الفصل الثالث

وسائل الإعلام والديمقراطية

(١) مقدمة

كانت حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الطويلة لعام ٢٠٠٨، والتي بلغت ذروتها مع انتخاب باراك أوباما، واحدةً من أكثر الانتخابات الرئاسية دراماتيكية في ذاكرة الأمريكيين الأحياء. وبالنسبة إلى شخصٍ مهتمٍّ بالسياسة، توفر بيئة الإعلام الجديدة مزايا تفوق القدرة على الاستيعاب بينما تغير طريقة متابعتنا للانتخابات.

كنا في الماضي نُلقي نظرة على الصحف المطبوعة والمجلات أو نشاهد بث شبكة الأخبار ليلًا، لكن الآن أتاحت القنوات الخاصة والقنوات الفضائية إمكانية متابعة الحملة على مدار الساعة. وبالتوجُّه إلى شبكة الإنترنت، يمكن للمرء مشاهدة أحدث إعلانات الحملة، ومشاهدة مقاطع الفيديو الجديدة المرتبطة بالحملة التي نُشرت على موقع يوتيوب، وزيارة مواقع المرشحين الإلكترونية، وقراءة مجموعة كبيرة متنوعة من الإصدارات الإلكترونية للصحف، ومتابعة أحدث نتائج الاقتراع، ومناقشة ذلك كله مع محبي السياسة الآخرين على مجموعةٍ واسعةٍ من المدونات. يمكنك حتى برمجة هاتفك الخلوي لتلقي آخر التحديثات حول الحملة من مجموعةٍ متنوعةٍ أيضًا من المصادر. وإذا كنت أكثر طموحًا وإبداعًا، فربما تُعِد بنفسك رسائل لدعم حملة مرشحك الانتخابية وتنشرها على موقع يوتيوب، وإذا كنت محظوظًا وماهرًا بما فيه الكفاية، فربما ينتشر مقطع الفيديو الذي أعددته كالنار في الهشيم ويجذب الانتباه كما حدث مع فيديو «فتاة أوباما»؛ المرأة الشابة التي شاهد عشرات الملايين من الأشخاص مقطع الفيديو الذي أعدته للإشادة بالمرشح الرئاسي.

لم يكن سهلًا إلى هذه الدرجة في أي وقتٍ مضى متابعة تطوُّر الحملة الانتخابية الرئاسية على مدار الساعة من خلال مجموعةٍ متنوعةٍ من القنوات الإعلامية أكبر مما يتسع المجال لذكره. في الواقع، وللمرة الأولى، استخدم أكثر من نصف عدد الأشخاص المؤهلين للتصويت (٥٥ بالمائة) الإنترنت عام ٢٠٠٨ للمشاركة في الانتخابات أو لمجرد الحصول على معلوماتٍ عنها (سميث ٢٠٠٩). وثماني عشرة بالمائة من مستخدمي الإنترنت لم يكتفوا بمجرد استهلاك المعلومات بل قاموا بنشر أفكارهم أو تعليقاتهم أو تساؤلاتهم. وكما كنا نتوقع، كان الشباب هم الأكثر نشاطًا: «يملك ٨٣٪ ممن تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٢٤ عامًا صفحة شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وشارك ثلثا أصحاب الصفحات الشخصية من الشباب في شكلٍ من أشكال النشاط السياسي على هذه المواقع عام ٢٠٠٨» (سميث ٢٠٠٩).

وعلى الجانب الآخر، إذا لم تكن مهتمًّا بالسياسة، فستجد أن تجاهُل الحملات الانتخابية أصبح أسهل من أي وقتٍ مضى؛ فتغطية الأمور السياسية على شاشة التليفزيون مقتصرة إلى حدٍّ كبيرٍ على القنوات الخاصة الإخبارية التي يمكن تجنُّبها بسهولةٍ إلى جانب قناة سي سبان والبرامج الحوارية السياسية التي تذاع في عطلة نهاية الأسبوع. وتواجه النشرات الإخبارية المسائية الآن منافسة من بدائل عديدة، والدليل على ذلك هو جمهورها الآخذ في التناقص وارتفاع متوسط أعماره. وحتى إذا التقيت مصادفةً بإعلانٍ سياسيٍّ غير مرغوبٍ فيه، إذا كان لديك نظام تيفو، فضغطة سريعة لتخطِّي الثلاثين ثانيةً القادمة تسمح لك بتجنُّبه. والكم الضخم من المعلومات السياسية المتاحة على شبكة الإنترنت لا يفرض نفسه على أولئك الذين يستخدمون الإنترنت لأغراضٍ أخرى غير سياسية. إن البحث على موقع إي باي عن شيءٍ نادرٍ طالما بحثت عنه، أو معرفة آخر أخبار بريتني سبيرز، أو تصفح موقع ماي سبيس من غير المرجح أن يعرضك لأي معلوماتٍ حول السياسة لم تكن تبحث عنها على وجه التحديد. فكما تتيح بيئة الإعلام الجديدة لمدمن السياسة أن ينغمس في السياسة على مدار اليوم بأكمله، فإنها تتيح كذلك تجنُّبًا شبهَ تامٍّ للمعلومات السياسية.

تأمل مدى اختلاف هذه الحالة بالنسبة إلى الأمريكيين مقارنةً بما كانت عليه قبل ٢٠ عامًا فقط؛ ففي سباق الرئاسة عام ١٩٨٨ بين جورج بوش الأب ومايكل دوكاكيس، كانت الخيارات المتاحة لمدمن السياسة أقلَّ بكثير؛ فكانت مصادره الرئيسية للأنباء عن الحملة الانتخابية تقتصر على نشرات الأخبار المسائية أو الصحف المحلية؛ حيث إن الإنترنت والشبكات الإخبارية الخاصة التي تعمل على مدار ٢٤ ساعة لم تكن موجودةً بعد. وإذا أراد هذا الشخص التحدُّث مع الآخرين حول الحملة، كانت الخيارات الوحيدة هي التحدث وجهًا لوجه أو عبر الهاتف (عبر خط أرضي).

وكذلك فإن وضع الذين يرغبون في الابتعاد عن السياسة كان مختلفًا كثيرًا؛ فبما أن معظم الأُسَر لم تكن تستقبل سوى عددٍ قليلٍ من المحطات التليفزيونية، جميعها تعرض نشرات الأخبار في الوقت نفسه، كان من المستحيل تقريبًا تجنُّب التعرُّض لبعض المعلومات عن الانتخابات إذا كان التليفزيون يعمل خلال ساعة عرض الأخبار. وبافتراض أن نسبة ٧٥ بالمائة من أولئك الذين كانت أجهزة التليفزيون تعمل لديهم شاهدوا نشرات الأخبار، فمن المحتمل على نحوٍ أكبر من اليوم أن تصبح تغطية الحملات الانتخابية في هذه البرامج موضوع المحادثات التي يخوضها المرء مع العائلة والأصدقاء وزملاء العمل.1 وينطبق الأمر نفسه على أي أحداثٍ في الحملات الانتخابية — مناظرات بين المرشحين أو مؤتمرات انتخابية أو ليلة الانتخابات — تغطيها الشبكات؛ فقد كان الخيار إما مشاهدة التغطية وإما إطفاء التليفزيون. وحتى لو تجنبت نشرات الأخبار المسائية عن طريق القيام بنشاطٍ آخر غير مشاهدة التليفزيون، فعندما تُشغل التليفزيون لاحقًا خلال وقت الذروة، من المرجح أن تتعرض لإعلانات الحملات الانتخابية. وإذا كنت مشتركًا في إحدى الصحف المحلية (وكانت احتمالية فعل ذلك أكبر عام ١٩٨٨ عن عام ٢٠٠٨)، فمن المحتمل أن تلتقط بعض المعلومات عن الحملة الانتخابية ببساطةٍ من نظرةٍ إلى الصفحة الأولى، حتى لو كنت تبحث عن أحدث إعلانات البقالة أو إحدى القصص الفكاهية المصورة المفضلة لديك ليس إلا. باختصار، وبالمقارنة مع عام ٢٠٠٨، ففي عام ١٩٨٨ كانت المعلومات السياسية أقل كمًّا وأصعب في تجنُّبها على حدٍّ سواء.

إن تأثير بيئة الإعلام الجديدة على طريقة متابعتنا للعالم السياسي يغير أيضًا الطابع الأيديولوجي للمعلومات السياسية التي نتلقاها على نحوٍ روتيني؛ ففي عام ١٩٨٨، كان معظم المعلومات التي يتلقاها المواطنون حول الانتخابات قادمًا من صحفيين محترفين ملتزمين بقواعد عدم التحزُّب. وبصرف النظر عن الافتتاحيات الصحفية ذات الاتجاهات المحددة بوضوح، حاولت نشرات الأخبار المسائية والصحف تغطية الحملات الانتخابية بإنصاف، وهكذا كان المواطن العادي — سواءٌ أكان جمهوريًّا أم ديمقراطيًّا أم مستقلًّا — يجد تغطية انتخابية تأخذ على محمل الجد وجهات النظر المختلفة عن وجهة نظره.

الوضع مختلف تمامًا اليوم؛ فإذا كنتُ ليبراليًّا متحمسًا، يمكنني جمع كل معلوماتي حول الحملة الانتخابية من المصادر التي تتفق مع وجهة نظري وتغطي الأمور السياسية وفقًا لذلك. وربما أتحقق من آخر أخبار الحملة الانتخابية من المرشحين الديمقراطيين أو المواقع اليسارية مثل Daily Kos أو Moveon.org؛ حيث يمكنني أيضًا الدردشة مع أنصار الفكر المشابه لفكري. وعندما أتحوَّل إلى التليفزيون، يمكنني تجنُّب شبكات الأخبار أو المحطات التليفزيونية المؤيدة للمحافظين مثل فوكس نيوز ومشاهدة كيث أولبرمان على إم إس إن بي سي. وإذا رغبت في الاسترخاء والضحك، يمكنني أن أنتقل إلى برامج «ذا ديلي شو» و«كولبير ريبورت» الساخرة.
وعلى النقيض، إذا كنت محافظًا متشددًا، ففي وسعي الحصول على أخبار الحملة التي أؤيدها من المرشحين الجمهوريين أو صفحات الويب المؤيدة للمحافظين مثل ذا درادج ريبورت Drudge Report، والتحدُّث إلى من يُشبهونني في التفكير على مدونة ريدستيت RedState. ويمكنني مشاهدة قناة فوكس نيوز على التليفزيون أو الاستماع إلى راش ليمبو على الإذاعة، وإذا رغبت في وجبةٍ ساخرةٍ يمكنني مشاهدة دينيس ميلر أو برنامج «هاف أوَر نيوز ريبورت» على قناة فوكس الذي يحاكي برنامج «ذا ديلي شو». باختصار، سواءٌ أكنتُ محافظًا أم ليبراليًّا، أستطيع الآن جمع كميات ضخمة من المعلومات السياسية، بل ويمكنني صنع وسائل الإعلام السياسية الخاصة بي دون الاضطرار أبدًا إلى مواجهة أي آراء أو معلومات خضعت للفلترة عبر مرشحات أيديولوجية تختلف كثيرًا عما أومن به. وتشير الاستطلاعات في الواقع إلى أن الأفراد يسعَوْن على نحوٍ متزايدٍ لمصادر المعلومات التي تتفق مع معتقداتهم السياسية.

