ميتافيزيقا أرسطو
في دراستنا لفيلسوفٍ عظيم، وفي دراستنا لأرسطو بصفةٍ خاصة، لا بُدَّ لنا من دراسته على وجهين؛ فندرسه بالنسبة لأسلافه، وبالنسبة لمن جاءوا بعده. أما بالنسبة للأسلاف، فلأرسطو عدد ضخم من الحسنات. وأما بالنسبة لمن جاءوا بعده، فله عدد لا يقل عن ذلك ضخامةً من السيئات، ولو أن تبعة سيئاته تقع على عاتق من جاءوا بعده أكثر مما تقع على عاتقه هو، فقد جاء في ختام الفترة المتميزة بالأصالة من تاريخ الفكر اليوناني، ثم مضى بعد موته ألفا عام قبل أن ينجب العالم فيلسوفًا يمكن أن يدنو منه في مكانته. وفي أواخر هذه الحقبة الطويلة، كان نفوذه قد بات في العلم وفي الفلسفة على السواء عقبةً كئودًا في سبيل التقدم؛ فمنذ بداية القرن السابع عشر، ترى كل خطوة تقريبًا من خطوات التقدم العقلي مضطرةً أن تبدأ بالهجوم على رأي من الآراء الأرسطية، ولا يزال هذا يصدق على المنطق حتى يومنا هذا، لكن فداحة المصاب لم تكن لتقل — إن لم تزد — إذا كان قد كُتب لأحدٍ من أسلافه (وربما استثنينا ديمقريطس) أن يظفر بمثل ما ظفر به أرسطو من قوة النفوذ؛ فلِكي ننصفه لا بُدَّ — أولًا — من نسيان شهرته المفرطة بعد موته، ثم لا بُدَّ من نسيانِ ما سُدِّد نحوه بعد موته من اتهاماتٍ مفرطة كذلك، جاءت نتيجةً لتلك الشهرة.
بل إنه لمما يبعث على دهشةٍ أعظم، أن الإسكندر لم يؤثر في أرسطو إلا بهذا المقدار الضئيل، حتى لقد راح أرسطو في تأملاته السياسية متناسيًا حقيقة واقعة، وهي أن عصر الدول التي يكون قوام الدول منها مدينة واحدة، قد زال من الوجود ليحل محله عصر الإمبراطوريات، وإني لأظن أن أرسطو قد لبث إلى آخر حياته يرى في الإسكندر «ولدًا فارغ الوقت عنيدًا، لا يستطيع أبدًا أن يفهم من الفلسفة شيئًا». فعلى وجه الجملة، يظهر أن اتصال هذين الرجلين العظيمين أحدهما بالآخر لم تكن له أية ثمرة، كانا يعيشان في عالمين مختلفين.
عاش أرسطو في أثينا بين عامَي ٣٣٥ق.م. و٢٢٣ق.م. (وقد مات الإسكندر في هذا العام الأخير.) وخلال هذه الأعوام الاثني عشر أسَّس مدرسته وكتب معظم كتبه. ولما مات الإسكندر ثار الأثينيون وانقلبوا على أصدقائه، ومنهم أرسطو الذي اتهموه بالخروج على الدين، لكنه — على خلاف سقراط — لاذ بالفرار هربًا من العقاب، ومات في العام التالي لذلك (٣٢٢).
إن أرسطو الفيلسوف ليختلف عن كل أسلافه في كثيرٍ من الوجوه، فهو أول من كتب كما يكتب الأستاذ، فترى رسائله منسَّقة الأجزاء، وأبحاثه مقسَّمة أبوابًا، وهو معلِّم محترف، لا نبي ملهم، وتآليفه نقدية، فيها عناية وثبات، وليس فيها أثر للحماسة الباخية، فكأنما بردت عند أرسطو تلك العناصر الأورفية التي نراها عند أفلاطون، ومُزجت بجرعةٍ كبيرة قوية من إدراك الفطرة السليمة، وفي المواضع التي تجد أرسطو عندها أفلاطونيَّ الصبغة تحس أن مزاجه الطبيعي قد توارى هزيمًا أمام التعليم الذي نشأ في جوه. وليس أرسطو بالرجل ذي العاطفة الحادَّة، ولا هو ديني النزعة بأي معنًى من المعاني، فلئن كانت أخطاء أسلافه بمثابة الأخطاء المجيدة التي يرتكبها الشباب حين يحاول المستحيل، فأخطاؤه هي أخطاء الرجولة الكاملة التي لا تستطيع أن تحرر نفسها من الأهواء التي رسخت مع السنين، وخير ما يظهر فيه قدرته هو ذكر التفصيلات والنقد. أما إن أراد أن يقيم بناءً شامخًا كان نصيبه الفشل؛ إذ يعوزه الوضوح، كما تعوزه حرارة البناة الجبابرة.
