شفاء النفس
(١) تعريف المرض النفسي بوجه عامٍّ
إذا أردنا أن نعرف المرض النفسي لا بالنسبة إلى أعراضه بل بالنسبة إلى الغرض الذي يرمي إليه، قلنا إنه سلوك شاذٌّ يرمي إلى حل مشكلة من المشاكل الشخصية أو تخفيف التوتر الناتج عنها، وقد ميَّزنا من بين الاستجابات الشاذَّة ما هي ناجحة إلى حدٍّ ما وما هي خائبة، وتعتبر الأولى ناجحة على الرغم من شذوذها؛ لأنها تؤدي إلى تخفيف التوتر العصبي أو التوتر النفساني الذي يشكو منه الشخص، غير أنها ليست ناجحة تمامًا؛ لأنها لا تؤدي إلى إزالة التوتر بل تقف عند حدِّ تخفيفه فقط؛ ولهذا السبب يظل الشخص منحرفًا مريضًا عاجزًا عن تحقيق التوافق التام وعن حل المشكلة حلًّا فعليًّا واقعيًّا، فإن مقياس الحل الصحيح هو مقتضيات المشكلة ذاتها وما يتطلَّبه الواقع من مجهود وتكييف، أما إرضاء الأنانية فإنه يؤدي إلى تقوية الانحراف ودعم أساليب السلوك الشاذِّ، خاصة وأن الحل الفاسد — نظرًا إلى أنه يخفف من وطأة المشكلة — يُضْعِف في الشخص الرغبة في البحث عن الحل الصحيح الذي يحفظ للشخصية تكاملها.
وإذا كان المرض النفسي ضربًا شاذًّا من ضروب الاستجابة للموقف الخارجي، فهو إذن إلى حد كبير أمر مكتسب ناتج عن تفاعل عدة عوامل، هو عادة سلوكية سيئة تعلَّمها الشخص خلال تجاربه اليومية وتحت ضغط البيئة التي يعيش فيها وخاصة البيئة المنزلية، فلا يرجع المرض النفسي إلى علة واحدة كالصدمة الانفعالية مثلًا أو كبْت الغريزة الجنسية على حد تعبير أصحاب التحليل النفساني الفرويدي، بل إلى عدة عوامل، إلى سلسلة من العلل والمعلومات مندمجة في حياة الشخص كلها منذ الولادة حتى ظهور الأعراض النفسية، فالمرض النفسي يعبر عن شخصية مفككة غير متزنة، كما أن السلوك القويم المتوافق يعبِّر عن شخصية متكاملة متزنة، وعلى هذا يكون علاج المرض النفسي بمثابة استئصال عادة سيئة ومساعدة الشخص على اكتساب عادة حميدة وعلى اصطناع أسلوب جديد في الحياة، وإذا كان المرض النفسي نتيجة التربية الفاسدة فلا بد من أن يرمي العلاج النفسي إلى إزالة آثار هذه التربية الفاسدة وإعادة بناء الشخصية من جديد بحيث تصبح أكثر تكاملًا وانسجامًا من ذي قبل.
فعلاج الأمراض النفسية أمر شاقٌّ عسير لا يمكن حصره في طريقة واحدة؛ نظرًا لتعدد عوامل المرض من جهة؛ ونظرًا لتباين الحالات الفردية من جهة أخرى، وإذا كان العلاج أمرًا تطبيقيًّا فلا بد له من أن يقوم على أساس متين من العلم، فلم يتقدَّم الطب وخاصة علم المداواة إلا بفضل تقدُّم علم وظائف الأعضاء في حالتها السوية والشاذة، وكذلك لا يمكن أن تقوم للعلاج النفسي قائمة إلا إذا استند إلى حقائق تجريبية يقينية فيما يختص بوظائف العقل الإنساني وبقوانين النمو السيكولوجي؛ وعلى ذلك لا يرجع تعدُّد طرق العلاج النفسي إلى اختلاف الحالات الخاصة والفوارق الفردية فحسب، بل أيضًا إلى تعدُّد المذاهب في علم النفس واختلاف علماء النفس في فهم الطبيعة البشرية وخاصة في تحليل عوامل السلوك ودوافعه وكيفية عملها.
(٢) مراحل التشخيص الثالث
ولإعطاء فكرة بسيطة عن تعقُّد مشكلة العلاج النفسي عندما يواجه المعالج حالة خاصة يريد إصلاحها، نكتفي بالإشارة إلى النواحي الثلاث الهامَّة التي لا بد من مراعاتها في تشخيص الانحرافات والأمراض النفسية، وغنيٌّ عن القول إن نجاح العلاج يتوقَّف على دقة التشخيص وشموله.
اتضح لنا أن المرض النفسي هو في صميمه نوع من التكيُّف الشاذِّ أو من الاستجابة الشاذَّة، ويقتضي معنى الاستجابة وجود منبِّه خارجي، والمقصود بالمنبِّه الخارجي الموقف الذي يوجد فيه الشخص وخاصة ما يحيط به من أشخاص.
فأول مرحلة من مراحل التشخيص تكون إذن بوصف استجابات الشخص بإزاء المواقف الخارجية التي تثيرها، ومحاولة الربط بين الاستجابة والموقف بطريقة ثابتة جوهرية، ويكون موقف المعالج شبيهًا بموقف العالم الذي يلاحظ ظاهرة علمية كتمدُّد المَعْدِن بفعل الحرارة مثلًا، محاولًا تحديد الصلة العِلِّية التي تربط بين التمدُّد والحرارة.
غير أنه سيكون من التبسيط المخل تمثيل المرض النفسي، أو أي مظهر من مظاهر السلوك مهما بَدَا بسيطًا بظاهرة طبيعية كتمدُّد المَعْدِن بفعل الحرارة؛ لأن شروط مثل هذه الظاهرة الطبيعية مهما تعدَّدت أيسر تحديدًا من شروط الاستجابة السلوكية، فهناك وراء الاستجابة كما تبدو للملاحظ عوامل خفية لا تظهر لأول وهلة بمجرد مشاهدة الموقف الخارجي، فضلًا عن أن الاستجابة الشاذَّة كثيرًا ما تكون رمزًا لعامل خفي يشق على الشخص كشفه بنفسه، فلا بد إذن من تأويل هذا الرمز وتوضيح دلالته، والعوامل الخفيَّة التي تعبر عنها الاستجابات بطريقة رمزية هي الدوافع التي يُطْلَق عليها اسم الغرائز والميول والرغبات والعواطف، فيجب على المعالج أن يكشف عن الدافع الدفين الذي تكون استجابة الشخص بمثابة إرضاء رمزي له، فالمرض النفسي هو إذن استجابة ترمي إلى إرضاء دافع أو إلى الذود عنه كلما اصطدم بما يعوق إرضاءه أو بما يهدد كيانه.
وإذا كان الأمر كذلك ففي إمكاننا أن ندرك أحد أسباب الخلاف القائم بين المذاهب السيكولوجية، فهل ترجع جميع مظاهر السلوك — سواء كان سويًّا أو شاذًّا — إلى دافع واحد أو إلى عدة دوافع؟ وفي حالة وجود عدة دوافع هل هناك دافع أساسي يسيطر على الدوافع الأخرى في جميع الأحوال؟ هل الدافع السلوكي الوحيد هو الغريزة الجنسية كما يقول فرويد، أو حب السيطرة كما يقول أدْلِر؟ لا يمكن حل هذه المشكلة بكلمة واحدة، خاصة وأن النزاع القائم بين المذهبين يزداد حدَّة وتوترًا كلما تعدَّدت البحوث وتشعَّبت، ولكن ربما أمكننا أن نطبِّق في هذه الحالة قاعدة عامة طالما أفادت في التوفيق إلى حد ما بين مذهبين متعارضين كمذهب فرويد وأدلر، ومؤدَّى هذه القاعدة أن كل مذهب مصيب فيما يثبت مخطئ فيما ينفي، وعلى هذا يكون الحكم النهائي بهذا الصدد أن للغريزة الجنسية أثرًا في السلوك لا يقلُّ عن أثر حب السيطرة، ولكنا نعلم من جهة أخرى أن الحل التوفيقي الوسط لا يُعْتَبَر حلًّا حقيقيًّا ولا تقدمًا علميًّا، فلا بد من إدخال النظريتين المتناقضتين في نظرية أشمل يزول في ثناياها التناقض الذي أدَّى إلى إنشائها، والواقع أن المشكلة النظرية التي أثارها التعارض بين فرويد وأدلر لا تزال حتى الآن متعلقة، بل يبدو أن النزاع بين الفريقين يزداد عنفًا ويتجاوز حدود المناقشة العلمية الهادئة إلى أساليب التهكُّم والتحقير.
ولكن ماذا يجب أن يكون موقف المعالج بإزاء المريض الذي يأتي لاستشارته، هل عليه أن يُرْجئ العلاج حتى يفصل في المشكلة النظرية؟ كلا، بل عليه أن يتخذ من جديد موقف العالِم الذي يلاحظ بدون أن يتقيَّد بفكرة سابقة أو بنظرية معينة، عليه أن ينظر — في أثناء المرحلة الثانية من التشخيص — إلى المرض النفسي كأنه محاولة لإرضاء دافع أو عدة دوافع، وأن يُعيِّن طبيعة هذا الدافع أو هذه الدوافع، وما يصطنعه المرء من وسائل لإرضائها، ويكون ذلك على ضوء ما اكتشفه في المرحلة الأولى التي اكتفى عندها بدراسة نوع الاستجابات الشاذَّة وطبيعة الموقف الذي أثارها.