ما الآثار المترتبة على هذا النمط المتغير للحصول على المعلومات السياسية واستخدامها على السياسة الديمقراطية؟ نقدم في هذا الفصل طرقًا للتفكير في كيفية الإجابة عن هذا السؤال من خلال الاعتماد على أبحاث دارسي الإعلام. نرغب في البداية في أن نؤكد على رؤيتَين عامتَين تنبعان من توظيف أساليب تحليل الدراسات الإعلامية. أولًا، على الرغم من أننا نركز على نحوٍ رئيسيٍّ في هذا الفصل على وسائل الإعلام التي يُفترض عمومًا أنها مصادر للمعلومات السياسية — نشرات الأخبار على القنوات الخاصة وشبكات الأخبار، والصحف والمجلات المطبوعة والإلكترونية، والمواقع والمدونات السياسية، والمعلومات المقدَّمة من قِبل المرشحين، وما إلى ذلك — فإننا لا نقترب من معالجة تأثير وسائل الإعلام على الحياة السياسية معالجةً تامة.

وكذلك تمتلك وسائل الإعلام الأخرى — التي لا يُنظر إليها في أغلب الأحيان كقنواتٍ للحصول على معلوماتٍ سياسية — تأثيرًا كبيرًا على طريقة تفكير الأمريكيين وسلوكهم في عالم السياسة؛ لذلك، تتناول حلقات مسلسل «عائلة سمبسون» (ذا سيمبسونز) أو مسلسل «التحقيق في مسرح الجريمة» (سي إس آي) أو مسلسل «التنصُّت» في كثيرٍ من الأحيان قضايا لها مضمون سياسي كبير، سواءٌ أكان تناولًا ساخرًا للانتخابات، أو تحليل طريقة عمل نظام العدالة الجنائية، أو العلاقة بين الفقر في الأحياء المتدنية وتجارة المخدرات وحكومة المدينة. والواقع أن بيئة الإعلام الجديدة في كثيرٍ من الأحيان تطمس الخطوط الفاصلة بين أنواع وسائل الإعلام (مثل التليفزيون والإنترنت والهواتف النقالة) والأساليب التي تُمرَّر من خلالها المعلومات للمواطنين (مثل المدونات أو البرامج الكوميدية أو البرامج الإخبارية على القنوات الخاصة التي يقدمها مشاهير الإعلاميين)؛ مما يجعل وضع المجموعة الواسعة من وسائل الإعلام التي تتدفق من خلالها المعلومات السياسية في الاعتبار أكثر أهميةً من أي وقتٍ مضى.

في عام ١٩٩٢، عندما عزف بيل كلينتون على آلة الساكسفون في برنامج «قاعة أرسينيو» (أرسينيو هول) للمساعدة في خلق دعاية إيجابية لحملته الواهنة، اعتُبر تصرفه عجيبًا ومهينًا على نحوٍ مبهم. ومع ذلك، عندما ظهرت السيناتور هيلاري كلينتون عام ٢٠٠٨ في برنامجَي «ليلة السبت على الهواء مباشرة» (ساترداي نايت لايف) و«ذا ديلي شو» في الأسبوع السابق للانتخابات التمهيدية الحاسمة في تكساس وأوهايو، فإن ظهورها في مثل هذه البرامج كان يُنظر إليه على أنه أمر عادي تمامًا ومجرد جزءٍ من استراتيجية الحملة العادية لدى المرشحين الجادين؛ فقد ظهر أعضاء مجلس الشيوخ مايك هاكابي وباراك أوباما وجون ماكين جميعهم في البرامج نفسها. قدمت هذه البرامج غير التقليدية للمرشحين أكثر من مجرد فرصةٍ لتقديم أنفسهم للجمهور في إطار مرح؛ إذ يمكن في الواقع للنكات والفقرات الساخرة في البرامج الكوميدية أن تُشكِّل الحملات الانتخابية نفسها؛ لذلك، استخدمت حملة هيلاري كلينتون فقرة ساخرة في برنامج «ساترداي نايت لايف» تتهكم على افتتان الصحافة بأوباما كي تعزز ادعاءها بأنها تلقى معاملة غير عادلةٍ من الصحافة. ونجحت الاستراتيجية؛ حيث بدأت الصحافة في تقديم نظرة أكثر انتقادًا لأوباما.2 وقد ألهمت واحدة من أكثر القصص إثارةً في الانتخابات — صعود سارة بالين حاكمة ألاسكا والمرشحة الجمهورية لمنصب نائب الرئيس إلى دائرة الأضواء ثم هزيمتها في الانتخابات — محاكاة تينا فاي الساخرة لها في برنامج «ساترداي نايت لايف».

نُغفل الكثير فيما يخص علاقة الإعلام بالسياسة إذا ركزنا على نحوٍ ضيقٍ جدًّا على المصادر التقليدية للمعلومات السياسية. وعلى الرغم من أن بيئة الإعلام الجديدة تجعل من السهل ملاحظة انتشار المعلومات السياسية عبر عددٍ ضخمٍ من الأساليب والقنوات الإعلامية، فكثيرًا ما كان لمجموعةٍ واسعةٍ من وسائل الإعلام في الواقع آثار سياسية؛ على سبيل المثال، تأمل معالجة الإجهاض في أفلام هوليوود، والتي سنناقشها في الفصل الرابع، أو تأثير موسيقى الروك آند رول على الاضطرابات السياسية في ستينيات القرن العشرين (انظر أيضًا أعمال ويليامز وديلي كاربيني التي سنعرض لها فيما يلي).

ثانيًا، الاطلاع على عالم السياسة من منظور الدراسات الإعلامية يعني أننا نركز على بنية النظام الإعلامي باعتباره تفسيرًا أساسيًّا للتغيرات في عالم السياسة. ماذا يعني هذا في الممارسة العملية؟ تأمل بعض أكثر الانتقادات شيوعًا للسياسة الأمريكية في مطلع القرن الحادي والعشرين. عاب الكثير على الأمريكيين كونهم غير مهتمين أو جاهلين بالعالم السياسي. أحد تفسيرات هذا الوضع يُعد في حد ذاته نقدًا آخر؛ فقد أصبح النظام السياسي متحزبًا للغاية، وأصبح السياسيون سوداويين ومخادعين للغاية، وأصبح النظام السياسي برمته مدينًا بالفضل للتبرعات التي تجمعها الحملة الانتخابية؛ فليس من المستغرب أن معظم الأمريكيين لا يأبهون للسياسة. وتكمن في هذه الانتقادات فكرة أن الناخبين والسياسيين اليوم بطريقةٍ ما أو بأخرى أقل اهتمامًا بالشأن العام وأقل شعورًا بالمسئولية مما كانوا عليه في الماضي. وتتوافق تلك النقاشات بسهولةٍ مع الانتقادات الموجهة إلى الشباب لعدم انخراطهم أكثر في السياسة. إن تلك التفسيرات تعتمد على ما يمكن تسميته «التفسيرات على المستوى الفردي»؛ إذ تُعزى الأسباب إلى تغيراتٍ في طرق تصرف فرادى المواطنين والسياسيين (برِيُور ٢٠٠٧).

تُقدِّم الدراسات الإعلامية تفسيرًا مختلفًا من خلال تركيز انتباهنا على التغيرات في بنية النظام الإعلامي نفسه بوصفها تفسيراتٍ للتغيرات التي نستشفها في السياسة الأمريكية. ونناقش في هذا الفصل أولًا تطوُّر الفكر العلمي حول العلاقة بين التغيرات في وسائل الإعلام، خاصةً ظهور ما نُسميه الآن «وسائل الإعلام الجماهيرية»؛ إذ أدَّى ظهور وسائل الإعلام الجماهيرية في العقود الأولى من القرن العشرين إلى تساؤلاتٍ حول تأثير الإعلام على السياسة الديمقراطية في الولايات المتحدة، وهي أسئلة لا تزال تؤرقنا حتى الآن.

ثم نتتبع بعد ذلك انخفاض المشاركة والاهتمام، وزيادة التحزُّب والضغائن في العالم السياسي، والزيادة الكبيرة في دور التبرعات للحملات الانتخابية. ولا ندرس هذه التغيرات كتغيراتٍ فردية، وإنما كتغيراتٍ في النظام الإعلامي حدثت على مدى السنوات العشرين الماضية؛ ما أطلق عليه ماركوس برِيُور (٢٠٠٧) «ديمقراطية ما بعد البث».

(٢) البيئات الإعلامية المتغيرة والسياسة الديمقراطية المتغيرة

كان لتغيُّر النظم الإعلامية تأثير عميق على تطوُّر الديمقراطية الأمريكية منذ تأسيس الجمهورية في القرن الثامن عشر حتى عصرنا. ومع وجود مستوًى عالٍ للغاية من معرفة القراءة والكتابة بين عامة السكان إلى جانب الدعم المالي الحكومي لخدمة توزيع المعلومات السياسية والصحف والنشرات والرسائل، وغيرها من الوسائل المطبوعة عبر البريد، لعب التواصل السياسي المنقول دورًا مهمًّا في المجادلات السياسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (بوستمان ١٩٨٥؛ ويلنتز ٢٠٠٧). ومع ذلك، فإننا سنكون مخطئين إذا اعتقدنا أن زمن جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وجون آدمز وبنجامين فرانكلين كان فترةً من الجدل السياسي السامي الرصين. في الواقع، كان عصر الطباعة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر يتشابه تشابهًا لا يمكن إغفاله مع العالم الإعلامي المتقلب الحالي.

يفتح لنا كتاب ريتشارد روزنفيلد «صحيفة الأورورا الأمريكية: عودة الجمهوريين الديمقراطيين» (روزنفيلد ودواين ١٩٩٧) نافذة مثيرة على الصحافة الحزبية في بدايات الجمهورية. فيروي الكتاب القضايا اليومية (بين عامَي ١٧٩٨ و١٨٠١) التي غطتها صحيفة الأورورا؛ وهي صحيفة أسسها بنجامين فرانكلين وكان يحررها ابن أخيه بنجامين فرانكلين باش. وكانت الأورورا تنتقد بشدةٍ النخبة السياسية الفدرالية الناشئة؛ وفي الواقع، تُوفِّي باش في السجن بعد أن سجنه الرئيس جون آدمز بموجب «قوانين الغرباء والفتنة».

يحكي روزنفيلد قصة الصحيفة وخصومها الفيدراليين، خاصةً جريدة جازيت أوف ذا يونايتد ستيتس، عبر الاعتماد شبه التام على إعادة طبع مقالات الصحيفة الحقيقية. وبينما كانت المناقشات التي تجري في الصحافة ذات محتوًى سياسيٍّ مكثف — إذ تناولت الانتخابات والأحداث الخارجية وما إلى ذلك — كانت الصحف في ذلك الوقت بعيدةً للغاية عن تقديم المقالات المستنيرة الرصينة التي قد نتصوَّرها؛ فعلى مدى تاريخها، ادَّعت الأورورا أن:

واشنطن وآدمز عارضا الثورة الفرنسية لأنهما كانا أعداءً للديمقراطية، وأنهما كانا كذلك حتى أثناء الثورة الأمريكية، وإن واشنطن لم يكن أبًا مؤسسًا لبلده، ولكن كان جنرالًا غير كفءٍ كان سيُضيع الثورة الأمريكية لولا أن جعل بنجامين فرانكلين فرنسا تتدخل؛ وأن واشنطن وآدمز وهاملتون والآباء المؤسسين الآخرين أنكروا فضل فرانكلين (جزئيًّا بتقليل الفضل المنسوب إلى فرنسا)، وإظهار فضل واشنطن في صورةٍ أسطورية، واعتمدوا دستورًا على غرار الدستور البريطاني لتجنُّب نموذج فرانكلين (وآمال كثير من الأمريكيين) للديمقراطية؛ وإن آدمز وهاملتون وأصحاب الفكر الفيدرالي الآخرين أرادوا حقًّا وجود ملك أمريكي. (روزنفيلد ودواين ١٩٩٧)

تبدو الادعاءات والادعاءات المضادة — التي تحوَّلت إلى اتهاماتٍ حول الحياة الجنسية للآباء المؤسسين (لا سيما توماس جيفرسون وألكسندر هاملتون)، وتضارب المصالح، والمخالفات المالية، والخطط السرية، والهجوم الشخصي، وما إلى ذلك — للقارئ الحديث أقرب كثيرًا إلى مقالات جريدة ذا ناشونال إنكوايرر من مقالات صحيفة ذا نيويورك تايمز. في الواقع، كانت هذه الحقبة تمتلك مات درادج الخاص بها (ناشر الإشاعات السياسية السيئ السمعة على الإنترنت الذي لعب دورًا مركزيًّا في فضيحة كلينتون-لوينسكي) في شخص جيمس كالندر. وجه كالندر اتهاماتٍ عن الآثام الجنسية والمالية لألكسندر هاملتون — المفضل لدى جورج واشنطن — في الوقت الذي كان يعمل فيه لصالح حركة مناهضة للفيدراليين يقودها جيفرسون. وبعدما خذله تخلِّي جيفرسون الأرستقراطي عنه، كشف اتهاماتٍ حول أطفالٍ لبطريرك مونتشيلو غير شرعيين من إحدى إمائه، وهي سالي همينجز؛3 ومن ثَمَّ لا يسع المرءَ تجاهلُ الاستنتاج الزاعم بأن الشخصيات البارزة الحالية مثل بيل أورايلي، وراش ليمبو، ومايكل مور، وجون ستيوارت، وستيفن كولبير كانوا سيشعرون بالألفة خلال أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.