وإنه لعسيرٌ أن تحسم الرأي في النقطة التي تبدأ عندها شرح الميتافيزيقا عند أرسطو، وربما كانت خير بداية لذلك أن نبدأ بنقده لنظرية المثل، وبذكر مذهبه هو الذي يستبدله بتلك النظرية، وأعني بذلك مذهبه في المعاني الكلية؛ فهو يوجه إلى نظرية المُثل عددًا من الحجج، كلها غاية في القوة، على أنك تجد معظمها قد سبقه إليها أفلاطون نفسه فذكرها في محاورة بارمنيدس، وأقوى حجة هي حجة «الإنسان الثالث»؛ فإذا كان الإنسان إنسانًا لشبهٍ بينه وبين الإنسان المثالي، وجب أن يكون هناك إنسان أكثر مثالية من الإنسان المثالي، يندرج تحته أفراد الإنسان العاديون والإنسان المثالي معًا، لشبهٍ بين هؤلاء وبينه، وحجة أخرى هي أن سقراط إنسان وحيوان في آنٍ واحد، فالسؤال هنا: هل يكون الإنسان المثالي حيوانًا مثاليًّا كذلك؟ ولو كان حيوانًا مثاليًّا، فلا بُدَّ أن يكون هنالك عدد من الحيوان المثالي بمقدار ما هنالك من صنوف الحيوان. ولا داعي لمتابعة الأمر هنا؛ فأرسطو يوضح الأمر توضيحًا، بأنه إذا اشترك عددٌ من الأفراد في محمولٍ واحد، فيستحيل أن يكون ذلك راجعًا إلى علاقةٍ بين هؤلاء الأفراد وبين شيءٍ من نفس نوعهم، بل لا بُدَّ أن يكون هذا أعلى مثالية منهم. إلى هنا نستطيع أن نعد أقوال أرسطو صحيحة بالبرهان، أما مذهبه هو فبعيد عن الوضوح، ولعل عدم وضوحه هذا هو الذي مكَّن رجال العصور الوسطى من الاختلاف في الرأي بين فريقَي الاسميين والواقعيين.
إذا أرسلنا القول على سبيل التقريب، أمكننا أن نقول إن ميتافيزيقا أرسطو هي عبارة عن أفلاطون قد خفَّفه الإدراك الفطري السليم، وصعوبة أرسطو راجعة إلى أن أفلاطون وأحكام الإدراك الفطري السليم لا يمتزجان بسهولة؛ فإذا أردت أن تفهمه ظننت حينًا أنه إنما يعبر عن آراء شخص عادي خلو من الفلسفة خلوًّا تامًّا، وظننت حينًا آخر أنه إنما يعرض المذهب الأفلاطوني بلغةٍ جديدة، وليس يغنيك شيئًا أن تركز اهتمامًا أكثر مما ينبغي بهذه الفقرة أو تلك مما كتب؛ لأن هنالك احتمالًا أن نجد لها تصحيحًا أو تعديلًا في فقرةٍ أخرى تالية. وعلى وجه الإجمال، فإن أيسر سبيل لفهم نظريته في المعاني الكلية ونظريته في الهيولى والصورة أن نبسط بادئ ذي بدءٍ المذهب الذي يتفق والإدراك الفطري السليم، وهو يكون نصف رأيه، ثم نعقب على ذلك بذكر التعديلات الأفلاطونية التي يعود فيدخلها على ذلك المذهب.