ولكن التشخيص لا يزال ناقصًا ويقتضي مرحلة ثالثة للوصول إلى معرفة المريض تمام المعرفة وإلى تحديد طبيعة المرض النفسي على أكمل وجه، خاصة عندما يكون المنحرف أو المريض في طور الطفولة أو المراهقة، وهذه المرحلة بمثابة تحليل شخصية المريض من جميع وجوهها، والغرض من التحليل وضع ما يشبه ميزانية الشخص النفسية من صفات وميول وعوامل وظروف مساعِدة أو عائقة، إيجابية أو سلبية. والعوامل العائقة نوعان: ما يمكن إزالته أو تعديله أو التخفيف من وطأته، وما لا يمكن التأثير فيه، وهذه التفرقة هامَّة جدًّا، إذ إنه سيكون من واجب المعالج حمل الشخص وإقناعه على قبول العوامل العائقة كما هي، ومحاولة النظر إليها بشيء من الرضا والفهم، ويجب البحث عن جميع العوامل المختلفة من مساعِدة وعائقة في شتى البيئات التي يعيش فيها الشخص، مع تحديد جميع صفاته الجسمانية والمزاجية والعقلية والخلقية، وفي ضوء هذا التحليل المستقصى يبدو المرض النفسي كأنه نتيجة لاختلال التوازن بين العوامل المساعدة والعوامل العائقة، ويتخذ هذا الاختلال في التوازن شكلًا ديناميكيًّا، أي أنه يؤدِّي إلى صراع قوي هو بعينه المرض النفسي في حالاته الحادة العنيفة.
وتحديد عناصر هذه الميزانية النفسية عمل شاق يتطلَّب مجهودًا متواصلًا وعناية كبيرة، فلا بدَّ من إجراء الكشف الطبي أولًا ثم مختلف المقاييس السيكولوجية من حسية وحركية وعقلية، ثم ما يُعْرَف باختبارات الشخصية للكشف عن مختلف السمات وعن الاتجاهات والميول ذات الصبغة الاجتماعية من سيطرة أو خضوع، من حب للتعاون أو عدمه، من نزعات مثالية أو نفعية … إلخ.
وغنيٌّ عن البيان أن مراحل التشخيص الثلاث التي وصفنا متعاونة متمِّمة بعضها بعضًا، فالمرحلة الأولى ممهِّدة للثانية، ولا بدَّ من العناية بالمرحلتين: الأولى والثانية لإحكام القيام بالمرحلة الثالثة، إذ إن الغرض من اختبار شخصية المريض بطريقة وافية منظمة ليس مجرَّد «ملء خانات» وعمل معادلات والوصول إلى نتائج إحصائية، بل فهم شخصية المريض، وخلق جو من التعاطف والتفاهم والتعاون لا يمكن أن ينجح العلاج بدونه.
ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أن التشخيص ليس مجرد إعطاء اسم للحالة المرضية؛ لأن التصنيف النظري مهما كان واسعًا دقيقًا لا يمكنه أن يحوي مختلف الحالات الفردية، وأن يمثل جميع الفروق التي تُشاهَد بين الأشخاص؛ وعلى ذلك لا بد من أن يكون كل علاج ملائمًا لكل حالة فردية على حدة، والواقع أن في المراحل الأولى لدراسة الحالة لا تنفصل محاولة التشخيص عن عملية العلاج، بل تسيران معًا بحيث توضح إحداهما الأخرى، إذ إن توجيه الأسئلة إلى المريض وإعطاءه الفرصة لسرد حالته بالتفصيل وبيان ما يشكو منه من أهم عوامل العلاج.
وربما قد لاحظ القارئ أننا في الفصل السابق الذي وصفنا فيه أهم حالات الانحراف والمرض النفسي كثيرًا ما أشرنا — إما ضمنيًّا أو صريحًا — إلى طرق العلاج وخاصة إلى طرق الوقاية.
(٣) طرق العلاج وأهم مدارس العلاج النفساني
الطب النفساني قديم قِدَم الطب الجسماني نفسه، فإن أول محاولة قام بها الإنسان لمعالجة غيره كانت — ولا شك — مصحوبة بعوامل نفسية ساعدت على نجاح العلاج، بل يطلعنا تاريخ الطب القديم على أن العلاج بوساطة الموادِّ الطبية كان خاضعًا لتقاليد دينية أو لطقوس سحرية لا بدَّ من مراعاتها بكل أمانة وإلا فَقَدَ الدواء قوته العلاجية، ولا يزال الطب الشعبي يمثِّل لنا إلى حدٍّ كبير ما كانت عليه حالة الطب في العصور القديمة.
ليس هذا الأسلوب في العلاج مجرَّد أوهام وأباطيل، بل ينطوي على حقيقتين وقف عليهما الإنسان بفضل الملاحظة اليومية والتجربة الاتفاقية، والحقيقة الأولى أن الإنسان مركَّب من جسم ونفس، والحقيقة الثانية أن النفس قوة أو مجموعة من القوى في إمكانها أن تؤثر في الجسم؛ وعلى ذلك كان يعتقد أن المرض النفسي ناشئ من تأثير النفس في الجسم، أو من تأثير نفوس أخرى معادية، فكان طبيعيًّا أن يحاول المعالج مقاومة التأثير النفساني الذي أدى إلى المرض بتأثير نفساني آخر مضاد له يؤدِّي إلى الشفاء بإزالة آثار التأثير الأول، والكلام من الأمور التي تعتبر أقرب إلى الروح منها إلى الجسد، وخاصة الكلام الذي يثير الدهشة بغرابته وغموضه، وبما يصحبه من أوضاع وحركات وإيماءات، وكثيرًا ما كانت هذه الطريقة تنجح في شفاء الأمراض التي كان يُعْتَقد أنها ناشئة من تأثير الجن والشياطين.
وعامل الشفاء في معظم هذه الحالات هو بلا شك ما يُعْرَف اليوم بالإيحاء، وكان نجاح العلاج يتوقف غالبًا على قابلية المريض للإيحاء، ومما هو جدير بالملاحظة أن كثيرًا من حالات الشفاء العجيبة التي يرويها القدامى كانت خاصة بأعراض هستيرية، ومن المعلوم أن مثل هذه الأعراض لا تصيب إلا الأشخاص الذين يتأثَّرون بسرعة بكل ما يُوحَى إليهم، كما أنهم يتأثرون بكل ما يُوحُون إلى أنفسهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فلا عجب أن يزيل الإيحاء ما سبق أن أحدثه إيحاء سابق، خاصة إذا كان الإيحاء العلاجي يستند إلى رغبة المريض في الشفاء، ويستعين من حين إلى آخر بشتى وسائل الإقناع.
والواقع أن عامل الإيحاء موجود دائمًا في كل محاولة علاج، سواء كانت جسمانية أو نفسانية، وقد اعتبر بعضهم الإيحاء الطريقة المثلى لمعالجة الأمراض النفسية، وطرق الإيحاء متعددة نذكر منها التنويم المغناطيسي وما يسمى بتحضير الأرواح وحفلات «الزار»، وما إليها من الإجراءات التي تحرِّك المخيلة وتثير الدهشة.
غير أن الإيحاء — وإن كان عاملًا مساعدًا في عملية العلاج النفسي — طريقة ناقصة لا تؤدِّي أبدًا إلى الشفاء التامِّ؛ لأن الإيحاء قد يزيل العَرَض المرضي بدون التأثير في علَّة المرض الحقيقية، والدليل على ذلك هو معاودة العَرَض المرضي أو ظهور عَرَض آخر بمجرد اصطدام الشخص بمشكلة جديدة، فالإيحاء لا يؤثر إلا في جانب من الشخصية، وكثيرًا ما يكون هذا الجانب سطحيًّا ثانويًّا، أما طريقة العلاج المثلى فهي التي تتناول الشخصية بأكملها وتنفذ إلى أعماقها للكشف عن علة المرض الحقيقية ومحاولة استئصالها، فليس الغرض من العلاج النفساني إزالة العَرَض فحسب، بل التأثير في الشخصية كلها لتعديلها وتمكين المريض من أن يكوِّن عادات جديدة تساعده على تحقيق التوافق مهما كانت شديدةً وطأةُ المشاكل التي تواجهه في حياته اليومية، لا بدَّ إذن من أن يحقق المعالج التعاون بينه وبين المريض، وأن يحاول ربط الأعراض لا بمجموعة من المعلومات النظرية العامة بل بحياة المريض وخُلُقه وسماته المختلفة وأساليبه السلوكية البارزة وبنظرته الشخصية إلى الحياة وقيمتها وفلسفتها.
ولهذا السبب نشاهد أن مدارس العلاج النفساني الحديثة تعير سني الطفولة اهتمامًا عظيمًا، وتعتقد بحق أن الشكل السويَّ أو الشاذَّ الذي تتخذه حياة الإنسان البالغ يتوقَّف إلى حدٍّ كبير على التربية الأولى وعلى أثر البيئة المنزلية والمدرسية في تكوين الخُلُق.
