تأثير إسبرطة
وحدث إبان القرن الثامن قبل الميلاد أن غزا الإسبرطيون بلاد مسينيا المجاورة، وأنزلوا سكانها منزلة المماليك، وبعد أن كانت إسبرطة قبل هذا الغزو تشكو ضيقًا بسكانها، جاءت هذه البلاد الجديدة، فأفرجت — مدى حين — تلك الضائقة.
كانت الإقطاعيات الزراعية من نصيب عامة الإسبرطيين، أما العلية فكانت لهم ضيعاتهم؛ إذ الإقطاعيات كانت أقسامًا من الأرض العامة توزعها الدولة على أبنائها.
ولم يكن للسكان الأحرار في الأجزاء الأخرى من لاكونيا نصيب في السلطة السياسية.
إن المواطن من الإسبرطيين له عمل واحد، وهو الحرب، التي كان يُعَد لها منذ ولادته؛ ذلك لأن رؤساء القبيلة كانوا يفحصون المواليد، ليُلقوا في العراء بمن كانت به علة منهم ولا يُسمح بالبقاء إلا لمن يرَونه قويًّا، وكان الصبيان كلهم يربَّون معًا في مدرسةٍ واحدة كبيرة حتى سن العشرين، وهدف التربية عندهم هو أن تجعل منهم رجالًا أقوياء لا يأبهون للألم، ويخضعون؛ لأن هدفهم الوحيد هو أن يخرجوا جنودًا صالحين، كرَّسوا أنفسهم للدولة دون سواها.
وتبدأ الخدمة العسكرية الحقيقية في سن العشرين؛ وكان يسمح بالزواج لكل من جاوز العشرين، على شرط أن يظل الرجل حتى سن الثلاثين في «بيت الرجال» وأن يتصل بزوجته في خفاء كأنما الأمر بينهما سر أو خروج على القانون، أما بعد الثلاثين فهو مواطن كامل، وكل مواطنٍ يكون عضوًا في جماعةٍ مشتركة في العيش، يأكل طعامه مع سائر الأعضاء، وكان عليه أن يُسهم بشيءٍ من محصول إقطاعيته، ونظرية الدولة في ذلك هي ألَّا يكون مواطن إسبرطي ذا مسغبة، وألَّا يكون منهم أحدٌ ذا ثراء؛ فكان الفرض في كل مواطن أن يعيش على إقطاعيته، وما تُنتجه له، ولم يكن من حقه أن يتنازل عن إقطاعيته إلا بطريقة المنحة الحرة، ولم يكن كذلك يُسمح لأحدٍ أن يملك ذهبًا أو فضة، وكان المال يُصنع من حديدٍ حتى لقد ذهبت الأمثال ببساطة العيش عند الإسبرطيين.
ومنزلة المرأة في إسبرطة فريدة في نوعها؛ فلم تكن معزولةً كما كانت الحال مع النساء المحترمات في سائر أجزاء اليونان، بل كانت الفتيات تجتزن نفس مراحل التدريب البدني التي كان يجتازها الفتيان، بل أعجب من ذلك أن الفتيان والفتيات كانوا يقومون معًا بتمريناتهم الرياضية، وهم جميعًا عرايا الأجساد؛ فقد كانت الغاية المنشودة هي (وهنا أقتبس النص من كتاب «ليكرجوس» لبلوتار، في ترجمة «نورث»):
«أن يقوي العذارى أجسادهن بتمرينات العَدْو والمصارعة ورمي القصبة والقذف بالرمح، والقصد من ذلك هو أن يُتاح للأَجِنة التي سيحملنها بعدئذٍ أن تستمد غذاءها من جسدٍ قوي شهواني فيكونون أفضل أبدانًا، طولًا وتناسبًا، وكذلك إذا ما أكسبن أجسادهن قوةً بهذه التمرينات الرياضية، سهل عليهن أن يقاومن آلام الوضع … وعلى الرغم من أن العذارى كن يبدون عاريات، لم يقع أحدٌ على خيانة، بل كان كل هذا اللعب مليئًا بالمرح واللهو، دون أن يشوبه شيء من رعونة الشباب.»