إن ما يدل عليه اسم العلم هو «جوهر»، على حين أن ما تدل عليه الصفة أو اسم النوع، كقولنا «بشري» أو «إنسان»، يُسمى «اسمًا كليًّا»، والجوهر هو ما يصح أن يشار إليه ﺑ «هذا»، أما الكلي فهو ما يصح أن يشار إليه بقولنا «مثل هذا»؛ إذ يدل الكلي على نوع الشيء المراد، لا على الفرد الجزئي للفعلي. وليس الكلي جوهرًا؛ لأنه ليس مما يشار إليه ﺑ «هذا» (وعلى ذلك يكون السرير المثالي الذي تحدَّث عنه أفلاطون مما يشار إليه ﺑ «هذا» عند من يستطيعون إدراكه، وهذا أمرٌ يختلف فيه أرسطو عن أفلاطون). يقول أرسطو: الظاهر أنه من المستحيل على أي اسمٍ كلي أن يكون اسمًا لجوهر؛ وذلك لأن … جوهر أي شيء هو ذلك الذي يتفرد به ذلك الشيء؛ أي الذي لا ينتمي إلى أي شيء آخر سواه، لكن الكلي مشترك؛ لأن ما يُسمى بالكلي هو ما ينتمي إلى أكثر من شيءٍ واحد. وخلاصة الموضوع حتى الآن هي أن الكلي لا يمكن قيامه بذاته، وإنما يقوم في الأشياء الجزئية فقط.
ولو نظرنا إلى مذهب أرسطو من الظاهر، ألفيناه غاية في البساطة، فافرض مثلًا أني قلت «هنالك شيء يُسمى لعبة كرة القدم»، فمعظم الناس سيعد هذا القول مني بمثابة البداهة، لكني إذا استنتجت من قولي هذا أن كرة القدم يمكن أن تقوم بغير لاعبي الكرة، حُق للناس عندئذٍ أن يصفوا كلامي بأنه فارغٌ من المعنى، وسيضربون لأنفسهم مثلًا شبيهًا فيقولون إن هنالك شيئًا اسمه أبوَّة وأمومة، وقد كان ذلك ليستحيل لولا أن هنالك آباءً وأمهات. وهنالك شيء اسمه احمرار؛ لأنه ثَمة أشياء لونها أحمر، وسيعتقد الناس أن اعتماد الكلي على الأفراد الجزئية لا عكس له (أي إن وجود الأفراد الجزئية لا يتوقف على وجود الكلي)؛ فلاعبو الكرة يظلون موجودين حتى ولو لم يلعبوا الكرة قط، والأشياء الحلوة عادة، قد تتحول فتصبح مُرَّة الطعم، ووجهي الذي يكون لونه عادةً أحمر قد ينقلب شاحبًا دون أن يبطل كونه وجهي، وعلى هذه الصورة ترانا مُنتهين إلى نتيجة، وهي أن معنى الصفة معتمدٌ في وجوده على معنى اسم العلم، لا العكس، هذا فيما أظن هو ما أراده أرسطو، ورأيه في هذا النقطة — كما هو في نقطٍ كثيرة غيرها — هو نفسه اعتقاد الناس بفطرتهم السليمة، غير أنه جاء فعبَّر عنه بلغة المتحذلقين في العلم.
لكنه ليس من اليسير أن تصبَّ هذه النظرية في صيغةٍ دقيقة؛ فإذا سلَّمنا أن لعبة كرة القدم لا يكون لها وجود بغير لاعبيها، فمن الممكن جدًّا أن توجد بغير هذا اللاعب أو ذاك، وإذا سلَّمنا بأن شخصًا في إمكانه أن يوجد بغير لعبة الكرة، فيستحيل عليه مع ذلك أن يوجد دون أن يكون فاعلًا شيئًا ما، إن صفة الاحمرار لا يمكن وجودها بغير موضوع يصطبغ بها، لكن وجودها ممكن بغير هذا الموضوع أو ذاك، وعلى هذا النحو قل إن الموضوع لا يمكن وجوده بغير صفةٍ ما، لكنه يمكن أن يوجد بغير هذه الصفات أو تلك. وهكذا يبدو أن الأساس المفروض للتمييز بين الأشياء والصفات أساسٌ وهمي لا حقيقة له.