لا يتسع المقام لتفصيل القول في مذهب كل من هذه المدارس، ولكن مما هو جدير بالذكر أن هذه المدارس الأربع تنطوي تعاليم كل منها على مذهب فلسفي معين، وهذا أمر طبيعي لا يدعو إلى الدهشة؛ لأن كل مَنْ يحاول أن يفهم الطبيعة البشرية — سواء لمجرد معرفتها من الوجهة النظرية الخالصة أو للتأثير فيها كما هو الحال مثلًا فيما يختص بالطب النفساني — لا بد أن يصل إلى التفكير في صلة الإنسان بالعالم الذي يعيش فيه وبالكون بأسره؛ ولهذا السبب نرى أن لجميع العلوم — سواء تناولت المادة أو الكائنات الحية أو المجتمعات الإنسانية وتاريخها وتطورها — نقطة تلتقي عندها، وهذه النقطة هي الفلسفة التي ليست سوى تفكير منظَّم يحاول التأليف بين جميع العلوم وتوحيد جميع المعلومات — مهما اختلفت وتعددت — في نظرة شاملة.
وسبق أن قلنا إن لكل إنسان فلسفته في الحياة، وإن من طرق علاج الانحرافات والأمراض النفسية تلقين المريض فلسفة عملية صالحة تساعده على فهم نفسه وعلى فهم الواقع كما هو وعلى زمِّ شهواته وتدبير شئونه لتحقيق المصلحة العامة أولًا، إذ في هذا تحقيق ضمني لمصلحته الفردية.
لا يمكن تفصيل القول في فلسفة كلٍّ من المدارس الأربع التي ذكرنا؛ نظرًا لضيق المقام وعلى الرغم من أهمية هذا الموضوع فيما يرجع إلى الصحة العقلية، وسنكتفي بإشارة وجيزة إلى أبرز ما تمتاز به كلٌّ من هذه الفلسفات.
والفرق بين فلسفة فرويد وفلسفة يونج يسير، غير أن لا يُرْجِع يونج جميع دوافع السلوك إلى الغريزة الجنسية، بل إلى نوع من القوة الحيوية تمتزج فيها العناصر الجنسية وغير الجنسية، ثم يقول يونج: إن وراء اللاشعور الفردي لا شعورًا جمعيًّا يحوي جميع الصور الأولية البدائية التي نجدها ممثَّلة في الأساطير القديمة عند مختلف الشعوب، وإن الأحلام تعبر عن هذه الصور القديمة، لا عن رغبات الشخص المكبوتة كما يقول فرويد، والمرض النفسي في نظر يونج نتيجة الصراع القائم بين العنصر العقلي والعنصر اللاعقلي أو ما يسميه بالعنصر الديني، والعلاج هو تحقيق الوئام بين هذين العنصرين المتناقضين، وكان يونج أحد أنصار مدرسة فرويد في أول عهدها، وقد أفاد فرويد كثيرًا من آراء يونج حتى بعد أن أنشأ يونج مدرسته، وما يأخذه فرويد على زميله القديم إغراقه في بحر من التأمُّلات الصوفية.
هذا فيما يختص بالناحية الفلسفية، ولكن لفرويد ويونج فضلًا كبيرًا على علم النفس لا بد من ذكره، فقد اهتمَّت مدرسة التحليل النفساني بدوافع السلوك بطريقة واقعية عملية، وجذبت نظر علماء النفس إلى انحرافات السلوك اليومية ودلالتها في فهم الشخصية، كما أنها طبَّقت المنهج التكويني في كشف مراحل النمو النفسي، مشيرة إلى أهمية آثار الماضي المنسيَّة في توجيه السلوك، غير أنها أسرفت في التعليل بوساطة اللاشعور الذي أصبح شبيهًا بالتعليل اللفظي بالغرائز أو بملكات النفس، ومثل هذا التعليل يعارض التعليل العلمي الصحيح الشاق البطيء الذي يحاول جاهدًا حاذرًا كشْف جميع الشروط التي تعيِّن كل مظهر من مظاهر السلوك، وأخيرًا يجب أن نشير إلى الشجاعة التي واجه بها فرويد المشكلة الجنسية، وإلى الدقة الفائقة التي حلَّل بها مختلف مظاهر الوظيفة الجنسية، غير أنه أسرف — وخاصة تلامذته — في إرجاع كل ظاهرة سلوكية إلى الغريزة الجنسية.
وينفر أدلر من اعتبار الدافع الجنسي غريزة قهرية عمياء، معتبرًا الوظيفة الجنسية — كبقية وظائف الجسم — تنتظم بانتظام السلوك كله وتختل باختلاله، فليست انحرافات الغريزة الجنسية سبب انحرافات السلوك، بل هو الأسلوب السلوكي العام الذي بانحرافه تحت تأثير البيئة والتربية يؤدِّي إلى انحراف الوظيفة الجنسية، ليس الحب بين الرجل والمرأة البحث عن اللذة الجنسية، بل هو واجب يقوم بتأديته شخصان يتعاونان معًا لكي يزدادا تفاهمًا وثقافةً وثراءً روحيًّا.
ينظر فرويد إلى الإنسان من حيث هو فرد يشهد عاجزًا الصراع القائم بين القوى الخفية الداخلية التي تتنازعه، ويكاد لا ينظر إليه من حيث هو عضو في مجتمع يجب أن يشمله التعاون والتفاهم، أما أدلر فإنه يهتم بالجانب الاجتماعي قبل كل شيء، ويعتبر كل واجب يجب أن يؤديه الشخص واجبًا اجتماعيًّا سواء كان في ميدان كسب العيش أو النشاط الاجتماعي أو الحب. فلسفة أدلر فلسفة تعاون اجتماعي وتقدُّم اجتماعي.
ولا تعارُضَ بين فلسفة ماير العملية والحقائق التي كشفها علم النفس التجريبي، فإن طريقته في العلاج تستند إلى أدقِّ التجارب العلمية التي تجري في معامل الفسيولوجيا وعلم النفس، فضلًا عن الحقائق التي تكشفها الممارسة في عيادات الطب النفساني. والعيادات السيكولوجية التي تسترشد بتعاليم ماير هي التي تطبق بكل دقة طرق التشخيص الثلاث التي أشرنا إليها في بداية هذا الفصل.
ويرمي العلاج النفسي في نظر ماير وتلامذته إلى تحقيق تكامل الشخصية في المراتب الثلاث البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية؛ وعلى ذلك تمتاز مدرسة ماير بين سائر المدارس بنظرتها الشاملة إلى الطبيعة البشرية من جميع نواحيها، وباستنادها إلى الحقائق التجريبية التي يمكن كل عالم أن يتأكَّد من صحتها بطريقة تجريبية يقينية.
(٤) عوامل شفاء النفس
تبيَّن لنا في الفقرة السابقة أن طريقة الإيحاء وما شابهها من الطرق الجزئية التي تزيل العَرَض بدون تقويم الشخصية لا يمكن اعتبارها إلا وسيلة عَرَضية جزئية من وسائل العلاج، وأنه يجب أن يُسْتَبْدَل بها الطريقة الوحيدة التي يمكن اعتبارها بحق الطريقة الناجحة، وهي إعادة تكامل الشخصية في جميع نواحيها. للوصول إلى هذه الغاية لا بد من أمرين: أولهما تعديل شخصية المريض، وثانيهما تعديل بيئته، وتعديل البيئة هو بمثابة علاج غير مباشر متمِّم للعلاج المباشر الذي يرمي إلى تعديل الشخصية بطرق العلاج النفساني التي سنفصِّل فيها القول الآن.
التطهير
لأرسطو الفيلسوف اليوناني العظيم كلمة شهيرة يجدر ذكرها هنا، يقول أرسطو: إن الفن يطهِّر الشهوات، ويقصد بالفن خاصة الفن المسرحي، إننا نعلم أن مؤلِّف القصة المسرحية يرمي إلى تصوير دوافع النفس الإنسانية وما يتنازعها من رغبات ثائرة وعواطف متناقضة، فأبطال الرواية يمثِّلون نماذج أبدية للطبيعة البشرية على اختلاف ألوانها، والنفس الإنسانية في نزعاتها العميقة الخفيَّة هي هي على الرغم مما أصابت الإنسانية من حضارة ورقي، فبمشاهدة مواقف القصة التمثيلية يشاهد الناظر في الواقع جانبًا من نفسه، بل ينفذ ببصره — بفضل براعة المؤلف في التحليل والوصف — إلى أعماق نفسه التي ينفر عادة من التأمُّل فيها، وبالإضافة إلى ما يكتسبه من معرفة نفسه فإنه يشبع بعض رغباته بطريقة رمزية تمثيلية، ويتحرَّر من بعض مخاوفه وأوهامه، ففي مشاهدة القصة التمثيلية شفاء للنفس وإرضاء لها، وعوامل الشفاء في مثل هذه الحالة هو التعبير اللفظي.