على الرغم من أن فهم العلاقة بين الإعلام والسياسة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يتيح لنا فهم المناقشات الحالية، فإن وضع تحليلٍ دقيقٍ للسياسة المنقولة اليوم عبر وسائل الإعلام لا بد أن يضرب بجذوره في تفاصيل نشأة وسائل الإعلام الإلكترونية خلال القرن العشرين؛ فخلال هذا القرن المضطرب احتلت بؤرة الاهتمام القضايا التي لا نزال نكافح للتعامل معها حتى الآن؛ وهي قوة وسائل الإعلام الإلكترونية، وخاصةً الإذاعة والتليفزيون، وتأثير الرسائل المنقولة بهدف التأثير على نحوٍ مفرطٍ على المواطنين العاديين.

تُقدِّم لنا أعمال والتر ليبمان (١٨٨٩–١٩٧٤) نقطة انطلاقٍ مناسبة؛ وهو واحد من أهم صحفيي الصحافة المطبوعة في القرن العشرين وباحث مبجل متخصص في الإعلام، لا تزال أعماله حول العلاقة بين وسائل الإعلام والديمقراطية ذات تأثيرٍ على الباحثين والطلاب اليوم (ستيل ١٩٨٠). عندما كان ليبمان شابًّا حديث التخرج في جامعة هارفرد، شارك في الدعاية الحربية لصالح حكومة الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى، وتعلَّم مدى سهولة تشويه الحقائق وكبتها من أجل التأثير على الرأي العام. وقد اعتمد على هذه التجارب كي يذهب إلى أنه في المجتمع الحديث، لا تعتمد تصرفات معظم المواطنين السياسية على المعرفة المباشرة، بل تعتمد بالأحرى على «الصور (السريعة الزوال) الموجودة في رءوسهم» والتي يصنعها الإعلام غالبًا.

دفعته هذه الملاحظات إلى تطوير تحليلٍ نقديٍّ واسع المدى لما اعتبره معتقداتٍ ساذجةً يؤمن بها الأمريكيون حيال السياسة الديمقراطية والمواطنة في المجتمع الحديث المعقد. وزعم أن أفكار الآباء المؤسسين كانت مستمَدة من مجتمعٍ من المزارعين أصحاب الملكيات الزراعية المتوسطة (وتستبعد النساء والعبيد، كما أشار بسخرية) حيث كان المواطنون يمتلكون معرفة مباشرة بالقضايا المحلية التي تُشكل هيكل السياسة وتمتعوا بفرصةٍ كبيرةٍ للتحدُّث مع جيرانهم حول هذه القضايا. وأدَّت هذه المجموعة من الظروف إلى نظريةٍ ديمقراطيةٍ مركزية؛ تتمثل في افتراض أن المواطن العادي يمكنه الوصول إلى أحكامٍ ذكيةٍ وعقلانيةٍ حول القضايا العامة إذا ما عرضت عليه الحقائق.4

ومع ذلك، كانت هذه الشروط السابقة للنظرية الديمقراطية تتعرَّض لهجومٍ في الوقت الذي كتب فيه ليبمان كتابه المبدع «الرأي العام» عام ١٩٢٢. فيما يتعلق بالمعرفة التي يعتمد عليها المواطنون في تشكيل معتقداتهم السياسية وتصرفاتهم، كان الجمهور يعتمد على الصحافة (كان تفكير ليبمان منصبًّا على الصحف، ولكن حجته تنطبق بقوةٍ أكبر على الإذاعة والتليفزيون). رغم ذلك، فإن الصحافة لا يمكن أن تقدم الحقيقة؛ لأن الحقيقة والأخبار ليستا شيئًا واحدًا؛ فوظيفة الأخبار هي أن تشير إلى أهمية الأحداث، ولكن وظيفة الحقيقة هي إخراج الوقائع الخفية للنور. وأشار في استعارةٍ تُستخدم كثيرًا إلى أن الأخبار مثل شعاع الضوء الكاشف الذي يتحرك بلا هوادةٍ في جميع الأنحاء ليُخرج حدثًا ثم آخر من الظلمات إلى مجال الرؤية.

وبهذه الصيغة، حدَّد ليبمان على نحوٍ تنبُّئيٍّ بؤرةَ اهتمام الدراسات الإعلامية؛ وهي الآثار المترتبة على تنحية الخبرة المباشرة والتفاعلات وجهًا لوجه لصالح نظام إعلامي جماهيري يلعب دور المصدر الأساسي للمعلومات السياسية وساحة النقاش. وعلى الرغم من أنه قبل الحرب العالمية الأولى علقت المناقشات حول الرأي العام على دور الصحف والعلاقات العامة والإعلان، فإنه بحلول منتصف القرن العشرين، أصبح من المستحيل التفكير في الرأي العام دون وضع تأثير وسائل الإعلام الجماهيرية في الاعتبار.

تخطى ليبمان دور الإعلام كي يناقش بُعدًا ثانيًا متصلًا من أبعاد الديمقراطية الحديثة لا يزال يواجهنا اليوم، وهو القدرة الأساسية لدى المواطنين العاديين واهتمامهم عندما يتعلق الأمر بالسياسة. وأشار ليبمان إلى أنه حتى لو كانت الصحافة تستطيع أن تُقدِّم صورة دقيقة للعالم، فإن الشخص العادي لا يمتلك الوقت ولا القدرة على التعامل مع هذه المعلومات، لأن معظم الناس لديهم قليل من الاهتمام بالحياة السياسية ولا يمتلكون دوافع لمعرفة ما يكفي لتشكيل آراء مستنيرة حول القضايا الحيوية الراهنة. في كتاب «شبح العامة» الصادر عام ١٩٢٥، زعم ليبمان أن ما سمَّاه «التخلف المدني» للجمهور ليس سيئًا على نحوٍ مطلق؛ لأنه «عندما يحاول الرأي العام تولِّيَ سلطة الحكم مباشرة فإنه إما يُحدث فشلًا أو استبدادًا.» قاد هذا التحليل القاسي ليبمان إلى استنتاجٍ مفاده أن الديمقراطية يمكن أن تنجح فحسب إذا تخلَّص الناس من «الوهم غير المقبول وغير العملي الذي يدفع بأن كلًّا منا لا بد أن يملك رأيًا سديدًا حيال الشئون العامة» (ستيل ١٩٨٠: ١٨٢). ويتمثل الحل بالنسبة إلى ليبمان في شكلٍ من أشكال ديمقراطية النخبة تقتصر فيه مشاركة العامة على الانتخابات التي يمكن فيها تقديم خياراتٍ سهلة الفهم بين شاغلي المناصب الحاليين ومنافسيهم.

على الرغم من أننا قد نرفض حل ليبمان، فإن كلامه حول مشكلة الديمقراطية لا يزال يتردد صداه اليوم. كلما شعرنا باليأس من قدرة الناخبين على فهم القضايا الكبرى الراهنة (يعني هذا عادةً أننا نريد الآخرين أن يرَوُا الأشياء مثلما نراها)، ورفض صخب أيديولوجيات اليسار واليمين، أو حتى المشاركة في الحياة السياسية، فإننا نذكر من جديدٍ مشكلة قدرة المواطنين العاديين التي عبَّر عنها ليبمان منذ زمنٍ طويل.

غذَّت الحملات الدعائية التي شنتها الدول الرئيسية المتحاربة في الحربين العالميتين كلتيهما قلقًا بشأن الآثار المترتبة على وسائل الإعلام الإلكترونية الحديثة إلى جانب القدرات المحدودة للمواطنين العاديين. وأثار الاستخدام الواسع النطاق للإذاعة والسينما قلقًا خاصًّا، لا سيما في ألمانيا والاتحاد السوفييتي الديكتاتوريين، وكذلك في الدول الديمقراطية. خلقت هذه المخاوف ما أطلق عليه أرشيبالد ماكليش «الليبرالية العصبية»، وهي حالة من القلق حول كيفية تحقيق التوازن بين الحريات المدنية والالتزام بالخطاب الديمقراطي من جهةٍ والخوف من حدود قدرات العامة وقوة وفعالية الرسائل المنقولة من جهةٍ أخرى (جاري ١٩٩٩).

(٢-١) لماذا لا تزال الليبرالية العصبية موجودة: المشكلة الأزلية للدعاية

ما علاقة المخاوف المرتبطة بالحملات الدعائية التي شُنَّت في العقود الأولى من القرن العشرين بالمخاوف المتعلقة بالسياسة الإعلامية في القرن الحادي والعشرين؟5 في عام ١٩٢٧، نشر هارولد دي لاسويل (١٩٠٢–١٩٧٨) — «ليبرالي عصبي» آخر، سيصبح واحدًا من أكثر علماء السياسة تأثيرًا في القرن العشرين — أطروحة الدكتوراه الخاصة به في كتاب بعنوان «تقنية الدعاية في الحرب العالمية الأولى» (١٩٧١). وعلى الرغم من أن الكتاب كان دراسة دقيقة للحملات الدعائية التي شنتها كلٌّ من قوات دول المحور وقوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، فإن الكتاب مناسب للغاية للوقت الراهن؛ لأنه يوضح أنه على الرغم من أننا قد نعتبر أنفسنا متمرسين فيما يتعلق بطرق استخدام الحكومة للإعلام بهدف تضليل الرأي العام، فإن التقنيات المذكورة من قِبل لاسويل — والتي طُورت في العقود الأولى من القرن العشرين — لا تزال مستخدمةً في بدايات القرن الحادي والعشرين؛ فالطرق التي استُخدمت لتعبئة الشعوب في الفترة ١٩١٤–١٩١٨، لدعم الحرب التي اندلعت لأسبابٍ غامضةٍ وخلفت عشرات الملايين من القتلى؛ هي مألوفة تمامًا لمَن عاصروا فترة الترويج لغزو العراق عام ٢٠٠٣. لا تتعلق القضية ها هنا بوجود شيءٍ من الحقيقة في المزاعم الدعائية التي قدَّمتها الحكومة — فحتى أسوأ القصص حول فظاعات الحرب العالمية الأولى كان لها أصل حقيقي — أكثر من تعلُّقها بالتداعيات المستمرة الواقعة على الديمقراطية عندما تُستخدم هذه التقنيات من قِبل الحكومات لتعبئة الشعوب للحرب أو لدعم غيرها من السياسات.