والرجال الذين يأبَون الزواج عندهم، «يصمهم القانون بوصمة العار»؛ ويُلزَمون — حتى في أقصى الأجواء برودة — أن يروحوا ويغدوا بأجسادٍ عارية خارج المكان الذي كان الشبان يؤدُّون فيه تمريناتهم ورقصاتهم.
ولم يكن يُسمح للنساء أن تُبدي أية عاطفة ممَّا عسى ألَّا يعود بنفع للدولة؛ فلهن أن يعبِّرن عن ازدرائهن للجبان — ويُشكَرن على ذلك لو كان المزدرَى وليدهن — لكن لم يكن لهن أن يُظهرن حزنًا إذا حُكم بالموت على من يلدن إذا ما تبيَّن أنه وليد ضعيف، أو إذا قُتل لهن ابن في الحروب، وكان سائر اليونان يعتبرون النساء الإسبرطيات نادرات في عفافهن، لكن هذا العفاف فيهن لا ينفي أن المتزوجة العاقر لا ينبغي لها أن تعترض إذا أمرتها الدولة أن تجرب رجلًا آخر غير زوجها، لعلها تلد للدولة أبناءً؛ فالتشريع عندهم يقضي بتشجيع النسل، ويروي عنهم أرسطو أن الوالد لثلاثة أبناء يُعفى من الخدمة العسكرية، ووالد الأربعة يُعفى من كل ما تقتضيه الدولة من واجبات.
كان دستور إسبرطة مُعقدًا؛ إذ كان بها ملكان ينتميان إلى أسرتين مختلفتين، وكلاهما يتولى الملك بالوراثة، وكان أحدهما — كما اتفق — يتولى قيادة الجيش إبان الحرب، أمَّا في وقت السلم فكان لسلطانهما حدود، وفي المآدب الجماعية كانا يظفران بضعف الطعام الذي يظفر به أي إنسانٍ آخر، وإذا مات أحدهما أعلن حداد عام؛ وكانا عضوين في «مجلس الشيوخ»، وهو مجلس يتألف من ثلاثين عضوًا (منهم الملكان)، ويُشترط في الثمانية والعشرين عضوًا الباقين أن يكونوا فوق الستين، وكانوا يُنتخبون مدى الحياة من كافة المواطنين، على أن يقع الانتخاب على أبناء الطبقة الأرستقراطية وحدهم؛ وكان هذا المجلس يتولى المحاكمة في القضايا الجنائية، ويُعِد الأمور التي كان يُراد عرضها على «الجمعية العامة»، والجمعية العامة هذه قوامها المواطنون جميعًا، ولم يكن من حقها المبادأة بأي شيء، بل كانت تقتصر على قولها نعم أو لا عن أي اقتراحٍ يقدَّم لها، وبغير موافقتها لا يتم لقانونٍ صدور، لكن موافقتها هذه — وإن تكن ضرورية — فهي ليست وحدها كافية، إذ لا بُدَّ للشيوخ وللقضاة أن يعلنوا القرار قبل أن يصبح ساري المفعول.
وكان المفروض أن الدستور الإسبرطي في العصور المتأخرة من الزمان القديم، يرجع إلى مشرعٍ يُدعى «ليكرجوس» قيل إنه أذاع قوانينه سنة ٨٨٥ق.م. والواقع أن النظام الإسبرطي قد نما بالتدريج شيئًا فشيئًا، وما «ليكرجوس» هذا إلا شخص أسطوري، أصله إله، واسمه معناه «طارد الذئاب»، وهو يرجع في نسبه إلى أصلٍ أركادي.