سبق أن أشرنا في كلامنا عن التشخيص إلى أن محاولة المريض سرد قصته والتعبير عن آلامه ومخاوفه فيها تخفيف لوطأة هذه الآلام والمخاوف.
ومهمة المعالج في بداية العلاج أن يصغي بكل اهتمام وعطف إلى أقوال المريض بدون إبداء أي حكم، وبعد أن ينتهي المريض من روايته يحثه المعالج على مواصلة الكلام، وعلى محاولة استرجاع ذكريات أخرى منسيَّة، وخاصةً ذكريات الطفولة، عند هذه المرحلة يتخذ المعالج موقفًا إيجابيًّا بتوجيه بعض الأسئلة؛ لاستثارة الذكريات ولإزالة النسيان الذي يتخذ في شعور المريض شكل المقاومة، وموقف المعالج دقيق جدًّا محفوف بالأخطار، فعليه أن يتجنَّب كل إيحاء خوفًا من أن يندفع المريض في التلفيق والتمويه، أو من أن ينسب إلى نفسه ما لم يشعر به قط.
وقد يستعين المعالج لإثارة الذكريات المنسيَّة بالاطلاع على أحلام المريض، وبمطالبته بالربط بين صور الأحلام وما يخطر بباله من ذكريات مهما كانت مخجلة؟ وإماطة اللثام عن ذكرى الحوادث القديمة التي أَحْدَثَت في النفس انفعالات وأحاسيس أليمة من خجل وذعر وتأنيب للضمير؛ عملية هامَّة، خاصة في علاج حالات القلق الشديد والمخاوف المرضية والأفكار المتسلطة القهرية.
ويعتمد أنصار مدرسة التحليل النفساني على تأويل الأحلام والترابط الحر بين المعاني، غير أنهم يُسْرِفون في التحليل بالعقد الجنسية المكبوتة، وإذا نجحوا أحيانًا في إطلاع المريض على علَّة مرضه التي هي دائمًا في نظرهم عقدة جنسية أو صدمة جنسية، فكثيرًا ما يزيدون المريض اضطرابًا وقلقًا بالتفسيرات الغريبة والتأويلات الرمزية، ومن الملاحظ في أثناء العلاج بالتحليل النفساني الفرويدي أن يتعلَّق المريض بالمعالج تعلقًا جنسيًّا، ومن مقتضيات العلاج أن ينجح المعالج في إزالة هذه الصلة العاطفية، وفي توجيه الطاقة الجنسية نحو غرضها الطبيعي، غير أن كثيرًا من المحللين النفسانيين الذين تُعْوِزُهم الثقافة السيكولوجية الحقَّة والأمانة العلمية وربما الأمانة الخُلُقية يعجزون عن حلِّ هذه العقدة الجديدة، فيصبح العلاج ضربًا من الاستغلال الشنيع الذي يذهب ضحية له عدد كبير من المرضى البائسين.
وسر الشفاء عن طريق التعبير اللفظي وإحياء الذكريات القديمة المزعجة يكشفه لنا علم النفس التجريبي بأسلوب علمي منطقي، بخلاف التعليلات الخيالية المفتعلة التي تقول بها مدرسة فرويد، فقد بيَّنت لنا تجارب بافلوف العالم الفسيولوجي الروسي كيف تتكوَّن الاستجابة المكتسبة الشرطية وكيف تزول؟
فالكلب الذي يتعلَّم إفراز اللعاب عند سماع قرع جرس بعد أن كان قد قُدِّم له الطعام مقرونًا بقرع الجرس عدة مرات، يتعلَّم أيضًا عدم الإفراز إذا قُرِعَ الجرس عدة مرات بدون تأييد المنبِّه الصناعي بتقديم الطعام الذي هو المنبِّه الطبيعي لإفراز اللعاب، وتُعْرَف عملية زوال الإفراز بعملية الانطفاء التجريبي.
وحالة المريض الذي يسترجع الذكرى المزعجة ويروي الحادث عدة مرات بدون أن يستجيب له بطريقة شاذة كما كان قد فعل عند وقوعه، شبيهة بحالة الكلب الذي يكف عن الإفراز عندما يتكرر قرع الجرس بدون أن يُقْرَن بالطعام، فيصبح في إمكان المريض عندما يتصور الموقف القديم الذي أحدث الحالة المرضية أن يواجهه بقلب هادئ، وأن يستجيب له بطريقة ملائمة وبدون أي انفعال شاذٍّ، بل بأن ينفعل له الانفعال المناسب المعتدل الذي حال وقوع الحادث المؤلم دون ظهوره، فبعملية تصور المخاوف والتجارب الانفعالية المخجلة والتأمل فيها بطريقة شعورية صريحة واضحة يحيا الشخص من جديد تجاربه السابقة، ولكن مع تخفيف الشحنة الانفعالية العنيفة التي كانت مصاحبة لهذه التجارب حين حدوثها؛ ولهذا السبب يحسن مطالبة المريض بإعادة سرد الحادثة عدة مرات حتى تزول غرابتها وتُمْحَى وطأتها السيئة تمام الامِّحاء.
الاستبصار
من الدلائل التي تُسْتَخدم عادةً للتمييز بين الأمراض النفسية والأمراض العقلية أن المريض في الحالة الأولى يكون شاعرًا بشذوذ حالته متألمًا من انحرافه، في حين أن المصاب بالأمراض العقلية يكون عاجزًا إلى حدٍّ كبير عن إدراك حالته المرضية وخطرها؛ وذلك لانحطاط قواه الفكرية واختلالها، وأحد الفروق التي تميز الشخص السوي المتزن المتوافق السلوك من المنحرف والمريض النفساني أن الأول يكون قابضًا على زمام نفسه فاهمًا إلى حدٍّ كبير الحوافز التي تدفعه إلى العمل والتفكير، قادرًا على الاستبصار والتبصُّر والنفوذ إلى أعماق نفسه، أو بجملة واحدة عارفًا نفسه تمام المعرفة أو على الأقل محاولًا دائمًا أن يزيد معرفته لنفسه.
وعلى ذلك تكون الخطوة التي تلي عملية التطهير مساعدة المريض على فهم حالته، وذلك بأن يشرح له المعالج منشأ الانحراف والعوامل التي ساعدت على نموه وتفاقمه، والغرض من هذا الشرح هو أن يزداد المريض استبصارًا لنفسه بحيث يرى جميع دوافعه وميوله وكيفية تفاعلها بعضها ببعض كأنها ماثلة أمام بصره.
ويستحسن أن يكون الشرح في بداية العلاج إجابة عن الأسئلة التي يوجِّهها المريض إلى المعالج استفسارًا عن علة مرضه، لا أن يكون عبارة عن محاضرة علمية نظرية لا تمتُّ بصلة وثيقة إلى حالة المريض، ولا بد من تكييف الشرح بحيث يكون ملائمًا لعقلية المريض وفي متناول فهمه، ومن أهم أغراض هذا الشرح إفهام الشخص بأن مرضه النفسي الحلقة الأخيرة لسلسلة من العلل والمعلولات، وأنه ظاهرة طبيعية خاضعة للتعليل العلمي كبقية الظواهر، وهذه المعرفة لسلسلة العلل والمعلولات من الأمور التي من شأنها أن تشجِّع المريض على أن يتخذ التدابير الملائمة لمقاومة آثار الماضي، ولأن يضع لنفسه — بمعاونة المعالج — خطة واضحة يصل بتطبيقها إلى تعديل سلوكه، ومن أهم عوامل تعديل السلوك اكتساب أسلوب جديد في الحياة يمكِّن الشخص من تحقيق التوازن بين ما يريد إرضاءه من رغبات وبين ما يمكن إرضاؤه فعلًا.
وعندما يصل المريض عند هذا الحدِّ من الاستبصار والفهم والاتزان الانفعالي وخاصة من التعاون مع المعالج، يصبح صالحًا لمواجهة الطور الثالث من العلاج بشجاعة ونجاح.
إعادة تكامل الشخصية
- أولًا: مقاومة الاندفاع والتهوُّر وتقوية المقدرة على الكف الإرادي، فعلى المعالج أن يساعد الشخص على أن يضع الخطة التي سيسلكها في الظروف التي تدفعه إلى الانفعال السريع العنيف، وأن يشجِّعه على تنفيذ هذه الخطة عدَّة مرات متتالية حتى يشعر الشخص أنه قادر بنفسه على ضبط نفسه والتغلب على أساليبه السلوكية المتطرفة الشاذَّة، فالشعور بالنجاح — حتى في الأمور البسيطة اليسيرة — من أكبر عوامل التشجيع، ومن ثَمَّ من أكبر عوامل النجاح في الأمور المعقَّدة العسيرة.
- ثانيًا: تقوية القدرة على التمييز والتحليل والنظر في جميع تفاصيل الموقف وملابساته، فالشخص غير المتكامل الشخصية هو في العادة مَنْ يستجيب لجانب من الموقف دون غيره من الجوانب، ويعير هذا الجانب أهمية فائقة، عاجزًا عن أن يميِّز بين ما هو عَرَضِي وما هو جوهري، وعن أن ينظم التفاصيل الثانوية حول النقطة الأساسية، عاجزًا عن أن يوجِّه مجهوده نحو قلب المشكلة مكتفيًا بشتى طرق التعويض الناقصة والتبرير والنشاط الهامشي.
