فلسفة الكون عند أفلاطون
يشغل فيثاغورس في محاورة «طماوس» نفس المكان الذي يشغله سقراط في المحاورات السابقة لها، وآراء المدرسة الفيثاغورية على وجه الإجمال هي وجهة النظر التي اتُّخذت في هذه المحاورة، بما في ذلك (إلى حدٍّ ما) الرأي القائل بأن العدد هو ما يفسر العالم. وتبدأ المحاورة بتلخيص الخمسة الكتب الأولى من «الجمهورية»، ثم تعقب على ذلك بأسطورة أطلانطس التي يقال إنها كانت جزيرة على بُعد من «عُمُد هرقل»، والتي هي أكبر من ليبيا وآسيا معًا، وبعدئذٍ يأخذ «طماوس» — وهو فلكي فيثاغوري — في رواية تاريخ العالم من بدايته حتى خلق الإنسان، وفيما يلي خلاصة لما قاله:
إن ما لا يطرأ عليه التغير يكون مفهومًا للذكاء والعقل، أما ما هو متغير فيكون معروفًا على سبيل الرأي. ولما كان العالم مُحَسًّا، فيستحيل أن يكون أزليًّا، ولا بُدَّ أن يكون الله قد خلقه، ثم لما كان الله خيرًا، فقد خلق العالم على غرار ما هو أزلي لأن الله معصومٌ من الغيرة؛ ولذا أراد لكل شيءٍ أن يجيء شبيهًا به ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، «أراد الله أن يكون كل شيء خيرًا، وألا يكون لشيءٍ نصيب من الشر، ما كان في ذلك حدود المستطاع»؛ «فلما وجد الكون المرئي كله في حركة لا تسكن، ولا تسير على وتيرة أو نظام، أخرج من تلك الفوضى نظامًا» (وهكذا يظهر لنا أن إله أفلاطون يختلف عن الإله اليهودي والمسيحي، في أنه لم يخلق العالم من العدم، بل كانت المادة موجودة منذ الأزل، وهو الذي أعاد نظامها). فبثَّ الله قبس العقل في الروح، ثم نفخ الروح في البدن، وجعل العالم كله كائنًا حيًّا واحدًا ذا روح وعقل، فهناك عالم واحد فقط، لا عوالم كثيرة، كما ذهب كثيرون من الفلاسفة فيما قبل سقراط، ويستحيل أن يكون هنالك أكثر من عالمٍ واحد؛ إذ العالم صورة خُلقت لغاية، وهي أن تحاكي النموذج الأزلي الذي يعقله الله، ما كانت هذه المحاكاة في حدود المستطاع، إن العالم في مجموعه حيوانٌ واحد مرئي، يحتوي في ذاته على كل الحيوانات الأخرى، وهو كريٌّ لأن الاطراد خير من النبو، وليس في الأشكال ما هو مطرد التشابه إلا الشكل الكري، وهو يدور؛ لأن الحركة الدائرية هي أوفى الحركات إلى الكمال، وما دامت هذه الحركة الدائرية هي كل ما يتحركه العالم، فليس هو بحاجة إلى أقدام أو أيدٍ.
والعناصر الأربعة، النار والهواء والماء والتراب، التي يظهر أن قد رُمز لكلٍّ منها بعدد، ترتبط بنسبةٍ مطردة؛ أعني أن نسبة النار إلى الهواء كنسبة الهواء إلى الماء، كنسبة الهواء إلى التراب، ولقد استخدم الله كل هذه العناصر في خلقه للعالم؛ ولذا تراه عالمًا كاملًا، لا يتعرض لشيخوخة أو مرض، والتناسب في أجزائه هو الذي يجعل فيه تناغمًا؛ وبالتالي تشيع روح الود بين أجزائه؛ ولذا فهو مستحيل على التحلل إلا إذا أراد له الله ذلك.
