نفوس مريضة
(١) دفاع الكائن الحي عن توازنه العضوي
فهناك موادُّ كيميائية تفرزها بعض أعضاء الجسم من غدد وأغشية من شأنها أن تحول دون اختلال النسب السوية لبعض المواد العضوية كالسكر والبولينا والموادِّ الكلوية والحمضية في الدم، وتُعْرَف هذه المواد الكيميائية بالعوامل الصادَّة؛ لأنها تخفِّف من أثر التصادم بين مواد تصبح متعارضة في حالة تغير مقاديرها النسبية.
ويلاحظ كذلك أنه في حالة قصور أحد الأعضاء عن القيام بوظيفته يقوم العضو المماثل للعضو المريض بقِسْط كبير من عمله، ففي حالة استئصال إحدى الكُلْيتَين تتضخَّم الكلية السليمة ويزداد نشاطها فتُعوِّض ما فقده الجسم من جراء هذا الاستئصال.
ويشاهد أيضًا أن في حالة الإصابات الدماغية البليغة تضطرب العمليات الحسية والحركية وبعض العمليات العقلية، ثم تزول الاضطرابات إلى حدٍّ ما ويتحقَّق التكيُّف من جديد في صورة تكاد تشبه الصورة الأصلية، ويلاحظ في هذه الحالات أن بعض مناطق الدماغ السليمة قد نابت عن المناطق المصابة فضلًا عن قيامها بوظائفها الخاصة.
وتُؤدِّي عملية الكفِّ أو المنع العصبي دورًا هامًّا في تنظيم الوظائف وتعديلها، فلا تقتصر وظيفة الجهاز العصبي على إثارة الحركة وتنبيهها، بل تشمل أيضًا عملية كفِّ الحركة ومنعها، بل يجب القول إن كل عملية تنبيه تكون مصحوبة بعملية كفٍّ لكي تحتفظ الوظيفة الفسيولوجية — كضغط الدم وحركات النبض والتنفس — بإيقاعها السويِّ المعتدل، وإذا زاد أثر التنبيه أو الكفِّ عن القدر اللازم أو نقص اختلَّت الظاهرة الفسيولوجية وأصابها التضخم أو الضمور أو الانحراف.
وهناك عمليات تكييفية تشاهَد في الأحياء الدنيا وخاصة ذوات الخلية الواحدة، تبدو كأنها وسائل دفاعية يصطنعها الكائن الحي لمقاومة الاعتداء أو تجنبه، فيُلاحَظ أن بعض أنواع الميكروبات عندما تُوضَع في بيئة غير صالحة لها تفرز موادَّ كِلْسية تصنع منها كيسًا تتحصَّن فيه، وهذا ما يُعْرَف بعملية التكيُّس، وقد يحدث داخل الجسم ما يشبه هذه العملية، ففي حالة وجود ميكروبات سامَّة في بعض الأنسجة تحدث عملية تكييس، أي أن النسيج العضوي يفرز موادَّ كِلْسية حول الميكروب لحصره وإخماد نشاطه.
وكذلك يجدر بنا أن نذكر ظاهرة عجيبة من ظواهر الدفاع الذاتي تُشاهَد خاصة في الحشرات، وهي ظاهرة تصنُّع الموت والتجمُّد، فكثيرًا ما يعجز الطير عن أن يرى الحشرة التي يتغذَّى منها إلا إذا كانت تتحرَّك، ومن قبيل هذه الظاهرة ما يمكن تسميته بالتمويه أو بمحاكاة شكل البيئة الخارجية ولونها، بحيث يندمج الحيوان في المجال الإدراكي فيفقد المميزات التي قد تسترعي انتباه أعدائه.
وتعتبر جميع هذه الوسائل الدفاعية وغيرها من التي تُشاهَد في الطبيعة من الوسائل السوية التي تساعد على تحقيق التكيُّف والتوافق، ونطاق التكيُّف واسع إلى حدٍّ كبير بحيث يكون من المتعذَّر في كثير من الحالات تعيين الحدود التي تفصل بين الحالة السوية والحالة الشاذَّة؛ ولهذا السبب تكون معاني الصحة والمرض أو السواء والشذوذ من المعاني النسبية الاعتبارية، ويمكن القول بأن الظواهر المرضية هي — في العادة — نفس الظواهر السوية من حيث طبيعة عملها، غير أن الفارق هو فقط في شدة الظاهرة أو ضعفها.
(٢) تأثير البيئة في نشوء الانحرافات النفسية
ستساعدنا هذه الاعتبارات التمهيدية المقتبسة من علم الأحياء على فهم انحرافات الشخصية وكثير من أعراض الأمراض النفسية، فالإنسان في مختلف أطوار حياته يسعى جاهدًا للمحافظة على بقائه؛ ولدفع كل ما يُهدِّد شخصيته المعنوية وشخصيته الاجتماعية، غير أنه كثيرًا ما تعترضه عقبات لا يقوى دائمًا على تذليلها، ولكنه مدفوع بفطرته إلى أن يجد وسيلة لتخفيف التوتر الناشئ عن المشكلة، ولتحقيق أكبر قسط من التوافق، وكلما كان عجز الشخص عن تحقيق التوافق الناجع كبيرًا لجأ إلى وسائل معوجَّة أو متطرفة أو منحرفة أو سلبية تبعًا لاتجاهاته الوجدانية والعقلية والخُلُقية، وتبعًا للظروف الخارجية والملابسات الطارئة، وهذه الوسائل كبيرة الشبه بوسائل الدفاع البيولوجي التي سبق ذكرها، فمنها التعويض والتصنُّع والانطواء على النفس والعناد المفرط وما إلى ذلك كما سيأتي تفصيله بعد حين.
ورغم تعدُّد العقبات الخارجية التي تنشأ في البيئة الاجتماعية من تنافس وحرمان واغتصاب وخداع وظلم، فإن هناك عقبة كبرى يصطدم بها الإنسان داخل نفسه، أي أنها عقبة ملازمة للطبيعة الإنسانية مفطورة فيها، وهذه العقبة هي التفاوت العظيم الموجود بين قدرة الإنسان على تصوُّر الأغراض وبين قدرته على تحقيقها، ويظهر هذا التفاوت منذ السنة الأولى من حياة الطفل، فإن حواسه تكمل وتصبح قادرة على العمل قبل اكتمال قدرته على تحريك أطرافه وتحريك جسمه، ويكون التفاوت ظاهرًا خاصة بين القدرة على الإبصار والقدرة الحركية التي سيكون من شأنها أن تمكِّنه من الوصول إلى الشيء الذي يجذب بصره ومن الاستيلاء عليه، فإن معظم محاولات الطفل الأولى في المجال الحركي تكون فاشلة خائبة، وسيؤدي اختبار الخيبة والشعور بها إلى إشعار الطفل بأنه دون الأشخاص الكبار في القوة والحيلة، وسيكون هذا الشعور بالدونية من أقوى الحوافز التي ستدفع الطفل إلى التغلُّب على نواحي القصور والضعف، فإذا لقي من بيئته العائلية ما يساعده على إزالة الشعور بالعجز والدونية قويت شخصيته وزادت ثقته بنفسه.
ولكن الطفل الكبير لا يلبث طويلًا بعد اكتمال وظائفه الحركية أن يشعر بنواحٍ أخرى من الضعف والعجز، فبترقِّي ملكاته العقلية من فهم وتصوُّر وتفكير يتسع عالمه وتزداد رغباته وتتضح ميوله، ومهما نَمَتْ قدراته الحركية وقويت فلا بد لها من أن تقف عند حدٍّ لا يمكن تجاوزه، في حين أن القدرات العقلية تستمرُّ في نموِّها وتشعبها وترقيها، وعندما يتضح التفاوت بين القدرات العقلية والقدرات الحركية يعود الطفل يشعر بمواطن نقصه وقصوره، وستكون مهمته الكبرى سد هذا النقص أو التعويض عن هذا القصور بشتى الوسائل.
وتؤدي البيئة العائلية دورًا هامًّا في توجيه سلوك الطفل ومساعدته على أن ينظم دوافعه الوجدانية، وعلى أن يكتسب العادات الحميدة التي تقوِّي الخُلُق، ومن أهم هذه العادات ضبط النفس والخضوع للنظام، وغني عن القول أن النظام الذي يُفْرَض على الطفل لا بدَّ وأن يكون مشبعًا بروح الإنصاف والعطف والتعاون، كما أنه من واجب المربِّي أن يحاول دائمًا أن يُفْهِم الطفل بقدر المستطاع ضرورة الخضوع للنظام.
أما التربية العائلية التي تسودها روح التعسُّف والزجر والاستبداد فإنها تؤدي حتمًا إلى غرس الاتجاهات الشاذة المعوجَّة، وإلى تفاقم النقائص الصغيرة التي قد تشوب سلوك الطفل والتي كان من الممكن تقويمها بشيء من حسن التدبير والفهم والعناية.