أشار لاسويل إلى أن مبرر الحرب كان لا بد من أن يكون مفهومًا على نطاقٍ واسعٍ وقادرًا على تعزيز الالتزام الشعبي الكلي بالحرب. ولاحظ، مرددًا آراء ليبمان، أن الأمريكيين طالما كان لديهم معلومات ضئيلة حول الشئون الدولية؛ ومن ثَمَّ فمن الصعب تبليغ جمهورٍ ضخمٍ بالأسباب المعقدة حتمًا والقابلة للجدل عادةً وراء استخدام أُمَّةٍ ما للقوة ضد أُمَّةٍ أخرى؛ ولذلك، يجب تحويل قائد دولة العدو إلى رمزٍ للأمة العدوة بأكملها، ثم شيطنته. وعنى لاسويل هذا المصطلح حرفيًّا؛ إذ يجب أن يُصور زعيم العدو كتجسيدٍ للشر، للشيطان نفسه. أيبدو هذا مألوفًا؟ مثلما أصبح صدام حسين تجسيدًا لكلٍّ من العراق والشر، كذلك أصبح القيصر فيلهلم الثاني على يد مختصي الدعاية لدى الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من أن استراتيجية الشيطنة معروفة بالنسبة إلينا، فإننا نألف أيضًا المشكلات التي تخلقها هذه الاستراتيجية بمجرد انتهاء الحرب. فإذا كان سبب الحرب هو قائدًا شريرًا، فلا بد أن القضاء عليه هو الحل. وبمجرد أن يموت القائد أو يؤسر، فإن المشكلات التي يواجهها المنتصرون، بينما يحاولون إعادة بناء المجتمع الممزق، ليست أسهل في الشرح بالنسبة إلى الأمريكيين اليوم مما كانت عليه بالنسبة إلى مواطني دول الحلفاء في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

زعم لاسويل كذلك أن الدعم الشعبي لحربٍ ما يتطلب أن تُصوَّر على أنها دفاعية، بصرف النظر عن الحقائق؛ لذلك كانت الادعاءات حول التهديد الذي تُشكله أسلحة الدمار الشامل أو حول وجود ارتباطٍ بين صدام حسين وأسامة بن لادن المحاور الرئيسية في التعبئة لحرب العراق لأنها لعبت دورًا مركزيًّا في تجنُّب تصوير الغزو الأمريكي — دون تفويضٍ من الأمم المتحدة — كهجومٍ غير مبرر، ولكن تصويره كإجراء دفاعي فرضه علينا عدو شرير يستعد لضربنا. وكما كان من المستحيل على حكومات الحلفاء مقاومة تضخيم الادعاءات حول الفظائع التي ارتكبتها القوات الألمانية في بلجيكا المحايدة، فإن القوة الدافعة وراء الادعاءات الكاذبة بوجود أسلحة دمار شامل أو ارتباط عراقي بإرهابيي أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ كانت القوة التي استخدمتها الحكومة الأمريكية لحشد الدعم الشعبي. وإذا ركَّزنا بمزيدٍ من الإمعان على دقة التقديرات الاستخبارية السابقة للحرب، فإننا نغفل أكثر نقطةٍ إثارةً للقلق؛ ألا وهي عجز الحكومات ببساطةٍ عن تجنُّب «انتقاء» تلك التقديرات لاستخدامها في الدعاية.

ويبدو تحليل لاسويل أكثر تنبؤًا بالمستقبل عند تناوله الحاجة إلى تطوير أشكالٍ مختلفةٍ من الدعاية تروق لقطاعاتٍ مختلفةٍ من الجماهير. وهو ما نُطلِق عليه «التجزئة»، أو «التشريح والتقطيع»، ونفترض خطأً أنها تقنية جديدة. كتب لاسويل أن صورة القائد الشرير الذي ارتكب فظائع لا توصف ولديه نوايا عدوانية ضد دولةٍ ما تنجح مع أكثر الشرائح شوفينية وعدوانية من الجماهير. وخلص إلى أن هؤلاء هم الأشخاص الذين يجدون «السلام في خوض الحرب»، ويُطلَق عليهم اليوم اسم «آباء ناسكار» (لأنهم عادةً رجالٌ بِيض في منتصف العمر من الطبقة العاملة يعشقون مشاهدة سباق السيارات ناسكار) ويعيشون في الولايات المؤيدة للحزب الجمهوري.

ومع ذلك، أشار لاسويل أيضًا إلى الحاجة لتوافر عددٍ من المبررات المختلفة للحرب بعدد الاهتمامات المختلفة لدى الجماهير؛ لذلك، على سبيل المثال، يحتاج المثقفون من الطبقة المتوسطة الأكثر «رقيًّا» مبرراتٍ دعائيةً تعتمد على القانون الدولي. وفي مناقشةٍ تتنبَّأ باستخدام الأمم المتحدة من قِبل إدارة بوش، قال لاسويل إنه حتى لو عارضت هيئة دولية (كان يفكر وقتها في عصبة الأمم) خطط بلدك للحرب، يمكن التغلب على ذلك عن طريق الحجة القائلة بأن الحرب كانت مطلوبة من قِبل رؤية «أسمى وأكثر واقعية» للقانون الدولي، والتي فشلت المنظمات الدولية في إقرارها.

ولكن ماذا عن العواقب الطويلة المدى عندما يُكتشف بعد أن تضع الحرب أوزارها أن الحكومة كانت تتلاعب بالحقيقة؟ لم يعتقد لاسويل أن ذلك يمثل مشكلة طالما انتصرت بلدك؛ لأن «الانتصار لا يتطلب أي تفسير». والأمريكيون الآن يكافحون للتعامل مع العواقب الناتجة عن عدم تتحقق «الانتصار» ووضع مبررات الصراع المثير للجدل والطويل الأمد موضع التساؤل.

وفي عملٍ آخر يرى لاسويل — متفكرًا في تأرجح «الليبرالية العصبية» بين نقيضَين — أن «الدعاية بالتأكيد وُجدت لتبقى؛ فالعالم الحديث يعتمد عليها إلى حدٍّ استثنائي للتنسيق بين عناصر صغيرة للغاية في أوقات الأزمات … فالدعاية كأداةٍ ليست لها تقريبًا أي طبيعة أخلاقية»، و«يبدو أن السلاح الوحيد الفعال ضد الدعاية لصالح سياسةٍ ما هو الدعاية لصالح سياسة بديلة» (١٩٤٤). باختصار، شكك لاسويل — على غرار ليبمان والعديد من النقاد الذين جاءوا من بعدهما — في الذكاء الأساسي لدى الشعب الأمريكي ومسئوليته وعقلانيته. وقد دعمت هذه النزعة الشكوكية عقود من أبحاث العلوم الاجتماعية التي توضح أن الأمريكيين لديهم مستويات منخفضة جدًّا من المعرفة الأساسية عن العالم من حولهم، وعلى الرغم من سهولة الوصول إلى المعلومات من خلال وسائل الإعلام وزيادة مستويات التحصيل العلمي، فإن مستويات المعرفة تلك لم تَزِدْ على مدار السنوات الخمسين الماضية (ديلي كاربيني وكيتر ١٩٩٧). وخَلص لاسويل في عبارةٍ لا تُنسى إلى أن إدارة مجتمعٍ معقد، حتى في دولة ديمقراطية، تعني أنه «إذا كانت الجماهير ستتحرر من القيود الحديدية، فلا بد أن تقبل القيود الفضية» (١٩٤٤).

وعلى الرغم من التغيرات الجذرية في البيئة الإعلامية بين أوائل القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، فإن هذه الأسئلة لا تزال تواجهنا ونحن نرى تقنيات الدعاية التي حددها لاسويل تُستخدم مرةً أخرى بتأثيرٍ كبيرٍ في التعبئة للحرب مع العراق. فما الذي ينبغي أن نستنتجه؟ هل الناس قادرون على إجراء تحليلٍ نقديٍّ للمعلومات؟ هل وسائل الإعلام قادرة على تقديم وجهة نظرٍ نزيهة ودقيقة حول القضايا الرئيسية في الوقت الراهن؟ أم سنرتد حتمًا إلى الشكوكية؟

(٢-٢) جون ديوي وإعادة بناء الإعلام والسياسة الديمقراطية

قدم جون ديوي (١٨٥٩–١٩٥٢)، الذي كثيرًا ما وُصف بأنه أكثر فيلسوف أمريكي تأثيرًا في القرن العشرين، ردَّ فعلٍ مختلفًا تمامًا عن رد فعل ليبمان ولاسويل حيال نجاح الدعاية والقدرات السياسية المحدودة على ما يبدو لدى الشعب الأمريكي. قبِل ديوي استنتاجات ليبمان كوصفٍ دقيقٍ للسياسة الأمريكية؛ ومع ذلك، أوضح أن أوجه القصور في الديمقراطية في صورتها الحالية لا يمكن قَبولها كما لو كانت نتائج طبيعية أو حتمية، بل لا بد من إدراكها كنتيجةٍ لمؤسساتٍ معيبةٍ؛ ومن ثَمَّ ينبغي العمل عليها وتحسينها: «الاعتبار الأهم هو إعطاء الأفكار فرصة مخاطبة العامة وأن تصبح ملكًا لهم. والحاجة الأساسية هي تحسين أساليب وبنية الجدل والنقاش والإقناع. وهذه هي أهم مشكلات الجمهور» (ديوي ١٩٢٧).

آمن ديوي بعدم وجود أي سماتٍ حتميةٍ فيما يتعلق بقدرات المواطنين أو أوجه قصورهم، بل اعتقد أن قدراتهم تنبع من طرق عمل التعليم والمجتمع والأسرة ووسائل الإعلام (وهو ما يتفق مع غرض هذا الكتاب) في أي مجتمعٍ معين. هل تغرس هذه المؤسسات شعورًا بالالتزام بواجبات المواطن، أو توفر للناس العديد من فرص المشاركة واتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم اليومية، أم تثبط هذه الاهتمامات وتقدم فيضًا من الإلهاءات لتشتيت الانتباه بعيدًا عن الشواغل العامة؟

اعتقد ديوي أن ظهور وسائل الإعلام الجماهيرية الحديثة يحمل إمكانية تحسين ظروف الديمقراطية الأمريكية وعملياتها، إذا وضعت تلك الغايات في الاعتبار عند تصميم وسائل الإعلام، لكنه شعر بالقلق من أن الشكل المحدد للنظام الإعلامي الأمريكي — الذي يخضع في المقام الأول للمصالح التجارية — سيكون له تأثير أكثر سلبية بكثير.6 ونظرًا لإيمانه بالديمقراطية والمشاركة العامة، رأى صعود العلاقات العامة والإعلانات تهديدًا للديمقراطية؛ خاصةً أينما توجه العمل الدعائي. وفي حين رأى ليبمان ولاسويل التلاعب بالرأي العام من قِبل المتخصصين في العلاقات العامة وسيلةً جيدةً على نحوٍ محتمل، يقتضي استخدامها أوجه القصور لدى الجمهور، فإن ديوي رآه على أنه خلل اجتماعي يعوق تحسين قدرات المواطنين واهتماماتهم.

عندما نيأس من تحيُّز الصحفيين ونفقد الأمل في قدرتهم على تقديم وجهات نظرٍ نزيهة وتحليلية لتصرفات الحكومة وحكمة النخب السياسية، وعندما نقلق حول تأثير الإعلام على تفكير الناس، وعندما نشجب افتقاد المواطنين الأمريكيين العاديين للمعرفة بأحوال العالم السياسية ونشك في أن العديد من الناس قادرون حتى على الاختيار بذكاءٍ في لجنة الاقتراع (على افتراض أنهم يُصوِّتون من الأساس)، وعندما ننتقد الشباب لاهتمامهم المفرط بالمشاهير على وجه الخصوص، واستهلاكهم لأحدث الموضات أو ألعاب الفيديو، ولعدم اهتمامهم بالقضايا الخطيرة الراهنة، وعندما نتناقش حول ما إذا كان الإنترنت وغيره من تكنولوجيا الاتصالات الجديدة سيحسن أو سيزيد من تلف السياسة الديمقراطية، فإننا بهذا نعود إلى القضايا العالقة التي طرحها ليبمان ولاسويل وديوي وناقشوها مع مولد وسائل الإعلام الإلكترونية الحديثة في أوائل القرن العشرين.