- ثالثًا: تطبيق قدرة التمييز والتحليل في كشف الدوافع والرغبات الشخصية وإقامة المقارنة والموازنة بينها؛ لتبين أهمية كل منها بالنسبة إلى الأخرى وبالنسبة إلى القيم الخلقية التي لا بدَّ من أن يدرجها الشخص في فلسفته العلمية، ثم إعادة البحث فيما يهدِّد تحقيق الدافع الذي يكون قد قرر الشخص بمعاونة المعالج أنه جدير بالتحقيق. ومن العوائق التي تهدِّد تحقيق الدافع ما هو خارجي كالبيئة، وما هو ذاتي كالشعور بالقصور والدونية، وبهذا يكون الشخص قد فاز إلى حدٍّ كبير بمعرفة غيره وبمعرفة نفسه، وفي هذا تكامل للشخصية إذ إن عملية التصوُّر الذهني والتفكير الاستدلالي الواضح من شأنها أن تخفِّف من وطأة الانفعالات العنيفة التي هي دائمًا من عوامل تفكُّك الشخصية واختلال توازنها.
- رابعًا: هذه الخطوات الثلاث من كفٍّ وتمييز وتفكير استدلالي واضح تمهِّد للخطوة الرابعة، وهي مساعدة الشخص على اكتساب عادة عقلية من أكثر العادات فائدة وتنظيمًا للسلوك، ألا وهي عادة التبصر في عواقب الأمور قبل وقوعها أو قبل الشروع فيها، وبفضل هذه العادة العقلية ينتقل التعلُّم من الأسلوب العشوائي أو من أسلوب المحاولات العمياء إلى أسلوب التعلم المقصود المتعمد المصحوب برويَّة واستبصار.
- خامسًا: وأخيرًا هناك وظيفة هامَّة تسيطر على جميع الوظائف السيكولوجية؛ إذ بعملها تتآزر جميع الوظائف وتنتظم جميع قوى النفس، وهي إدراك الواقع كما هو في اللحظة الحاضرة، فالشخص غير المتكامل هو الذي يلهو دائمًا عن الواقع ويفر منه، هو الذي يلجأ إلى «اللولوة» وإلى الماضي ينطوي فيه مستسلمًا للتحسُّر على ما فات، أو يلجأ إلى المستقبل الوهمي قاطعًا صلته باللحظة الحاضرة والظرف الراهن، ونتيجة هذه الاتجاهات المختلفة هي دائمًا تفكُّك عرى الشخصية وتضخُّم بعض نواحيها وضمور النواحي الأخرى.
ولا يمكن القيام بعملية إعادة التكامل على وجهها الأكمل إلا إذا استعان المعالج بطرق العلاج غير المباشرة التي تتناول بيئة المريض لتعديلها وإصلاحها، فقد لا يكفي أحيانًا أن يغيِّر الشخص من اتجاهه الشاذِّ وأن يتحرَّر من أعراضه النفسية إذا ظلَّت المواقف الخارجية التي يواجهها في حياته اليومية كما هي من حيث تأثيرها السيئ، فكثيرًا ما تقتضي الحالة علاج بعض أفراد العائلة كأحد الوالدين إذا كان المنحرف طفلًا أو أحد الزوجين بالنسبة للزوج الآخر، وربما دعا الأمر إلى نقل المريض من وسطه العائلي إلى وسط آخر صالح يساعده على إصلاح نفسه واكتساب أسلوب سلوكي أكثر اتزانًا وهدوءًا، والعلاج عن طريق تغيير البيئة مفيد جدًّا في حالات الأطفال خاصة، ولا بد أن تشرف على هذه العملية عيادة سيكولوجية منظمة تضم — بجانب الطبيب السيكولوجي — زائرين ومرشدين اجتماعيين تدرَّبوا تدريبًا نظريًّا وعمليًّا في مدارس الخدمة الاجتماعية.
سبق أن أشرنا مرارًا إلى أن معظم الانحرافات في السلوك وعددًا غير قليل من الأمراض النفسية يرجع منشؤها إلى سني الطفولة والمراهقة، وأنه من الممكن لكل خبير في التربية والعلاج النفسي أن يكشف بوادر الانحرافات والأمراض قبل استفحال أمرها، فإذا أراد المجتمع أن يقوم بكامل واجبه نحو النشء — الذي هو ذخر المستقبل ورأس مال الأمة الذي يجب استثماره بكل عناية وإخلاص — وجب عليه أن ينشئ في كل مدرسة كبرى أو في كل منطقة تعليمية تضم عدة مدارس عيادة سيكولوجية مؤلَّفة من طبيب وسيكولوجي ومرشدين اجتماعيين وخاصة من مدرسين زائرين أو مدرسات زائرات، يقومون بتحقيق صلة التعاون والتفاهم التي لا بد من تحقيقها بين المدرسة والمنزل، ويجب أيضًا أن ينشأ في كل جامعة وكل مؤسسة صناعية أو تجارية أو إدارية كبرى عيادات سيكولوجية للتوجيه والإرشاد ومساعدة كل مَنْ يشكو من معضلة سلوكية أو من حالة نفسية شاذة على حلِّ مشاكله والبرء من أعراضه المرضية وتحقيق توازنه وتكامله.
إذا تأمَّلنا قليلًا في هذه الأسس التي يجب إعادة تكامل الشخصية عليها لأدركنا على الفور أن عملية شفاء النفس المريضة تمام الشفاء عسيرة تتطلَّب مجهودًا شاقًّا متواصلًا من المعالج والمريض وبيئته معًا، ولأدركنا أيضًا أن أنجح طريقة للعلاج هي في نهاية الأمر الوقاية من الانحرافات والأمراض، فهناك تبعة كبرى ملقاة على عاتق الآباء والأمهات والمدرسين والمربين وكل مَنْ وُكِّلَ سلطة يجب تنفيذها في سبيل مصلحة الغير المادية والروحية، ولو أدرك الجميع إدراكًا تامًّا جسامة هذه التبعة لهالهم الأمر وشعروا بضرورة التضافر والتفاهم وبضرورة توفير أسباب الأمان والطمأنينة والرضا لجميع أفراد المجتمع.
(٥) الأسس العلمية لفهم تكامل الشخصية
يجدر بنا قبل أن نختم هذا الكتاب أن نشير بإيجاز إلى الحقائق العلمية التي في ضوئها يمكننا أن نفهم بوضوح ما هو المقصود بتكامل الشخصية، وقد سبق أن قلنا مرارًا إن العلاج النفسي لكي يكون مجديًا ناجعًا لا بد أن يقوم على أسس متينة من الحقائق السيكولوجية التجريبية، وسنذكر فيما يلي أهم الأسس التي يقوم عليها علم النفس التكاملي، كما سبق أن بيَّنَّا الأسس التي يقوم عليها علاج النفس التكاملي.
الحيوان والإنسان
يولد الحيوان وهو مزوَّد بكل ما يمكِّنه من إرضاء حاجاته — وهي لا تتجاوز حدود الحاجات العضوية — ومن تحقيق التوافق بينه وبين بيئته الطبيعية، ومعنى هذا أن سلوك الحيوان فطري إلى حدٍّ كبير، قائم على الأجهزة الحسية والحركية التي تنشط بطريقة ملائمة توافقية كلما توافرت شروط التنبيه والتنشيط المناسبة لوظائف أعضاء الحس والحركة، ومجال الاكتساب في السلوك الحيواني ضئيل جدًّا على العموم، غير أنه متفاوت تبعًا لمرتبة كل نوع في سلم الحيوانات، فهو يكاد يكون معدومًا في اللافقريات الدنيا ثم يتضح بعض الشيء في الحشرات ويأخذ في الازدياد في الفقريات وخاصة الراقية منها كالطيور والثدييات، فكلما صعدنا سُلَّم الحيوانات زاد السلوك مرونة وعظمت قدرة الكائن الحي على التكيُّف، وعلى مواجهة عدد أكبر فأكبر من التغيرات بطريقة ناجحة ملائمة.
ولكن مهما كان نطاق الاكتساب واسعًا في سلوك الحيوانات الراقية كالقردة مثلًا فإنه ضئيل جدًّا إذا قورن بمجال الاكتساب في سلوك الإنسان، فالطفل يولد ضعيفًا ويظل مدة طويلة قاصرًا عن القيام بإرضاء حاجاته ورغباته بنفسه، ولا بد له من مساعدة متواصلة ومن توجيه وإرشاد حتى يجتاز المراحل الأولى لنموِّه الجسماني والعقلي وحتى يحسن استخدام لغة الكلام، واللغة هي الأداة الرئيسية التي ستمكنه من الاندماج في بيئته الاجتماعية وتحصيل ما لا غِنَى له عنه من التراث الاجتماعي الثقافي. وبتحصيل الإنسان قسطه من الثقافة يصبح عضوًا عاملًا منتجًا، قادرًا على أن يساهم في المحافظة على هذا التراث وإنمائه بقدر المستطاع.
