مدينة أفلاطون الفاضلة
تتألف أهم محاورات أفلاطون — محاورة «الجمهورية» — من ثلاثة أجزاء بصفةٍ عامة؛ أولها (وهو يمتد إلى ما يقرب من نهاية الكتاب الخامس) يُعنى ببناء دولة مُثلى، وهذه الصورة من الدولة المثلى هي أول ما عرف العالم من «مدن فاضلة».
ومن النتائج التي وصل إليها أفلاطون في هذا الجزء أن الحكام يجب أن يكونوا فلاسفة. وأما الكتابان السادس والسابع من الجمهورية فيُعنيان بتعريف كلمة «فيلسوف»، ومناقشة هذا الأمر تؤلف الجزء الثاني. وأما الجزء الثالث فيتألف قبل كل شيء من مناقشة أنواع مختلفة من الدساتير الفعلية، ما لها من حسنات ومن سيئات.
إن الغاية الشكلية التي ترمي إليها «الجمهورية» هي أن تحدد معنى كلمة «عدالة»، لكن الحوار قد انتهى في مراحله الأولى إلى نتيجةٍ هي أنه لما كان الأيسر في كل شيء أن يُنظر إليه مكبرًا عن أن يُنظر إليه مصغرًا، فالبحث فيما يجعل الدولة العادلة عادلةً أجدى من البحث فيما يجعل الفرد العادل عادلًا، ولما كان يتحتم أن تكون العدالة إحدى صفات أفضل دولة يمكن للخيال أن يصورها، ترى أفلاطون يبدأ بتصوير تلك الدولة المثلى، وبعدئذٍ يأخذ في تحليلها ليرى أي جوانب كمالها يمكن أن يُسمى «عدلًا».
فلنبدأ نحن بوصف مدينة أفلاطون الفاضلة في تخطيطها العام، ثم نعقب على ذلك ببحث نقاط ستنشأ خلال الحديث.
يبدأ أفلاطون بتقريره أن أبناء المدينة يجب تقسيمهم ثلاث طبقات: الشعب والجنود وأولياء الأمر. وأولياء الأمر وحدهم هم الذين يؤذن لهم بتولي السلطة السياسية، وعدد أفراد هذه الطبقة أقل جدًّا من عدد الأفراد في الطبقتين الأُخريين. والظاهر أن المقصود هو أن أفراد هذه الطبقة عند بداية تطبيق هذا النظام ينتخبهم المُشرِّع، لكنهم بعد ذلك سيصبحون أصحاب حق في هذه الطبقة بحكم الوراثة في أغلب الأحوال، فلا نستثني إلا حالات شاذَّة، حيث يجوز للطفل المتفوق من أبناء إحدى الطبقتين الدُّنيَين أن يرتقي إلى طبقة أولياء الأمر، كما يجوز لمن تبدو عليه علامات النقص من أبناء طبقة أولياء الأمر وشبانها أن ينخفض إلى واحدة من الطبقتين الأخريين.
والمشكلة الأساسية — فيما يرى أفلاطون — هي أن يستوثق من أن أولياء الأمر سيُنفذون ما أراده المشرع، وله عدة مقترحات لتحقيق هذه الغاية، بعضها تربوي، وبعضها اقتصادي، وبعضها بيلجي، وبعضها ديني، وفي كثيرٍ من الأحوال لا ندري إلى أي حدٍّ أراد أفلاطون أن تُطبَّق هذه المقترحات على الطبقتين الأخريين — أي فيما عدا طبقة أولياء الأمر — نعم إنه من الواضح أنه يريد ببعض مقترحاته أن تطبق على الجنود، لكنه معنيٌّ قبل كل شيء بأولياء الأمر وحدهم، الذين يريد لهم أن يكونوا طبقةً متميزة عن الأُخريين، مثل ما كانت فئة الجزويت في باراجواي القديمة، وفئة رجال الكنيسة في الدول الكنسية حتى سنة ١٧٨٠م، والحزب الشيوعي في جمهوريات روسيا السوفيتية في يومنا هذا.
ومهمة الثقافة هي إعداد «السادة المهذَّبين» بالمعنى المفهوم من كلمة «جنتلمان» في إنجلترا الآن، وهو معنًى يرجع إلى أفلاطون إلى حدٍّ كبير، فأثينا في عهده كانت في وجهٍ من وجوهها شبيهة بإنجلترا في القرن التاسع عشر؛ ففي كلٍّ منهما طبقة أرستقراطية تتمتع بثروة ومنزلة اجتماعية، لكنها لا تحتكر السلطة السياسية، وفي كلٍّ منهما كانت الطبقة الأرستقراطية تحاول جهدها أن تظفر بكل ما يسعها أن تظفر به من النفوذ عن طريق التأثير بسلوك أفرادها، لكن الأرستقراطية في مدينة أفلاطون الفاضلة تحكم حكمًا مطلقًا من كل قيد.