لقد أثارت إسبرطة بين سائر اليونان إعجابًا يدهشنا نحن اليوم بعض الشيء؛ ففي بداية الأمر كانت إسبرطة أقل اختلافًا عن سائر البلدان اليونانية ممَّا صارت إليه فيما بعد؛ ففي الأزمان الأولى كانت تنجب من الشعراء والفنانين من تضارع بهم غيرها من البلاد، أما حول القرن السابع قبل الميلاد — أو قبل ذلك التاريخ — فقد تبلور دستورها (الذي يعزى خطأً إلى ليكرجوس) على الصورة التي أسلفناها، فكل شيء فيها كان ضحية النصر في الحروب، ولم تعد إسبرطة تُسهم بأي نصيبٍ فيما أضافته اليونان إلى المدنية الإنسانية؛ فنحن اليوم نرى في إسبرطة نموذجًا مصغَّرًا للدولة التي كان النازيون لَيقيمونها لو ظفروا بالنصر، أمَّا اليونان قرءوا فيها شيئًا آخر، فكما يقول «بيوري»:
ومن الأسباب التي دعت سائر اليونان إلى الإعجاب بإسبرطة، استقرارها؛ فالمدن اليونانية الأخرى كلها تعرَّضت للثورات، على حين ظل الدستور الإسبرطي بمنجاةٍ من التغيُّر مدى قرون، اللهم إلا زيادة تدريجية طرأت على سلطة الرقباء، وقد جاءت هذه الزيادة بوسائل قانونية وبغير انقلابٍ عنيف.
ولسنا نُنكر أن الإسبرطيين قد نجحوا أمدًا طويلًا في غرضهم الرئيسي، وهو خلق فصيلة من المحاربين لا تجوز عليهم هزيمةٌ في قتال، ولعل معركة «ثرموبيلي» (٤٨٠ق.م.) أن تكون خير مثل لشجاعتهم على الرغم من أنها هزيمة من الوجهة الفنية؛ فثرموبيلي ممر ضيق بين الجبال، أُريد لجيش الفرس أن يتجمَّع فيه، فصد ثلاثمائة إسبرطي مع توابعهم كل الهجمات الأمامية، وأخيرًا كشف الفرس عن طريقٍ أطول يمتد خلال التلال، ونجحوا في مهاجمة اليونان من الجانبين معًا، فقُتل كل إسبرطي وهو في مكانه، إلا رجلَين كانا غائبين في إجازةٍ مرضية؛ لأنهما يشكوان من علةٍ في أعينهما تكاد تبلغ بهم حد العمى، فأصر أحدهما أن يحمله مملوكه إلى ميدان القتال، حيث لقي حتفه، أمَّا الآخر — وهو أرستوديموس — فقد قرَّر أنه أضعف بالمرض من أن يقاتل، ولم يعد إلى القتال، فلمَّا عاد إلى إسبرطة، لم يتحدَّث إليه إنسان، وأطلقوا عليه «أرستوديموس الجبان» لكنه بعد عامٍ واحد، محا عن نفسه هذا العار بموته باسلًا في موقعة «بلاتي» التي انتصر فيها الإسبرطيون.
وبعد الحرب أقام الإسبرطيون نُصبًا تذكاريًّا في مكان القتال في ثرموبيلي كتبوا عليه: «أيها القادم الغريب، أنبئ أهل «لاكيديمون» أننا نرقد ها هنا طاعةً لأوامرهم.»
دلَّ الإسبرطيون مدى أمد طويل على أنهم لا يُقهرون في البَر، ولبثوا محتفظين بسيادتهم حتى عام ٣٧١ق.م. وعندئذٍ هزمهم أهل طيبة في واقعة «لوكنزا»، فكانت هذه ختامًا لعظمتهم الحربية.