فالطفل الذي تسوء أخلاقه وينحرف سلوكه عن الطريق السوي هو في معظم الأحيان ضحيَّة بيئته العائلية، وإذا استثنينا حالات العته والبلاهة التي ترجع عواملها إلى الوراثة المرضية يمكن القطع بأن جميع الانحرافات النفسية تقع تبعتها على البيئة العائلية، ومن اليسير التأكد من صحة هذا الحكم، فإن آلاف الحالات التي تَرِد على العيادات السيكولوجية تبين لنا بوضوح التأثير السيئ الذي تتركه في نفسية الطفل البيئة العائلية التي يشيع فيها الفساد والشقاق وسوء التدبير.
فالطفل الذي ينشأ في بيئة فاسدة مختلَّة يحاول جاهدًا طوال سني الطفولة والمراهقة أن يقاوم السموم المعنوية التي تنفثها في قلبه وضميره بيئته العائلية، وإذا وُفِّقَ إلى اكتساب بعض المناعة ضد الآثار السيئة التي لا تفتأ تهدد كيانه المعنوي فكثيرًا ما تكون المناعة من نوع سلبي منحرف، ولا تؤدي وسائل التوافق التي يصطنعها إلا إلى التخفيف من وطأة الآثار المعنوية السيئة، في حين أن التوافق الجيد الناجح هو الذي يؤدي بالعكس إلى ازدهار قوى النفس وتنميتها وتحقيق أشكال أسمى فأسمى من الانسجام والتوازن.
(٣) تصنيف الاستجابات الشاذة
ولننظر الآن بشيء من التفصيل في وسائل التوافق المعوجَّة الشاذة التي يصطنعها المرء لحل المشاكل التي تواجهه، فقد ذكرنا من بين وسائل التكيُّف التي تُشاهَد في الظواهر البيولوجية الصدَّ والتعويض والإنابة والكفَّ والتَّكيُّس وتصنُّع الموت … إلخ، وإذا وجَّهنا نظرنا شطر الحياة النفسية لاحظنا أن وسائل التكيُّف الشاذة التي يلجأ إليها المرء في سلوكه بإزاء نفسه وبإزاء غيره تشبه في كثير من الوجوه وسائل التكيُّف البيولوجي، غير أن شذوذ الوسائل التوافقية المنحرفة لا يرجع فقط إلى كونها مخالفة للوسائل السوية، بل إلى آثارها في نفسية المنحرف ونفسية مَنْ يحيطون به من الأهل والأصدقاء، فالسلوك المنحرف يثير بطبيعته مشكلة خلقية تقتضي الحكم بالخير أو الشرِّ، في حين أن الظاهرة البيولوجية الشاذَّة لا تستتبع حكمًا خُلقيًّا.
ومعنى هذا أنه يجب دائمًا أن ننظر إلى السلوك المنحرف على ضوء المواقف الخارجية التي تكون دائمًا خاضعة للنظم الاجتماعية، فمعظم المشاكل السلوكية يمكن إرجاعها إلى نزاع يقوم بين الحقوق والواجبات، أو بين الحوافز الفردية والبواعث الاجتماعية الخُلُقية، ومما هو جدير بالذكر — بصدد هذه الناحية الخُلُقية التي تلازم جميع المشاكل السلوكية — أن الفلاسفة والأطباء الذين عُنوا بإصلاح السلوك وتقويم الأخلاق — حتى أواخر القرن الماضي — لم يفصلوا بين الصحة العقلية والصحة الخُلُقية. وحسبنا أن نذكر بهذا الصدد كتاب الطب الروحاني للطبيب الفيلسوف أبي بكر محمد بن زكرياء الرازي.
وإذا تأمَّلنا في أبسط ضروب السلوك عندما تكون الاستجابة للمنبِّه مباشرة، لاحظنا أن الاستجابة تتخذ شكلين متعارضين: إقدام أو إحجام، أما في حالة اضطرار الشخص إلى إرجاء الاستجابة لعدم توافر جميع شروطها فستكون الاستجابة بالانتظار، فإذا تجاوزت إحدى هذه الاستجابات الثلاث حدود الاعتدال من زيادة أو نقصان، أو إذا كانت مصحوبة بحالة انفعالية عنيفة، انتقلت الاستجابة من مجال السواء إلى مجال الشذوذ.
فالإقدام الشاذ هو الذي يتخذ شكل الاعتداء والتجنِّي، والإحجام الشاذ هو الذي يتخذ شكل النكوص والانطواء على النفس وتجاهل المشكلة، والانتظار الشاذُّ هو الذي يتخذ شكل التردُّد الذي يدوم حتى يتحوَّل إلى قلق ووسواس وحَصَر نفسي.
الإقدام الشاذُّ والإحجام الشاذُّ وسيلتان للتوافق الشاذِّ، أما التردد الشاذُّ فيعني خيبة الشخص في تحقيق التوافق بتاتًا.
فيكون لدينا إذن ثلاث وسائل للتوافق الشاذِّ: اعتداء، نكوص، استعطاف مرضي، ولهذا التقسيم الثلاثي أساس فسيوسيكولوجي يتمثَّل في الحسَّاسيات الثلاث التي تستقبل التنبيهات الخارجية والباطنية والخاصة، ويُقْصَد بالخاصة التنبيهات الناشئة في العضلات والأوتار والمفاصل وكل ما له صلة بوظيفة الاتزان وتشكيل أوضاع الجسم، ولا يتسع المقام هنا لتفصيل القول في هذا الموضوع.
ويكون الاعتداء موجَّهًا نحو العالم الخارجي، نحو أشخاص آخرين، ويكون الانفعال البارز المصاحب عادة للاعتداء الغضبَ، ويترتب على آثار الاعتداء تدخُّل السلطات لمنع حدوث مثل هذه الآثار المخلَّة بالنظام الاجتماعي.
أما النكوص فهو انطواء النفس على ذاتها وقطع الصلة بالعالم الخارجي بقدر المستطاع، وحصر الاهتمام في ناحية واحدة ذاتية، وقد لا يترتب على النكوص أضرار تلحق بالمجتمع بطريقة مباشرة، غير أن حالات النكوص هي في نظرنا من أخطر المشاكل السلوكية التي يجب أن يُعْنَى بها علم الصحة العقلية؛ لأنها حالات سلبية في ظاهرها، من المتعذِّر تقدير آثارها السيئة في تخفيض مستوى الإنتاج الفردي والاجتماعي، ويكون الانفعال الغالب في هذه الحالات الخوف وكل ما يدور حول معنى الخوف، وخاصة الخوف من الإخفاق والخيبة.
أما الأسلوب التوافقي الشاذُّ الذي عرَّفناه بتصنُّع بعض الأعراض المرضية بطريقة لا شعورية فإنه يبدو من العسير تحليله وكشف طبيعته، فهو لا يرمي مباشرة إلى التأثير في العالم الخارجي والإضرار بالآخرين كما في حالة الغضب، ولا يكون الغرض منه قطع الصلة بالعالم الخارجي وتحقيق ضرب من التمتع الذاتي يمكن وصفه بالاجتراري كما في حالة الخوف، بل هو عبارة عن التأثير في جسم الشخص نفسه وإعطائه أوضاعًا تعبيرية، ساكنة أو متحركة، أشبه ما تكون بالأوضاع المسرحية التي تثير الدهشة أو العطف من جانب النَّظَّارة كما في حالة الغيظ، حيث يوجِّه المغتاظ الضربة نحو نفسه، ومجموعة الأعراض المرضية التي يتخذها المريض وسيلة لاستعطاف الغير هي التي تُعْرَف بالأعراض الهستيرية، ولهذه الأعراض منشأ انفعالي كما رأينا، ليس هو الغضب الذي يحمل على الاعتداء، ولا الخوف الذي يؤدي إلى النكوص، بل انفعال الغيظ الذي هو من قبيل الغضب، غير أن آثاره لا تكون موجَّهة نحو الآخرين بل تظل محصورة في الشخص نفسه، ولكنه غيظ من نوع خاص، غيظ كبت بعد أن خابت المحاولات التي قام بها الشخص لحل المشكلة وإزالة الصدمة الانفعالية التي أحدثها ظهور المشكلة.