ومهما كانت البيئة الطبيعية التي يعيش فيها الحيوان معقَّدة ومتعددة النواحي وعرضة للتغيرات الطارئة فإنها لا تضاهي البيئة التي يحيا فيها الإنسان؛ لأنها ليست بيئة طبيعية فحسب، بل بيئة معنوية لا تقتصر التنبيهات الصادرة عنها على كونها مجرد طاقات مادية، بل هي قبل كل شيء رموز ومعانٍ لا يتيسَّر دائمًا فهمها وتأويلها على وجهها الصحيح.
ويكاد لا يوجد مظهر من مظاهر السلوك — حتى تلك المظاهر المتعلقة بإرضاء الحاجات العضوية — إلا ويكون قد لحقه التهذيب والتبديل، واصطبغ بصبغة خاصة تحت تأثير النظم والعادات الاجتماعية، كما أنه يندر أن يقوم الإنسان بعمل دون أن يوجد في دائرة عمله شخص آخر أو عدة أشخاص آخرين، فبيئة الإنسان إذن مكوَّنة من دوائر من الأشخاص متداخلة متقاطعة تضيق حينًا وتتسع حينًا آخر، وكما أن الطفل لا يشعر بوجود جسمه إلا بفضل المقاومات المادية التي تتركَّز في عضلاته وتساعده على تعيين الحدود التي تفصل بين جسمه وبين العالم الخارجي، وتوضِّح له ما يمكن القيام به من حركات وما يمكن الاستيلاء عليه من أشياء، كذلك لا يبتدئ الطفل يشعر بذاتيته المعنوية إلا بفضل المقاومات التي تحدُّ من رغباته وتضطرُّه إلى أن يميز بين نفسه وبين الآخرين، وتؤدِّي التجارب الانفعالية التي يختبرها الطفل من تعاطف وغيرة وغضب وخوف وفرح وألم دورًا هامًّا في تكوين الأنِّيَّة أو الشعور الذاتي، وإبراز سمات الشخصية كما تبدو للآخرين.
وهكذا تكون الحياة منذ المهد سلسلة من التجارب يتعلَّم الإنسان خلالها كيف يستجيب للدوافع الداخلية والبواعث الخارجية وشتى التأثيرات الصادرة عما يحيط به من أشياء وأشخاص، حتى يرضي نفسه أحيانًا أو يرضي غيره أحيانًا أخرى، وهو في جميع هذه الحالات يحاول أن يلائم بين مطالبه ومطالب بيئته، غير أن هذا التعلم لا يكون دائمًا يسيرًا، بل بالعكس قد يتغلَّب عسره على يُسْره، ويقتضي بذل مجهود شاقٍّ متواصل، وكثيرًا ما تبوء محاولات الإنسان بالخيبة وتُسْفِر التجارب عن مواطن الضعف والنقص، وبقدر استفادة المرء بتجاربه السابقة وفهم عِبَرها تكون قدرته على تحقيق التوافق والتكيُّف أكبر، وأهم ما يمكن أن يستفيده المرء مما يختبره من تجارب ومحن معرفة نفسه ومعرفة غيره، وأن يدرك تمام الإدراك أنه لا يمكنه السيطرة على المواقف الخارجية التي تجابهه إلا بقدر ما أمكنه أن يسيطر على نفسه وأن يدبِّر شئون نفسه بنفسه.
ومعرفة القوانين التي تفسِّر الطبيعة الإنسانية هي الشرط الأول لمعرفة كيفية تحقيق الانسجام الداخلي والتكييف الخارجي الناجح، فلا بد للشخص من أن يعرف قواعد السلوك الناجح الموفق، وكذلك أسباب الفشل والخيبة، وأن ينفذ ببصره إلى أعماق نفسه ليكشف عن دوافعها الدفينة، ويفهم طبيعة الصراع الذي ينشأ عن تضاربها وتطاحنها، وأخيرًا أن يعلم كيف يوجِّه الطاقات الكامنة فيه وكيف يستهلكها بحذق واعتدال وكيف يعوض ما استهلك منها قبل هبوط مستواها إلى حد الإعياء والإنهاك.
تكامل الطبيعة الإنسانية في مراتبها الثلاث
يعلمنا علم الأحياء أن الحيوان نظام من الطاقة، مركَّب بكيفية خاصة تسمح له باستهلاك هذه الطاقة بطريقة منظمة موجهة، وتبعًا لإيقاع معين، وذلك تحت تأثير منبِّهات مناسبة ملائمة لتركيبه، ثم بأن يعوض الطاقة التي استهلكت، وأن يحتفظ بقدر من الطاقة الكامنة بحيث يظل محافظًا على صورته البيولوجية النوعية مدة من الزمن قد تطول أو تقصر تبعًا للأنواع، وذلك بعد اكتمال نموِّه.
ويعلمنا علم الأحياء أيضًا أن جسم الحيوان بمثابة نظام من الأنسجة والأجهزة ومجموعة من الوظائف المتآزرة المتناسقة التي تربط بين مختلف الأجهزة محقِّقة تكامل هذه الأجهزة في صورة الكائن الحي السوي.
فكما أن موضوع علم الحياة هو أن يصف لنا تركيب الكائن الحي ووظائفه، وأن يبيِّن لنا المراحل التي يقطعها في أثناء تكوينه ونموه واكتماله، وأخيرًا أن يفسِّر لنا التركيب والوظائف وأطوار النمو بإرجاعها إلى قوانين عامة يقينية، كذلك يكون موضوع علم النفس التكاملي أن يفسِّر لنا كيف ينتقل الإنسان من طور الفردية البيولوجية إلى طور الشخصية السيكولوجية والاجتماعية، وذلك في ضوء الحقائق التي تكشفها لنا دراسة تركيب العقل وعمل وظائفه.
يتضح لنا مما سبق أن علم النفس — لكي يفي بغرضه ويصبح تكامليًّا حقًّا — لا بد له أن يستند من جهة إلى علم الأحياء، ومن جهة أخرى إلى علم الاجتماع، غير أنه مضطر إلى أن ينتخب من بين الظواهر البيولوجية والاجتماعية ما هو أقرب صلة بموضوعه الخاص.
ولكي نعيِّن هذه الظواهر نتأمَّل قليلًا في أخص خصائص الإنسان، فالخاصة الأساسية التي تسترعي النظر هي نزوعه إلى تحقيق التكامل في مراتبه الثلاث: البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية، ومعنى التكامل كما سبق أن أشرنا هو تضامن مختلف الوظائف وتنظيمها بحيث نضمن اتزان السلوك وانسجام مظاهره بعضها مع بعض.
وعامل التكامل البيولوجي: الجهاز العصبي؛ والتكامل السيكولوجي: الذاكرة؛ والتكامل الاجتماعي: اللغة. والجهاز العصبي والذاكرة واللغة عوامل تكامل؛ لأنها قبل كل شيء عوامل ثبات وانسجام.
فجميع خلايا الجسم تتجدَّد ما عدا الخلايا العصبية، فالإنسان يحتفظ بتركيبه العصبي مدى حياته، ولكن يجب أن نذكر هنا — لكي نفهم إمكان إعادة تنظيم الطاقات العصبية بعد اختلالها — أن الوظيفة تكون دائمًا أكثر تعقدًا ومرونة من التركيب التشريحي، فكل اختلال يعتري الجهاز العصبي يؤدي إلى اختلال سائر الوظائف العضوية وإلى إبطاء السلوك أو اضطرابه أو شلِّه تبعًا لموضع الإصابة وخطرها، ولكن الجهاز العصبي ليس جهازًا مستقلًّا، فعمله السوي مرهون بعمل الأجهزة الأخرى، وخاصة جهاز الغدد الصماء التي تفرز مختلف الهرمونات، غير أن وظيفة الجهاز العصبي الأساسية هي تنظيم التفاعلات العضوية التي تحدث داخل الجسم، وتنظيم علاقة الجسم ببيئته الخارجية.
وسلامة الجهاز العصبي ونضجه شرط أساسي لسلامة الذاكرة وهي عامل التكامل السيكولوجي، ولا يمكن تحقيق التكامل السيكولوجي بدون سلامة الذاكرة؛ لأن الحياة السيكولوجية تستند في تنشيطها ونموها ومواصلة نشاطها إلى التحصيل والاكتساب، والذاكرة بوظائفها المختلفة هي الشرط الأساسي لتحقيق الاكتساب وتنظيمه، ويلاحظ أن أشد الاضطرابات النفسية التي تعتري الشخص هي في الواقع اضطرابات تلحق بالذاكرة وبقدرة الشخص على الربط بين الماضي والحاضر، وعلى أن يشعر بأنه ذات ثابتة، هي هي، خلال التغيرات التي تكوِّن نسيج الحياة.
وسلامة الذاكرة هي بدورها الشرط الأساسي لتحقيق عامل التكامل الاجتماعي، أي لاكتساب اللغة وإحكام استخدامها، فكما أن الجهاز العصبي هو حلقة الاتصال وعامل التنظيم بين مختلف الأجهزة والوظائف العضوية، وكما أن الذاكرة هي حلقة الاتصال بين الماضي والحاضر وبين مختلف الوظائف العقلية، فكذلك اللغة هي حلقة الاتصال بين الفرد والمجتمع ومن أهم عوامل تنظيم سلوك الفرد وشئونه الاجتماعية، ولا بد من أن تظل معاني الألفاظ ثابتة لكي يتم التفاهم والتعاون.
