المعرفة والإدراك الحسي عند أفلاطون
معظم المحدَثين يُسلِّمون بأن المعرفة التجريبية معتمدة على الإدراك الحسي ومستمدة منه، لكن هنالك رأيًا يختلف عن هذا كل الاختلاف، تجده عند أفلاطون وغيره من فلاسفة مدارس معينة أخرى؛ إذ يرى هؤلاء أن ليس هنالك ما هو جدير باسم «معرفة» مما يمكن استقاؤه من الحواس، وأن المعرفة الحقيقية الوحيدة هي التي تتصل بالمدركات العقلية، في رأي هؤلاء أن «٢ + ٢ = ٤» معرفة بمعناها الصحيح، أما عبارة كهذه «الثلج أبيض» ففيها من الغموض وعدم اليقين ما لا يجعل لها محلًّا بين مجموعة الحقائق التي يعرفها الفيلسوف.
ولعلنا نستطيع أن نرد هذه النظرة إلى أصولها عند بارمنيدس، لكن دنيا الفلسفة مدينة بها في صورتها الصريحة لأفلاطون، وفي نيتي أن أتناول في هذا الفصل أوجه النقد التي وجَّهها أفلاطون إلى الرأي القائل بأن المعرفة هي نفسها الإدراك الحسي، ونقده هذا يشغل النصف الأول من محاورة تياتيتوس.
غاية هذه المحاورة هي أن تجد تعريفًا لكلمة «معرفة»، لكنها تنتهي دون أن تصل إلى تعريف، اللهم إلا نتيجة سلبية، وترى مذاهب عدة مبسوطة في هذه المحاورة ومرفوضة، لكنك لا تجد فيها اقتراحًا بتعريفٍ يُعَد وافيًا.
وأول التعريفات المقترحة — وهو وحده التعريف الذي سأتناوله بالبحث — يضعه تياتيتوس في هذه الكلمات:
«إنه ليُخيَّل إليَّ أن من يعرف شيئًا إنما يدرك بحواسه هذا الشيء الذي يعرفه، فلست أرى الآن رأيًا سوى أن المعرفة هي الإدراك الحسي، ولا شيء غير الإدراك الحسي.» ويقول سقراط إن هذا الرأي هو نفسه رأي بروتاجوراس الذي يقول: «إن الإنسان مقياس كل شيء.» أعني أن أي شيء «هو بالنسبة لي ما يظهر لي منه، وهو بالنسبة لك ما يظهر لك منه». ثم يضيف سقراط إلى ذلك قوله: «فالإدراك الحسي إذَن هو دائمًا شيء كائن، وهو باعتباره سبيلًا للمعرفة لا يتطرق إليه الخطأ.»
ويتبع ذلك شطرٌ كبير من المناقشة خاص بتحديد الإدراك الحسي، حتى إذا ما فرغوا من ذلك، لم يعد الأمر بحاجة إلى وقتٍ طويل لإقامة البرهان على أن هذا الشيء الذي يقال له إدراك حسي، كما تبين من تحديده، يستحيل أن يكون معرفة، ويضيف سقراط إلى مذهب بروتاجوراس مذهب هرقليطس، وهو أن كل شيء في تغيرٍ دائم؛ أعني أن «كل شيء مما يسرنا أن نصفه بالكينونة إن هو في حقيقة أمره إلا سائر في طريقه إلى أن يصير شيئًا آخر». ويعتقد أفلاطون أن هذا الكلام يصدق على المحسات، لكنه لا ينطبق على موضوعات المعرفة الحقة، ومع ذلك فآراؤه الإيجابية في هذا الصدد تظل من أول المحاورة إلى آخرها متوارية لا يعبر عنها تعبيرًا صريحًا.
وينتج من مذهب هرقليطس — حتى وإن لم يكن ممكن التطبيق إلا على موضوعات الحس — مضافًا إليه تعريف المعرفة على أنها الإدراك الحسي، أقول إنه ينتج من هذا أن المعرفة هي معرفة بما يصير، لا بما هو كائن.