والتفرقة التي أقمناها بين الغيظ والغضب تستند إلى دراسة الأطوار التي يمرُّ بها السلوك الانفعالي لدى الطفل في السنة الأولى من حياته، فانفعال المولود الحديث عند عدم إرضاء حاجاته العضوية كالجوع أو النوم مثلًا يعتبر انفعالًا أوليًّا ينحصر في أوضاع الجسم والتغيرات الفسيولوجية بدون أن تكون له في شعور الطفل أي قيمة تعبيرية، وعندما يدرك الطفل أثر انفعاله في سلوك الغير ويتعلَّم استخدام الانفعال كأداة للتأثير في الغير، أي عندما يدرك وظيفة الانفعال الثانوية — وهي الوظيفة التعبيرية وهي مكتسبة إلى حدٍّ كبير — يتحوَّل الغيظ إلى غضب، ومما نلاحظه في تجاربنا اليومية أن الشخص الغاضب ينتقل من حالة الغضب إلى حالة الغيظ إذا خاب في إيذاء المغضوب عليه، وفي هذه الحالة يحاول إيذاء نفسه، وهذا مما يؤيد القانون العام الذي يقول إن في حالات الانفعال العنيفة يهبط السلوك من مرتبة الاكتساب والتعلم إلى مرتبة الفطرة والغريزة، أو من مرتبة التفكير والروية إلى مرتبة الأفعال الآلية الاندفاعية، أو بعبارة أخرى: يعود الشخص البالغ يسلك سلوك الطفل، وفي حالة الغيظ سلوك الطفل الرضيع الحديث الولادة، ويمكن القول بأن معظم الأعراض النفسية المرضية هي حالات تراجع وتفكُّك وانتكاس إلى أطوار الطفولة الأولى، وكل انتكاس في الوظائف العقلية والسلوك هو في الواقع نقص في تكامل الشخصية وترابط مقوِّماتها.
ومما هو جدير بالذكر أن التمييز بين معنى الغضب والغيظ كما تؤدِّي بنا إلى إقامته الدراسة السيكولوجية قد أشار إليه فقهاء اللغة العربية في كتب الفوارق اللغوية، ولا عجب في ذلك إذ إنَّ كل لغة وخاصة اللغات التحليلية كاللغة العربية تتضمَّن تحليلات سيكولوجية نافذة دقيقة جدًّا.
وخلاصة القول أن لكل أسلوب من الأساليب التوافقية الشاذَّة ملابسات انفعالية خاصة: غضب في حالة الاعتداء، خوف في حالة النكوص، غيظ مكبوت في حالة الأعراض الهستيرية، أما حالة التردُّد الشاذِّ فهي تمتاز بدوام الإحساس بالتعب والخَوَر وبتناوب الحالات الانفعالية المختلفة من غضب وخوف وغيظ وقنوط وقلق.
وغني عن القول أن الاعتبارات السابقة تعيِّن لنا الإطار العام الذي يضم بين جوانبه عددًا كبيرًا من الحالات الشاذَّة التي قد تشترك فيها عدَّة عناصر وعوامل، كما أنها تكون متفاوتة من حيث حِدَّتها ودرجة خطرها، وسنحاول الآن بيان أهم أنواع السلوك الشاذِّ التي يمكن إدخالها في هذا الإطار التخطيطي.
(٤) أساليب الاعتداء والتبرير
للسلوك عوامل عدَّة، بعضها مباشر ظاهر وبعضها الآخر غير مباشر خفي، والعامل المباشر هو في العادة المنبه الخارجي أو الموقف الخارجي الذي كثيرًا ما يكون طارئًا اتفاقيًّا، وإذا اكتفينا بتعليل السلوك بالاعتماد فقط على طبيعة المنبِّه الخارجي تعذَّر علينا الوصول إلى التعليل الحقيقي؛ لأن المنبِّه الخارجي إذا تكرَّر عدَّة مرات في نفس الصورة لا يؤدِّي دائمًا إلى نفس الاستجابة، كما أننا نشاهد أحيانًا تكرار نفس الاستجابة على الرغم من اختلاف المنبِّه الخارجي وتنوَّع المواقف المثيرة للسلوك، فلا بد إذن من البحث عن العامل الخفي أو عن الدافع الحقيقي الذي يوجِّه الاستجابة ويعطيها شكلًا معيَّنًا، والواقع أنَّ دلالة الموقف الخارجي تتوقَّف إلى حدٍّ كبير على الحالة الذاتية الراهنة وعلى الاتجاه الوجداني والعقلي الذي يكون متسلطًا على العواطف والتفكير.
فالشخص الذي يشعر بقصوره عن حلِّ مشاكله الخلقية والاجتماعية بطريقة سوية ناجحة، والذي يعتقد أو يتوهَّم أنه مظلوم ومحروم ومهضوم الحقوق يحاول إرضاء رغبته في النجاح والظهور وجذب اهتمام الآخرين باللجوء إلى طرق شاذَّة منحرفة، كأساليب الاعتداء والدفاع الإيجابي الفعَّال، وتختلف هذه الأساليب في شكلها غير أنها ترمي دائمًا إلى غرض واحد هو التعويض عن الشعور بالدونية، ومنح الشخص قسطًا من السيطرة مهما كانت وهمية عابرة.
فكثيرًا ما يكون الكذب أو الادعاء أو السرقة من أساليب التعويض الشاذة، والحالة الآتية كفيلة بأن توضح لنا ذلك، وهي حالة طفل في سن العاشرة، بدين الجسم بطيء الحركة، لم يصب في نشاطه المدرسي وفي ألعابه مع رفاقه إلا قسطًا يسيرًا جدًّا من النجاح، وكان والداه ومدرِّسوه قد قطعوا الأمل في تحسين حاله، وبدلًا من أن يفكِّروا جدِّيًّا في كيفية تشجيعه ومساعدته أظهروا له استياءهم ويأسهم، فظل الطفل مُهْمَلًا من ذويه محقَّرًا من رفاقه، فأخذ يكذب ويلفق الأحاديث ويتهم نفسه بارتكاب السرقات الوهمية؛ لإثارة الدهشة والاهتمام، غير أنه لم يصدَّق، بل قيل له: إنه أسمى خُلُقًا من أن يسرق، فلما خاب الصبي في مسعاه أقدم على السرقة فعلًا وارتكب عدَّة سرقات خطيرة أدَّت به إلى محكمة الأحداث، وكان موقفه موقف الظافر المعتز بأعماله، ولما أحيل إلى العيادة السيكولوجية نظرًا لشذوذ موقفه وُفِّقَ السيكولوجي إلى كشف الدافع الدفين الذي حمل الطفل على سلوك هذا المسلك الشاذِّ، وبهذه الكيفية أصبح من اليسير إفهام الوالدين والمدرسين حقيقة الحالة، وإقناعهم بضرورة تشجيع الطفل وتوفير الظروف الملائمة لمساعدته على إبراز ما لديه من مواهب حتى ينال ما يرجوه من نجاح ومن حسن تقدير الآخرين له.
وكلُّ مدرس يعلم أن التلميذ الذي تكون مواهبه العقلية ضئيلة تحول دون النجاح في دراسته، وبالتالي دون اجتذاب اهتمام مدرسيه وتقديرهم، قد يلجأ إلى الأساليب الاعتدائية التي تُخِلُّ بنظام الدرس، وإلى الغش في الامتحانات.
ويمكننا أن نطبق هذا التعليل على الطغاة من الحكام الذين يحاولون سدَّ نواحي النقص فيهم بمختلف ضروب الظلم والخداع والقسوة والاعتداء، فإنهم لا يكتفون باستخدام هذه الأساليب الشاذة في نطاق سلوكهم الفردي، بل يتخذون من الحياة القومية والسياسية مجالًا أوسع لسلوكهم الشاذِّ، فيعتقدون أنهم يمثِّلون دولتهم بل إنهم تقمصوها، وإن نواحي التظلم التي يختبرونها في أنفسهم ليست خاصة بهم بل بالدولة ذاتها.
وقد يختفي الاتجاه الاعتدائي وراء ستار من التبرير المضلِّل، فليس الغرض من هذه الحملة العسكرية مثلًا الاستيلاء على أرض الشعب المعتدى عليه، بل إصلاح شئونه وتوفير أسباب سعادته ورقيه، أو تُوسَم تلك الحملة العسكرية المكوَّنة من مئات من الآلاف من الجند بأنها حملة تأديبية يُقْصَد منها حماية أقلية صغرى لا يتجاوز عدد أفرادها بضعة آلاف.
