف في التحقيقات الجنائية وفي تدبير شئون السجون والإصلاحيات والملاجئ، بل هناك مشاكل اجتماعية قد تبدو طبيعية كازدياد حالات الطلاق إلى حدٍّ يزيد أحيانًا على ٤٠ في المائة من حالات الزواج، أو كتشريد الطفولة الذي هو في معظم الأحيان نتيجة حتمية لانفصام عُرَى الزوجية وتفاقم النزاع بين الوالدين، غير أن أحد العوامل الأساسية التي تؤدي إلى مثل هذه المشاكل وغيرها عامل الشذوذ النفساني، عامل الانحراف وعدم الاتزان الانفعالي وتفكُّك الشخصية تحت تأثير ما يتنازعها من دوافع متضاربة ثائرة.
ولكن كل ذلك يسير خفيف الوطأة إلى جانب ما يلحق النشاط الإنساني من اضطراب وتبذير وهبوط من جراء تقصير ضعاف الإرادة عن القيام بواجبهم نحو أنفسهم ونحو المجتمع. والضعف سواء كان في الأعصاب أو في الإرادة أو في الانتباه أو في الأخلاق عامةً ظاهرةٌ مرضية يجب معالجتها كأشد الحالات المرضية حدَّة وخطرًا. وحياة المصابين بالخور النفسي بطيئة خاملة، شبيهة بحياة النبات المصاب بمرض طفيلي، فلا يمكنهم المساهمة في المجهود الجمعي؛ لأنهم عامل إبطاء وفتور، وهناك فئة أخرى من الأشخاص يبدون أصحاء نشطين، غير أنهم مصابون أيضًا في إرادتهم وفي قدرتهم على تدبير أنفسهم وأعمالهم، وإن كانت حالتهم تختلف في ظاهرها عن حالة ضعاف الإرادة الخاملين، فمرضهم هو عدم الاستقرار والثبات وتبذير المجهود في نواحٍ متعددة سعيًا وراء أهداف متقلبة عابرة، فهم لا يحسنون الرويَّة والتصميم، ويخلطون بين الوسائل والأغراض، ويعملون لمجرد العمل وبدون التساؤل عن قيمة هذا العمل أو ذاك وارتباطه بأعمال الآخرين، فلا يمكنهم — هم أيضًا — أن يساهموا في المجهود الجمعي؛ لأنهم دائمًا عامل تبذير وعرقلة.
فإذا هبط مستوى الإنتاج والنجاح في أمة من الأمم في مختلف ميادين المجهود الجمعي من علم وفنٍّ وإدارة وتربية وصناعة، وإذا أصاب المجتمع شتى الأمراض الاجتماعية من فقر وجهل ومرض وانحلال في الأخلاق وتعاطٍ للخمور والمخدِّرات، فإن مردَّ هذه الآفات كلها أمر واحد جوهري هو انحراف الشخصية وتفككها، هو اختلال الصحة العقلية.
نعم إن لهذه الآفات وسائل علاجية مختلفة، بعضها مباشر رادع وبعضها الآخر غير مباشر، غير أن هذه الوسائل مرهونة دائمًا بإصلاح النفوس قبل كل شيء، وباتخاذ التدابير الحاسمة لوقاية العقول من كل اختلال وانحراف، والواقع أن وسائل الإصلاح تُكوِّن وحدة متكاملة لا تقبل التجزئة؛ وعلى ذلك يجب أن يكون العلاج كلِّيًّا لمحاولة استئصال بذور الفساد جميعها، وكلما كان العلاج كليًّا كان الشفاء أسرع تحقيقًا وأكثر بقاءً، ولا يمكن أن يكتمل العلاج الذي يُرْجَى منه إصلاح الشئون الاجتماعية إلا إذا قام على أسس متينة من علم الصحة العقلية.
وقد جعلت ظروف الحياة الحديثة نشر مبادئ الصحة العقلية والوقاية من الأمراض العقلية ضرورة ملحَّةً وواجبًا اجتماعيًّا مقدَّسًا، فقد أدى الترقِّي الصناعي في نهاية الأمر إلى عكس النتيجة التي كانت مرجوَّة منه، فإن عوامل تحقيق الراحة وتوفير أسباب ما يسمى بالحياة السهلة التي لا تتطلَّب مجهودًا جسمانيًّا كبيرًا أصبحت على العكس من عوامل الإرهاق العقلي والاضطراب النفسي؛ وذلك لأن الوسائل أصبحت أغراضًا وحالت دون رؤية الأغراض الحقيقية، فزادت من الرغبات المفتعلة الكاذبة ومهَّدت السبيل إلى ألوان عدة من الصدمات الانفعالية العنيفة، وليس ثَمَّ من شك في أن ساكن المدن يعيش في جوٍّ من السرعة والتوتر والضوضاء والتنافس المضني، تلك هي الأوبئة الحديثة التي حلَّت محل الأوبئة التي كانت تفتك بأجسام البشرية قبل اكتشافات باستور وانتشار وسائل التعقيم والوقاية.
ويمتاز عصرنا بشيء جديد كل الجدَّة لم تعرفه القرون الماضية، هو الصورة التي اتخذتها الحرب الحديثة التي يُطْلَق عليها بحق الحرب الكلِّيَّة، وهي حرب كلِّيَّة لأنها بمثابة سلسلة من الكوارث تنزل بالعسكريين والمدنيين على السواء، وآفة أساليب الحرب الحديثة ليست وقوع الكوارث نفسها، بل الرعب الذي يستولي على النفوس من توقُّع وقوع هذه الكوارث، إن حرب الأعصاب — كما سُمِّيَتْ — أشدُّ فتكًا بالأرواح من حرب المدافع والدبابات.
فالإنسان الحديث مهدَّد في أعصابه وعقله أشد تهديد، وقد زادت الحرب الحاضرة من خطر هذا التهديد وعنفه، ومن المهام التي ستواجه السلطات المسئولة بعد أن تضع الحرب أوزارها مكافحة آثار الاضطرابات النفسية، وإعادة التوازن والطمأنينة إلى القلوب المحطَّمة، وذلك بنشر قواعد الصحة العقلية والعمل على تطبيقها في أوسع نطاق ممكن حتى تصبح المدنية من عوامل السعادة الحقة لا من عوامل الشقاء والقنوط.