وها هنا في هذا الموضع، تصادف بعض الألغاز التي هي من طراز أوَّلي جدًّا، فيقال مثلًا إنه ما دام العدد ٦ أكبر من العدد ٤، لكنه أصغر من العدد ١٢، فإن ٦ تكون كبيرة وصغيرة معًا، وفي هذا تناقض، كذلك يقال إن سقراط الآن أطول من تياتيتوس الذي لا يزال غلامًا لم يرشد بعد، لكن سقراط سيكون بعد بضعة أعوام أقصر من تياتيتوس؛ إذَن يكون سقراط طويلًا وقصيرًا في آنٍ واحد؛ فالظاهر أن فكرة القضية ذات العلاقات، قد أربكت أفلاطون كما أربكت معظم الفلاسفة الأعلام حتى هيجل (بما في ذلك هيجل نفسه)، ومع ذلك فهذه الألغاز ليست جزءًا من صميم موضوع المناقشة، ويمكن إهمالها.
ثم يعود الحوار إلى موضوع الإدراك الحسي، فيُعزى إلى تفاعل بين الموضوع المحس وعضو الحس، وكلاهما — بناءً على مذهب هرقليطس — متغير أبدًا، ثم كلاهما في تغيره يغير الصورة الحسية المدرَكة، فيلاحظ سقراط أنه وهو معافًى يجد الخمر حلوًا، لكنه يجده مرًّا وهو عليل، فها هنا تغيُّر المدرِك هو الذي يُحدِث تغيرًا في الصورة الحسية المدرَكة.
وتذكر اعتراضات معينة على مذهب بروتاجوراس، ثم يسحب بعضها فيما بعد، فيعترض بأن بروتاجوراس كان ينبغي كذلك أن يعترف بأن الخنازير والقردة مقاييس لكل شيء، ما دامت الخنازير والقردة هي أيضًا كائنات مدركة، وتثار مشكلات خاصة بصدق الإدراك الحسي في الأحلام وحالات الجنون، فيقترح مقترح بأنه لو صدق بروتاجوراس، فليس هنالك تفاوت في المعرفة بين إنسانٍ وإنسان، فلا يكون بروتاجوراس في مثل حكمة الآلهة فحسب، بل إن الأمر ليجاوز هذا إلى ما هو أفظع؛ لأنه عندئذٍ لا يكون أكثر حكمة من شخصٍ مأفون، أضف إلى ذلك أنه إذا كانت الأحكام التي يقولها شخصٌ ما لها نفس الصدق الذي يكون لأحكام شخص آخر، فالذين يحكمون على بروتاجوراس بالخطأ من حقهم أن يظن بحكمهم الصواب كما من حقه أن يظن الصواب بما يقول.
وعلى الرغم من أن سقراط هو الذي ابتكر هذا الجواب ابتكارًا، إلا أنه هو نفسه لا يقتنع به، فهو يؤيده بقوله مثلًا: إن الطبيب حين يتنبأ بمجرى مرضي، فهو عندئذٍ يعرف بالفعل عن مستقبلي أكثر مما أعرف أنا، وحين يختلف الناس عما يجمل بالدولة أن تُصدِره من قرارات، فإن النتائج تبين أن بعض الناس كان أوسع علمًا بالمستقبل من بعضهم الآخر، وعلى ذلك فلا بُدَّ لنا أن نعترف بالنتيجة، وهي أن الرجل الحكيم أفضل مقياسًا للأشياء من الأحمق.
كل هذه اعتراضات على الرأي القائل بأن كل إنسانٍ مقياس لكل شيء، وهي كذلك اعتراضات بطريقٍ غير مباشر على المذهب القائل بأن «المعرفة» معناها «إدراكٌ حسي» بمقدار ما يؤدي هذا الرأي الأخير إلى الرأي الأول، وهنالك فضلًا عن ذلك حجة مباشرة، وهي أنه لا بُدَّ من الاعتراف بالذاكرة، كما اعترفنا بالإدراك الحسي، ويسلم السامعون بهذا، ويُعدَّل التعريف المقترَح تعديلًا يلائم هذا الاقتراح.
وإن ما تؤدي إليه الحجة السالفة هو أنه مهما يكن من أمر التغير الدائم الذي يصيب الأشياء، فلا بُدَّ أن تكون معاني الكلمات ثابتة، على الأقل مدى فترة معينة؛ إذ لولا ثباتها لما تحدد معنى عبارة تقال، ولما صح أن توصف عبارة بالصواب دون الخطأ، لا بُدَّ أن يكون ثَمة شيء ثابت، مع التهاون في معنى الثبات، ذلك إن أردنا أن تصبح المعرفة أو المناقشة في حدود الإمكان. وفي رأيي أن ذلك أمرٌ لا مفر من الاعتراف به، غير أننا نستطيع أن نأخذ بكثير جدًّا من التغير دون أن يكون في ذلك ما يتنافى مع ذلك الاعتراف.