(٢-٣) الأبحاث التجريبية: كيف يؤثر الإعلام فعليًّا على المواطنين؟

في حين يكافح كثير من المثقفين لفهم الآثار العامة للعلاقة بين الإعلام والديمقراطية والتعامل معها، ثَمَّةَ نوع ثانٍ من الأبحاث الإعلامية وثيق الصلة أيضًا بمخاوفنا الحالية؛ وهو التحليل التجريبي لتأثير التعرض للإعلام على المواقف والآراء السياسية. بينما شعر الباحثون والمواطنون على حدٍّ سواء بالقلق حول مقدار الدعاية في النظام الإعلامي الحديث الذي من شأنه أن يغير الديمقراطية الأمريكية، كان بول لازارزفيلد وزملاؤه في مكتب أبحاث الراديو بجامعة كولومبيا يبتكرون تقنياتٍ لدراسة الأثر الفعلي للنظام الإعلامي الجديد على الأمريكيين بدقة. وأثناء قيامهم بذلك، وضعوا أساس منهج عينة الاستطلاع العشوائية التي أصبحت سمة يومية للحياة السياسية الأمريكية؛ لحسن الحظ أو سوئه. وكذلك مهد لازارزفيلد الطريق أمام التمييز في الدراسات الإعلامية بين تحليل النصوص الإعلامية ودراسة كيفية تأثير هذه النصوص فعليًّا على الناس، وهو تمييز سنعود إليه في الفصلين الرابع والخامس عندما نناقش الفرق بين دراسات تحليل النص ودراسات طريقة تلقِّي الجمهور.

كيف يمكننا فعليًّا قياس أثر وسائل الإعلام الجماهيرية؟ تظل هذه مشكلة صعبة، نظرًا إلى أن انتشار وسائل الإعلام في كل مكانٍ يجعل عزل تأثيرها يُشبه قليلًا دراسة تأثير المياه على الأسماك. وحتى تَصوُّر الأسئلة التي لا بد من توجيهها كان صعبًا في فترة بزوغ وسائل الإعلام الجماهيرية الحديثة (صِيغَ مصطلح «وسائل الإعلام الجماهيرية» على يد جون مارشال من مؤسسة روكفلر في ثلاثينيات القرن العشرين).7 وكانت الأسئلة الأساسية التي صاغها لازارزفيلد وزملاؤه هي على النحو التالي: ما هي بالضبط قوة إقناع الإعلام فيما يتعلق بالتأثير على قرارات التصويت لدى الأمريكيين؟ هل وجهة نظر الإعلام السياسية أدَّت إلى تغيير توجُّهات الأمريكيين الذهنية حيال المرشحين أو التأثير عليها؟
بالتفكير مليًّا في افتراضات وجود المواطنين العقلانيين — وهو الاعتقاد الذي تعرَّض للهجوم من قِبل ليبمان ولكن لا يزال شائعًا بين العديد منا اليوم (بما في ذلك معظم الصحفيين الذين يغطون الانتخابات) — يفترض لازارزفيلد أن معظم الناخبين سيحسمون أمرهم أثناء الحملة وسيتأثرون بوسائل الإعلام الإخبارية والدعاية السياسية (أي ما نُسمِّيه الآن «الإعلانات السياسية»). وفي واحدةِ من أقدم الدراسات المسحية المنهجية للرأي العام الأمريكي، والتي أُجريت خلال الانتخابات الرئاسية لعام ١٩٤٠ بين فرانكلين ديلانو روزفلت وويندل ويلكي، أجرى لازارزفيلد وفريقه مقابلات مع ٦٠٠ من سكان إيري بولاية أوهايو عدة مراتٍ خلال فترة الحملة الانتخابية (لازارزفيلد وبيريلسون وجوديت ١٩٤٨). واكتشف أن أقل من ١٠ بالمائة من المشاركين في الدراسة تحوَّلوا من مرشحٍ إلى الآخر، بل ونسبة أقل فعلت ذلك نتيجة التعرض لوسائل الإعلام. وهكذا يستبق لازارزفيلد وزملاؤه نصف قرنٍ من الأبحاث في العلوم السياسية في الفقرة التالية:

في حين يتردد الناس ويتفكرون ويتخيلون أنهم يتخذون القرار المنطقي حول أفضل الطرق التي يختارونها، فإنه في كثيرٍ من الأحيان كان من الممكن التنبؤ منذ البداية بما سوف يقررون فعله في نهاية المطاف؛ فمن خلال معرفة عددٍ قليلٍ من السمات الشخصية، نستطيع أن نعرف يقينًا إلى حدٍّ ما لمَن سيصوتون في النهاية؛ لأنهم سينضمون إلى الجماعة التي ينتمون إليها بالفعل. (١٩٤٨: ٧٣)

بدلًا من تغيير الآراء، عملت الحملات الانتخابية على تفعيل الاهتمام الخامل عادةً لدى المواطنين بالحياة السياسية ثم عززت القيم والتفضيلات السياسية الموجودة سابقًا. «إن الناخبين المنفتحين ذهنيًّا الذين يوازنون بين البدائل يوجَدون أساسًا في الدعاية الانتخابية المحترمة وفي الكتب الدراسية، لكن عددهم في الواقع قليل بالفعل» (لازارزفيلد وآخرون ١٩٤٨: ٩٥). وعلى غرار آراء ليبمان، قوضت دراسة لازارزفيلد النموذج السامي للمواطنين كمجموعةٍ قادرةٍ على التعامل مع أي موقفٍ وهي التي تفكر مليًّا في قضايا الحملة ثم تقيِّم الجانبين كليهما بعنايةٍ من أجل التوصُّل إلى قرارٍ حول الشخص الذي سيمنحونه أصواتهم. وبدلًا من ذلك، بيَّنت أن التفضيلات الانتخابية هي نتيجة الأنماط القائمة للاندماج السياسي في المجتمع والتي تعتمد على الأسرة والأصدقاء وزملاء العمل والقنوات الأخرى ذات التأثير الشخصي والتي تقع خارج نطاق وسائل الإعلام الجماهيرية.

لماذا كان تأثير وسائل الإعلام الجماهيرية محدودًا جدًّا؟ تُمثل إحدى الإجابات نقطة تركيزٍ بالنسبة إلينا في هذا الكتاب. إن مجرد ظهور أشكالٍ جديدةٍ من وسائل الإعلام لا يعني أن الناس يتوقفون عن استخدام وسائل الاتصالات القديمة؛ لذلك، في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، عندما أجرى لازارزفيلد وزملاؤه دراستهم، وعلى الرغم من أن التليفزيون والإذاعة كانا لا يزالان في بدايتهما، كان الناس لا يزالون يعتمدون كثيرًا على التفاعل وجهًا لوجه مع زملاء العمل والأصدقاء، وما إلى ذلك، وهي الوسائل التي دائمًا ما كانوا يستخدمونها عندما يتعلق الأمر بالسياسة.

وأدَّى ذلك إلى رؤيةٍ كاشفةٍ أخرى ظلت قائمة في هذا النوع من الأبحاث، ألا وهي التدفق ذو الخطوتين. وكما أشار ليبمان، معظم المواطنين ليسوا ممن قد نُسمِّيهم اليوم «مدمني السياسة»؛ أي الأشخاص الذين يجدون رضًا حقيقيًّا من متابعة العالم السياسي عن كثب. ومع ذلك فإن أكثر الأشخاص اهتمامًا ودرايةً بالسياسة تحديدًا هم مَن يولون قدرًا أكبر من الاهتمام للتغطية الإعلامية للحملات الانتخابية. ونظرًا لارتفاع مستوى معرفتهم وميولهم السياسية الموجودة سابقًا، فإنهم أكثر الناس ثقةً في خيار التصويت الأوَّلي الذي اتخذوه وأقل احتمالًا لتغيير آرائهم من خلال الإعلام. من ناحيةٍ أخرى، الأشخاص الأقل اهتمامًا ودرايةً بالسياسة، ومن ثَمَّ أقل احتمالًا في إيلاء الاهتمام للتغطية الإعلامية للحملات الانتخابية، يميلون إلى الاعتماد على أكثر أصدقائهم درايةً بالسياسة لمنحهم معلوماتٍ عن الحملات الانتخابية. ومن خلال هذه العلاقات الشخصية يحصل الأقل معرفة على المعلومات ووجهات النظر بشأن السياسة؛ وهذا هو «التدفق ذو الخطوتين».

في التحليل الأخير، في وسع الأشخاص تغيير رأي الأشخاص الآخرين أكثر مما بوسع أي عاملٍ آخر. من وجهة النظر الأخلاقية، هذا جانب مبشر فيما يخص المشكلة الاجتماعية الخطيرة للدعاية؛ فالجانب الذي يمتلك داعمين أكثر حماسًا قادرين على حشد الدعم الشعبي بطريقةٍ خبيرةٍ يمتلك فرصًا كبيرة للنجاح. (لازارزفيلد وآخرون ١٩٤٨: ١٥٨)

يعد التدفق ذو الخطوتين رمزًا لما نركز عليه في هذا الكتاب؛ وفي الواقع، سوف نعود إلى تفصيل لازارزفيلد وإليهو كاتز لهذه الفكرة في الفصل الرابع. وعلى الرغم من الاهتمام بالابتكارات في تكنولوجيا وسائل الإعلام — التليفزيون في أواخر أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن العشرين، وشبكة الإنترنت في تسعينيات القرن العشرين — فإن وسائط جديدة للاتصال تنتشر دائمًا ضمن نظامٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ واقتصاديٍّ راسخٍ من أنماط الاتصال القائمة. ويتطلب أي فهمٍ دقيقٍ للإعلام والسياسة تحليلًا دقيقًا لطرق استخدام المواطنين للتكنولوجيات الجديدة بالتزامن مع أنماط التواصل السياسي التي أَنشئوها بالفعل.

وعلى الرغم من تأثير الإعلام الإلكتروني (الإذاعة ثم التليفزيون)، فلا يزال الناس يستخدمون الأشكال الأقدم من وسائل الاتصال، مثل المحادثات وجهًا لوجه مع زملاء العمل والأصدقاء والأقارب. وهكذا ينهار العديد من الادِّعاءات شبه المثالية حول شبكة الإنترنت — على سبيل المثال — عند مقارنتها بهذه النتيجة التي توصَّل إليها الباحثون في مجال الإعلام. فمجرد استخدامنا الإنترنت لا يعني أننا توقفنا عن مشاهدة التليفزيون أو قراءة الصحف أو الاستماع إلى الراديو أو التحدُّث مع أصدقائنا وأقاربنا وزملاء العمل. وفي الواقع، كثير من المعلومات السياسية التي نحصل عليها من الإنترنت مستقًى بالفعل مباشرة من مصادر أقدم (على سبيل المثال، الممارسة الشائعة المتمثلة في وضع روابط للمقالات من الصحف والمجلات أو نسخها). ونورد فيما يلي بعض الأبحاث الحديثة التي تُركِّز على طرق استخدام المواطنين للأشكال الجديدة والقديمة لوسائل الإعلام عند اتخاذ القرارات السياسية.

مع ذلك، يمكننا أن نُحمِّل هذه الملاحظة أكثر من ذلك — كما فعل كثير من الباحثين — من خلال تجاهل التغيرات الناجمة عن وسائل الإعلام الجديدة. فكما أشرنا في الفصل الأول، فإن وسائل الإعلام القديمة — حتى عندما تظل باقية — غالبًا ما تتغير بظهور أشكالٍ جديدةٍ من تكنولوجيا الاتصالات. ويجب علينا أن نكون منفتحين حيال هذا في حالة الإنترنت.