ولسلوك الاعتداء درجات متفاوتة، فقد يبدو هذا السلوك طبيعيًّا سويًّا ولا يظهر شذوذه إلا عندما يتكرر ويثار بأتفه الأسباب، ويظهر السلوك الاعتدائي في صورة مرضية واضحة في المرض المعروف بالهوس (مانيا)، والسمة المتغلبة في شخصية المهوَّس الإفراط في شتى نواحي السلوك: إفراط في الحديث، وفي النشاط الحركي، وفي المظاهر الانفعالية، وفي إصدار الأوامر المتضاربة، وبمطالبة تنفيذها بمجرَّد صدورها، ومثال ذلك المريض الذي يلحُّ بأن يطلع على درجة حرارته قبل اطلاع الطبيب عليها وإلا ثار وغضب، أو الذي يندفع في إصدار الأوامر المتضاربة في أثناء قيام الطبيب بفحصه، وذلك بسرعة هائلة دون صبر ولا إمهال، فيأمر بإغلاق النافذة لمنع التيار، ثم يفتح الباب لئلا يفسد جو الغرفة، ثم يعود فيأمر بإغلاق الباب وفتح طاقة صغيرة بالقرب من النافذة، ثم بإغلاق الطاقة وفتح النافذة، ثم بتضييق الفتحة أو توسيعها، ولا ينتهي من إصدار هذا الأمر حتى يطلب فتح القفص للببغاء حتى تتمتَّع بشيء من «التمرين»، وقبل أن يتمكن أهله من تنفيذ هذه الأوامر كلها أمرهم بالبحث عن خطاب فُقِدَ، ثم قام واشترك في البحث حتى عمَّت الفوضى المنزل كله.
ويتضح الأسلوب الاعتدائي في كيفية المناقشة والجدل، فإصرار وتشبُّث ثم شتم وضرب، أو اتهام كاذب ملفَّق وإقامة الدعاوى وإرسال خطابات التهديد … إلخ، وقد توجد حالات هوس خفيفة يصعب تمييزها من الحالات السوية، هي حالات متوسطة بين الصحة والمرض، فيكون الشخص سويًّا في تصرفاته حينًا شاذًّا حينًا آخر، وعندما تصبح حالات الهوس الخفيف مزمنة تختل الشخصية وتضطرب ويصطبغ السلوك بصبغة خاصة مستديمة، ويشاهد في الحالات الحادة تغيير محسوس في سلوك الشخص، فيزداد نشاطه الحركي ويضطرب ويصبح كثير الكلام، شديد الحماس، سريع التهيُّج والانفعال، تصدر عنه أحكام فاسدة لا يراعي فيها أبسط مبادئ المنطق.
ومن هذه الحالات حالة امرأة شابة أخذت ترسل إلى أصدقائها وصديقاتها صورًا فوتوغرافية ورسائل تهنئة بدون مناسبة ولا مبرر، ثم التحقت بجمعية موسيقية وأخذت على عاتقها أن تنظِّم فرقة لتدريس الموسيقى الغنائية، وقد استغرق هذا النشاط الخارجي قسطًا كبيرًا من وقتها حتى أهملت تربية طفلها الصغير وشئون منزلها، ولما نبَّهها زوجها إلى ضرورة الاعتناء بشئون المنزل قبل كل شيء آخر؛ ثارت عليه وأفهمته أن طباعها لا تتفق وطباعه، وأنَّه لا بدَّ من الطلاق، ثم شعرت بغرام شديد نحو الطبيب الذي كان يعالجها وصارت تزعجه بالأحاديث التليفونية، وبالتردد على عيادته بدون سبب جدي، ولما أبدى الطبيب تذمُّره من هذا السلوك أخذت ترسل إليه الخطابات الغرامية الواحد تلو الآخر، وكتبت إلى والدتها تسرُّ إليها أنَّ الطبيب أصبح ملك فؤادها وسلطان قلبها، وأنَّه إلهها أو شيطانها، غير أنها لم تفز بعد منه بالقُبْلة الأولى التي كانت تبتغيها، وعلى الرغم من هذا السلوك الشاذِّ نجحت المريضة في أن توهم أهلها أنَّها محقَّة في تصرفاتها، وأن زوجها يسيء معاملتها وما إلى ذلك من أساليب الافتراء والتلفيق.
وبالتأمل في الحالتين السابقتين يمكننا أن نستنتج أنَّ سلوك المهوَّس — الذي تغلب عليه صبغة الاعتداء والمبالغة كما سبق أن أسلفنا — شبيه إلى حدٍّ كبير بسلوك الأطفال الصغار، ومن المعلوم أن سلوك الأطفال الصغار يتميَّز بتغلُّب الجانب الانفعالي العنيف على جانب الرويَّة والتفكير، سلوك المهوَّس والسلوك الابتدائي — بوجه عام — يصدر عن اختلال التوازن بين الانفعال والفكر، وسبب هذا الاختلال الذي يؤدي إلى تحرير النزعات من سلطة العقل وتحويلها إلى نزوات وأهواء شاذة هو خاصة ضعف قدرة الشخص على الكفِّ والمنع الإرادي.
(٥) أساليب النكوص والتعويض
رأينا أنَّ أساليب الاعتداء تتميَّز خاصة بالمبالغة في النشاط، وتتجاوز حدود الأفعال الحركية واللفظية المعتدلة المتزنة، أما أساليب النكوص فهي على خلاف ذلك تتميَّز بالحد من النشاط الحركي واللفظي ورفض الناكص أن يساهم في الحياة الاجتماعية، سواء في العائلة أو في المدرسة أو في البيئات الاجتماعية الأخرى.
والنكوص استجابة توافقية ترمي — كبقية الاستجابات التوافقية — إلى تخفيف درجة التوتر الناشئ عن وجود المشكلة، ويرمي النكوص إلى تجنُّب الخيبة بدون محاولة حلِّ المشكلة حلًّا صريحًا إيجابيًّا.
لا يظهر الأسلوب النكوصي ولا يصبح صورة سلوكية ثابتة إلا بعد مرحلة تتناوب فيها أساليب الاعتداء والنكوص، وليس هذا بالأمر الغريب المتناقض؛ إذ إنَّ غرض السلوكين المتعارضين شكلًا واحد، وهو إزالة التوتُّر وتحقيق التوافق، ثم يتغلَّب الأسلوب النكوصي في بعض الأشخاص دون غيرهم تحت تأثير عدة عوامل يرجع بعضها إلى البنية الفطرية وخاصة بنية الجهاز العصبي وجهاز الغدد الصماء، وبعضها الآخر إلى تأثير البيئة وكيفية استجابة الأشخاص الآخرين لسلوك المعتدي أو الناكص، ويلاحظ أن طور المراهقة أخصب الأطوار في ظهور الاتجاه النكوصي وتقويته.
ولكن عوامل البيئة أبلغ تأثيرًا وأدوم أثرًا من العوامل الفطرية؛ لأن الشخص الذي يبتدئ حياته بدون أن يكون مصابًا بعاهات أو إصابات بارزة خطيرة قد يتعلَّم أسلوب الاعتداء أو أسلوب النكوص تبعًا لمعاملة بيئته له، فالتربية التي يعوزها روح الحزم والثبات تؤدِّي إلى خلق الاتجاه الاعتدائي في الطفل، وكذلك تخلق التربية، التي يغلب عليها روح الإرهاب والقسر، الاتجاه النكوصي والميل إلى العزلة والانفراد.
ويمكن اعتبار العناد سلوكًا يجتمع فيه الاعتداء والنكوص، وينشأ العناد، وخاصة في الأطفال، عندما تصطدم الرغبة بعقبة شديدة لا يمكن إزالتها، فتزداد الرغبة شدةً وتوترًا ويؤدِّي التوتُّر المتزايد إلى انفجار الغضب، وبتسلُّط شعور الخوف على الشخص تُكْبَت مظاهر الانفعال الحركية، ويتحوَّل الموقف إلى عناد سلبي وخُلْفة، وتكثر حالات العناد السلبي في ضعاف العقول الذين لا يجدون سوى هذا السبيل لمعالجة المواقف التي يشعرون بصددها بعجزهم وقصورهم عن أن يقوموا بعمل متوافق فعَّال. والعناد السلبي من العوارض المرضية التي تصحب بعض حالات الجنون المبكِّر، ويُعْرَف الجنون المبكِّر أيضًا بالشيزوفرينيا أي الفصام، والكلمة اليونانية تفيد معنى انطواء الشخص على نفسه وانفصامه عن العالم الخارجي وعما يصدر عنه من دواعي الاهتمام والرغبة.
وارتباط العناد السلبي بالضعف العقلي والبله يفسِّر لنا طبيعة عملية النكوص، فالضعيف العقل الذي هو في مرتبة سفلى بالنسبة إلى متوسط الذكاء يصطنع أسلوبًا سلوكيًّا يعتبر في مرتبة سفلى بالنسبة إلى السلوك العادي السوي، فالنكوص لا يفيد فقط معنى التقهقر في المكان، بل معنى التقهقر في سلم مراتب السلوك الذي تتراوح أشكاله بين السلوك الإرادي الفعَّال المصحوب بروية وتفكير وبين السلوك الاندفاعي الأعمى أو السلوك الآلي ذي النمط المتصلِّب المتحجر، فالسلوك الإرادي يقتضي بذل الجهد وتعبئة القوى النفسانية العليا وتوجيهها نحو غرض يحكم العقل عليه أنه أسمى من غيره، ويكون معيار الحكم معيارًا خلقيًّا، أما السلوك الاندفاعي الأعمى أو السلوك الآلي النمطي فهما في المرتبة الدنيا؛ لأن جانب الرويَّة والتبصر يكاد يكون معدومًا فيهما ويكون الجهد الذي يُبْذَل للقيام بهما يسيرًا ينطلق بدون رابط خلقي أو بدون ضابط موضوعي.