وها هنا — في هذا الموضع — يرفض المتحاورون أن يناقشوا رأي بارمنيدس، على أساس أنه أعظم وأضخم من أن يكون موضعًا لنقاش، فهو «شخصية موقَّرة مهيبة»، «وكان فيه شيء من العمق يحوطه الجلال من جميع أقطاره»، وهو «رجل أضعه من احترامي في منزلة فوق الجميع». وإن أفلاطون بهذه العبارات ليبين حبه لعالمٍ ثابت، وكرهه للتغير الذي قال به هرقليطس، ذلك التغير الذي سلم به لكي يمضي في الحوار فحسب، لكنه بعد أن عبَّر عن جلاله هذا لبارمنيدس، أبى أن يأخذ في شرح وجهة النظر البارمنيدية التي هي البديل الذي يؤخذ لو رُفض هرقليطس.
وعندئذٍ نبلغ من المحاورة موضعًا يدلي فيه أفلاطون بآخر حججه، وهي حجة يوجهها ضد التسوية التامة بين المعرفة والإدراك الحسي، ويبدأ الحديث بقوله إننا ندرك خلال الأعين والآذان، لا بالأعين والآذان، ثم يمضي إلى القول بأن بعض معرفتنا لا صلة له البتة بأي عضو من أعضاء الحس، فنستطيع — مثلًا — أن نعرف بأن الأصوات لا تشبه الألوان، ولو أنه ليس ثَمة عضو معين من أعضاء الحس في إمكانه أن يدرك الأصوات والألوان معًا، كلا ولا هناك عضو من أعضاء الحس لإدراك «الوجود واللاوجود، والتشابه والتباين، والهوية والاختلاف، وكذلك الوحدة والأعداد بصفةٍ عامة». وقل هذا نفسه في الشريف والوضيع، والخير والشر؛ «فالعقل يتأمل بعض الأشياء متخذًا من نفسه أداة لتأملاته، كما أنه يدرك بعض الأشياء الأخرى بوساطة ملَكات الجسم.» إننا ندرك الصُّلب واللين باللمس، لكنه العقل هو الذي يحكم بأنهما موجودان، وبأنهما ضدان، إن العقل وحده هو الذي في مستطاعه أن يبلغ الوجود، ولا نستطيع بلوغ الحق إذا لم نبلغ الوجود. ويلزم عن هذا أننا لا نعرف الأشياء بالحواس وحدها؛ إذ الحواس وحدها لا تمكننا من إدراك وجود الأشياء؛ وإذَن فقوام المعرفة هو التأمل، لا الانطباعات الحسية، والإدراك الحسي ليس معرفة لأنه «لا يأخذ بنصيب في إدراك الحقيقة، ما دام لا يأخذ بنصيب في إدراك الوجود».
- (١)
المعرفة إدراكٌ حسي.
- (٢)
الإنسان مقياس كل شيء.
- (٣)
كل شيء في تغير دائم.
-
(١)
والموضوع الأول من هذه الثلاثة — وهو وحده الموضوع الذي يهم القائمين بالحوار قبل أي موضوع سِواه — يوشك ألا يتصدى له المتناقشون موضوعًا قائمًا بذاته، إلا في الفقرة الأخيرة، التي كانت موضع حديثنا الآن؛ ففي هذه الفقرة يحتج بأن الموازنة ومعرفة الوجود وفهم العدد كلها أمورٌ ضرورية للمعرفة، لكننا لا نستطيع أن ندخلها في باب الإدراك الحسي؛ لأنها ليست نتيجة لفعل أي عضو من أعضاء الحس، وإن ما يمكن قوله عن هذه الأشياء ليختلف باختلافها، وسنبدأ بالحديث عن التشابه وعدم التشابه.