والظاهر أن التعليم كان يُعنى أول ما يُعنى بغرس صفات الرصانة وحسن الذوق والشجاعة، فلا بُدَّ أن تُفرض منذ البداية رقابةٌ شديدة على كل ما عسى أن يطالعه الناشئون من آداب، وما ينصتون إليه من موسيقى. ولم يكن يُسمح للأمهات والمرضعات أن يقصصن على أطفالهن إلا قصصًا اعتمدتها السلطة المختصة، فلا يجوز قراءة هومر وهزيود لعدة أسباب؛ أولًا: لأنهما يصوران الآلهة في سلوكٍ شائن أحيانًا، وذلك لا يربي النشء تربيةً قويمة، فلا بُدَّ أن نعلِّم الصغار أن الشر يستحيل صدوره عن الآلهة؛ لأن الآلهة لم يخلقوا كل شيء، إنما خلقوا الأشياء الخيِّرة وحدها. وثانيًا: لأن في هومر وهزيود أشياء أريدَ بها أن تبث الخوف من الموت في نفوس القراء، مع أننا يجب أن نبذل قصارى جهدنا في تعليم أبنائنا أن يُقبِلوا على الموت راضين في ساحة القتال، لا بُدَّ أن نُعلم أبناءنا أن العبودية شرٌّ من الموت؛ ولهذا لا ينبغي أن يستمعوا إلى قصص فيها رجال صالحون يبكون ويُوَلولون، حتى إن كان ذلك بسبب موت أصدقائهم. وثالثًا: لأن الذوق المُرهَف يقتضي ألا يضحك الإنسان بالقهقهة العالية أبدًا، ومع ذلك ترى هومر يتحدث عن «ضحك لا ينقضي بين الآلهة المباركة»، فكيف يستطيع مدرسٌ أن يؤنِّب الناشبين على خفة الطرب تأنيبًا فعالًا، إذا أجابه الصِّبية بذكر هذه العبارة؟ ورابعًا: لأن في هومر فقراتٍ تُعلي من شأن المآدب الفنية بآكلها، وأخرى تصنف شهوات الآلهة، ومثل هذه الفقرات لا يشجع على الاعتدال (لقد اعترض العميد «إنج» — وهو أفلاطوني مخلِص لمذهبه — على سطرٍ وردَ في ترنيمةٍ مشهورة، وهو: «صياح أولئك الذين ظفروا بالنصر، وغناء أولئك الذين أدبوا الولائم»، وهو سطرٌ وارد في وصفِ ما يحدث لآلهة السماء من ضروب المرح)، كذلك لا ينبغي أن يكون ثَمَّت قصص يَسعد فيها الأشرار ويَشقى الأخيار؛ لأن الأثر الخلقي لهذا على العقول الناشئة قد يكون غاية في السوء، فلا مناص من حذف الشعراء على هذه الأسس كلها.
ويمضي أفلاطون بعد ذلك إلى مناقشةٍ عجيبة عن الأدب المسرحي، فيقول إن الرجل ينبغي له أن ينفر من محاكاة الرجل الشرير، فأما ومعظم المسرحيات يحتوي على أشرار، فلا مناص للأديب المسرحي وللممثل الذي يقوم بدور الشرير، من أن يحاكيا سلوك أناس اقترفوا مختلف الآثام، بل لا يقتصر الأمر على المجرمين، إنها على الرجال الأعلين ألا يحاكوا النساء والعبيد والسافلين بصفةٍ عامة (ففي اليونان، كما كانت الحال في إنجلترا في عهد اليصابات، كان الرجال يقومون على المسرح بأدوار النساء)، وعلى ذلك فإذا كان لا بُدَّ لنا أن نسمح بالأدب المسرحي إطلاقًا، فلا ينبغي قط أن نذكر من الأشخاص إلا أبطالًا ذكورًا لا يعيبهم نقص كائنًا ما كان، وينتمون إلى مولدٍ طيب، ومن الواضح أن هذا مستحيل؛ ولذا لا يتردد أفلاطون في طرد المسرحيين من مدينته:
«إذا ما جاءنا أحدٌ من هؤلاء السادة المهَرة في فن المحاكاة، الذين يستطيعون أن يحاكوا أي شيءٍ شاءوا، وعرض علينا أن يُبدي فنه وشعره، ركعنا تمجيدًا، باعتباره رجلًا لطيفًا مقدسًا عجيبًا، لكننا لا بُدَّ عندئذٍ أن نذكر له أيضًا أن أمثاله يحرم عليهم العيش في دولتنا، بحكم القانون، وهكذا بعد أن نُعطره بالعطر المقدس، ونضع على جبهته إكليلًا من الصوف، سنبعث به إلى مدينةٍ أخرى.»
وبعد ذلك ننتقل إلى الرقابة على الموسيقى (بالمعنى الحديث للكلمة)، فتحرم الأنغام الليدية والأيونية؛ الأولى لأنها تُعبر عن الأسى، والثانية لأن بها انحلالًا. ولا يُسمح إلا بالأنغام الدورية (للشجاعة) والأنغام الفريجية (لضبط النفس). وينبغي للتوقيعات الجائز عزفُها أن تكون بسيطة، وأن تكون مما يُعبر عن حياةٍ باسلة متسقة الأجزاء.