الواقع أن الأساس الحقيقي أساسٌ لغوي، وهو مستمد من تركيب العبارة اللغوية؛ فثَمة أسماء أعلام وصفات وكلمات تدل على علاقات، فقد تقول: «زيدٌ عاقل، زيدٌ أحمق، زيدٌ أطول من عمرو.» فها هنا «زيد» و«عمرو» اسما علَم، و«حكيم» و«أحمق» صفتان، و«أطول من» كلمة تدل على علاقة، ولقد راح الميتافيزيقيون منذ عهد أرسطو يفسرون هذه الفروق اللغوية تفسيرًا ميتافيزيقيًّا؛ فزيد وعمرو جوهران، والحكمة والحمق كليتان (وكانت كلمات العلاقات إما مهملة أو مغلوطة التفسير). ومن الجائز أننا لو بذلنا ما يكفي من العناية، وجدنا من الفروق الميتافيزيقية ما له علاقة بهذه الفروق اللغوية، لكن إذا كان الأمر كذلك، فذلك لن يكون إلا بعمليةٍ طويلة تتضمن — فيما تتضمن — خلق لغة فلسفية صناعية، ولن يكون في هذه اللغة المصطنَعة أسماء مثل «زيد» و«عمرو»، ولا صفات مثل «حكيم» و«أحمق»؛ فكل ألفاظ اللغات العادية ستخضع للتحليل، وسيحل محلها كلماتٌ أقل تعقدًا في معانيها؛ فإلى أن نفرغ من أداء هذه المهمة، يستحيل علينا مناقشة موضوع الجزئيات والكليات مناقشةً وافية. وحين نبلغ المرحلة التي تتيح لنا آخر الأمر أن نناقش هذا الموضوع، سنجد أن الموضوع الذي بات في أيدينا للمناقشة مختلفٌ جد الاختلاف عما ظننَّاه به أول الأمر.
وعلى ذلك فإن كنت قد أخفقت في توضيح نظرية أرسطو في الكليات، فذلك (فيما أعتقد) لأنها هي نفسها غير واضحة، لكنها من غير شك خطوةٌ إلى الأمام بالنسبة إلى نظرية المُثل، وهي بغير شك أيضًا تتناول مشكلةً حقيقيةً غاية في الأهمية.
وهنالك كذلك اصطلاحٌ آخر له أهميته عند أرسطو وعند أتباعه من الإسكولائيين، وأعني به كلمة «ماهية»؛ فهذه الكلمة لا ترادف كلمة «كلي» بأي معنًى من معانيها، ﻓ «ماهيتك» هي «ما أنت بحكم طبيعتك نفسها»؛ فلنا أن نقول إنها تلك المجموعة من صفاتك التي لا يمكن أن تفقدها دون أن تفقد هويتك معها، فلا تعود أنت من أنت، وليس الشيء الفردي وحده هو الذي يكون له ماهية، بل للنوع ماهية كذلك، وإذا عرفنا النوع فلا بُدَّ أن يكون قوام تعريفنا له ذكر ماهيته. وسأعود إلى فكرة «الماهية» حين أتناول منطق أرسطو، مكتفيًا في هذا الموضوع بذكر ما ألاحظه من أن الماهية فكرة مضطربة مهوشة يستحيل أن تُحدَّد تحديدًا دقيقًا.
والنقطة الثانية في ميتافيزيقا أرسطو هي التفرقة بين «الصورة» و«المادة» (لا بد أن نضع نُصب أعيننا أن «مادة» بمعناها الذي تقابل به كلمة «صورة»، تختلف عن مادة بالمعنى الذي تقابل به كلمة «عقل»).