ولا تعمل هذه العوامل الثلاثة منفردة، بل هي بدورها متعاونة متضامنة، وفي ضوء هذه الحقيقة الهامَّة يمكننا أن نقرِّر أن سعادة الإنسان — إذا نظرنا إليه في أكمل صورة له — تقوم على تضامن الوظائف البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية، ويترتَّب على ذلك نتيجة هامَّة لا يمكن إنكارها، وهي أن كل إصلاح أو علاج يُرْجَى نجاحه يجب أن يكون كليًّا، وأن تُراعَى فيه هذه النواحي الثلاث، فالطبيب البدني أو الطبيب النفساني أو المصلح الاجتماعي الذي يقتصر على تخصصه الضيق ولا يوسع أفقه بحيث يشمل دائمًا تلك النواحي الثلاث لا يقوم بواجبه كاملًا، بل كثيرًا ما يكون من عوامل إعاقة الإصلاح والتقدم، فالمبدأ الذي يجب أن يُنْقَشَ بحروف من ذهب على أبواب المنازل والمدارس والمستشفيات ودور الإصلاح هو: «العقل السليم في الجسم السليم في المجتمع السليم.»
قوانين الترقِّي السيكولوجي
رأينا أن موضوع علم النفس التكاملي من حيث هو علم الطبيعة الإنسانية، أن يفسر لنا كيف يتم الترقي الذي يحول الفرد البيولوجي إلى شخصية متكاملة، أي أن يعطينا صورة صادقة لمراحل التكوين والنمو المتعاقبة مع بيان صلة كل مرحلة بالمرحلة السابقة ودلالة كل مرحلة بالنسبة إلى ما يسبقها ويلحقها من مراحل، وذلك في ضوء دراسة شتى العوامل والشروط البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية.
فالنقطة التي يجب أن تبتدئ عندها دراسة الطبيعة الإنسانية هي الفردية البيولوجية من حيث هي مجموعة دوافع السلوك الحيوية من حاجات وميول ونزعات، أما المرحلة الأخيرة التي ينتهي عندها البحث فهي الشخصية الموحَّدة المتكاملة الشاعرة بذاتها وبقدرتها على العمل الحر وبعضويتها في المجتمع. الإنسان وحدة جسمانية نفسية لا تتجزَّأ، فلسلوكه ناحيتان: ناحية النشاط الحركي وناحية النشاط الذهني، وهاتان الناحيتان متلازمتان في العادة، غير أن النشاط الحركي يسبق النشاط الذهني في مرحلة التكوين الأولى، ثم يقتضي الترقي أن يسبق النشاط الذهني النشاط الحركي لينير له الطريق، وليدبر وسائل العمل الناجح قبل الشروع فيه، ولهذه المجالات الأربعة — أي الفردية البيولوجية والشخصية الإنسانية من جهة، والنشاط الحركي والنشاط الذهني من جهة أخرى — قوانين توجيهية تعيِّن سير النمو والتكامل.
-
القانون الأول: يتجه الترقي في ميدان الدوافع من اللامشعور به إلى المشعور
به.
من أهم دوافع السلوك الميول والنزعات، ولا يشعر الإنسان دائمًا بما يدفعه إلى العمل شعورًا جليًّا واضحًا، ولا يتخذ من دوافعه موضوعًا لتأمله وتفكيره إلا بعد تجارب عدة، وبعد أن يكون قد خَطَا خطوات واسعة في طريق معرفة نفسه، فهناك دوافع تظل كامنة غامضة بدون أن يعوق كمونها وغموضها ظهور آثارها في السلوك، بل يمكن القول بأن آثارها تكون أشد عنفًا كلما ظلت بعيدة عن بؤرة الشعور، وغنيٌّ عن البيان أن الشخص لا يملك زمام نفسه إلا إذا تمكَّن من إدراك بوادر الدوافع التي ستحمله على القيام بعملٍ ما قبل تسلط الدوافع على نفسه وقبل فوات الفرصة لتدبير أمر إرضائها أو قمعها أو تكييفها حتى يظل السلوك منسجمًا متوافقًا، والتربية المثلى هي التي تمكِّن الشخص من أن يتعرَّف دائمًا دوافع عمله وبواعث سلوكه، وأن يحسن تقدير قيمة البواعث التي يتخذ منها أغراضًا يسعى لتحقيقها، ويؤدي هذا القانون التوجيهي دورًا هامًّا في تفسير السلوك الشاذ والأمراض النفسية، كما أن عليه تقوم عمليتا التطهير والاستبصار في أثناء العلاج النفساني.
-
القانون الثاني: يتجه الترقي في مجال الشخصية من الأفعال المنعكسة إلى الأفعال
الإرادية.
هذا القانون حالة خاصة للقانون الأول، فلا يوجد فرق جوهري بالنسبة إلى قيمة السلوك بين السلوك الاندفاعي الأعمى وبين الفعل المنعكس الذي على الرغم من كونه مصحوبًا بشعور يكون دائمًا قهريًّا جبريًّا، أو على الأقل يكون غير قابل للتعديل والتكييف إلا في حدود ضيقة جدًّا، ولكن فائدة هذا القانون ودلالته أن يبيِّن لنا أن الفعل الإرادي هو الفعل الذي تتمثَّل فيه بجلاء قدرة الشخص على الكفِّ وتنظيم دوافعه الوجدانية وعواطفه وأفكاره، وتوجيهها نحو غرض معين يقوم الشخص بتحقيقه وهو شاعر بحريته الذاتية وبقدرته على الاختيار، فلا يتمُّ تكامل الشخصية إلا بتنظيم قوى النفس كلها من وجدانية ونزوعية وعقلية وإرادية، وعلى هذا القانون تقوم عملية إعادة تكامل الشخصية في أثناء العلاج النفساني.
-
القانون الثالث: يتجه الترقي في مجال النشاط الحركي من استخدام الأشياء إلى
استخدام رموزها.
يُلاحَظ في سلوك الطفل الصغير أنه لا يستجيب للموقف إلا إذا كانت جميع عناصره موجودة في مجال الإدراك، ولا يرتقي السلوك إلا إذا تعلَّم الطفل أن يستجيب لجزء من هذا الموقف كأنه الموقف كله، أي أن يستجيب لما ينوب عن الكل أو لما يرمز إليه، كأن يتعلَّم الاستجابة لصوت أمه دون رؤيتها ولاسم أمه، وكلما تمكَّن الشخص من أن يستبدل بالأشياء نفسها ما يرمز إليها أو ما يشير إليها أو ما ينذر بوقوعها اتضح مجال التنبيه واتسع، وكذلك مجال التأثير في العالم الخارجي، كما أن الشخص يزداد قدرة على الفهم والاستبصار والاستدلال والتبصر في عواقب الأمور. وتعلُّم اللغة هو في الواقع تعلُّم الأصوات والأشكال التي ترمز إلى الأشياء وإلى معانيها، وقد رأينا أن اللغة — عندما يحسن المتكلم استخدامها ويحافظ على ثبات معانيها ويراعي الفوارق الدقيقة الموجودة بين المعاني المتشابهة — هي العامل الأساسي للتفاهم الاجتماعي، ومن ثَمَّ لتكامل الشخصية ونجاح السلوك.
-
القانون الرابع: يتجه الترقي في مجال النشاط الذهني من الإحساس إلى التصور
الذهني.
وهذا القانون متمِّم للقانون السابق، ويشير إلى اتجاه الترقِّي بعد أن يكون قد ارتقى السلوك الحركي الذي يتناول الأشياء الخارجية، أو ما يرمز إليها بطريقة طبيعية مباشرة، فالجزء من الشيء أو التنبيه الصادر عن الشيء أو ما يرمز إلى الشيء بطريقة مجسَّمة أو تخطيطية، كل هذه الرموز لا تزال متعلِّقة بالشيء الخارجي ومحصورة في دائرته إلى حدٍّ كبير، ولكن لكي يتقن الإنسان استخدام قواه الفكرية لا بد له من أن يصطنع رموزًا تتحرَّر بقدر الإمكان من الروابط الحسية المادية لكي تصبح صالحة لاستخدامها في أكبر عدد من المواقف التي تكون بعض عناصرها متشابهة، فرُقِيُّ السلوك يقضي بأن يتمكَّن المرء من أن يسترجع صورة الشيء بعد زواله، وأن يدرك وراء الألفاظ التي يستخدمها أو الصور الحسِّيَّة التي يتخيَّلها المعاني وعلاقات المعاني بعضها ببعض، وأن يكون قادرًا على تصور المعاني الكلية وتعقُّل المعاني المجردة وتنظيمها في التفكير.
ولا شك في أن هذه القوانين الأربعة متضامنة متكاملة، ولا بد من تحقيق جميع الاتجاهات التي تشير إليها حتى يتمَّ الرقي ويصبح سلوك المرء منسجمًا ناجحًا، وليس الرقي عبارة عن إضافة الجديد إلى القديم، بل إعادة تنظيم القديم بعد اصطدامه بالمشكلة، فالصحة العقلية التي هي ثمرة هذا الرقي ليست سوى القدرة على التوفيق بين طرفي المشكلة على الرغم من التعارض الموجود بينهما.