ويوجد كذلك سُلَّم لترتيب مستويات التفكير، فنجد في المرتبة الأولى التفكير المنطقي المنظَّم الذي يتناول مشكلة واقعية حاضرة، محاولًا إيجاد حلٍّ مناسب لها مع مراعاة ظروف المشكلة كما هي في حالتها الراهنة لا كما يمكن أن تكون أو كما كان يُرْجَى أن تكون.
ثم نجد في المرتبة الثانية تفكير الفنَّان أو الشاعر الذي يتجرَّد إلى حدٍّ ما من القيود الخارجية ويحاول حلَّ المشاكل في صورة رمزية، ولكن بدون أن يصاب التفكير بالتفكك.
ونجد دون هذه المرتبة التفكير المتشرِّد الذي ينتظم حينًا ثم يتفكَّك حينًا آخر، غير خاضع لنظام معيَّن سوى نظام النزوات والأهواء الذي هو نظام ذاتي، ينافي النظم الواقعية المنطقية وينافي كذلك نظام العواطف التي تحتفظ بدورها الطبيعي المعتدل وهو توجيه السلوك وتعديله، ويمكن تسمية هذا الضرب من التفكير بالتفكير الاجتراري الذي يقطع صلته بالعالم الخارجي ولا يعود يغذِّي نفسه إلا بنفسه وبالأخيلة الوهمية الكاذبة. ومن أنواع التفكير الاجتراري ما يُعْرَف بأحلام اليقظة التي يلجأ إليها الشخص لإرضاء رغباته بطريقة رمزية خيالية هي ضرب من ضروب التعويض الناقص الفاشل.
وليست أحلام اليقظة بطبيعتها من الأعراض المرضية، فإن الفنَّان أو الشاعر كثيرًا ما يستسلم لهذه المواكب الساحرة من الصور والأخيلة فيُمَتَّع بها ويتابعها بشغف؛ لأنها قد تقوده إلى ينابيع الوحي أو تبعث في نفسه نور الإلهام والإبداع، ولكن الفرق بين هذا الضرب من أحلام اليقظة والضروب الشاذة هو أن الفنان بعد الارتشاف من ينابيع الوحي والإلهام التي انفجرت مياهها في نفسه يعود إلى العالم الخارجي، إلى عالم التعبير والإنجاز فيجسِّم أحلامه في آياته الفنية الرائعة من شعر وأشكال وألوان وأنغام.
فلا يهرب الفنان من الواقع إلا ليعود إليه ويزيده ثراءً وجمالًا، أما الشخص المنحرف الضعيف فإنَّه يهوي إلى درجة التفكير الاجتراري والتصور الخيالي الكاذب دون أن يقوى على الصعود إلى المرتبة العليا، وكلَّما زاد اصطدامه بالعالم الواقعي عنفًا وتكررت محاولاته الخائبة ازداد إمعانًا في تصوراته الخيالية وانطواءً على نفسه وانقيادًا وراء طرق الإرضاء الوهمية، فأحلام اليقظة تميل نحو الشذوذ كلما أصبحت غرضًا في ذاتها وفقدت وظيفتها الطبيعية من حيث هي أداة لتحقيق الأغراض في عالم العمل والتنفيذ أو لتمثُّل المثل العليا التي بتحقيقها أو بالسعي لتحقيقها ترتقي الشخصية وتزدهر.
ويجدر بنا أن نذكر هنا أن الرغبات التي تُرْضَى في أحلام اليقظة أو في أحلام النوم ليست مقصورة على الرغبات الجنسية كما يذهب بعضهم، فإن جميع ميول الشخص المختلفة قد تجد سبيلًا إلى الإشباع عن طريق التفكير الاجتراري والتصورات الوهمية.
وهناك أسلوب آخر للفرار من التبعة وإخماد الشعور بالواقع ومحاولة تجاهل المشكلة ونسيانها هو إدمان الخمر وتعاطي المخدرات، ومن المعلوم أن هذه المواد السامة تثير حالات نفسية شبيهة بحالات أحلام اليقظة، بل هي من العوامل التي تبعث الأخيلة وتخلق عالمًا وهميًّا من الأشباح ومن الصور التي قد تكون سارَّة، كما أنها قد تكون مزعجة مرعبة، ولكنها في كلتا الحالتين تثير في نفس المدمن متعة شاذَّة، وتكون الصورة المرعبة ممتعة؛ لأنها بما تثيره من خوف تجعل الشخص يشعر بشيء من الشجاعة التي تعوزه لمواجهة المخاوف الحقيقية، غير أنها شجاعة وهمية مزجاة.
وعندما يزداد التفكير تفكُّكًا عما هو عليه في أحلام اليقظة يهبط إلى مستوى أحلام النوم، وغني عن البيان أن بعض الأحلام — مهما كان مثيرها الحسي — تتخذ أشكالًا بعضها صريح وبعضها الآخر رمزي، تعبِّر عن رغبات الشخص وتمثل طرق إرضائها، ولكن ما يعنينا هنا بصدد أساليب النكوص ليست أحلام النوم بل النوم نفسه.
لا شك في أن النوم ظاهرة طبيعية خاضعة لإيقاع خاص ولعمل المراكز العصبية، ولكن يمكن اعتبار النوم من الوجهة السلوكية صورة من صور فقدان الاهتمام بالحياة الخارجية والميل إلى الراحة والنسيان، وإذا استغرق النوم قدرًا من الزمن يفوق القدر الضروري لتعويض تعب النهار يصبح من أساليب الإحجام الشاذة.
وليست جميع المشاكل التي تواجه الشخص من النوع الذي يطرأ فجأة أو ينكشف تدريجيًّا في حياتنا اليومية، فإن الشعور بالندم والتحسُّر على ما فاتنا من الفرص واستغراق التفكير في حوادث الماضي المكدِّرة المزعجة من الأمور التي تستنفد مجهودًا مضنيًا لا يعود على النفس بأي فائدة، بل يزيد التوتر شدَّة والمشكلة إعضالًا، وقد يتخلَّص الشخص من الذكريات المزعجة المخجلة إما بتخفيف وطأتها عن طريق التبرير وتوجيه الاهتمام نحو نواحٍ جديدة من النشاط، أو بمحاولة نسيانها وبتجنُّب كل ما يكون من شأنه أن يبعثها من جديد وأن يزيدها رسوخًا وإلحاحًا.
وقد أيَّدت التجارب المنظَّمة التي قام بها بعض علماء النفس الرأي الشائع بأن المرء يميل إلى استرجاع الذكريات السارَّة أكثر من الذكريات المكدِّرة.
ولكن بيَّنت التجارب أيضًا أن عملية النسيان لا تتمُّ بطريقة واحدة، فهناك عمليتان للنسيان: عملية الانطفاء أو زوال الذكرى لعدم وقوع حوادث من شأنها أن تثيرها وتؤيدها، وهذه العملية سلبية إلى حد كبير، وعملية الكف أو المنع، وهي عملية إيجابية ترمي إلى تجنُّب كل ما من شأنه أن يثير الذكرى المزعجة سواء بطريقة مباشرة بأن يكون المثير جزءًا من التجربة السابقة التي تركت أثرًا مؤلمًا في الشعور، أو بطريقة غير مباشرة بأن يكون رمزًا لهذه التجربة السابقة.
وقد ينشأ من المجهود المضني الذي يبذله الشخص لتفادي الذكرى وكل ما يحوم حولها أعراض مَرَضية كما في حالات القلق الشديد والمخاوف المرضية، ويمكن اعتبار هذا المجهود محاولة ترمي إلى التكيُّف، لكنه ضرب من التكيُّف الخائب؛ إذ يؤدِّي المجهود إلى زيادة التوتُّر بدلًا من تخفيفه.
ومن المدارس التي عُنيت خاصة بدراسة النسيان أو بعبارة أصح عملية التناسي المرضية أو الكبت اللاشعوري مدرسة فرويد، غير أنها ذهبت في تأويلاتها إلى أقصى حدود الخيال فشخَّصت الوظائف النفسية كما يشخِّص الإنسان البدائي قوى الطبيعة، واعتبرت العقل الإنساني مسرحًا تتصارع عليه شتى النزعات والذكريات الشعورية واللاشعورية، المقنَّعة وغير المقنَّعة، ولكان الأمر يسيرًا لو كان الغرض من هذا الأسلوب الشعري مجرَّد التشبيه، غير أن فرويد وبالأخص تلامذته تجاوزوا حدود الوصف الخيالي، وزعموا أن اللاشعور أو العقل الباطن وما فيه من قوى كامنة يمكن استخدامه مبدأً للتعليل العلمي، ولم يصب مذهب فرويد ما أصابه من الرواج لدى الجماهير الساذجة إلا لأنه صاغ ما ظنَّه تعليلًا علميًّا في أسلوب مسرحي استعاري، ولكن شتان بين الاستعارة والتعليل العلمي.