وبدأ الله يخلق الروح، ثم عقَّب عليها بخلق الجسد، والروح مركبة من الجانب غير المنقسم وغير المتغير، ومن الجانب المنقسم المتغير، فهي نوع ثالث من الماهية، يقع بين هذين النوعين المذكورين، وها هو ذا وصف فيثاغوريٌّ للكواكب ينتهي إلى ما يفسر نشأة الزمان:
وقبل ذلك لم يكن نهار ولا ليل، إننا لا يجوز أن نقول عن الماهية الأبدية «كان» و«سيكون» (في الماضي والمستقبل)، وكل ما يجوز قوله عنها: إنها «كائنة» (الحاضر)، وذلك يتضمن أن قولنا: «كان» و«سيكون» عن «الصورة المتحركة للأبدية» لا يعدو الصواب.
إن الزمان وأجرام الزمان قد شهدا الوجود في لحظةٍ واحدة بعينها، وخلق الله الشمس حتى يتسنى لضروب الحيوان أن تتعلم علم الحساب. وقد يكون معنى ذلك أنه لولا تعاقب الأيام والليالي، لما أمكن لنا أن نفكر في الأعداد، ورؤية النهار والليل، والشهور والأعوام، هي التي أمدتنا بمعرفة العدد، وزودتنا بفكرة الزمن؛ ومن ثَم جاءت الفلسفة، وتلك هي النعمة الكبرى التي تدين بها لحاسة البصر.
وهناك أربعة صنوف من الحيوان: (إذا غضضنا الطرف عن العالم في مجموعه) الآلهة والطيور والأسماك وحيوان اليابس. والآلهة في صميمها نار، وما هذه النجوم الثوابت إلا أفراد من الحيوان قدسية وأبدية. ولقد أنبأ الخالق الآلهة أنه قادر على محوها لو أراد، لكنه لا يريد، وكلَّفهما أن تخلق الجانب الفاني من سائر صنوف الحيوان، بعد أن قام هو بخلق الجانب الخالد والقدسي منها (الظاهر أنه لا ينبغي لنا أن نأخذ هذه الفقرة، والفقرات الأخرى التي وردت عن الآلهة عند أفلاطون، مأخذ الجد الذي يحاسب المعنى حسابًا دقيقًا؛ ففي مطلع المحاورة يقول طماوس إنه لا ينشد في علمه إلا الظن المحتمل؛ لأنه لا يستطيع بلوغ اليقين. وواضحٌ أن كثيرًا من التفصيلات من إبداع الخيال، ولم يقصد بها معناها الحرفي).
ويقول طماوس إن الخالق قد خلق روحًا واحدة لكل نجم، وللأرواح إحساس وحب وخوف وغضب؛ فلو تغلبت الروح على هذه الأشياء عاشت عيشًا قويمًا، وإلا فعيشها سقيم. ولو عاش إنسانٌ عيشًا حسنًا، ذهب بعد موته إلى حيث يقيم سعيدًا إلى الأبد في نجمة. أما إذا عاش عيشًا سيئًا، فسينقلب امرأة في الحياة الأخرى، ثم إذا أصرَّ (أو أصرَّت) على مواصلة العيش السيئ، أصبح (أو أصبحت) حيوانًا أعجم، ويظل يتنقل بالتناسخ خطوةً بعد خطوة، حتى يتغلب العقل في النهاية، ولكن أسكن الله بعض الأرواح هذه الأرض، وبعضها أسكنه القمر، وبعضها أسكنه الكواب والنجوم الأخرى، وكلَّف الآلهة أن تصوغ لتلك الأرواح أجسادًا.
ليس التراب والهواء والنار والماء بالمبادئ الأولى، أو بالأحرف أو العناصر الأولى، بل ليست بالمقاطع أو بالمركبات الأولى، فلا يجوز أن نقول عن النار — مثلًا — هذه، بل يجب أن نقول: كهذه. أعني أنها ليست عنصرًا، بل هي أقرب إلى أن تكون حالة من حالات العنصر. وينشأ سؤال في هذا الموضع، هو: تُرى هل الماهيات العاقلة ليست إلا أسماءً؟ إن الجواب على هذا السؤال يتوقف — هكذا يقولون — على سؤالٍ آخر، هو: هل العقل هو نفسه الرأي الصواب أولًا؟ فإذا لم يكن، فلا بُدَّ أن تكون المعرفة معرفة بالماهيات، وإذَن فيستحيل أن تكون الماهيات مجرد أسماء. ومن المؤكَّد أن العقل والرأي الصواب يختلفان؛ لأن أحدهما نتيجة تعليم، والثاني نتيجة إقناع؛ الأول مقرون بالتدليل الحق، على خلاف الثاني. إن الناس جميعًا سواء في مشاركتهم في الرأي الصواب، لكن العقل هو صفة الآلهة، وقليل جدًّا من الناس.