وإذا غضضنا النظر عن الحرب، فإن إسبرطة في حقيقة أمرها لم تكن قط كما ظُن بها من الوجهة النظرية، فترى هيرودوت الذي عاش في فترة مجدها، يلاحظ في دهشةٍ أنه لم يكن بين الإسبرطيين شخص واحد يمتنع عن الرشوة، على الرغم من أن ازدراء الثروة وحب الحياة البسيطة كانا من الأركان الأساسية التي تعمل التربية الإسبرطية على بنيانها، ويقال لنا إن النساء الإسبرطيات كن عفيفات، ومع ذلك حدث عدة مرات أن وارثًا معروفًا للملك، قد تخلَّى عن عرشه على أساس أنه لم يكن ابنًا لزوج أمه، ثم يقال لنا إن الإسبرطيين كانوا ذوي وطنية لا تعرف هوادة، ومع ذلك انتهى الملك «بوسانياس» الذي انتصر في واقعة «بلاتي» بخيانةٍ وطنية؛ إذ قبل الرشوة من إكزرسيس، فلو ضربنا صفحًا عن أمثال هذه الأمثلة البارزة، ألفينا السياسة الإسبرطية دائمًا ضيقة النطاق إقليمية النظرة، فلمَّا حرَّر الأثينيون يونان آسيا الصغرى والجزر المجاورة من رِبقة الفرس، كفَّت إسبرطة يدها، فما دامت أرض بلوبينوس نفسها بمأمنٍ من الخطر لم يكن ما يُصيب اليونان الآخرين بذي خطر عندهم، وهذه النظرة الجزئية من إسبرطة، هي التي وقفت حجر عثرة في سبيل كل محاولةٍ ترمي إلى تحالفٍ فدرائي من أجزاء العالم الهليني.
ويمضي في حديثه فيَتَّهم الإسبرطيين بالجشع الذي يعلِّله بعدم المساواة في توزيع الثروة، فعلى الرغم من أن الإقطاعيات لا يجوز بيعها، فإنه من الممكن — كما يقول — أن توهب أو يوصى بمن يرثها؛ ثم يضيف إلى ذلك قوله إن خمسي الأرض كلها ملك للنساء، ونتيجة ذلك قلة عظيمة في عدة المواطنين، فيقال إن المواطنين قد بلغوا يومًا عشرة آلاف، لكنهم عند هزيمة أهل طيبة لهم، كانوا أقل من ألفٍ واحد.
إن أرسطو يتوجه بنقده إلى كل نقطة في الدستور الإسبرطي، فيقول إن الرقباء غالبًا ما يكونون فقراء جدًّا، ومن ثَم تسهل رشوتهم، وإنهم يبلغون من النفوذ حدًّا يُغري الملوك أنفسهم بالتودد إليهم، حتى لقد انقلب الدستور ديمقراطيًّا صرفًا، ويقال إن الرقباء قد أسرفوا في إباحيتهم وعاشوا على نحوٍ ينافي روح الدستور، على حين ترى التزمُّت بالنسبة للمواطنين العاديين قد بلغ حدًّا لا يطاق، بحيث يضطرون اضطرارًا أن يُنفِّسوا عن أنفسهم بمتعةٍ حسية سرية لا يُقرُّها القانون.
كتب أرسطو ما كتبه حين كانت إسبرطة في طريق الانحلال، لكنه نوَّه عن بعض النقط تنويهًا صريحًا، بأن الفساد الذي يذكره عنها قد كان فيها منذ العصور القديمة، ومن العسير علينا ألا نصدقه؛ لأن نغمة حديثه فيها جفاف وواقعية، وهي تتفق مع ما يلقاه الناس اليوم في خبرتهم بما يترتب على الإفراط في قسوة القانون، لكن صورة إسبرطة التي احتفظ بها الناس في خيالهم ليست هي الصورة التي رسمها عنها أرسطو، بل هي الصورة الأسطورية التي رسمها بلوتارك، وهي كذلك الصورة التي أضفت عليها الفلسفة كمالًا في جمهورية أفلاطون، وتعاقبت القرون، والشبان يقرءون هذه المؤلفات، فيلهيهم الطموح أن يكونوا أشباهًا لليكرجوس، أعني أن يكونوا «ملوكًا حكماء»، فما أكثر ما ضل الإنسان حين أراد أن يوحد في نفسه المثالية وحب القوة في آنٍ معًا، وما تزال رغبته في توحيد هذين الجانبين تبعد به عن جادَّة الطريق.