إننا نُركِّز على هذا البحث الذي يبلغ من العمر نصف قرن — والذي أُجريَ في فجر عصر الإعلام الإلكتروني — من أجل لفت الانتباه إلى عدد المرات التي تُقدِّم فيها نتائج دارسي الإعلام أفكارًا كاشفة غالبًا ما تحجبها التغطية الإعلامية للسياسة؛ فعلى سبيل المثال، يدرك علماء السياسة منذ فترةٍ طويلةٍ أن عددًا قليلًا جدًّا فحسب من المواطنين يغيِّرون آراءهم فعليًّا؛ فالجمهوريون نادرًا ما يُصوِّتون للديمقراطيين، والعكس صحيح؛ لذلك، كانت التغطية الإعلامية لانتخابات عام ٢٠٠٨ — والتي زعمت على ما يبدو أن الناخبين (١) متفتحون ذهنيًّا، أو ينبغي أن يكونوا كذلك، خلال دراستهم للمرشحين، و(٢) لن يختاروا مرشحًا إلا بعد تقييم المعلومات الواردة في الحملة الانتخابية — تفترض وجود نموذجٍ للتصويت استبعده علماء الاجتماع منذ ما يزيد على ٦٠ عامًا.

بدلًا من ذلك، تركز الحملات الانتخابية — كما هي حالها لأكثر من نصف قرن — على درجة نجاحها في حشد المؤيدين من أجل الذهاب إلى صناديق الاقتراع وإثناء مؤيدي المرشح المنافس بما فيه الكفاية بحيث يبقون في المنزل.

إذًا، لو كان أثر الإعلام محدودًا على نتائج الانتخابات وعلى كثيرٍ من مناحي الحياة الأخرى (الموضة والذهاب إلى السينما وما إلى ذلك) — كما وضح لازارزفيلد في عملٍ آخر (كاتز ولازارزفيلد ١٩٦٤) — فهل مخاوف أشخاصٍ أمثال ليبمان ولازارزفيلد وديوي حول إمكانات الدعاية في الولايات المتحدة مبالغ فيها؟ هذا يعتمد على القضية المحددة التي ندرسها. كان لازارزفيلد وزملاؤه حريصين على الإشارة إلى أن ما يجعل مدمني السياسة يحافظون على آرائهم وتوجهاتهم هو توافر إعلام متنوع؛ بمعنى أنه حتى مدمنو السياسة يمكن أن يغيروا آراءهم إذا لم يجدوا سوى إعلامٍ يعارض وجهة نظرهم. وهكذا، على الرغم من أن تغطية الحملة الانتخابية عادةً ما تكون متنوعة و/أو غير متحزبة، فإنه في أوقات الحرب عندما تميل وسائل الإعلام ببساطةٍ إلى نسخ بيانات الحكومة — كما كانت الحال مثلًا أثناء التحضير لغزو العراق عام ٢٠٠٣ — فإن تأثير الدعاية يمكن أن يكون عميقًا كما كان في دراسة لاسويل للدعاية في الحرب العالمية الأولى؛ لذا يبقى من المهم دراسة الوظيفة الدعائية لوسائل الإعلام (انظر، على سبيل المثال، بينيت ولورانس وليفنجستون ٢٠٠٨).

(٢-٤) التليفزيون و«عصر النشرات الإخبارية»

في حين واصل الاندماج سياسيًّا في المجتمع والتدفق ذو الخطوتين لعب أدوارًا مهمةً في تشكيل التوجُّهات والسلوكيات السياسية، مقللًا بهذا من الأثر المستقل للرسائل الإعلامية؛ فإن ظهور التليفزيون كوسيلةٍ إعلاميةٍ مهيمنةٍ و«مركز إلكتروني» في بيوت المجتمع الأمريكي أثناء النصف الثاني من القرن العشرين غيَّر كثيرًا من البيئة الإعلامية التي تعمل فيها السياسة الأمريكية؛ فمع حلول سبعينيات القرن العشرين، كان أكثر من ثلثي الأمريكيين يعتمدون في المقام الأول على التليفزيون للحصول على المعلومات السياسية؛ فقد كان أكثر مصادر الأخبار موثوقية، وكان الراحل والتر كرونكايت — المذيع الموقر للنشرة الإخبارية المسائية في قناة سي بي إس — موضع ثقة أمريكا، وفقًا للدراسات.

من وجهة نظر الدراسات الإعلامية، من شأن مثل هذا التحوُّل الدرامي في طبيعة البيئة الإعلامية أن يؤثر على ديناميات السياسة الديمقراطية حتمًا، وهذا ما حدث بالفعل؛ فعلى سبيل المثال، كانت إحدى النتائج الرئيسية التي توصَّل إليها لازارزفيلد وعلماء السياسة الذين ساروا على خطاه هي محدوديةَ تأثير الإعلام بسبب قوة الاندماج السياسي في المجتمع، لا سيما الاندماج الاجتماعي في مرحلة الطفولة المبكرة، والذي وقع خارج نطاق الإعلام، في الأسر والكنائس ودور العبادة والمدارس وما إلى ذلك.

ومع ذلك، فالافتراض الأساسي هنا بأنه توجد فجوة واضحة بين عالم وسائل الإعلام الجماهيرية ومناحي الحياة الأخرى قُوِّض من خلال طرق استخدام التليفزيون في المجتمع؛ فبينما انتشرت البرامج التليفزيونية الموجَّهة إلى الأطفال، وبينما زاد إغراق الساعات التليفزيونية في صباح يوم السبت بالإعلانات التجارية، وبينما تعلم الأطفال القراءة والكتابة من خلال برامج مثل «عالم سمسم» (سيسمي ستريت)، وبينما أصبح التليفزيون يُستخدم كجليسة أطفال إلكترونية بالنسبة إلى الآباء المنهكين؛ أصبح الإعلام جزءًا رئيسيًّا في الاندماج الاجتماعي عند الأمريكيين والمجتمعات الأخرى التي تتبني نموذج الإعلام الأمريكي (ماكتشيزني ١٩٩٩).

كذلك أصبح التليفزيون مركز تجمُّع المواطنين لقضاء نصف ساعةٍ كل ليلةٍ من أجل معرفة الأحداث التي ترى نخبة من الصحفيين أنها أهم أحداث اليوم. وفي أوج هيمنته — الفترة التي قد نطلق عليها «عصر النشرات الإخبارية» — كانت نشرات الأخبار التليفزيونية المسائية تعمل على ٧٥ بالمائة من جميع أجهزة التليفزيون. وبطبيعة الحال، كانت تقييمات المشاهدة المذهلة هذه نتيجة تخصيص الفترة من السادسة مساءً إلى السابعة مساءً لنشرات الأخبار المحلية والوطنية على الهواء على كل محطات التليفزيون المتاحة تقريبًا، لا نتيجة التزامٍ أكبر بواجبات المواطنة من جانب الجماهير (بريور ٢٠٠٧).

ورغم أن هذا الوضع يبدو رائعًا عندما ننظر إليه من عصرنا الحالي الذي فيه ينخفض عدد مشاهدي الأخبار وقُرَّاء الصحف، فإن العديد من أوجه القصور في عصر النشرات الإخبارية ينبغي الإشارة إليه. أولًا، فكرة أن التزامات المواطنة يمكن الوفاء بها من خلال مشاهدة نشرةٍ إخباريةٍ تليفزيونيةٍ لمدة نصف ساعةٍ وقراءة الصحف اليومية — بالنسبة إلى مَن يهتم حقًّا — تعد انحدارًا كبيرًا عن توقُّعات الدراسات الاجتماعية والمجادلات بين ليبمان وديوي. فمن غير المرجح أن أيًّا منهما قد رأى مشاهدة نشرات الأخبار المسائية السمة المميزة للمواطن المستنير.

ثانيًا، تكشف استطلاعات الرأي العام أن عصر النشرات الإخبارية لم يساهم كثيرًا في تحسين مستويات المعرفة حول العالم السياسي لدى معظم الأمريكيين؛ فلم يحدث أي تغيير بين خمسينيات القرن العشرين وثمانينيات القرن نفسه في مستويات المعرفة الأساسية حول السياسة، على الرغم من الزيادة الكبيرة في مستويات التعليم والتعرُّض لوسائل الإعلام الإلكترونية (إنتمان ١٩٨٩؛ ديلي كاربيني وكيتر ١٩٩٧).

وكما حدثت تغيرات عميقة في البيئة الإعلامية، والتي نجمت عن الهيمنة المتزايدة للتليفزيون كناقلٍ رئيسٍ لثقافة وسياسة مجتمعنا، حدثت أيضًا تغيرات كبيرة في العلاقة بين الإعلام والسياسة؛ فعلى الرغم من أن نتائج لازارزفيلد والذين جاءوا من بعده أكدت على التأثير «الأقل» للإعلام على السياسة نظرًا لثراء أشكالٍ أخرى من الحياة الترابطية وتنوُّع وجهات النظر في الإعلام الأمريكي، فإن عصر النشرات الإخبارية أدَّى إلى إعادة النظر في هذه النتائج. وكان أحد العناصر البارزة لا سيما في العلاقة بين الإعلام والسياسة ظهورَ الصحفيين التليفزيونيين — خاصةً مقدمي النشرات الليلية — الذين لعبوا دور الوسطاء الرئيسيين بين الارتباك السياسي المتزايد والصاخب والانتباه المحدود والاهتمام الضيق بالسياسة المفترض وجوده لدى معظم الأمريكيين.

وعلى القدر نفسه من الأهمية، يعتمد التدفُّق ذو الخطوتين على اللامبالاة العامة لدى معظم الأمريكيين بالسياسة؛ ومن ثَمَّ عدم اهتمامهم بمتابعة هذه القضايا في وسائل الإعلام واعتمادهم على زملاء العمل الموثوق بهم والأصدقاء وما شابه ذلك. ومع وجود جمهورٍ كبيرٍ يشاهد نشرات الأخبار المسائية كل ليلة، أصبح التليفزيون نفسه مفسرًا للأحداث السياسية حتى لأولئك الذين لا يهتمون إلا في أضيق الحدود.

بدأ الباحثون يرَوْن أن التليفزيون قد لا يغيِّر توجهات الأشخاص وسلوكهم، لكنه قد يمتلك تأثيرًا قويًّا. وعلى وجه التخصيص، حددت مجموعة واسعة من الباحثين اثنين من التأثيرات المهمة للإعلام عبر استخدام مجموعةٍ متنوعةٍ من الأساليب والرؤى النظرية. أولًا، أحد أقوى تأثيرات الإعلام الإلكتروني، وخاصةً النشرات الإخبارية المسائية، هو قدرته على تحديد جدول الأعمال؛ فعلى النقيض من مخاوف النقاد المنتمين إلى اليسار واليمين على حدٍّ سواءٍ والذين اتهموا نشرات الأخبار بالتحيُّز، فليس بوسع تلك النشرات إخبار المشاهد بما ينبغي أن يعتنقه، لكنها تستطيع تشكيل ما يفكر فيه. فإذا هيمنت على نشرات الأخبار المسائية أخبار حول البيئة — على سبيل المثال — فإن هذا لا يغير آراء المشاهدين، لكنه يجعلهم يظنون أن البيئة كانت قضيةً ذات أهميةٍ خاصةٍ في ذلك اليوم (ماك كومبس وشو ١٩٧٢؛ آينجار وكيندر ١٩٨٨).