إنني — شخصيًّا — مستعدٌّ للاعتراف بأنه ليس من قبيل «الإحساس» أن أرى لونين معينين معًا، فأدرك أنهما يتشابهان أو يتباينان — حسب الحالة القائمة عندئذٍ — بل إن إدراك ما بينهما من تشابه أو تباين هو «حكم من الإدراك الحسي»، فرأيي هو أن الإحساس ليس معرفة، بل مجرد حادثة وقعت للحواس، تدخل في نطاق علم الطبيعة، كما تدخل في نطاق علم النفس سواءً بسواء، إننا بطبيعة تكويننا نعتقد — كما اعتقد أفلاطون — أن الإدراك الحسي علاقة قائمة بين المدرِك وبين الموضوع المدرَك، فترانا نقول «أرى منضدة»، لكن «أنا» و«منضدة» في هذه العبارة تركيبتان منطقيتان؛ فالذي وقع إن هو في صميمه إلا لمعاتٍ معينة من اللون، فارتبطت هذه اللمعات اللونية بتصوراتٍ لمسية معينة، وقد يؤدي حدوثها إلى نطقنا بكلمات، وقد تكون مصدرًا للذكريات عندنا؛ فالإحساس إذا ما ملئ بالتصورات اللمسية يصبح «شيئًا مدركًا» نفرض فيه أنه مما ينتمي إلى عالم الطبيعة؛ وأما الإحساس إذا ملئ بكلماتٍ أو ذكريات، فيصبح «إدراكًا حسيًّا» يكون جزءًا من «الذات المدركة»؛ وعندئذٍ يعد منتميًا إلى عالم العقل. إن الإحساس في ذاته مجرد حادثة حدثت، لا توصف بصدق لا كذب، وإذا ملأته بكلماتٍ فهو حكمٌ قابل لأن يوصف بالصدق أو الكذب، ومثل هذا الحكم هو ما أُسميه «حكمًا من الإدراك الحسي»؛ فالقول بأن «المعرفة إدراكٌ حسي» لا بُدَّ أن نفسره على أن معناه هو أن «المعرفة أحكام من الإدراك الحسي»، فليس هو بالقول المقبول من الوجهة النحوية إلا وهو في هذه الصورة.
ولنعد إلى التشابه والتباين، فأقول إن من الممكن جدًّا — حين أدرك لونين في آنٍ واحد — أن يكون ما بينهما من تشابه أو تباين جزءًا من المعطى الحسي، وأن يثبت في حكمٍ من الإدراك الحسي. إن حجة أفلاطون بأنه ليس لدينا عضو من أعضاء الحس لإدراك التشابه والتباين، تتجاهل المراكز العصبية في الدماغ، وتزعم أن أعضاء الحس كلها لا بُدَّ أن تكون على سطح الجسم.
والذي يؤيد إدخالنا للتشابه والتباين فيما يجوز أن يكون من المعطيات الإدراكية في الحس، هو الدليل الآتي: لنفرض أننا نرى لونين ا، ب، وأننا نحكم عليهما بقولنا «ا مثل ب»، ثم لنفرض فوق ذلك — كما يفعل أفلاطون — أن مثل هذا الحكم صحيح بصفةٍ خاصة في الحالة الموضوعة أمام نظرنا الآن؛ إذَن فهناك علاقة تشابه بين ا، ب. وليس الأمر مجرد حكم نقوله نحن مثبتين به وجود ذلك التشابه؛ إذ لو لم يكن في الأمر إلا حكمنا نحن لكان حكمًا جزافًا، لا يصلح أن يحكم عليه بصدق أو كذب، لكن الواضح هو أنه حكم مما يصح أن يوصف بالصدق أو الكذب؛ فالعلاقة يمكن قيامها فعلًا بين ا، ب، ويستحيل أن تكون مجرد كائن «عقلي». إن الحكم بأن «ا مثل ب» صادق (إذا كان صادقًا) لأنه مستند إلى «واقع»، فشأنه هو نفسه شأن حكمنا بأن «ا أحمر» أو «ا مستدير»؛ فليس العقل عاملًا في إدراك التشابه أكثر من كونه عاملًا في إدراك اللون.
وأنتقل الآن إلى «الوجود» الذي يعلق عليه أفلاطون أهمية كبرى، فهو يقول إن لدينا فكرة تشمل الصوت واللون معًا، وهي فكرة أن كليهما موجود، فالوجود ينتمي إلى كل شيء، وهو بين الأشياء التي يدركها العقل من تلقاء نفسه، وإذا لم ندرك الوجود فمن المستحيل أن ندرك الحقيقة.