وهذا يؤدي بنا إلى نظريةٍ غاية في الغرابة عن المكان، على اعتبار أنه شيء يتوسط بين عالم الماهيات الثابتة وعالم الأشياء المحسة العابرة.
«هنالك نوعٌ واحد من الكائنات، لا ينفك هو ما هو، لا ينشأ بعد عدم ولا يزول بعد وجود، ويستحيل أن يضاف إليه شيء من خارج نفسه، ولا أن يخرج منه شيء لسواه، وهو دائمًا خفيٌّ على العين مستعصٍ على الحواس جميعًا، ولا يمكن لغير العقل أن يتأمله، وهنالك كائنٌ آخر يطلق عليه نفس الاسم الذي يطلق على النوع السالف، وهو يشبهه، تدركه الحواس، ينشأ بعد أن لم يكن، دائب الحركة، يظهر في المكان بعد عدم، ثم يعود فيزول عن المكان، وهو يُدرَك بالرأي والحس، ثم هنالك كائنٌ ثالث، وهو المكان، أبدي، يستحيل عليه الفناء، وهو مأوًى تأوي إليه المخلوقات كلها، وهو يُدرَك بغير معونة الناس؛ إذ يدرك بنوعٍ من العقل زائف، ويكاد ألا يكون جزءًا من الحقيقي الواقع، وإنما نشهده كأنما نشهد حلمًا، ونقول عن الوجود كله إنه لا بُدَّ بالضرورة أن يكون في مكانٍ ما وأن يشغل فراغًا ما، أما ما ليس في السماء ولا فوق الأرض فليس له وجود.»
هذه فقرةٌ غاية في صعوبة الفهم، ولا أدَّعي لنفسي فهمها فهمًا كاملًا، ولا بُدَّ — في رأيي — أن تكون النظرية المبسوطة فيها قد نشأت من التفكير في الهندسة، التي بدا أنها من موضوعات العقل الخالص — مثل الحساب — ومع ذلك، فعليها أن تعالج المكان الذي هو جانب من العالم المحسوس، وإنه لشطحٌ مع الوهم أن تبحث لهذه النظرية عن أشباه لدى الفلاسفة الذين جاءوا بعد ذاك، لكني لا يسعني إلا أن أظن بأن «كانْت» لا بُدَّ أن يكون قد أحب هذا الرأي عن المكان، على اعتبار أنه يشبه رأيه هو من بعض الوجوه.
يقول طماوس إن العناصر الحقيقية التي منها يتألف العالم المادي ليست هي التراب والهواء والنار والماء، بل هي ضربان من المثلثات القائمة الزوايا، ضربٌ منها هو ما يكون نصف مربع، والآخر هو ما يكون نصف المثلث المتساوي الأضلاع، فقد كان كل شيء في بدايته مضطربًا، «وكان للعناصر المختلفة محالُّ مختلفةٌ قبل أن تُرتب ترتيبًا يكون منه الكون»، لكن الله بعدئذٍ صاغ تلك العناصر بالصورة والعدد، «وجعلها بقدر المستطاع أجمل وأبدع ما يمكن، بعد أن كانت أشياء لا خير فيها ولا جمال». ويقول إن هذين الضربين من المثلثات هما أجمل الصور؛ ولهذا استخدمها في بناء المادة، فبوساطة هذين النوعين من المثلثات يمكنك أن تكوِّن أربعة من الخمسة الأشكال التي تتخذها الأجسام، وكل ذرة في كل عنصر من العناصر الأربعة هي جسم منتظم، فذرَّات التراب مكعبات، وذرات النار هرمية، وذرات الهواء ثمانيَّة الجوانب، وذرات الماء عشرونية الجوانب (وسآتي إلى ذكر الذرات ذوات الاثني عشر جانبًا بعد قليل).