حدد الباحثون أيضًا «التهيئة المعرفية» كتأثيرٍ بارزٍ آخر للنشرات الإخبارية. فطريقة سرد الصحفيين لقصةٍ إخباريةٍ معينة — سواءٌ أكانوا يركزون على وقائع شخصية، أو إحصائيات عامة، أو دور الحكومة، وما شابه ذلك — لها تأثير كبير على كيفية تقييم المشاهدين لهذه القضية المحددة ومَن المسئول فيها. فعلى سبيل المثال، إذا عرض الصحفيون صورًا لمبنى الكابيتول أو البيت الأبيض في أخبارٍ عن المشكلات الاقتصادية، فسيرغب المشاهدون على الأرجح في تحميل المسئولين السياسيين مسئولية خلق المشكلة ووضع الحلول. من ناحيةٍ أخرى، عرضُ الأخبار نفسها عن الضائقة الاقتصادية من خلال نقل الإحصائيات الوطنية والتركيز على محنة الأفراد والشركات؛ يهيئ المشاهدين لرؤية المشكلة كجزءٍ من الدورة الاقتصادية الحتمية، والابتعاد عن تحميل المسئولين الحكوميين المسئولية (آينجار ١٩٩٤).

هذا النوع من الدراسات يُبرز تأثيراتٍ مهمةً أخرى لصعود التليفزيون وتحوُّله إلى الوسيلة الإعلامية المهيمنة في القرن العشرين في أمريكا. ومع احتلال التليفزيون لهذه المكانة، تبرز بطبيعة الحال الدعاية السياسية بوصفها جانبًا مهمًّا في الحملات الانتخابية الحديثة. وينبغي النظر إلى تأثيرات إعلانات الحملات الانتخابية عبر عدسة الأفكار الأصلية التي توصَّل إليها لازارزفيلد وزملاؤه؛ فالأخبار (عندما تُشاهَد) يُنظر إليها كجزءٍ من الالتزام العام للمواطن ويُنظر إليها على أنها نوع من التواصل السياسي. ولكن هذا أبعد ما يكون عن الواقع في حالة إعلانات الحملة الانتخابية (جاميسون ١٩٩٣). ففي هذه الحالة، يتفرج المشاهد على حصته المعتادة من البرامج الترفيهية، ولا يفكر في السياسة على الإطلاق، عندما يتعرَّض لإعلانات الحملة. وكما تشير الأبحاث المسحية، فإن المُشاهد غير المكترث — مثل الشخص الذي وصفناه للتوِّ — هو الأكثر قابليةً للاقتناع.

الإعلانات السياسية — على الرغم من خضوعها لفحصٍ دقيقٍ لا ينتهي من قِبل النقاد السياسيين وغيرهم من مدمني السياسة — تستهدف في الواقع وفي المقام الأول هذا الجمهور غير المكترث الذي لا يستخدم منظوره النقدي عندما تُعرض عليه هذه الإعلانات. وبالإضافة إلى ذلك، وتوافقًا مع الاستنتاج القائل بأن الانتخابات لا تتمحور حول تغيير آراء الأشخاص (وهو ما لا يحدث أبدًا تقريبًا)، فإن هدف الإعلانات السلبية ليس إقناع الديمقراطي المتحمس بالتصويت للحزب الجمهوري، بل زيادة الشك الذي قد يمتلكه المرء حيال مرشح حزبه؛ ومن ثَمَّ تقليل احتمالية ذهاب أحد الناخبين للتصويت يوم الانتخابات (أنسولابهير وآينجار ١٩٩٥).

باختصار، يخلص البحث الذي أجراه باحثو الإعلام خلال النصف الأخير من القرن العشرين إلى أن الانتخابات — وبالتبعية الكثير من جوانب الحياة السياسية الديمقراطية — لا تتمحور حول التقييم الدقيق للأفكار واتخاذ خياراتٍ منطقية. في الوقت نفسه، واجه هذا الفرع البحثي الأحدث دور التليفزيون المتنامي في جميع جوانب الحياة؛ فهذه البيئة الإعلامية الجديدة قوضت الافتراض الأساسي لباحثين مثل لازارزفيلد الزاعم بوجود فارقٍ واضحٍ بين المعلومات السياسية المنقولة، على شاشة التليفزيون مثلًا، والحياة الواقعية؛ مما يعني أن العديد من الآثار الواقعة على السياسة نتيجةً لأشكال التواصل غير المنقول (المباشرة) — العلاقات الشخصية والتعليم والكنيسة وما إلى ذلك — احتلت مكانها أجزاء مختلفة من المشهد الإعلامي نفسه.

تتردد أصداء تحذيرات ليبمان حول أوجه القصور التي يعاني منها الصحفيون والنشرات الإخبارية في كتاب «خارج الخدمة» للمؤلف توماس باترسون (١٩٩٣). ويقدم الكتاب تحليلًا لدور الصحفيين في تغطية الحملات السياسية اليوم. وعلى غرار ليبمان، تساءل باترسون عما إذا كانت الأخبار يمكن أن تلبِّي حقًّا احتياجات الناخبين. ويشير إلى أن الأطر — أو وجهات النظر — السائدة المستخدمة من قِبل الصحفيين في تغطية الانتخابات تركز على إظهار أيٌّ من المرشحين متقدم، وأيُّهم متخلف، وعرض الاستراتيجيات التي تستخدمها الحملات لجذب الناخبين؛ ما يوصف غالبًا بأنه تغطية أشبه بتغطية «سباق الخيول». في المقابل، ما يحتاجه الناخبون هو معلوماتٌ ورؤًى حول ما سيفعله المرشحون في حال انتخابهم؛ وهو ما سمَّاه باترسون «إطار الحكم».8

إذا ألقينا نظرة أعمق، فسنجد تأثيراتٍ أخرى أعقد — رغم أنها أقل وضوحًا — لعصر التليفزيون على السياسة؛ فعلى سبيل المثال، كما أشار نيل بوستمان (١٩٨٥)، أدَّت نشأة نظام إعلام تجاري تُموِّله الإعلانات إلى تأثيراتٍ مهمةٍ على طريقة تواصلنا فيما يخص السياسة. ونظرًا لأن التليفزيون وسيلة إعلامية تعرض حلقاتٍ مختصرةً تتناول مشكلات حُلت عن طريق حلولٍ بسيطة، فإنه أثَّر على درجة فهم العالم السياسي من خلال تشجيع وإلزام السياسيين بتقديم تعريفات للمشكلة وحلول سهلة الفهم لها رغم كونها مفرطة في التبسيط، إلى جانب زيادة نفاد صبر العامة على المناقشات الطويلة للمشكلات والاعتراف بصعوبة حلها.

كما أشرنا في الفصل الثاني، لا يتحمل التليفزيون فحسب كوسيلةٍ تكنولوجيةٍ مسئوليةَ هذه النتيجة، ولكن يتحملها أيضًا نظام المِلْكية الخاصة الذي أقره الكونجرس في ثلاثينيات القرن العشرين؛ فهذا هو القرار الذي سمح باستغلال موجات الأثير من قِبل المؤسسات الإعلامية الخاصة التي تعتمد في المقام الأول على الإعلانات بغية جنْي الأرباح. وفي الواقع، ففي الوقت الذي قد ننتقد السياسيين بشدةٍ على تبعيتهم لأولئك الذين يتبرعون بالمال لحملاتهم الانتخابية، تجدر الإشارة إلى أن السبب الرئيسي لتطلُّب الحملات الانتخابية كثيرًا من المال هو الحاجة إلى إنتاج إعلانات الحملة وشراء مساحةٍ من الوقت على القنوات من أجل بثها.

في المقابل، فإن شراء وقتٍ لعرض إعلانات الحملة يعد مصدرًا رئيسيًّا للدخل لدى المحطات التليفزيونية والإذاعية التي تبثها. ولعل هذا يفسر سبب قلة اهتمام وسائل الإعلام بهذا الأسلوب، أو العلاج الكلي للمشكلة، المعتمَد في كثيرٍ من الأنظمة الديمقراطية الغربية الأخرى والذي يقضي بتوفير فرصةٍ مجانيةٍ وعادلةٍ لاستخدام موجات الأثير لجميع المرشحين. على أقل تقدير، يؤكد ذلك على وجهة نظر الدراسات الإعلامية التي لا تعزو سلوك السياسيين إلى أي زيادةٍ في الفساد أو الجشع الشخصي، وإنما إلى الهيكل السياسي والاقتصادي للإعلام.

أخيرًا، وعلى مستوًى أعمق، أشار بعض الباحثين، مثل روبرت بوتنام (٢٠٠٠)، إلى أن الكم الهائل من الوقت الذي يقضيه الأمريكيون في مشاهدة التليفزيون في منازلهم قد أثَّر سلبًا على الوقت المتاح لدى معظم الناس للمشاركة في أنشطة الحياة المدنية في مجتمعاتهم ورغبتهم في القيام بذلك.

(٣) السياسة في بيئة الإعلام الجديدة

إن الأفكار الكاشفة التي توصلت إليها الأبحاث في مجال الإعلام على مدار ستين سنة لها قيمة خاصة بينما يحاول المواطنون تطوير فهمٍ دقيقٍ للعلاقة بين الإعلام والسياسة في القرن الحادي والعشرين؛ فمفاهيم مثل «التدفق ذي الخطوتين»، و«تحديد جدول الأعمال»، و«الجمهور المكترث مقابل الجمهور غير المكترث»؛ لا تزال مفيدة. ولكن كما حدث في الماضي (على سبيل المثال، التغيرات الناجمة عن هيمنة التليفزيون في منتصف القرن العشرين)، لا بد من إعادة النظر في هذه الأفكار في ضوء التغيرات الكبيرة في البيئة الإعلامية على مدى العقدين الماضيين. وثَمَّةَ نهج متأصل في الدراسات الإعلامية يُذكِّرنا بأن نحذر من التفسيرات المطروحة للمشكلات السياسية الراهنة التي تعتمد على تغيراتٍ مفترضةٍ في السمات الأخلاقية أو القدرات الفكرية لدى المواطنين أو السياسيين. بدلًا من ذلك، فلنسلط الضوء على التغيرات في البيئة الإعلامية التي يمكن أن تفسر المشكلات الحالية على نحوٍ أفضل.

أحد الأمثلة العامة في هذا السياق هو المناقشات الدائرة حول الصراع المتزايد والحزبية المتنامية في النقاش السياسي في الولايات المتحدة؛ إذ ينتقد العديد من الشخصيات العامة الطريقة التي يُعرِّف بها كثير من الأمريكيين أنفسهم بأنهم «أمريكيون ذوو أصولٍ غير أمريكية»، بدلًا من مجرد «أمريكيين». ويدعونا آخرون إلى تجاوز الصراع السياسي القاسي من أجل خلق عالم سياسي يتخطى الحزبية ويسمح للنخب والمواطنين العاديين بالعمل معًا من أجل الصالح العام. ومع ذلك، نادرًا ما تعترف تلك النقاشات بالتغييرات العميقة في النظام الإعلامي، وهي التي لعبت دورًا مهمًّا في هذه التطوُّرات السياسية. وفي حين يواصل قادتنا السياسيون البحث عن مبادئ موحدة للجمهور الأمريكي، كما رأينا في الفصل الثاني، فإن بنية النظام الإعلامي قسمت جمهور الإعلام، ومن ثَمَّ أيضًا قسمت النظام السياسي.9

كان للزيادة المفاجئة الكبيرة في عدد القنوات الإعلامية التي تمر المعلومات السياسية منها، والتي ناقشناها في الفصول السابقة، أثر أكثر تحديدًا على النتائج التي توصل إليها دارسو الإعلام حول دور التليفزيون في الديمقراطية الأمريكية. فبينما تنكمش أعداد جماهير نشرات الأخبار المسائية ويتقدمون في العمر، تنخفض أيضًا قدرة الشبكات على تحديد جدول أعمال المشاهد. فإذا كان عدد أقل من الأمريكيين يتوجهون إلى هذه المصادر الثلاثة للحصول على المعلومات السياسية، فإن قدرتها على تحديد ما يفكر فيه الناس تنخفض أيضًا.