إن بلوتارك هو الذي حدَّد معالم الصورة الكاذبة عن إسبرطة للقراء في العصور الوسطى والحديثة، فقد كانت إسبرطة — حين كتب بلوتارك — جزءًا من الماضي الذي يُجمله الخيال؛ إذ كان يفصله عن عصرها المجيد مقدارُ ما يفصلنا نحن عن عصر كولمبس، فمؤرخ الأنظمة السياسية لا بُدَّ أن يأخذ أقواله بحذرٍ شديد، أما من أراد أن يؤرخ للأكاذيب الأسطورية، فالصورة التي رسمها بلوتارك تكون بالغة الأهمية له. إن اليونان قد أثرت في العالم كله دائمًا — لا بسلطتها السياسية المباشرة — بل بتأثيرها في خيالهم وآمالهم ومثلهم العليا، فلئن كانت روما قد شقت لنا الطرق التي لا تزال قائمة إلى حدٍّ كبير، وسنَّت قوانين لا تزال مصدرًا لكثير من التشريعات القضائية الحديثة، فإن الذي جعل لهذه الأشياء قيمةً هو الجيش الروماني، أما اليونان فعلى الرغم من أنهم محاربون حقيقون بالإعجاب إلا أنهم لم يفتحوا فتوحًا؛ لأنهم استنفدوا معظم غضباتهم الحربية في مقاتلة بعضهم بعضًا، وكان من نصيب رجل نصف همجي — هو الإسكندر — أن ينشر الروح الهلينية في أرجاء الشرق الأدنى، وأن يجعل اليونانية هي اللغة الأدبية في مصر وسوريا والأجزاء الداخلية من آسيا الصغرى، وكان من المستحيل على اليونان أن يقوموا بهذا كله، لا لأن القوة الحربية كانت تعوزهم، بل لعدم قدرتهم على التماسك السياسي؛ ولهذا فالوسائل السياسية التي نشرت الروح الهلينية كانت دائمًا غير هلينية، على أن العبقرية اليونانية هي التي أشعلت الوحي في أممٍ أجنبية، بحيث حركتهم إلى نشر ثقافة هؤلاء الذين غزتهم تلك الأمم نفسها.
إن ما يهمُّ مؤرخ العالم، ليس هو الحروب الضئيلة التي كانت تنشب بين المدن اليونانية، ولا هو المشاغبات الخسيسة في سبيل السيادة الحزبية، بل هو الذكريات التي احتفظت بها الإنسانية حين بلغت تلك القصة القصيرة ختامها، كما يسترجع الصاعد على الجبل ذكرى شروق جميل في جبال الألب، في حين هو يصارع يومًا عسيرًا بأنوائه وثلوجه، فإن هذه الذكريات حين ذوت شيئًا فشيئًا، تركت في أذهان الناس صور قمم معينة كانت أيام سطوع الضوء قد تألقت ببريقٍ عجيب، دون أن تمحو تلك الصور في الأذهان إدراكها أن وراء السحب جلالًا لا يزال حيًّا، وقد تنقشع عنه السحب يومًا فتظهر محاسنه، ومن تلك القمم اللوامع كان أفلاطون الذي بلغت أهميته درجةً قصوى في العصور الأولى من المسيحية، وأرسطو في كنيسة العصور الوسطى، أما بعد أن نهضت أوروبا نهضتها، وأخذ الناس يقدرون الحرية السياسية، كان أهم من وجهوا إليه أنظارهم هو بلوتارك، الذي كان له أعمق الأثر في أحرار القرن الثامن عشر من الإنجليز والفرنسيين، وفي مؤسس الولايات المتحدة، لقد كان له أثره في الحركة الابتداعية (الرومانتيكية) في ألمانيا، وظل يؤثر في الفكر الألماني حتى اليوم تأثيرًا يقوم في الغالب على أساليب غير مباشرة، وكان تأثيره حسنًا من نواحٍ، سيئًا من نواحٍ أخرى، فهو سيئ فيما يخص ليكرجوس وإسبرطة، وإن ما يقوله عن ليكرجوس لذو أهمية، وسأوجز قوله هذا، حتى وإن كان في ذلك بعض التكرار.