ولا بُدَّ أن يجيء تدريب البدن على درجةٍ شديدة من العنف، فلا يجوز لأحدٍ أن يأكل سمكًا، أو لحمًا غير الشواء، ولا يجوز كذلك أن يوضع على الطعام أي نوعٍ من المرق، ولا أن تقدم الحلوى، ويقول أفلاطون إن من ينشأ على نظامه في الطعام لن يكون به حاجة إلى طبيب.
ولا يُسمح للشُّبَّان — إلى سنٍّ معينة — أن تقع أعينهم على قبح أو رذيلة، حتى إذا ما حلَّت الساعة المناسبة، أُطلِعوا على «مثيرات» على هيئة مفزعات لا ينبغي أن تبث فيهم الفزع، ولذائذ خبيثة لا ينبغي أن تعمل فيهم على إغواء الإرادة، ولن يُحكم على الشبان بالصلاحية للانخراط في طبقة الحراس إلا بعد مقاومتهم لهذه المِحن.
ولا بُدَّ للصغار قبل اكتمال نموهم أن يشهدوا الحرب، وإن لم يجز لهم الاشتراك بأنفسهم في القتال.
أما في الجانب الاقتصادي، فيقترح أفلاطون شيوعيةً تتناول كل شيء في طبقة أولياء الأمر، وكذلك (فيما أظن) طبقة الجنود، ولو أنه لم يكن صريحًا كل الصراحة فيما يختص بهذه الطبقة، أما أولياء الأمر فينبغي أن تكون لهم دور صغيرة وأن يكون طعامهم بسيطًا، ولا بُدَّ أن يعيشوا كما لو كانوا في معسكر، يأكلون معًا جماعات، وليس لهم أن يُقنِّنوا ملكًا خاصًّا إلا ما كان ذا ضرورة بالغة. ويَحرم استعمال الذهب والفضة، إنهم لن يكونوا أغنياء، لكن هذا لا ينفي قط أن يكونوا سعداء، على أن غاية المدينة هي خير الجميع، لا سعادة طبقة دون سائر الطبقات. إن الغنى والفقر كليهما ضار، وليس لأيهما وجود في مدينة أفلاطون. وله عبارة غريبة عن الحرب إذ يقول: إنه سيَسهل على مدينته أن تشتري الحلفاء في الحرب، ما دامت ستستغني عن نصيبها في مغانم النصر.
وترى سقراط الأفلاطوني يأخذ في تطبيق الشيوعية على الأسرة وهو كاره فيما يدعي، فيقول إن الأصدقاء لا بُدَّ لهم أن يشتركوا في كل شيء، وفي ذلك النساء والأبناء، وهو يعترف أن ذلك سيستتبع مشكلات، ولكن يظن أنها مشكلات لا يستحيل التغلب عليها؛ فأولًا لا بُدَّ أن تتلقى البنات نفس ما يتلقاه البنون من تعليم، فيتعلمن الموسيقى والألعاب وفن القتال مع الصبيان جنبًا إلى جنب، ومن حق النساء أن يكُنَّ على أتم مساواة بالرجال في كل شيء؛ فنفس التعليم الذي يجعل من الرجل وليًّا للأمر طبعًا، سيجعل من المرأة ولية للأمر كذلك؛ لأن الطبيعة الأساسية في كليهما واحدة. ولا شك أن هنالك فروقًا بين الرجال والنساء، لكن هذه الفروق لا شأن لها بالسياسة؛ فبعض النساء فلسفيُّ النزعة، ويستطيع أن يتولى شئون الحكم، وبعضهن حربيُّ الصبغة، ويمكن أن تكُنَّ جندياتٍ ماهرات.
ويُعتبر الأطفال الذين يولدون من زواج لم تُقره الدولة أبناء سِفاح، وينبغي أن تكون الأمهات بين العشرين والأربعين، وأن يكون الآباء بين خمسة وعشرين وخمسة وخمسين، أما فيما عدا هذه الأعمار فيُباح اللقاء الجنسي حرًّا من القيود، على أن يكون الإجهاض أو قتل الأطفال أمرًا إجباريًّا. وليس للزوج والزوجة — في «الزواج» الذي تهيئه الدولة — أي رأي، فيكفي حافزًا لهما على الاتصال أنهما يؤديان واجبًا نحو الدولة، بدل أن يكون الحافز عاطفة من تلك العواطف المبتذَلة التي كان يتغنَّى بها الشعراء الذين أقصتهم الدولة عن أرضها.
ولما كان كل ولد يجهل والدَيه، فسيُسمى كل رجل «والدًا» ما دامت سنه تُجيز أن يكون له والدًا، وقُل هذا في «الأم» و«الأخ» و«الأخت» (يحدث هذا في بعض القبائل الهمجية، وكان مصدرًا لكثير من الحيرة عند المبشرين). ولا يجوز زواج بين «والد» و«ابنة» أو بين «أم» و«ابن»، وكذلك يمتنع بصفةٍ عامة — لا بصفةٍ مطلقة — الزواج بين «أخ» و«أخت» (أظن لو فكَّر أفلاطون في هذا القول تفكيرًا دقيقًا لوجد أنه بذلك يمنع كل الزواج، اللهم إلا زواج الأخ والأخت في الحالات النادرة التي يشير إليها).