ونقد أفلاطون في هذه النقطة يختلف كل الاختلاف عن طريقة نقده في نقطة التشابه والتباين، فالحجة عليه هنا، هي أن كل ما يقوله عن الوجود مردُّه إلى خطأ في التركيب النحوي، أو قل هو خطأ في تركيب الكلام، وهذه نقطة هامة، لا بالنسبة إلى أفلاطون فحسب، بل كذلك بالنسبة إلى أمورٍ أخرى كالحجة الوجودية التي تقال برهانًا على وجود الله.
فافرض أنك تقول لطفل «إن الأُسد موجودة، أما وحيدة القرن فلا وجود لها.» فأنت تستطيع أن تبرهن على ما نقوله بالنسبة للأسد، بأن تصطحبه إلى حديقة الحيوان، وهناك تشير له قائلًا: «انظر هذا أسد.» ولن تضيف إلى قولك هذا — ما لم تكن فيلسوفًا — عبارة كهذه: «وتستطيع أن ترى أن ذلك موجود.» فإذا أضفت هذه العبارة باعتبارك فيلسوفًا، فأنت إنما تنطق بها هراءً لا معنى له، فقولك «الأُسد موجودة» معناه «ثَمة أسد»؛ أعني أن «س أسد» تكون صحيحة حين توجد س المناسبة لها، لكننا لا نستطيع أن نقول عن «س المناسبة» هذه بأنها موجودة؛ إذ لا يمكن نسبة فعل الوجود إلى وصف، كاملًا كان ذلك الوصف أو ناقصًا، فكلمة «أسد» وصفٌ ناقص لأنها تنطبق على أفرادٍ كثيرة، أما عبارة «أكبر أسد في حديقة الحيوان» فوصفٌ كامل؛ لأنه لا ينطبق إلا على شيءٍ واحد.
وافرض الآن أني أنظر إلى بقعةٍ حمراء لامعة، فقد أقول: «هذا هو ما أدركه بالحس الآن.» ولي أن أقول كذلك: «إن ما أدركه الآن بالحس موجود.» لكن لا ينبغي أن أقول: «هذا موجود.» لأن كلمة «موجودة» لا يكون لها معنًى إلا إذا نسبت إلى وصفٍ لا إلى اسم؛٣ وبهذا نتخلص من «الوجود» على اعتبار أنه شيء من الأشياء التي يدركها العقل في الموضوعات التي يتعلق بها إدراكه. وأنتقل الآن إلى فهم الأعداد؛ فها هنا لا بُدَّ من بحث شيئين مختلفين كل الاختلاف: أولهما قضايا الحساب، وثانيهما قضايا العد التجريبية. فعبارة «٢ + ٢ = ٤» من النوع الأول، وعبارة «لي عشرة أصابع» من النوع الثاني.فأنا أوافق أفلاطون على أن الحساب، والرياضة البحتة بصفةٍ عامة، ليست مستمدة من الإدراك الحسي؛ ذلك لأن الرياضة البحتة قوامها تحصيل حاصل، شبيهٌ بقولنا «الناس ناس» ولو أنها في العادة أكثر من ذلك تعقيدًا، فلِكي نعلم أن القضية الرياضية صحيحة لا يلزمنا دراسة للعالم، بل كل ما يلزمنا هو دراسة معاني الرموز، والرموز — إذا ما نحَّينا التعريفات (التي غايتها هي مجرد الاختصار) — إن هي إلا كلمات مثل «أو» و«ليس» و«كل» و«بضع»؛ فالمعادلة الرياضية تثبت بأن مجموعتين من الرموز لهما نفس المعنى. وما دمنا نحصر أنفسنا في الرياضة البحتة، فلا بُدَّ أن يكرن هذا المعنى مما يمكن فهمه دون أن نعرف شيئًا على الإطلاق عما يقع في نطاق الإدراك الحسي، وعلى ذلك، فالصدق الرياضي — كما يذهب أفلاطون — غير معتمد على الإدراك الحسي، لكنه صدق من نوعٍ فريد، ولا ينطبق إلا على الرموز وحدها.