ويلقي العديد من الأمثلة الضوء على الطرق التي تتحدى بها شبكة الإنترنت المعتقدات الأساسية لعصر النشرات الإخبارية؛ ففي العديد من القضايا البارزة، تمكَّن المدونون من جذب اهتمام الجمهور لمسائل أغفلها الصحفيون المحترفون؛ مما دفع المصادر الإخبارية الرئيسية في نهاية المطاف إلى إحياء تلك القضايا؛ ومن ثَمَّ تعدَّوُا أحد أكثر الأدوار أهميةً للصحفيين المحترفين؛ وهو القدرة على تحديد جدول الأعمال.

المثال الأول على ذلك هو مدونة جوشوا مارشال «توكينج بوينت ميمو» التي لعبت دورًا مهمًّا في منع السيناتور الجمهوري آنذاك ترنت لوت من أن يصبح زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ عام ٢٠٠٣.10 ففي حفل عيد الميلاد المائة لسيناتور ساوث كارولينا العجوز ستروم ثورموند، عبَّر لوت (مازحًا، كما أصر) عن دعمه لقرار السيناتور عام ١٩٤٨ بالترشح للرئاسة ممثلًا الحزب العنصري الثالث المنفصل عن الحزب الديمقراطي آنذاك. وبينما غطى صحفيو وسائل الإعلام الرئيسية الخبر على نحوٍ مختصر، بدأت القصة في الاختفاء من الأخبار. وكما أشار مارشال نفسه: «إنه خبر من المنطقي أن تغفله الصحف الرئيسية في العاصمة … فحسب طريقة عمل الصحافة اليومية يمنح الخبر فترة اختبار ٢٤ ساعة لمعرفة ما إذا كان سيستمر في إثارة الاهتمام، وإن لم يحدث ذلك، يُحذف من الأخبار ببساطة» (مقتبسة في بيركمان ٢٠٠٢). ومع ذلك، وانعكاسًا لانهيار قدرة الصحفيين المحترفين والنخب السياسية على تحديد جدول الأعمال في بيئة الإعلام الجديدة، كان مارشال وجمهوره من النشطاء السياسيين الليبراليين قادرين على إبقاء مسألة لوت على قيد الحياة، فارضين عودتها إلى الأخبار وجداول الأعمال السياسية.

وفي انتخابات عام ٢٠٠٤، لعب المدونون اليمينيون دورًا كبيرًا في تركيز انتباه الرأي العام على الممارسات المشكوك فيها لشبكة «سي بي إس نيوز» عبر التحقُّق مما إذا كانت الوثائق التي استخدمتها لإظهار أن الرئيس جورج دبليو بوش تملَّص من تأدية الخدمة العسكرية في سلاح الجو الاحتياطي خلال حرب فيتنام؛ حقيقيةً أم لا. وهنا تمكنت المدونات من التدخُّل في دور التهيئة المعرفية الذي يلعبه الصحفيون حسب المعتقد الرسمي؛ فقد نجحت في تحويل المعايير المستخدمة للحكم على القضية من صحة الادعاءات نفسها إلى السؤال الأكثر تحديدًا عما إذا كانت الوثائق المحددة حقيقية أم مزوَّرة. وفي أحدث المناقشات بشأن قانون إصلاح الرعاية الصحية أو حتى جنسية الرئيس أوباما، أصبح المدونون جزءًا من التكوين الأساسي للتغطية الإخبارية الرئيسية. وحتى عندما فند الصحفيون ببساطةٍ الادعاءات الواضحة الكذب التي طرحها المدونون (على سبيل المثال، ادعاءات كاذبة حول وجود «لجان موت» تديرها الحكومة في قانون الرعاية الصحية، أو أن الرئيس وُلد في كينيا)، يمكن أن تؤدي هذه التغطية إلى زيادة وعي الجمهور بهذه الادعاءات.

وتوفر مجموعات الدردشة والمناقشات على الإنترنت أماكن جديدة للمواطنين لمناقشة القضايا العامة مباشرة. وتمثل مواقع الويب الدولية و/أو غير التابعة لوسائل الإعلام الرئيسية مصادرَ بديلةً للمعلومات والرأي؛ مما يشكل تحديًا لوظيفة تحديد جدول الأعمال ووظيفة حراسة البوابات الإعلامية الرئيسية لوسائل الإعلام التقليدية. فتَستخدم الشبكات الخاصة بالنشطاء السياسيين والاجتماعيين شبكة الإنترنت من أجل زيادة المعارضة في العالم الافتراضي والحقيقي للنخب السياسية التقليدية أو خلق مساحاتٍ بديلةٍ لمناقشة القضايا التي تجاهلتها وسائل الإعلام الرئيسية والنخب.11 وهكذا أصبح المرشحون والمتحدثون الهامشيون قادرين على الدخول في النقاش العام بل وتشكيله إلى حدٍّ كان مستحيلًا في الفترات السابقة. ويستطيع المواطنون الوصول إلى معلوماتٍ حول الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مباشرة، متجاوزين العديد من حراس البوابات الإعلامية التقليديين.

وفي الوقت الذي تناقصت فيه قدرة الشبكات الإخبارية على تحديد جدول الأعمال يومًا بعد يوم، أصبحت اللحظات التي تركز فيها وسائل الإعلام المختلفة على قضية محددة وتصنع حدثًا إعلاميًّا وتحدد من ثَمَّ جدول الأعمال؛ أكثرَ أهمية. وتمثل «الأحداث الإعلامية» مثل تلك التي تحيط بأحداث الحادي عشر من سبتمبر أو إعصار كاترينا أمثلة قوية على استمرار قدرة وسائل الإعلام على تحديد جدول الأعمال، مركزةً الاهتمام العام على قضيةٍ واحدةٍ بطرقٍ لم تعد تستطيع اتباعها على أساسٍ يومي. وكما أشار دانيال ديان وإليهو كاتز (١٩٩٢)، يمكن أيضًا أن يكون للأحداث الإعلامية وظيفة إنسانية أكثر أساسية، بوصفها طقوسًا عامة للحزن والحداد والمصالحة. ومن أمثلة الأحداث الإعلامية السابقة التي لعبت هذا الدور اغتيال جون إف كينيدي ووفاة الأميرة ديانا وفقدان مكوكَي الفضاء. تلك التجارب العامة المنقولة تستخدم المعتقدات الأساسية المشتركة التي يمكن أن توحد شرائح المجتمع التي تبدو مختلفة. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام المتنوعة قد تغطي هذه الأحداث بطرقٍ مختلفةٍ إلى حدٍّ ما، فإن الافتراضات الأساسية حول جدول الأعمال العام تصبح «مشتركة» لدى كلٍّ من وسائل الإعلام والجماهير.

من الواضح أن كثيرًا من التغطية الإعلامية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر — ورد فعل الجمهور عليها — كان متوافقًا مع مفهوم الأحداث الإعلامية كطقوسٍ عامةٍ الذي قدَّمه ديان وكاتز (١٩٩٢). لكن الهجمات الإرهابية أيضًا تسببت في أزمةٍ سياسيةٍ أثارت تساؤلاتٍ عميقةً والكثير من الجدل حول دور الولايات المتحدة في العالم والرد الأنسب على هذه الهجمات. وعلى هذا النحو، كان للتغطية الإعلامية أيضًا العديد من العناصر التي تخلق تعريفًا مختلفًا ﻟ «الحدث الإعلامي» الذي قدَّمه الباحث في مجال الإعلام جون فيسك (١٩٩٤).

بدلًا من طقوس المصالحة، يشير فيسك إلى أن بعض الأحداث الإعلامية يمكن أن توفر فرصًا ﻟ «الجماهير» المهمشة للدخول في النقاشات الرئيسية؛ مما يشكل تحديًا للتفسيرات المهيمنة أو الموحدة التي تسيطر عادةً على الآراء في القضايا السياسية والاجتماعية. وكأمثلةٍ على هذه الأحداث الإعلامية، يشير فيسك إلى الطريقة التي أثارت بها محاكمة أوه جيه سيمبسون أو جلسات الاستماع في قضية كلارنس توماس أنيتا هيل قضايا أوسعَ نطاقًا حيال العرق والجنس. ورأينا في الفصل الأول أن إعصار كاترينا أثار حوارًا عامًّا استثنائيًّا إلى حدٍّ كبيرٍ إزاء محنة الفقراء الأمريكيين من أصلٍ أفريقي.

عمومًا، تساعدنا الدراسات الإعلامية على فهم أن ما قد تغير على مر الزمن ليس صفات المواطنين أو السياسيين، وإنما أساسيات البيئة الإعلامية التي نعرف من خلالها المعلومات السياسية (بريور ٢٠٠٧). هذا المنظور يوضح أهمية تقييم إمكانات ومخاطر البيئة الإعلامية الجديدة عند معالجة الأسئلة الدائمة حول الإعلام والديمقراطية. وتذكر أن هذه الأسئلة تعود إلى مطلع القرن العشرين وظهور وسائل الإعلام:
  • ما الآثار المترتبة على السياسة الديمقراطية في تفاعل وسائل الإعلام الجديدة والزيادة الناتجة في قدرة المواطنين على إنتاج النصوص السياسية (وليس تلقيها فحسب)؟

  • ما الذي يعنيه تقسيم الإعلام واستهدافه بالنسبة إلى قدرة المواطنين على تجاهل السياسة؟

  • هل بيئة الإعلام الجديدة ستُبقي الاهتمام حول الانتخابات فحسب، كما كان ليبمان يريد؟

  • ماذا تقدم بالضبط من أجل المشاركة الفعلية في العملية السياسية؟

(٤) خاتمة

في نهاية المطاف، يتطلب فهم الطرق التي تُعزِّز بها البيئةُ الإعلامية المتغيرة — أو لا تعزز — الديمقراطيةَ تعريفًا موسعًا ﻟ «المواطنة»؛ فالحدود الفاصلة بين النخب السياسية والثقافية والاقتصادية، بين منتجي المعلومات ومستهلكيها، وحتى بين النخب و«الجماهير»؛ تصبح أقل وضوحًا؛ ونتيجةً لذلك، لا بد من توسيع مفاهيم المسئولية الصحفية التي تمثل أساس النماذج الإعلامية والسياسية التقليدية كي تشمل الأفراد والمؤسسات الأخرى التي تؤثر على النصوص الإعلامية ذات الصلة بالسياسة. وبالمثل، يجب توسيع مفاهيم مسئولية المواطن التي تُطبَّق على عامة الناس لتُطبَّق أيضًا على النخب السياسية والثقافية والاقتصادية التقليدية؛ أي على أي فردٍ أو منظمةٍ يمكنها الوصول إلى منبرٍ إعلاميٍّ في نطاقنا العام الموسَّع.

وأخيرًا، تشبه القضايا التي تثيرها البيئة الإعلامية المتغيرة القضايا التي شكَّلت أساس الجدل بين جون ديوي ووالتر ليبمان منذ ما يقرب من قرنٍ من الزمان؛ ففي جوهر هذا النقاش تكمن مسألة أوجُه القصور لدى الجمهور؛ «الجمهور ومشكلاته» كما أطلق عليها ديوي (١٩٢٧). وبينما تتقلص وظيفة الصحفيين كحراسٍ موثوقٍ فيهم للبوابات الإعلامية، يعتمد المواطنون على أنفسهم في تفحُّص وجهات النظر المتنافسة والمصادر المتعددة للمعلومات السياسية. ولهذا، فإن قدرات الجمهور النقدية واهتماماته — المعرفة الإعلامية الأساسية — تصبح مرةً أخرى مشكلة رئيسية في الحياة الديمقراطية. وبالتأكيد فإن أحد الأهداف الأساسية من الدراسات الإعلامية هو توفير إطارٍ لتعريف المعرفة الإعلامية الأساسية، والتي تعد الآن على الأقل بنفس أهمية معرفة القراءة والكتابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