•••
ويعتقد أن المرض السوداوي من الأمراض المجبولة في طبيعة مَنْ يصاب بها، غير أنه لا يتحتَّم مطلقًا أن تنمو الاستعدادات الفطرية — إذا كان هناك فعلًا استعدادات فطرية للأعراض السوداوية — مهما اختلفت ظروف البيئة والتربية، فمن الممكن مقاومة الأسباب الاستعدادية منذ الطفولة، وترويض الطفل على قمع نزعاته الأنانية وتهذيب عواطفه ومنعه من التذمر والتأنُّن.
وما قلناه عن المرض السوداوي فيما يختص بالعوامل الاستعدادية يمكن قوله أيضًا عن الفصام، إذ إن للبيئة أثرًا قويًّا في توجيه الشخصية، فقد تؤدي البيئة إما إلى تقوية العوامل الاستعدادية أو إلى مقاومته وإضعافها، فالمشكلة التي تواجه المربِّي هي كشف تباشير الأعراض الفصامية قبل استفحالها، وحث الطفل أو المراهق على توجيه اهتمامه نحو العالم الخارجي، ومساعدته على مواجهة المشاكل بعزم وروية والتغلب عليها، ومن تباشير الأعراض الفصامية الانطواء على النفس واللجوء إلى العزلة والانفراد والاستسلام لأحلام اليقظة، ولا شك أن في مقدرة المربي إذا أعدَّ لوظيفته الإعداد الصالح أن يفطن إلى الاتجاهات الشاذَّة التي ينتحيها الطفل والمراهق، وأن يستأصل بذورها إذا أمكن، أو على الأقل أن يُضْعِف من شدَّتها، وأن يقاوم آثارها بطرق مباشرة أو غير مباشرة، والطرق غير المباشرة أنجع في هذه الحالات من غيرها.
(٦) الاستعطاف الشاذُّ والأعراض الهستيرية
الهستيريا من الأمراض النفسية التي طالما حيَّرت وما زالت تحيِّر علماء الطب العقلي؛ وذلك لتشعُّب مظاهرها من جهة، ولقابلية هذه المظاهر للتبدُّل والتغيُّر من جهة أخرى، والمشكلة الكبرى التي تواجه الطبيب في تشخيص هذا المرض التمييز بين الأعراض العصبية العضوية — أي الناشئة عن إصابات في المراكز العصبية — وبين الأعراض الوظيفية التي تتخذ أحيانًا شكل الأعراض العضوية، ولكن مهما يكن شأن الجهاز العصبي وما يصاب به من اختلال وظيفي فإن الجانب النفساني هو المتغلِّب في معظم الحالات، فالعَرَض الهستيري ضرب من الاستجابة ترمي إلى حل مشكلة ما بطريقة رمزية. وقد تكون المشكلة جنسية أو غير جنسية. ويصاب بالهستيريا الرجال والنساء على السواء، بخلاف ما كان يُظَن حتى أواخر القرن الماضي بأن الأعراض الهستيرية لا تظهر إلا في النساء، وتفيد الاستجابة الهستيرية معنى الاستعطاف دائمًا والتبرير أحيانًا، غير أن الغرض منها لا يكون واضحًا في شعور المريض في أثناء مرضه، وإن كان هذا الغرض قد تمثَّل من قبل في شعور الشخص في صورة أمل أو في صورة حلٍّ وهمي لمشكلة يتعذَّر حلها بطريقة فعلية. وبعض الأمثلة كفيلة بأن توضِّح لنا طبيعة بعض الأعراض الهستيرية.
فالجندي الذي يهاب دخول المعركة يتمنَّى لو كان مصابًا بعاهة تعفيه من واجب حمل السلاح، وقد تتحقَّق هذه الأمنية بعد فترة من الزمن فيُصاب بشلل في ذراعه اليمنى فيتخلَّص من عبء الجندية بدون أن يُضْطَرَّ إلى الاعتراف بجبنه، فالشلل الهستيري ضرب من الاستعطاف والتبرير.
والفتاة التي يرغمها والدها على التزوج من شخص تكرهه وتنفر من رؤيته قد تصبح ذات يوم وهي فاقدة النظر ولسان حالها يقول: «لا يمكنني أن أرى هذا الشخص.» والعَمَى الهستيري عمى وظيفي أي غير ناشئ عن إصابة في شبكية العين أو في العصب البصري أو في المراكز البصرية في الدماغ، وقد يزول فجأة كما جاء فجأة عندما يفقد العرض الهستيري ما يبرِّر دوامه.
وكذلك الطفل الذي قد اجتاز سنَّ التبوُّل ليلًا وتمكَّن من ضبط حاجاته العضوية قد يعود إلى التبوُّل ليلًا عندما يشاهد أن أخاه الرضيع قد استأثر بعطف أمه وحنانها، ودلالة العرض الهستيري في هذه الحالة واضحة جليَّة، فالطفل الكبير يحاكي أخاه الصغير فيعود إلى بعض مظاهر الطفولة الأولى؛ ليفوز بشيء من العطف الذي يخيَّل له أنه حُرِمَ منه، ولكن ليست جميع حالات التبوُّل ليلًا من منشأ نفساني، فهناك بعض الحالات التي ترجع إلى عوامل عصبية عضوية يجب معالجتها علاجًا جسمانيًّا فضلًا عن العلاج النفساني الذي يساهم دائمًا في نجاح العلاج الجسماني.
•••
ولا شك في أن للأعراض الهستيرية عوامل استعدادية، وأهم هذه العوامل قابلية الشخص الكبير للإيحاء السريع، سواء كان إيحاءً ذاتيًّا أو إيحاءً خارجيًّا، فالسمات المتغلبة في شخصية المصاب بالهستيريا: القدرة الكبيرة على المحاكاة والتعاطف الأعمى، وضعف قوة النقد والتمحيص. وتتناول المحاكاة بعض الأعراض الحركية المرضية كالعرج والتواء السلسلة الفقرية والشلل، كما أنها تتناول بعض المظاهر الانفعالية العنيفة التي تكون مصحوبة بتغيُّرات حركية شديدة مؤثرة، وقد لوحظ أن مستوى الذكاء في الأشخاص الذين يصابون بأعراض هستيرية يكون في الغالب دون المتوسط، ويرجع انحطاط مستوى الذكاء خاصة إلى تغلُّب الإيحائية على قدرة النقد والتمييز.
وما نريد أن نقرِّره بصدد قابلية الشخص للإيحاء هو أننا أيضًا بإزاء استعداد يمكن تعديله بالعوامل التربيبية، فللتربية الحسِّيَّة في الطفولة أثر بليغ في إضعاف الإيحائية، فلا بدَّ من تدريب الطفل على الملاحظة الدقيقة لما يدور حوله، وخاصة ملاحظة التفاصيل وإدراك الفوارق الصغيرة، ويجب أن تقوم التربية العقلية أيضًا على نفس الأساس من الدقة والوضوح والتركيز.
غير أن روح التربية العقلية الحقَّة تختلف عن روح التربية الحسِّية، كما أن الفهم العقلي يختلف عن الفهم الحسي، تستخدم التربية الحسية النماذج المجسَّمة التي يمكن رؤيتها ومعالجتها بطريقة حسية حركية، كما أنها تعتمد خاصة على ضرب الأمثلة الجزئية. والتعليم الحسِّي يستتبع فهمًا حسيًّا ينحصر في النموذج المجسم أو في المثل الجزئي، يكاد يكون صدى للواقع المحسوس، كما أن العَرَضَ الهستيري هو صدى للحادثة التي شاهدها المريض، ثم يأتي دور التربية العقلية الحقة التي — على الرغم من استنادها إلى التربية الحسية — تتعارض معها في جوهرها، إذ الغرض منها مقاومة الفتنة التي تنبعث من المحسوس ومن الجزئي، أي مقاومة الإيحاء الصادر عن المحسوس وعن الجزئي، ذلك الإيحاء الذي يُضيِّق آفاق العقل ويجعله أسير المغريات الحسية.