والمفروض أن تظل العواطف الحاضرة المتصلة بهذه الكلمات، «أب» «أم» «ابن» «ابنة»، قائمةً في التنظيم الجديد عند أفلاطون؛ فمثلًا لا يجوز لشابٍّ أن يضرب شيخًا؛ إذ قد يكون ذلك الشيخ المضروب أباه.
وأنتقل أخيرًا إلى الجانب الديني من نظام أفلاطون. ولست أحصر تفكيري الآن في الآلهة اليونانية التي يعبدها الناس، بل أفكر في أساطير معينة على الحكومة أن تبثها في النفوس، فيقول أفلاطون صراحةً إن الكذب من حق الحكومة، كما أن إعطاء الدواء من حق الأطباء؛ فقد رأينا فيما سلف أن الحكومة من حقها أن تخدع الناس في ادعائها أنها تنظم الزواج على أساس الاقتراع، لكن هذا النوع من الكذب لا يتصل بأمر من أمور الدين.
وهنالك «أكذوبة سلطانية واحدة» يرجو أفلاطون أن تجوز على الحكام أنفسهم، وعلى كل حال فهي لا شك خادعة لسائر المدينة، وهو يفصل هذه «الأكذوبة» تفصيلًا شديدًا، وأهم جوانب الأكذوبة هو العقيدة بأن الله قد خلق الناس ثلاثة أنواع؛ فخيرهم مصنوع من ذهب، ويأتي بعد هؤلاء قوم من فضة، وأما طغام الناس فمن نحاس أو حديد؛ فأما من خُلقوا من ذهب فأولئك يصلحون للحكم، ومن خُلقوا من فضة فأولئك هم الجنود، وأما بقية الناس فيؤدون العمل اليدوي. والأغلب — وليس دائمًا — أن ينتمي الأبناء إلى نفس الطبقة التي كان ينتمي إليها آباؤهم. فإذا لم يكن أمرهم كذلك، فلا بُدَّ من رفعهم أو خفضهم حسب ما تقتضيه الحال. ولئن كان من العسير أن تقنع أبناء هذا الجيل بصدق هذه الأسطورة، فإنك تستطيع أن تنشئ الجيل المقبل وما يتلوه من أجيال تنشئةً لا تميل بهم إلى الشك في صدقها.
وإن أفلاطون لعلى صواب في رأيه بأن العقيدة في صدق هذه الأسطورة يمكن أن تتكون في مدى جيلين، فقد تعلم اليابانيون منذ سنة ١٨٦٨م أن الميكادو قد هبط من إلهة الشمس، وأن اليابان قد تم خلقها قبل أن يُخلَق سائر العالم، وكل من يثير الريبة في هذه العقائد من بين أساتذة الجامعات، حتى إن كان ذلك في بحثه العلمي، يُطرد لمجافاته للروح اليابانية، أما الذي غاب عن أفلاطون إدراكه — فيما يظهر — فهو أن قبول الناس لأمثال هذه الأساطير بالقوة لا يتفق وروح الفلسفة، ويتضمن ضربًا من التعليم يشل الذكاء.
يصل أفلاطون في الكتاب الرابع من الجمهورية إلى تعريف «العدالة»، وهو الهدف المزعوم من المحاورة كلها. والعدالة قوامها — فيما يرى — أن يؤدي كل إنسانٍ عمله الخاص به دون أن يتدخل في عملٍ سواء؛ فالمدينة «عادلة» إذا قام الصانع والجندي والحاكم كلٌّ بعمله دون أن يتدخل في أعمال الطبقتَين الأُخريين.
وإنه لمبدأ يدعو إلى كل إعجاب أن يهتم كل إنسان بما هو معني به، لكن ذلك يوشك ألا يتفق في شيء مع ما يُسميه الإنسان الحديث «عدالة» بحيث تكون التسمية استعمالًا طبيعيًّا لألفاظ اللغة، إن الكلمة اليونانية التي ترجمناها بلفظ العدالة إنما كانت تدل عندهم على فكرةٍ غاية في الأهمية في التفكير اليوناني، وليس في لغاتنا مرادف لها يطابقها أتم التطابق، وجديرٌ بنا أن نستعيد ها هنا ما قاله أنكسمندر: «لقد قُضي على الأشياء أن تعود من جديد إلى الأصل الذي نشأت منه؛ لأنها يعوض بعضها بعضًا، ويرضي بعضها بعضًا، بحيث يرد كلٌّ ما اقترفه من إجحافٍ حسب الوقت المعين.»