وبعد أن يناقش طماوس موضوع الإحساس، يمضي إلى شرح نفسَي الإنسان؛ فنفسٌ خالدة، وأخرى فانية؛ نفسٌ خلقها الله، وأخرى خلقتها الآلهة. أما النفس الفانية «فمعرَّضة لتأثيراتٍ فظيعة مستحيلة المقاومة، وأول المؤثرات اللذة، تلك المثير الأعظم الذي يغري باقتراف الشر، وبعدئذٍ يجيء الألم الذي يصد الإنسان عن الخير، وكذلك التهور والخوف، وهما مثيران أحمقان، ثم الغضب الذي يكاد ألا يوجد له ما يحد من سورته، والأمل الذي ما أسهل ما يضل سواء السبيل، مزجًا جرى وفق القوانين الضرورية، ومن المزيج صاغوا الإنسان.»
أما النفس الخالدة فموضعها الرأس، وأما الفانية ففي الصدر. وكذلك تجد معلوماتٍ فسيولوجية عجيبة، مثال ذلك أن الغاية من الأمعاء هي أن تحول دون النهم، وذلك بحفظها للطعام داخل الإنسان. وهناك شرحٌ آخر لتناسخ الأرواح؛ فالجبناء والفجار من الرجال سيصبحون في الحياة الآخرة نساءً، وخفاف العقول السُّذَّخ، الذين يظنون أن علم الفلك يمكن تحصيله بالنظر إلى النجوم من غير معرفة الرياضة، سيصبحون طيورًا، وأولئك الذين لا فلسفة لهم سيصبحون كواسر برية، وأغبى الناس فهمًا سيصبحون أسماكًا.
وآخر فقرات المحاورة يُلخِّصها كلها:
«لنا الآن أن نقول إن حديثنا عن طبيعة الكون قد بلغ ختامه، لقد جاء إن العالم صنوف من الحيوان، حتى لقد أصبح حيوانًا مرئيًّا يحتوي على المرئي، وهو الله المحس، هو صورة لله العاقل، وهو أعظم الكائنات وأفضلها وأجملها وأكملها، ذلك هو السماء الواحدة التي لا يوجد سواها.»
إنه من العسير أن تميز في محاورة طماوس ما يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد مما هو مجرد أوهام الخيال، غير أني أعتقد أن ما رواه عن الخلق، من أنه أخرج نظامًا من الفوضى، يجب أن تأخذه مأخذ الجد التام، وكذلك ما قاله عن نِسب العناصر الأربعة وعلاقتها بالأجسام المنتظمة وما هي مؤلفة منها من مثلثات. وواضحٌ أن ما روى عن الزمان والمكان هو ما يعتقده أفلاطون حقًّا، وكذلك الرأي القائل بأن العالم المخلوق صورة من نموذجٍ أبدي، وامتزاج الضرورة بالغاية في العالم، عقيدةٌ آمن بها اليونان كلهم تقريبًا، قبل نشأة الفلسفة بزمانٍ طويل، وقد قبلها أفلاطون، فتخلص بذلك من مشكلة الشر، التي يتعقَّد بها اللاهوت المسيحي. وأظن أن تصويره للعالم بحيوانٍ تصويرٌ مقصود على سبيل الجد، لكنني أحسب التفصيلات التي ذُكرت عن تناسخ الأرواح، والدور الذي نُسب للآلهة، وغير ذلك من التوافه، قد أضيفت لتخلع على الحديث لونًا من الوصف الحي الذي يقربه إلى التصديق.
والمحاورة كلها — كما أسلفت القول — تستحق الدراسة لتأثيرها العظيم في التفكير القديم والوسيط، وليس يقتصر تأثيرها هذا على أقل جوانبها جريًا مع أوهام الخيال.