وظن ليكرجوس — كما ظن كثيرٌ غيره من المصلحين — أن تربية الأطفال «أهم وأعظم ما يستطيع مصلح القوانين أن يشرع له»، وكان شديد الرغبة — شأنه في ذلك شأن سائر من يقصدون قبل كل شيء إلى القوة الحربية — في رفع نسبة المواليد؛ «فالألعاب والتمرينات والرقص الذي كانت تؤديه العذارى عارياتٍ أمام الشبان، إن هو إلا استئثارات وضروب من الإغراء لهؤلاء الشبان أن يتزوجوا، وليس ما يُغريهم هنا هو الأسباب الهندسية — كما يقول أفلاطون — بل إنما يغريهم بالزواج الميل والحب الشديد»، وكان من أثر التقليد الذي يجعل الزواج في سِنيه الأولى عورةً مستورة «أن يبقى في الزوجين نار الحب مشتعلة، ويحرك في الواحد منهم رغبة جديدة في الآخر» — أو على الأقل هذا ما ارتآه بلوتارك. ويمضي بلوتارك في حديثه قائلًا إن الرجل لم يكن يساء الظن به عند الناس، إذا كان شيخًا متقدمًا في السن وله زوجة شابة، فأذِن لرجلٍ أصغر منه سنًّا أن يستولدها الأطفال. «وكان من الجائز في حكم القانون أيضًا أن الرجل الشريف إذا أحب زوجة رجل آخر … التمست من زوجها أن يسمح له بمضاجعتها وإخصاب تلك التربة القابلة ببذورٍ تُنبت الأبناء الصالحين. ولم يكن يسمح بالغيرة الحمقاء؛ لأن ليكرجوس لم يرد أن يختص الرجال بأبنائهم، بل ينبغي أن يكون الأطفال مشاعًا للصالح العام، وأراد بهذه الوسيلة نفسها كذلك أن من سيكونون أبناء الأمة لا ينبغي أن ينسلهم أي رجلٍ شاء، بل ينسلهم أشرف الرجال وحدهم»، ويمضي بلوتارك في بيان أن هذا المبدأ بعينه هو ما يسير المزارعون بمقتضاه في ماشيتهم.
كان الوالد إذا وُلِد له طفل، جاء به أمام هيئةٍ من شيوخ الأسرة لتفحصه، حتى إذا ما وجدته سليم الصحة، ردَّته إلى أبيه ليقوم على تربيته، وإلا قذفوا به في مستنقعٍ عميق من الماء، وكان الأطفال منذ البداية يخضعون لنظامٍ صارم يُعلِّم الخشونة، وهو نظام طيب من بعض وجوهه؛ فكانوا مثلًا لا يوضعون في «قماط»، وإذا بلغ الصبيان سن السابعة، أُبعدوا عن ديارهم وجُمعوا في مدرسةٍ داخلية، حيث يُقسَّمون فرقًا، كل فرقةٍ تأتمر بواحدٍ من أفرادها يمتاز من سائر الأفراد برأيه السديد وشجاعته، «وأما ما يخص التعلم فقد كانوا يتلقَّون ما يسد حاجتهم، ثم ينفقون بقية وقتهم تدريبًا على الطاعة وعلى احتمال الألم وتحمل العمل الشاق، والصمود في القتال»، وكانوا يلعبون بأجسامٍ عارية وهم مجتمعون طيلة الوقت، وبعد أن يجاوزوا الثانية عشرة لم يكونوا يلبسون المعاطف، وكانوا دائمًا «قذرين تنبعث منهم رائحةٌ سيئة»، ولم يستحموا إلا في أيامٍ معينة من السنة، وينامون على أسرَّة من القش يمزجونه في الشتاء بالحسك، وكانوا يعلمونهم السرقة، ثم يُعاقَبون إذا ضُبطوا — لا على السرقة — بل على سوء تدبيرهم.