وتستتبع التربية العقلية الفهم العقلي الذي يتحرَّر من القيود الحسية معتمدًا على المعاني الكليَّة المجرَّدة، تلك المعاني التي هي غذاء العقل بحكم طبيعة العقل نفسه، والتي بدونها يصاب الفكر بالضعف والهزال والتفكُّك. الفهم الحسي كامل نهائي ولكنه إذا اقتصر عليه واتخذ نموذجًا للفهم يعوق التقدم؛ لأنه مغلق على نفسه، أما الفهم العقلي فلا بدَّ أن يظل ناقصًا، أي أن تظل دائرته مفتوحة، وهذا النقص هو في الواقع عامل التقدم والرقي؛ لأنه يفيد معنى الشك العلمي وتعليق الحكم وطلب الاستزادة، والشك العلمي عامل تقدم ورقي؛ لأن الغرض منه مواصلة البحث والتفكير حتى الوصول إلى اليقين العقلي، أو على الأقل الاقتراب منه بقدر الإمكان.
فإذا أردنا أن نقاوم الاتجاه الهستيري في النشء فلا بدَّ من أن نربِّي فيه روح الشك العلمي، وندرِّبه على استخدام المعاني الكلية المجردة وإنشاء التصميمات الكلية التي تتكامل فيها جميع عناصر المشكلة ووجوهها، وأن نُفْهِمَه أن الاهتمام العقلي يختلف عن الاهتمام الحسي في أنه لا يمكن الشعور به إلا بعد بذل المجهود الفكري الشاق المنظم المتواصل، ولا شك في أن الثقافة الفلسفية هي أنجع الوسائل لتثقيف العقل وتقوية روح النقد والتمحيص، ومن ثَمَّ مقاومة القابلية للإيحاء في ميادينه المختلفة من محاكاة حركية وتعاطف أعمى وسرعة في تصديق كل ما يوحى إلينا من آراء، والفلسفة التي يتلخَّص جوهرها في الحكمة السقراطية الخالدة «اعرف نفسك» هي في الواقع ما يكلِّل كل تربية حقَّة وكل ثقافة عميقة واسعة سواء كانت أدبية أو علمية، إذ في الفلسفة حياة للعقل وتقويم للأخلاق وشفاء للنفس.
•••
وبالتأمل في تاريخ المرضى بالهستيريا — وخاصة تاريخ طفولتهم — يتضح لنا بجلاء مدى الدور الذي تلعبه البيئة المنزلية في تهيئة التربة لنمو الاتجاه الهستيري وظهور الأعراض المَرَضية، فالطفل الذي يمرض بأي مرض جسماني قد يجد نوعًا من اللذة في مشاهدة عناية أهله به، خاصة عندما تسرف الأم في مظاهر العطف والحنان والقلق، والإسراف في العطف يضعف خلق الطفل ويجعله يلجأ إلى تصنُّع شتى الآلام وخاصة الصداع كلما وُجِدَ أمام مشكلة أو كلما أراد أن يتخلَّص من عمل يتطلَّب منه مجهودًا شاقًّا.
ومن العوامل التي تقوِّي الاتجاه الهستيري في الطفل وتحول دون تكامل شخصيته ما يشاهده من نزاع بين والديه، فهو في حيرة مستمرة أيهما يحب من والديه وأيها يكره، أو يكون في حالة تذبذب بين الحب والخوف، فيتعلم أن يسلك سلوكًا يتعارض مع تفكيره وعواطفه، وتؤدِّي به هذه الحالة إلى زوال قوة الإرادة وتقوية النزعات الأنانية وتضارب المظاهر السلوكية، وفي نهاية الأمر إلى تفكُّك شخصيته.
والإسراف في مدح الطفل والإثناء عليه — خاصة في المواقف الاجتماعية غير العادية — يجعله يتمسَّك بالمظاهر الخادعة، ويبالغ في تقدير أهمية رأي المجتمع فيه، فهو يحاول دائمًا أن يتجنَّب كل ما هو من شأنه أن يغيِّر من حسن تقدير الآخرين لأخلاقه وصفاته؛ ولهذا السبب اعتبرنا العَرَضَ الهستيري ضربًا من التبرير، فالجندي الذي شُلَّت ذراعه ينجو من تهمة الجبن ويظل محتفظًا بحسن تقدير رفاقه، وقد لوحظ أن حالات الشلل الهستيري أو غيره من العاهات الهستيرية التي تصيب الجنود في أثناء الحرب تستمر طوال مدة الحرب، ولا تزول إلا بعد عَقْد الهدنة، وقد تستمر بعض الحالات بعد انتهاء الحرب كأن الشخص يخشى أن يُتَّهم بالتصنُّع، أن يُظَنَّ أن مرضه كان مرضًا نفسانيًّا فحسب.
وكثيرًا ما تظهر الأعراض الهستيرية لمناسبة مرض جسماني أو عقب إصابة أو صدمة في أثناء العمل، غير أن علَّة الأعراض ليست المرض الجسماني أو الإصابة أو الصدمة، ولكنها الرغبة في استغلال الحالة المرضية بشتى الطرق، فقد لوحظ أن العمال الذين يصابون في أثناء القيام بعملهم في المصنع أو في المنجم بإصابات جسمانية ينتج عنها أحيانًا بعض الاضطرابات النفسية يستمرون في شكواهم إذا لم يفوزوا بما كانوا يرجونه من تعويض مالي، وقد قام بعض العلماء بدراسة مقارنة بين قوانين العمل في الدنمارك وألمانيا؛ فوجدوا أن في الدنمارك ٩٣ في المائة من العمال الذين يصابون بأمراض نفسية عقب إصابة أو صدمة يعودون إلى مزاولة العمل بعد تسوية حالتهم ومنحهم التعويض المالي دفعة واحدة، في حين أن هذه النسبة لا تتجاوز ١٠ في المائة بين العمال الألمانيين؛ لأنهم يتقاضون التعويض على أقساط أسبوعية لا دفعة واحدة، فالإسراع في البتِّ في كل نزاع يقوم بين صاحب العمل والعامل من جرَّاء إصابته في أثناء العمل وفي دفع التعويض دفعة واحدة من شأنه أن يزيل حالة التوتر التي يوجد فيها العامل المريض، وأن يحول دون استفحال الأعراض النفسية، وبالتالي دون تعطيل العمل مدة طويلة.
(٧) أساليب التوافق الخائبة: النورستانيا والبسيكستانيا
إن أساليب السلوك الشاذَّة التي سبق ذكرها تعتبر من طرق تخفيف التوتر، ومن وسائل التوافق والتكيُّف، غير أنها وسائل شاذة، ولا يرجع شذوذها إلى شذوذ مظاهرها الخارجية فحسب، بل إلى تجردها من طابع التعاون الاجتماعي وتغلُّب الاعتبارات الأنانية على سواها من الاعتبارات.
فإذا لم ينجح الشخص المنحرف في تخفيف توتره النفساني عن طريق التبرير والتعويض، أو عن طريق مختلف أساليب الاعتداء والتجني أو النكوص والانطواء على النفس، فقد يصاب بالأعراض الهستيرية التي هي أيضًا من وسائل تخفيف التوتُّر الرمزية ومن طرق الاستعطاف والتبرير، ولكن لظهور الأعراض الهستيرية شروطًا لا تكون متوافرة في جميع الأشخاص كالأنانية الشديدة والقابلية الكبيرة للإيحاء، وعدم تكامل الشخصية الذي يؤدِّي إلى الاستجابات المتناقضة المتعارضة، فهناك إذن فئة من الأشخاص لا ينجحون في اصطناع إحدى هذه الوسائل الشاذَّة التي ذكرنا، أو ينفرون من اصطناعها فيظلون في حالة مستمرَّة من الحيرة والتردد والقلق و«النرفزة»، وهذه الحالات متشعبة الألوان، متفاوتة من حيث الشدة والخطر، تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الظروف، وهي التي تُعْرَف بحالات الحَصَر النفسي والهُجاس السوداوي والنورستانيا والبسيكستانيا.
ومن العسير جدًّا التفرقة بين هذه الحالات بطريقة واضحة قاطعة، فإن كثيرًا من الأعراض التي تُذْكَر في كل من هذه الحالات مشتركة بينها جميعًا، وقد اختلف المؤلفون في كيفية تصنيفها وفي تحديد عللها، كما أنهم اختلفوا في كيفية علاجها، فقد اهتم بعضهم بالأعراض الجسمانية خاصة، في حين أن غيرهم وجَّهوا اهتمامهم نحو دراسة الحالة النفسية وتعليل أعراضها بإرجاعها إلى تجارب الشخص السابقة وإلى أثر البيئة المعنوية.