(٦) كيف تحافظ على صحتك العقلية
وإذا كانت الوقاية خير من العلاج، يجدر بنا أن نختتم هذا الكتاب بذكر أهمِّ المبادئ والوصايا التي يضمن تطبيقها المحافظة على الصحة العقلية ودعم التوازن النفسي، ولا بد من أن يحاول الشخص تطبيق هذه المبادئ بكل شجاعة ومثابرة حتى تصبح من سَدى حياته اليومية ولُحْمَتها، وتكون الأساس الذي تقوم عليه مختلف عاداته من وجدانية وفكرية وتنفيذية، وسنسترشد بما قلناه في الفقرة السابقة عن تكامل الشخصية لوضع هذه المبادئ بحيث تشمل جميع النواحي من بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية.
حافظ على صحتك البدنية
البدن آلة النفس وسلامة البدن من شروط سلامة وظائف النفس، والعادات الصحية التي تكوِّنها للمحافظة على صحتك تقوِّي فيك العزيمة والإرادة، وتساعدك على اكتساب العادات الفكرية التي توفِّر لك مجهودًا كبيرًا في تنظيم حياتك العملية.
اعرف نفسك
معرفة الإنسان نفسه هي لبُّ الحكمة ومفتاح السعادة الحقَّة. درِّب نفسك على التحليل الذاتي والتأمُّل ولكن بدون إسراف، وحاول دائمًا أن تكشف في نفسك حقيقة الحوافز التي تدفعك إلى العمل وقيمة الأغراض التي تغريك وتبعثك إلى النشاط. اختبر ممكناتك مميزًا نواحي النقص التي يمكن إصلاحها من النواحي التي لا بد من قبولها كما هي، محاولًا التعويض عنها في دائرة النشاط الفعلي التي في مقدورك أن تفوز فيها بالنجاح.
اعرف غيرك
لا تتخذ من نفسك مقياسًا للحكم على غيرك، فعلى الرغم من وحدة الطبيعة البشرية فهناك فوارق فردية عدة ترجع إلى العوامل الوراثية وخاصة إلى تأثير البيئة. تذكَّر أن السلوك الظاهر لا يعبِّر دائمًا عن سريرة غيرك، وأن هذا التباين بين الظاهر والباطن قد يرجع إلى التصنُّع، كما أنه قد يرجع إلى قلة الحذق في التعبير، فعلِّق حكمك حتى تتأكَّد من صحة الفروض التي تفترضها أو من عدم صحتها، فالتفاهم أمر شاق ولكن لا بد من بذل المجهود للوصول إليه لكي تضمن الانسجام مع الغير وراحة البال.
واجه الواقع ونمِّ في نفسك الاتجاه الموضوعي
على هذا المبدأ يتوقَّف نجاحك في محاولتك معرفة نفسك ومعرفة غيرك، كثيرًا ما تكون مطالب الواقع مفروضة عليك من الخارج فلا بد من مواجهتها على حقيقتها، وإذا كان حل المشكلة التي تعترضك عسيرًا متعذِّرًا أرجئ الحل حتى تتوافر لك وسائله، فإن إرجاء الحل إلى حين أفضل من تجاهل المشكلة أو الفرار منها، ومما يساعدك على إيجاد الحل الملائم أن تنظر إليها كظاهرة موضوعية خارجية يجب ملاحظتها وفهمها بدون أن تتقيَّد بفكرة سابقة تحكمية، واحذر دائمًا الحل الذي يتراءى لك وأنت في حالة انفعالية عنيفة؛ لأن من أثر الانفعال تشويه التفكير وإعاقة الاستدلال السليم، والارتداد بالسلوك إلى طور الآلية العمياء أو الاندفاع البهيمي.
ضع خطة لنشاطك في المستقبل
لا تعتقد أن التدريب على مواجهة الواقع وعلى تنمية الاتجاه الموضوعي يؤدي إلى إماتة المخيِّلة وخنق روح الابتكار، بل الصحيح هو عكس ذلك، ليس الواقع أمرًا مستقلًّا عما يحيط به من ملابسات وعما سبقه من ظروف وعما سيتبعه من أحوال، وكذلك ليست اللحظة الحاضرة التي تحياها الآن سوى حلقة اتصال بين الماضي والمستقبل، فلا بد من أن تستعين بماضيك، وأن تُسْقِطَ على ستار المستقبل ما تعتقد أن في تحقيقه إثراءً لشخصيتك وازدهارًا لها، ولكن يجب أن تختار من ذكرياتك ما يلائم الواقع وما يمكن صبُّه في قالبه، وأن تضع خطة نشاطك بحيث يكون المستقبل ثمرة الماضي، لا أوهامًا تتركك مخدوعًا مخذولًا.
وفِّق بين الراحة والعمل
لا تَنْسَ أنك جزء من الطبيعة، وأنك كالطبيعة التي تعيش في أكنافها خاضع لإيقاع معين يتمثَّل في تعاقب الليل والنهار، الراحة والنشاط، النوم واليقظة، ولا يمكنك أن تسيطر على الطبيعة إلا بالخضوع لقوانينها، فاحترم نظام إيقاعاتك العضوية من تنفُّس وهضم ونشاط عضلي ونوم، واتخذ من هذه الأنظمة العضوية نموذجًا وضابطًا لنشاطك الفكري، ولا تَنْسَ أن التنويع في النشاط من عوامل الراحة؛ ولهذا السبب تعتبر الهوايات على اختلاف أنواعها من رياضة بدنية وفنون جميلة من مقتضيات الحياة المتزنة المنسجمة.
ثقِّف نفسك
ولا تَنْسَ أيضًا أنك لست جزءًا من الطبيعة فحسب، بل عضو في مجتمع إنساني له تراثه الثقافي، وأن من حقوقك أن تتمتَّع بهذا التراث، ولا يتمثَّل هذا التراث في الحضارة المادية فحسب، بل في الحضارة الروحية أيضًا، بل إن الثانية أعلى قدرًا من الأولى؛ لأنها ثمرة مجهود الإنسانية في كشف أسرار الطبيعة وأسرار النفس الإنسانية والتعبير عن نواحي الجمال فيهما. ولا تعتقد أن الإنسانية قد وصلت عفوًا إلى المُثُل العليا من تعاون وتسامح وحرية ومساواة وإخاء، وأنها ليست جادَّة في اكتمال تحقيق هذه المثل العليا وغيرها، على الرغم مما قد يُظْلِم الأفق أحيانًا من أشباح القسوة والظلم والاستعباد، فعليك أن توسِّع آفاق عقلك، وأن تتمثَّل نصيبك من الثقافة العامة؛ لأن فخر الإنسان ليس فيما تملكه يده بل فيما يعيه عقله من علم ومعرفة وفيما يحويه قلبه من محبة وتسامح.
ربِّ في نفسك روح الفكاهة والمزاح البريء
حاذر أن تكون مسرفًا في نظرتك الجدية إلى شئون حياتك المادية والروحية، وإلَّا تحول الجد إلى عبوس، فليس أقرب إلى القنوط من الأمل الأعمى، وإلى التشاؤم من التفاؤل المفرط، اتخذ من هفوات نفسك موضوعًا لفكاهتك، ففي هذا ترويح للنفس وتقويم لها، وإذا مازحت غيرك فليكن الغرض من مزاحك إصلاحه لا النيل من كرامته. تعلَّم فن الضحك الذي هو أقرب إلى الابتسامة الرشيقة منها إلى القهقهة الغليظة، إن الضحك من خصائص الإنسان وحده دون سائر الحيوانات.
ليكن لك أصدقاء أوفياء
ويلٌ للمرء المنفرد المنعزل الذي لا يحاول فهم غيره، والذي يفتخر بأن الآخرين لا يفهمونه، ليكن لك أصدقاء أوفياء تلجأ إليهم عند الضرورة للاسترشاد برأيهم وللإسرار إليهم بمتاعبك وبما يخالج قلبك من قلق وخوف، ولا تَنْسَ أن للصداقة درجات وللأصدقاء مراتب، فلا تكلِّف صديقك فوق طاقته، وتذكَّر أنه في حاجة إلى صداقتك كما أنك في حاجة إلى صداقته، وروح الصداقة أنْفَس من أي صداقة معينة، ودع هذه الروح تشمل سلوكك في المنزل والمعبد والمدرسة والنادي والشارع ومحل عملك، وفي جميع الظروف التي تلاقي فيها أخاك الإنسان.
اشترك في النشاط الاجتماعي
لا يمكن أن تكتمل شخصيتك إلا إذا شعرت فعلًا بأنك عضو عامل في مجتمع، تسعى دائمًا لخدمته مهما كانت طبيعة عملك، دعِّم الأواصر التي تربطك بأفراد أسرتك ومهنتك وقريتك ووطنك بل بأفراد الإنسانية جمعاء، ألم يتبيَّن لك في خلال هذا الكتاب أن الأمراض النفسية لا تبعد أن تكون أمراضًا خُلُقية، وأن أساس الصحة العقلية هو في جوهره تغلُّب الغيرية على الأنانية، والتعاون على المنافسة، والتسامح على الحقد والبغضاء؟