وكانت العلاقة الجنسية بين شخصين من جنسٍ واحد — ذكورًا أو إناثًا — نظامًا يُقره الناس في إسبرطة، وكان يخصَّص لهذا النظام جزءٌ معين في تربية المراهقين الصبيان، وكان محب الغلام يرتفع مكانةً في أعين الناس أو ينخفض حسب أفعال غلامه المحبوب، فيروي لنا بلوتارك أنه حدث مرةً أن صرخ غلام حين أوذي أثناء القتال، فحكم بالغرامة على محبه لما أبداه الغلام من جبن.
ولم يكن الإسبرطي في أية مرحلة من مراحل عمره يتمتع إلا بقليل من الحرية.
«فقد كانت حياتهم ذات الطاعة والنظام، تستمر معهم بعد أن تكتمل فيهم الرجولة التامة؛ لأنه لم يكن يسمح لأي رجلٍ أن يعيش كما يشاء، بل كانوا في مدينتهم كأنما هم يعيشون في معسكر، حيث يعلم كل إنسانٍ أي قسط من الحقوق ينبغي أن يعيش، وأي واجب عليه أن يؤديه بحكم موضعه! واختصارًا كانوا جميعًا على هذه العقيدة، وهي أنهم لم يولدوا ليخدموا أنفسهم بل ليخدموا بلدهم … ومن أفضل الأشياء وأجلِّها للسعادة، مما أدخله ليكرجوس في مدينته، الراحة والفراغ العظيمان اللذان سمح بهما لمواطنيه، وكل ما حرَّمه عليهم أثناء فراغهم هو أن يشغلوا أنفسهم بأي عملٍ سافل أو وضيع، وكذلك لم تكن بهم حاجة إلى العناية بجمع ثروة عظيمة، ما داموا يعيشون في مكانٍ ليس للمقتنيات فيه نفع ولا قيمة؛ ذلك لأن «المماليك» — وهم أسرى الحروب — كانوا يزرعون لهم الأرض ويقدمون لهم مقدارًا من الدخل كل عام.»
ويمضي بلوتارك في حديثه ليروي لنا قصة أثيني اتُّهِم بالفراغ الخالي من العمل، ولما سمع إسبرطي بهذا النبأ، صاح متعجبًا: «أروني هذا الرجل الذي اتُّهم لعيشه حياةً شريفة جديرة بالرجل المهذب.»
ثم يستأنف بلوتارك الحديث فيقول عن ليكرجوس: «إنه درَّب مواطنيه تدريبًا بحيث لا يودون ولا يستطيعون أن يعيشوا في عزلة، فكانوا يعيشون على نحوٍ يجعلهم متشابكين، مترافقين دائمًا، كما يتجمع النحل حول ملكتهم.»
ولم يكن يُسمح للإسبراطيين بالسفر، كلا ولا يُسمح للأجانب بالدخول في إسبرطة إلا لقضاء عمل ما؛ لأنهم كانوا يخشون أن تُفسد العادات الغريبة عنهم ما في بلادهم — لاكيديمون — من فضائل.
ويذكر بلوتارك نص القانون الذي كان يسمح لأهل إسبرطة أن يقتلوا المماليك حيثما أحسوا رغبةً في قتلهم، لكنه يأبى أن يصدق بأن قانونًا بكل هذه البشاعة يمكن أن يعزى إلى ليكرجوس؛ «لأنه يستحيل عليَّ أن أقتنع بأن ليكرجوس قد ابتكر أو شرع مثل هذا القانون الخبيث المؤذي؛ لأنني أتخيله ذا طبيعة رقيقة رحيمة، لما نراه في سائر أفعاله الأخرى من علائم الرحمة والعدل». ولو استثنيت هذه النقطة وحدها، وجدت بلوتارك لا يملك إزاء دستور إسبرطة إلا الثناء.
وسيتضح لك مدى ما أثَّرت إسبرطة على أفلاطون، الذي سنخصه الآن بالبحث، حين نقرأ وصف «مدينته الفاضلة» التي سنجعلها موضوع الفصل التالي.