فقبل أن تبدأ الفلسفة، كان لليونان نظرية أو شعور خاص بالكون، لك أن تصفه بأنه ديني أو خلقي، وبناءً على هذه النظرية كان لكل شخص ولكل شيء مكانٌ معين ووظيفة معينة، ولم يكن ذلك أمرًا صادرًا من زيوس؛ لأن زيوس نفسه خاضع لنفس القانون الذي يخضع له كل شيء، وإنما ترتبط النظرية بفكرة القضاء أو الضرورة، وهي تنطبق بكل دقة على الأجرام السماوية، لكنه حيث يعنف النشاط، يحدث ميل إلى مجاوزة الحدود المفروضة؛ ومن ثَم تنشأ البغضاء، فهنالك نوع من القانون المجرد الذي يعلو على آلهة الأولمب أنفسهم، يعاقب المعتدين، ويرى النظام الأزلي الذي يحاول المعتدي أن يفسده، وانتقلت إلى الفلسفة هذه النظرية بأسرها، التي ربما كانت في بدايتها موضع إيمان الناس بغير وعيٍ عقلي لفحواها، وإنك لتلمسها في المذاهب الكونية التي تقول بقيام تعاند بين الأشياء — كمذهبَي هرقليطس وأمباذقليس — كما تلمسها في المذاهب الواحدية — بارمنيدس — فهي مصدر الإيمان بالقانون الطبيعي، والقانون البشري على السواء، وواضحٌ أنها متضمَّنة في فكرة أفلاطون عن العدالة.
إن كلمة «العدالة» كما هي مستعمَلة حتى اليوم في القانون، أقرب شبهًا بفكرة أفلاطون، منها وهي مستعمَلة في النظريات السياسية، فقد مال بنا الرأي الديمقراطي إلى ربط العدالة بالمساواة، مع أن العدالة لم تكن تقتضي مساواةً عند أفلاطون. أما «العدالة» بالمعنى الذي يكاد يكون مرادفًا لكلمة «قانون» — وذلك واضح من قولنا «ساحات العدالة» حين نريد محاكم القانون — فأهم ما يعنيها هو حقوق الملكية، التي لا شأن لها بالمساواة، وأول تعريف يقترح في بداية «الجمهورية» لكلمة «عدالة» هو أن قوامها وفاء الديون، وسرعان ما يضرب المتحاورون صفحًا عن هذا التعريف، على أساس أنه غير جامع للحالات كلها، لكن شيئًا منه يظل باقيًا في التعريف النهائي.
وجدير بنا أن نلاحظ عدة ملاحظات على تعريف أفلاطون؛ فأولًا: من الممكن في نظره أن يقع تفاوت في السلطة والحقوق دون أن يكون في ذلك ما بنا في العدالة، فالسلطة كلها من حق أولياء الأمر؛ لأنهم أحكم أعضاء المجتمع. وفي رأي أفلاطون أن الظلم لا يقع في هذا الصدد إلا إذا كان بين أفراد الطبقتين الأُخريَين من هم أحكم من بعض أولياء الأمر؛ ولهذا ترى أفلاطون يتحوَّط لذلك فيُجيز رفع المواطنين أو خفضهم، ولو أنه يعتقد أن ميزتَي المولد الطيب والتعليم الجيد ستؤديان إلى نتيجة في معظم الحالات، وهي أن يجيء أبناء أولياء الأمر أفضل من أبناء الآخرين. إنه لو كان من الممكن أن يقوم علمٌ أكثر دقة بشئون الحكم، ولو كنا على يقينٍ أكثر بأن الناس سيلتزمون طاعة الحكومة فيما تأمرهم به، لأمكن أن نجد كثيرًا من المبررات التي تؤيد نظام أفلاطون، فلن تجد أحدًا من رأيه أنه من الظلم أن تنتقي خير اللاعبين لفريق كرة القدم، مهما تعظم سيادتهم على غيرهم بانتخابهم لذلك الفريق. نعم إنه لو كانت لعبة الكرة تجري على القواعد الديمقراطية التي كانت تجري عليها حكومة أثينا، لانتخبت الجامعة من الجامعات من يمثلونها من الطلاب على أساس الاقتراع، لكنه من العسير في شئون الحكم أن تعرف من هم أمهر الناس، كما أنه يتعذر عليك أن توقن بأن السياسي سيستخدم مهارته في صالح الناس أكثر مما يستخدمها في صالح نفسه أو طبقته أو حزبه أو أشياع مذهبه الديني.
وثانيًا: إن تعريف أفلاطون ﻟ «العدالة» يقوم على فرض أن هنالك دولة منظمة، إما على الأسس التقليدية، وإما على الأسس التي يقترحها بحيث تحقق في مجموعها مثلًا خُلقيًّا أعلى، فهو يقول إن العدالة قوامها أن يؤدي كل فردٍ مهنته، لكن ما مهنة الفرد؟ إنه في دولةٍ مثل مصر القديمة، أو مثل مملكة «إتكا»، أعني حين تظل الدولة جيلًا بعد جيل لا يطرأ عليها تغير، تكون مهنة الفرد هي مهنة أبيه، ولا تنشأ في سبيل ذلك مشاكل، لكن الفرد في دولة أفلاطون ليس له أب شرعي، فمهنته بناءً على ذلك لا بُدَّ أن تتقرر إما وفق ذوقه الخاص، وإما حسب ما تحكم به الدولة على استعداداته، وواضحٌ أن الحالة الثانية هي ما يريده أفلاطون، لكن هناك أنواعًا من العمل — رغم ما تتطلبه من مهارةٍ فائقة — قد يُظَن بها السوء، هذا مثلًا ما يراه أفلاطون في الشعر، وما أراه أنا في عمل نابليون؛ وإذَن فغايات الحكومة أمرٌ جوهري في تحديد ما يصبح أن يكون مهنة الفرد، وعلى الرغم من أن الحكام جميعًا لا بُدَّ أن يكونوا من الفلاسفة فلا يُنتظر منهم أن يأتوا بجديد؛ لأنه يُتوقع من الفيلسوف أن يلبث طول عمره رجلًا له القدرة على الفهم فيوافق على ما يراه هو.