أما قضايا العد، مثل «لي عشرة أصابع»، فتقع في طائفةٍ مختلفة عما أسلفنا كل الاختلاف، وهي بداهة معتمدة على الإدراك الحسي، إلى حدٍّ ما على الأقل، وواضحٌ أن فكرة «إصبع» قد جرَّدناها من الإدراك الحسي، ولكن ماذا نقول في فكرة «عشرة»؟ إنه ليبدو أننا ها هنا أمام كلي حقيقي، أو مثال أفلاطوني، فنحن لا نستطيع أن نقول: إننا قد جرَّدنا «عشرة» من الإدراك الحسي؛ لأن كل مدرك حسي مما يمكن أن ننظر إليه من ناحية كونه شيئًا آخر غير كونه عشرة. افرض أنني سأسمي مجموع الأصابع في إحدى اليدين بكلمة «الإصبعية»، عندئذٍ يمكنني أن أقول إن لي «إصبعيتين». وهي عبارة تصف نفس الواقعة الحسية التي سبق لي أن وصفتها مستعينًا بالعدد عشرة، وعلى ذلك ففي عبارة «لي عشرة أصابع» يلعب الإدراك الحسي دورًا أصغر، ويقوم الإدراك العقلي بدورٍ أكبر مما يحدث في عبارة مثل «هذا أحمر»، ومع ذلك فالاختلاف في الدرجة وحدها.
والجواب الكامل فيما يتعلق بالقضايا التي ترد فيها كلمة «عشرة» هو أن هذه القضايا إذا ما حُلِّلت تحليلًا صحيحًا، وُجد أنها لا تحتوي على شيءٍ بين مقدماتها يقابل كلمة «عشرة»، وشرح هذا بالنسبة لعددٍ كبير مثل عشرة فيه تعقيدٌ كثير؛ ولذا فيحسن أن نستبدل بالعبارة السالفة عبارةً أخرى هي: «لي يدان.» وهذه معناها ما يأتي:
«هنالك أو هنالك ب بحيث لا تكون «ا، ب» رمزَين لشيءٍ واحد، ومهما يكن معنى س فالعبارة «س يدٌ لي» عبارة صحيحة في حالةٍ واحدة فقط، وهي أن تكون س هي ا، أو س هي ب.»
في هذا التحليل لا ترد كلمة «اثنين»، نعم إن حرفين هما ا، ب، يردان في العبارة، لكن ليس بنا حاجة لمعرفة أنهما اثنان، أكثر من حاجتنا إلى معرفة أنهما سوداوان أو بيضاوان، أو أي لونٍ آخر مما عسى أن يكونا ملونين به.
وهكذا تكون الأعداد صورية بمعنًى دقيق من معانيها؛ فالحالات الواقعة التي تخلع الصدق على قضايا مختلفة كلها يثبت عن مجموعات مختلفة من الأشياء أن كلًّا منها يتألف من عضوين، هذه الحالات الواقعة كلها لا تشتمل على عنصر مشترك بينها جميعًا، بل المشترك بينها هو الصورة؛ وإذَن فالقضايا في هذه الحالة تختلف عن القضايا التي تقال عن «تمثال الحرية» أو عن «القمر» أو عن «جورج واشنطن»؛ لأن أمثال هذه القضايا تشير إلى جزءٍ معين من الزمان والمكان، وهذا الجزء المعين الزماني المكاني هو العنصر المشترك بين العبارات المختلفة التي يمكن أن تقال عن «تمثال الحرية». أما القضايا التي تقول «ثَمة اثنان من كذا وكذا»، فليس بينها شيء مشترك، اللهم إلا صورة تشترك فيها جميعًا، والعلاقة بين لفظة «اثنين» وبين معنى القضية التي ترد فيها هذه اللفظة أكثر تعقيدًا بدرجةٍ كبيرة من العلاقة الكائنة بين لفظة «أحمر» وبين معنى القضية التي ترد فيها، فلنا أن نقول — بمعنًى ما — إن اللفظة «اثنين» لا تعني شيئًا؛ وذلك لأنها حين ترد في عبارةٍ صادقة، فلا يكون لها بين مقومات المعنى عنصر يقابلها، ونستطيع — إذا شئنا — أن نمضي في قولنا إن الأعداد أبدية، ثابتة لا تتغير، وما إلى ذلك من صفات، لكننا يجب أن نضيف إلى ذلك قولنا بأنها كذلك خيال منطقي.