ولكي نلقي شيئًا من الضوء في هذا الموضوع الغامض المتشعب يجدر بنا أن ننظر إلى هذه الحالات من الوجهة السلوكية، ومن حيث هي ضروب معينة من الاستجابات لها دلالتها الخاصة بالنسبة إلى تكوين الشخص الخلقي، وبالنسبة إلى المواقف الخارجية في آن واحد، فالدلالة الأساسية التي نكشفها في استجابات الموسوس أو القَلِق أو المحصور الذي يكون أسير أفكاره الثابتة القهرية هي أنها استجابات خائبة في تحقيق التوافق أو في تخفيف الضغط الناشئ عن الموقف الخارجي، والدليل على صحة هذا التأويل هو أن الاتجاه الغالب في شعور المرضى وفي سلوكهم هو التردُّد والشك وتكرار الاستجابات بدون الوصول إلى إغلاق دائرة النشاط الشاذِّ، وبدون الفوز بشعور الاطمئنان والاستقرار، فسلوكهم شبيه بسلسلة دائرية فاسدة تؤدِّي كل حلقة منها إلى ازدياد التوتر بدلًا من تخفيفه.
وينتج عن ازدياد التوتر المستمر مظاهر معينة يمكن حصرها في ثلاث فئات: حشوية باطنة، حركية ظاهرة، وأخيرًا نفسية.
ولنشاط الجهاز العصبي السمبتاوي صلة وثيقة بالانفعالات، ولأن المظاهر الانفعالية هي التي تسيطر على تصرفات الأشخاص المصابين بأمراض نفسية يصبح من المتعذِّر معرفة ما إذا كانت الاضطرابات الحشوية سببًا من أسباب الحالة النفسية أو نتيجة لها، والواقع أننا دائمًا بصدد شخص شاذٍّ يسلك سلوكًا كليًّا لا بصدد مجموعات متمايزة من الأعراض الجسمانية والنفسية.
ويعزو بعضهم الأعراض النفسية إلى تعب الجهاز العصبي وإجهاده. هذا التعبير مجرد تعبير رمزي لا ينطبق على أمر واقعي، إذ لا يمكن تشبيه الجهاز العصبي بالجهاز العضلي الذي يمكن أن يقال عنه بحق إنه في حالة تعب وإعياء، أما الجهاز العصبي بمفرده فإنه يكاد لا يصاب بالتعب، فالشخص النورستاني مثلًا يشكو من أنه يشعر بتعب لا يمكن مقاومته، ولكن هذا الشعور بالتعب يختلف كل الاختلاف عن حالة التعب الحقيقية التي تؤدي إلى طلب الراحة والنوم، فإنه يكفي أن يتغيَّر الموقف الخارجي لكي يسلك النورستاني سلوكًا يتعارض مع ما يشعر به من تعب، فإذا تُرِكَ وحده لا يحجم عن القيام بأعمال شاقَّة تتطلب مجهودًا عضليًّا كبيرًا بالقياس إلى حالته السابقة التي كان يشكو منها، وهذا التعارض الغريب يرجِّح الرأي القائل بأن الأعراض الجوهرية في حالات النورستانيا والحصر النفسي ليست الأعراض الجسمانية بل الأعراض النفسية.
وفي ضوء ما سبق يمكننا أن نفهم الفئة الثانية من مظاهر هذه الحالات، وهي الاستجابات الحركية الظاهرة، وتمتاز هذه الحركات بكونها إما مضطربة غير ملائمة للموقف لا تتناسب شدتها مع أهمية الموقف الخارجي، أو نمطية متكررة كقضم الأظافر أو فرك الأيدي أو المشي السريع في الغرفة جيئة وذهابًا وغيرها من الحركات التي تُوسَم بالعصبية.
وقد تضاربت الآراء في تعليل الأمراض النفسية من هستيريا وحَصَر نفسي وحُصار، فقد رُدَّت إلى الصدمات الناشئة من الأمراض العضوية، أو إلى عجز الشخص عن التعويض عن شعوره بالدونية، أو إلى انخفاض مستوى التوتر السيكولوجي وتفكُّك بعض الوظائف العقلية، بعضها عن بعض، أو إلى الصدمات الانفعالية المختلفة وخاصة الانفعالات المصاحبة للسلوك الجنسي الشاذِّ أو للعادات الجنسية المنحرفة، بعد أن تكون هذه الصدمات الانفعالية قد نُسِيَت وكُبِتَت في اللاشعور، والواقع أن السلوك الشاذَّ خاضع لنفس الشروط التي يخضع لها السلوك السوي من حيث قوانين التعلم والاكتساب، فكل مظهر سلوكي سواء كان سويًّا أو شاذًّا يعبر عن الشخصية بأكملها، سواء كانت هذه الشخصية متكاملة أو غير متكاملة.
ولهذا السبب يكون من التعسُّف ومن التعميم الأعمى أن يقال مع مدرسة فرويد إن الأمراض النفسية لا بد وأن تكون جنسية المنشأ ومتصلة دائمًا بحادث جنسي كُبِتَت ذكراه، وإن هذا الحادث الجنسي يرجع إلى سني الطفولة أو المراهقة.
والمشكلة التي أثارتها مدرسة فرويد جديرة بالفحص الدقيق، إذ على حلِّها تتوقف طريقة العلاج النفساني؛ لأنه إذا لم يكن أساس الشخصية ومحورها الغريزة الجنسية كما تزعم مدرسة فرويد، فإنه سيصبح من الخطر حصر اهتمام المعالج والمريض في دائرة واحدة؛ لأنه قد ينشأ عن هذا الحصر تفاقم الأعراض، بل خلق أعراض جديدة بدلًا من تخفيفها أو إزالتها، فالشخصية سواء كانت سوية أو مريضة كلٌّ لا يتجزأ، ويمكن إصلاحها من نواحٍ متعددة لا من ناحية واحدة، وهذا ما سنفصِّل القول فيه في الفصل القادم.
وقد تُسْتَعمل كلمة neurosis بمعنى psychoneurosis ولكن هناك فرقًا بسيطًا بينهما، فالأولى تشير خاصة إلى الأعراض الجسمية كالتشنجات والنوبات العصبية وحالات فقدان الحس والحركة فقدانًا وظيفيًّا أي بدون إصابة عضوية في الجهاز العصبي، أما الثانية فتشير خاصة إلى الأعراض النفسية كالشكوك والمخاوف والوساوس والأفكار المتسلطة والقلق، ويُؤْثَر الآن استعمال كلمة psychoneurosis بدلًا من neurosis لمنع الالتباس بين المرض العصبي العضوي organic nervous disease والمرض العصبي الوظيفي functional nervous illness، وكما أن العامل النفساني هو المتغلِّب في الأمراض العصبية النفسية فقد اصْطُلِح على ترجمة كلمة psychoneurosis بالمرض النفسي.
ويلاحظ أن الوظائف العقلية لا تكون مختلَّة في الأمراض النفسية إلا بطريقة طفيفة عابرة، أما في حالة اختلالها اختلالًا بليغًا خطيرًا يستوجب العلاج في المستشفى فسنكون بصدد الحالات التي تُعْرَف عامة بالجنون psychosis أو بالأمراض العقلية كالهوس mania والمرض السوداوي melancholia والجنون الدوري أو النُّواب periodical psychosis والجنون المبكر dementia praecox أو الفصام schizophrenia والجنون الهُذائي التأويلي paranoia والجنون الخلطي confusional psychosis وجنون الشيخوخة senile dementia والشلل الجنوني العام general paralysis of the insane.
ولبعض الأمراض العقلية علل عضوية معروفة كالإصابات الميكروبية والتسمُّم وتورُّم الخلايا العصبية وإتلافها أو ضمورها، أما الهوس والمرض السوداوي والجنون الدوري والجنون الهذائي التأويلي وربما الفصام أو الجنون المبكر فيقال عنها إنها مجبولة constitutional أو وظيفية functional أي أنه لا يُعْرَف بعدُ ما إذا كانت لها علل عضوية أم لا، وعندما نتحدث عن العلل العضوية نشير إلى إصابات الجهاز العصبي التي يمكن الوقوف عليها بالكشف التشريحي، أما عدم وجود علل عضوية مطلقًا كالتغييرات الدقيقة التي تطرأ على تركيب البروتوبلاسما الكيميائي أو على تركيب بعض السوائل العضوية فهذا ما لا يمكن القطع به في الوقت الحاضر، ويتجه البحث الآن إلى دراسة العوامل الكيميائية التي تؤثر في توزيع مختلف الطاقات العضوية في الجسم، وبالتالي في عمليات تضامن مختلف الوظائف أو تضاربها.
كما أنه يجدر بنا أن نذكر أن بعض علماء الأمراض العقلية يميلون إلى الرأي القائل بأن التمييز القاطع بين الأمراض النفسية psychoneuroses والأمراض العقلية الوظيفية functional psychoses لا تؤيده الملاحظات الكلينيكية التي تستقصي البحث في تاريخ المريض منذ طفولته وتتتبع مختلف أطوار حياته مدة طويلة من الزمن (انظر بصدد هذا الرأي كتاب Dr. John Bowlby, Personality and mental illness, London 1940).