وإذا سألنا: ماذا يُنتظر لجمهورية أفلاطون أن تؤديه؟ كان الجواب أقرب إلى الابتذال؛ لأنه سيقول إنها ستظفر بالنصر في الحروب على مجموعات من السكان تقرب في عددها سكان مدينته، وستضمن معيشة لفئةٍ قليلة معينة من الناس، لكنها، في ظنٍّ راجح يَقرب من اليقين، لن تنتج فنًّا ولا علمًا، بسبب تصلُّب أوضاعها، وستكون في هذا الصدد — وفي غيره — شبيهة بإسبرطة. فعلى الرغم من كل ما يقال عن الجمهورية من كلامٍ جميل، فإنها لن تؤدي أكثر من المهارة في الحرب وإعداد الطعام للأهلين، لقد عاش أفلاطون في عصرٍ شهدت أثينا فيه المجاعة والهزيمة، فربما ظن — على غير وعي منه — أن اجتناب هذين الشرين هو خير ما يمكن للسياسة أن تؤديه.
وواضحٌ أن «المدينة الفاضلة» — إذا أراد بها صاحبها الجد — فلا بُدَّ أن تجيء معبرةً عن مُثله العليا، فلنبحث قليلًا فيما نعنيه بعبارة «مثل عليا»، إن أول ما نذكره عنها أنها مرغوبة ممن يؤمنون بها، لكنها ليست مرغوبة على نفس الصور التي يرغب بها إنسان في أسباب راحته الشخصية، كالطعام والمأوى؛ فالذي يُفرق بين «المثل الأعلى» وبين الشيء العادي حين يكون موضع رغبة الإنسان، هو أن الأول ليس متصلًا بالصالح الشخصي، إنه شيءٌ لا يتصل قط (في الظاهر على الأقل) بذات الشخص الذي يشعر بالرغبة فيه؛ ولذا يكون — من الوجهة النظرية — قابلًا لأن يصبح موضع الرغبة من كل إنسان، وعلى ذلك يمكننا تعريف «المثل الأعلى» بقولنا إنه شيء تتعلق به الرغبة دون أن يكون الراغب فيه مركز الانتباه في هواه الشخصي، وعلى شرط أن يتمنى هذا الراغب فيه أن يكون مثله الأعلى موضع رغبة من كل إنسانٍ آخر؛ فقد تكون رغبتي هي أن يجد كل إنسان طعامًا يكفيه، وأن يعطف كل إنسان على كل إنسان وهكذا، وإذا تعلقت رغبتي بشيء من هذا القبيل، رغبت كذلك في أن يكون محل رغبة من الناس جميعًا، وعلى هذا النحو يمكنني أن أنشئ ما يبدو في ظاهره بناءً أخلاقيًّا غير شخصي، ولو أنه في حقيقة أمره يقوم على أسس من رغباتي الشخصية؛ لأن الرغبة ما زالت رغبتي، حتى ولو لم يكن الشيء المرغوب فيه متصلًا بشخصي، فمثلًا قد يتمنى إنسانٌ أن يفهم العلم كل إنسان، ويتمنى آخر أن يبدر الفن كل إنسان، فالذي يفرق بين رغبتَيهما هو اختلاف في تكوينهما الشخصي.
ويتجلى العنصر الشخصي إذا ما اقتضى الأمر تعارضًا في الرأي، فافرض مثلًا أن شخصًا قال لك: «إنك مخطئ في أمنيتك لكل إنسانٍ أن يكون سعيدًا، إن واجبك هو أن تتمنى السعادة للألمان، والشقاء لكل من عداهم.» فها هنا كلمة «واجبك» قد يكون معناها أن هذا ما يتمنى لي المتكلم أن أرغب فيه، وقد أجيبه بأنني لما كنت غير ألماني، فمن المستحيل عليَّ من الوجهة النفسية أن أتمنى الشقاء لكل من عدا الألمان، لكن جوابي هذا يبدو ناقصًا.
وكذلك قد ينشأ اصطراع في الرأي حول مثل عليا خالصة من الأهواء الشخصية، فالبطل الذي يدعو إليه نيتشه يختلف عن القديس المسيحي، ومع ذلك فكلاهما موضع إعجاب غير صادر عن مصلحةٍ شخصية، فأشياع نيتشه يُعجبون بالأول، والمسيحيون يُعجبون بالثاني، فكيف لنا أن نحكم لأحد الفريقين إلا على أساس من أهوائنا؟ ومع ذلك، فإذا لم نجد غير أهوائنا نحتكم إليها، فإن الخلاف الأخلاقي لا يمكن أن يقر إلا باستمالة فريق لعواطف الفريق الآخر؛ فإن لم يفلح، فبالقوة. وقد ينتهي الأمر — في آخر الأمر — إلى الحرب بين الفريقين، إنه في مقدورنا — إذا ما كان اختلافنا على أمرٍ من أمور الواقع — أن نرجع إلى العلم والطرائق العلمية في ملاحظة الواقع، لكني لا أرى شيئًا شبيهًا بهذا في المشكلات التي تتصل في النهاية بأسسٍ أخلاقية، ومع ذلك فلو كان هذا هو الواقع في حقيقته، فالمنازعات الأخلاقية تحوِّر من نفسها بحيث تصبح تنازعًا على القوة — بما في ذلك قوة الدعاية.