وهنالك نقطة أخرى، فأفلاطون يقول عن الصوت واللون: «إنهما معًا اثنان، وكل منهما واحد.» وقد نظرنا في أمر الاثنين وسننظر الآن في أمر الواحد، فها هنا غلطة شبيهة جدًّا بالغلطة الخاصة بالوجود؛ ذلك أن المحمول «واحد» لا يضاف إلى الأشياء، بل يضاف فقط إلى الفئات ذوات العضو الواحد، فلنا أن نقول: «إن الأرض لها تابعٌ واحد.» لكن من الخطأ في التركيب اللغوي أن نقول «إن القمر واحد»؛ إذ ماذا يكون معنى هذه الجملة؟ إن في إمكانك كذلك أن تقول «إن القمر كثير» ما دامت أجزاؤه كثيرة. أما قولك «الأرض لها تابعٌ واحد»، فيثبت صفة من صفات المدرك الكلي «تابع الأرض»، وأعني بها الصفة التالية:
«هنالك شيء ج بحيث تكون العبارة «س تابع للأرض» صادقة في حالةٍ واحدة فقط، وهي حين تكون س هي ج.»
هذه حقيقة فلكية، لكنك إذا أحللت كلمة «قمر» أو أي اسمٍ آخر محل العبارة «تابع الأرض» كانت للنتيجة إما بغير معنًى، وإما تحصيل حاصل؛ فكلمة «واحد» إذَن صفة تحمل على مدركات كلية معينة، كما أن «عشرة» صفة تحمل على المدرك الكلي «إصبعي». أما أن تقول إنه «ما دامت الأرض لها تابعٌ واحد، وهو القمر، إذَن فالقمر واحد»، فقولك هذا يكون به من سوء التركيب ما في العبارة الآتية: «كان الحواريون اثني عشر، وكان بطرس حواريًّا، وإذَن فبطرس اثنا عشر.» وهو قول كان يصدق لو استبدلنا بكلمة «اثني عشر» كلمة «أبيض».
يتبين من الاعتبارات السالفة أنه بينما يوجد نوعٌ صوري من المعرفة، وهو الرياضة والمنطق، لا يستمد من الإدراك الحسي، فإن حجة أفلاطون فيما يتعلق بكل ضروب المعرفة الأخرى، فيها مغالطة، وهذا بالطبع لا ينهض دليلًا على أن النتيجة التي وصل إليها باطلة، وإنما يدل فقط على أنه لم يقم برهانًا سليمًا على افتراضه بأنها صحيحة.
-
(٢)
وأنتقل الآن إلى وجهة نظر بروتاجوراس، التي يقول فيها إن الإنسان هو مقياس كل شيء، أو إن كل فرد من الناس هو مقياس كل شيء، كما يفسرها المفسرون، فلا مناص هنا من تحديد الخط الذي تسير عليه المناقشة؛ إذ لا بُدَّ — أولًا — أن نفرق بين المدركات الحسية وبين الاستدلالات، فحين نكون بصدد المدركات الحسية، فلا مندوحة للفرد من الناس أن يكون محصورًا في مدركاته الخاصة، فما يعرفه عن المدرات الحسية التي للآخرين إنما يعرفه استدلالًا من مدركاته هو الخاصة في السمع والقراءة؛ فمدركات الحالمين والمجانين — باعتبارها مدركات في الحس — لا تقل صدقًا عن مدركات الآخرين، وكل الاعتراض عليها هو أنه لما كان السياق الذي توضع فيه تلك المدركات سياقًا غير مألوف، فالأرجح أن تؤدي تلك المدركات إلى استدلالاتٍ خاطئة.