وقد بسطت هذه الوجهة من النظر، في صورةٍ ينقصها التهذيب، في الكتاب الأول من «الجمهورية» على لسان ثراسيماكوس الذي كان شخصًا حقيقيًّا، كالأكثرية الغالبة من الشخصيات الواردة في محاورات أفلاطون، كان ثراسيماكوس سوفسطائيًّا من مشالسيدون، وكان معلمًا مشهورًا للبلاغة، وهو مذكور في الملهاة الأولى التي ظهرت لأرستوفان عام ٥٢٧ق.م. فترى سقراط (في الجمهورية) قد لبث حينًا يناقش بروحٍ وديةٍ معنى العدالة مع شيخٍ كهل اسمه سيفالوس، ومع أخوين لأفلاطون أكبر منه، هما جلوكون وأديمانتوس، وكان ثراسيماكوس يستمع لمحاورتهم في قلقٍ متزايد، ثم لم يلبث أن قطع عليهم الحديث باحتجاجٍ عنيف على هذا الهذر الصبياني الذي ينطقون به، وأعلن في صراحةٍ قوية أن «العدالة ليست سوى صالح الأقوى».
وفنَّد سقراط هذه الوجهة من النظر تفنيدًا راوغ فيه، دون أن يواجهها بما هي جديرة به من عناية، مع أنها تثير المشكلة الرئيسة في الأخلاق والسياسة، وهي: هل هناك معيار — كائنًا ما كان — ﻟ «الخير» و«الشر» إلا ما يشتهيه الشخص المستعمل لهاتين الكلمتين؟ فإذا لم يكن ثَمَّت معيار ثابت، فالظاهر أن كثيرًا من النتائج التي ينزعها ثراسيماكوس، لا مناص من التسليم بصحته، ومع ذلك فكيف لنا أن نقول إن مثل هذا المعيار موجود؟
وها هنا يجيب الدين إجابةً بسيطة للوهلة الأولى، وهي أن الله هو الذي يقرر ما هو خير وما هو شر، فالفرد من الناس إذا اتحدَّت مشيئته مع مشيئة الله كان خيرًا، ومع ذلك فليس هذا الجواب بمتفقٍ كل الاتفاق مع ما تتطلبه العقيدة الدينية الأصلية، فرجال اللاهوت يقولون إن الله خير، وذلك يقتضي أن يكون ثَمَّت معيار للخير مستقل عن إرادة الله، وعلى ذلك فنحن مضطرون أن نواجه السؤال الآتي: هل هناك حق موضوعي أو باطل موضوعي في مثل هذه العبارة «اللذة خير» بنفس المعنى الذي ينطبق على قولنا «الثلج أبيض»؟
ولا بُدَّ لك من نقاشٍ طويل جدًّا حتى تستطيع الجواب على هذا السؤال، فقد يظن بعض الناس أننا نستطيع — في حدود أغراضنا العملية — أن نجتنب النتيجة الرئيسة التي تتفرع عن هذا، ونقول: «لست أعرف المقصود من كلمتَي «حق موضوعي»، لكني سأعد العبارة «صحيحة» إذا اتفق كل الباحثين في موضوعها — أو أكثريَّتهم الغالبة — على تأييدها.» وبهذا المعنى يكون قولنا إن الثلج أبيض قولًا «صحيحًا»، وكذلك قولنا بأن قيصر قد قُتِل اغتيالًا، وأن الماء مركَّب من إيدروجين وأوكسجين وهكذا، عندئذٍ تواجهنا مشكلةٌ مرجعها إلى الأمر الواقع، وهي: هل في الأخلاق عبارات اتُّفِقَ عليها بمثل ما اتُّفِقَ على العبارات السالفة؟ فلو كان فيها مثل هذه العبارات المتفق على صوابها، صلحت أساسًا لقواعد السلوك الشخصي وللنظرية السياسية على السواء. أما إذا لم يكن هناك مثل هذه العبارات المتفق على صوابها، فنحن مضطرون إلى الاشتباك الفعلي في نزاع يستند إلى القوة أو إلى الدعاية أو إلى كليهما — مهما تكن الحقيقة الفلسفية في أمر هذا النزاع — أقول إننا مضطرون إلى الاشتباك في نزاع حيثما ظهر خلافٌ أخلاقي لا سبيل إلى فضه بالاتفاق بين جماعاتٍ قوية.
وهذه مشكلة لا يعترف أفلاطون بوجودها، فعلى الرغم من أن فنه المسرحي قد أغراه ببسط وجهة نظر ثراسيماكوس بسطًا قويًّا، فلم يكن على وعيٍ تام بكل ما فيها من قوة، واستباح لنفسه أن يكون مجحفًا غاية الإجحاف في تفنيدها بالحجة، فهو مقتنع أن هنالك شيئًا اسمه «الخير»، وأن الإنسان يمكنه أن يتحقق من طبيعة ذلك «الخير»؛ فإذا ما اختلف عليه الناس، فأحد المختلفين على الأقل مخطئ من الوجهة العقلية، على نحو ما تكون الحال لو كان الاختلاف اختلافًا علميًّا قائمًا على أمرٍ من أمور الواقع.
إن اختلاف الرأي بين أفلاطون وثراسيماكوس غاية في الأهمية، لكنه اختلاف يكتفي مؤرخ الفلسفة بذكره دون أن يحكم فيه برأي؛ فأفلاطون يعتقد أنه يستطيع أن يبرهن على أن جمهوريته المثلى خير، كما قد يعتقد الديمقراطي الذي يؤمن بموضوعية الأخلاق أنه لا يستطيع أن يبرهن على أن الجمهورية شر، لكن من يأخذ بوجهة نظر ثراسيماكوس قد يقول: ليس الأمر أمر برهان أو تفنيد؛ إذ السؤال لا يعدو أن يكون: هل تحب الدولة التي يَنشدها أفلاطون؟ فإن أحببتها فهي خير لك، وإذا لم تحبها فهي شرٌّ لك، وإن أحبها كثيرون وكرهها كثيرون، فالحسم بين أولئك وهؤلاء لا يكون بالعقل، بل يكون بالقوة وحدها — فعليه كانت تلك القوة أو متسترة — وتلك هي إحدى مشكلات الفلسفة التي لا تزال قيد البحث، وترى في كلٍّ من الفريقين المتنازعين رجالًا جديرين باحترامك، غير أن الرأي الذي أيَّده أفلاطون قد لبث دهرًا طويلًا لا يكاد يتناوله أحد بالشك في صوابه.
ولا بُدَّ أن نلاحظ فوق ما ذكرناه أن وجهة النظر التي تحل إجماع الرأي محل المعيار الموضوعي (في الحكم الأخلاقي) تستتبع بعض النتائج التي لا يرضى بقبولها إلا قليلون، فماذا نحن قائلون في المجددين العلميين مثل جليليو، الذين يدافعون عن رأي لا يوافق عليه إلا قليلون، لكن يظفر آخر الأمر بتأييد كل إنسان تقريبًا؟ إنهم يؤيدون آراءهم بالحجج، لا باستمالة العواطف، ولا بالدعاية تقوم بها الدولة، ولا باستخدام القوة، وهذا يقتضي أن يكون هناك معيارٌ غير الرأي العام، وهنالك في مسائل الأخلاق شيءٌ شبيه بهذا، متمثلًا في أصحاب الهدايات الدينية الكبرى؛ فقد دعا المسيح إلى أنه ليس من الخطأ أن تحصد سنابل القمح يوم السبت، لكنه من الخطأ أن تكره أعداءك، وواضحٌ أن مثل هذا التجديد الأخلاقي يتطلب معيارًا للحكم غير رأي الأغلبية، غير أن المعيار هنا — مهما يكن من أمره — فليس هو بالموضوعي كالذي نراه في حالة البحث العلمي، إن هذه المشكلة عسيرة، ولا أدَّعي القدرة على حلها، وحسبُنا الآن ذكرها.
ربما أريد بجمهورية أفلاطون — ما لا يراد ﺑ «المدائن الفاضلة» الحديثة — وهو أن تجد سبيلها إلى التنفيذ الفعلي. ولم يكن ذلك من الغرابة ولا من الاستحالة بما يبدو عليه الآن لأنظارنا، فكثيرٌ من أوضاعها — وبينها أوضاع كنا نظنها أبعد ما تكون عن إمكان التنفيذ — كان قائمًا بالفعل في إسبرطة؛ فقد حاول فيثاغورس — قبل أفلاطون — أن يطبق حكم الفلاسفة، وكان أركايناس الفيثاغوري — في عهد أفلاطون — ذا نفوذٍ سياسي في تاراس (وهي المسماة الآن تارانتو)، وذلك حين زار أفلاطون صقلية وجنوبي إيطاليا، وكان مألوفًا للمدن أن تستخدم حكيمًا في سَنِّ قوانينها، فهذا ما صنعه سولون لأثينا، وما صنعه بروتاجوراس لمدينته ثوربي، وكانت المستعمرات في تلك الأيام مطلقة الحرية من رقابة المدن التي هي تابعة لها، فكان من الممكن جدًّا من الوجهة العملية لجماعةٍ من الأفلاطونيين أن يقيموا على شواطئ إسبانيا أو الغال، لكن شاء سوء الحظ أن يقصد أفلاطون إلى سرقصة، وهي مدينة تِجارية عظيمة، كانت غارقة في حروبٍ لا تعرف هوادة مع قرطاجنة، ويستحيل على أي فيلسوفٍ أن يؤدي شيئًا ذا بال في مثل هذا الجو، وجاء الجيل التالي، فشهد نشأة مقدونيا التي جعلت كل الدول الصغيرة بالية العهد، وأظهرت مقدار العبث في كل محاولة ترمي إلى إقامة نظام سياسي على نطاقٍ ضيق.