ولكن ماذا نقول في الاستدلالات؟ أهي كذلك شخصية خاصة؟ لا بُدَّ لنا أن نعترف بأنها كذلك بمعنى من معانيها، فالذي عليَّ أن أومن به لا أومن به لسببٍ أراه أنا جديرًا بالثقة. نعم قد يكون السبب الذي يدعوني إلى التصديق قولًا يقوله سواي، لكنه مع ذلك قد يكون سببًا كافيًا لا ينقصه شيء، مثال ذلك حين أكون قاضيًا يستمع إلى شهادة الشهود، ومهما كنت من التشيع لبروتاجوراس، فمن المعقول أن أقبل الفكرة التي يقولها لي إخصائي الحساب عن مجموعةٍ من الأرقام، مفضلًا فكرته على فكرتي أنا؛ لأنني ربما أكون قد وجدت في مراتٍ متكررة أنني حين أختلف معه أول الأمر، أعود فأتبين بعد عنايةٍ قليلة في النظر إلى المسألة أنه هو الذي كان على صواب؛ وبهذا المعنى يجوز لي أن أسلم بأن سواي أحكم مني. إن وجهة النظر البروتاجورية إذا فُسرت تفسيرًا صحيحًا، لا تتضمن الرأي بأني لا أخطئ أبدًا، وكل ما تتضمنه هو أن البرهان على أنني أخطأت لا بُدَّ أن يظهر لي أنا. إن نفسي فيما مضى يمكن أن توضع للحكم عليها كما يحكم على شخصٍ آخر، لكن ذلك كله قائمٌ على أساس الافتراض بأن الاستدلالات — إذا قورنت بالمدركات الحسية — تشتمل على معيار للصدق غير شخصي، لو كان أي استدلال انتهى إليه لا يختلف قط عن أي استدلالٍ آخر، إذَن لسلَّمنا بأن الفوضى العقلية التي يقول أفلاطون إنها تلزم عن موقف بروتاجوراس، تقع فعلًا نتيجةً لمثل تلك الوجهة من النظر، فيظهر أن أفلاطون قد أصاب في هذه النقطة، وهي نقطة هامة، غير أن المعتنق للمذهب التجريبي سيقول إن الإدراكات الحسية هي مقياس الصدق في الاستدلال الذي يتناول مادةً تجريبية.
-
(٣)
لقد هوَّل أفلاطون في عرضه لمذهب التغير الشامل لكل شيء، ومن العسير علينا أن نفرض بأن إنسانًا واحدًا قد اعتنق ذلك المذهب في الصورة المُغالية التي عرضه بها أفلاطون، فلنفرض مثلًا أن الألوان التي نراها لا تنفك تتغير، فكلمة مثل «أحمر» تنطبق على ألوانٍ كثيرة. وإذا قلنا «أرى أحمر» فليس هنالك سبب يجعل من المستحيل أن يظل هذا القول صادقًا خلال الزمن الذي يستغرقه النطق بالعبارة. إن أفلاطون ينتهي إلى ما ينتهي إليه من النتائج بتطبيقه على عمليات التغير المستمر تقابلًا منطقيًّا مثل إدراك ولا إدراك، ومعرفة ولا معرفة، لكن هذا التقابل لا يصلح لوصف تلك العمليات. افرض أنك ترقب رجلًا في يومٍ يكتنفه الضباب، وهو يبتعد عنك سائرًا في الطريق، فهو يزداد غموضًا كلما ابتعد عنك، حتى تجيء لحظة تثق عندها أنك لم تعد تراه، لكن هناك فترة متوسطة من الشك، هل تراه أو لا تراه، إن المتقابلات المنطقية قد اخترعناها نحن لخدمة مصالحنا نحن، غير أن التغير المستمر محتاج إلى جهازٍ كَمِّي، ينكر أفلاطون إمكان وجوده؛ وإذَن فما يقوله في هذا الموضوع خارج عن مجال البحث خروجًا بعيدًا.
لكنه لا بُدَّ من التسليم في الوقت نفسه بأنه ما لم يكن للكلمات معانٍ محددة إلى حدٍّ ما، استحال الحديث، غير أنه من اليسير في هذا الموضع أيضًا أن نسرف في إطلاق القول من القيود، فالكلمات تتغير معانيها فعلًا، خذ مثلًا كلمة «فكرة»؛ فلسنا نستطيع أن نقول معنًى يشبه المعنى الذي استعملها أفلاطون به، إلا بعد شوطٍ طويل من التعلم، ومن الضروري أن يكون التغير الطارئ على معاني الكلمات أبطأ من التغير الذي تصفه تلك الكلمات، ولكنه ليس من الضروري ألا يكون هناك تغير أبدًا في معاني الكلمات، وقد لا يكون هذا الكلام صادقًا على الألفاظ المجردة المستعمَلة في المنطق والرياضة، لكن هذه الألفاظ — كما رأينا — تنطبق على صورة القضايا لا على مادتها، وهنا كذلك نلاحظ أن المنطق والرياضة لهما موقف فريد، وإن يكن أفلاطون قد تأثَّر بالفيثاغوريين فبالغ في المشابهة بين ضروب المعرفة الأخرى وبين الرياضة، فوقع في غلطةٍ وقع فيها كثيرون من أعظم الفلاسفة، لكن ذلك لا ينفي عنها أنها خطأ.