فها هنا أيضًا تعتمد نظرية أرسطو على أساس من الإدراك الفطري السليم، غير أن التعديلات الأفلاطونية التي أُدخلت على الإدراك الفطري لهذه النقطة أهم جدًّا منها في حالة الكليات، ولنبدأ الحديث بتمثال من المرمر؛ فالمرمر هنا هو المادة، أما الشكل الذي خلعه النحَّات عليه فهو الصورة، أو لنأخذ أمثلة أرسطو نفسها؛ فلو صنع إنسانٌ كرةً من البرونز، كان البرونز هو المادة، والكرية هي الصورة؛ وفي حالة البحر الهادئ، الماء هو المادة، وسهولة السطح هو الصورة. وإلى هنا لا صعوبة في الأمر.
ويمضي في الحديث فيقول إنه بفضل الصورة تصبح المادة شيئًا معينًا محددًا، وهذا التحديد هو المكون للشيء، الذي يقصده أرسطو — فيما يظهر — هو إدراكٌ فطري واضح، وهو أن «الشيء» لا بُدَّ أن تكون له حدود تحدُّه، والحدود هي التي تكون له صورته، فخذ — مثلًا — كمية من الماء، فكل جزء منه يمكن أن ينعزل عن البقية بكونه منحبسًا في إناء، وعندئذٍ يصبح هذا الجزء «شيئًا»، لكنه ما دام الجزء لا ينعزل عن البقية بحدودٍ تميزه من بقية الكتلة المتجانسة معه، فهو ليس ﺑ «الشيء»؛ فالتمثال «شيء» مع أن المرمر الذي يتألف منه التمثال لم يتغير — من وجهة نظر معينة — عما كان عليه حين كان جزءًا من كتلةٍ مرمرية، أو حين كان جزءًا من صخور المحجر الذي اقتُطع منه. إننا اليوم لا نقول — إلا بمعنًى متكلف — بأن الصورة هي التي تخلع على الشيء شيئيَّته، ولكن السبب في هذا هو أن النظرية الذرية قد ضربت بجذورها فينا حتى استولت على خيالنا، ومع ذلك فكل ذرة على حدة، إن عُدت «شيئًا»، فما ذلك إلا لكونها قد تحددت جوانبها فتميزت من سائر الذرات، وأصبح لها بهذا التحدد «صورة» بمعنًى من المعاني.
وننتقل الآن إلى عبارةٍ أخرى، قد تظهر صعبة للنظرة الأولى، فهو يقول إن الروح هي صورة الجسد، فهنا من الواضح أن «الصورة» لا تعني «الشكل»، وسأعود فيما بعدُ إلى المعنى الذي تكون به الروح صورة للجسد، وحسبي الآن أن ألاحظ أن الروح في فلسفة أرسطو، هي ما يجعل الجسد شيئًا واحدًا، له غرض واحد، وله الخصائص التي نفهمها من كلمة «كائن عضوي»، فالغاية من العين هي أن ترى، لكنها لا ترى إذا فُصلت عن الجسد، وحقيقة الأمر أن الروح هي التي ترى.
وإذَن فقد يظهر أن «الصورة» هي التي تخلع الواحدة على جزء من المادة، وأن هذه الوحدة عادةً — إن لم تكن دائمًا — غائية، غير أن «الصورة» سيتبين أنها شيء أكثر جدًّا من هذا، وهذه المعاني الأخرى لها غاية في الصعوبة.
فهو يقول إن صورة الشيء هي جوهره الأولى وماهيته، فالصور جوهرية، ولو أن الكليات ليست كذلك، فإذا ما صنع الإنسان كرةً نحاسية، فكلا المادة والصورة كان موجودًا بالفعل، وكل ما فعله صانع الكرة أنه جمع المادة والصورة معًا، فهذا الصانع لم يصنع الصورة، كما أنه لم يصنع النحاس، لكن ليس كل شيء ذا مادة، فهنالك أشياء أبدية لا يكون لها مادة، إلا ما كان منها قابلًا للحركة في المكان، إن الأشياء تزداد واقعيةً في وجودها باكتسابها للصورة، والمادة بغير صورةٍ وجود بالقوة فحسب.
«إن التعليل النهائي لقلة الوضوح عند أرسطو في هذا الموضوع هو كونه في الحقيقة لم يحرر نفسه إلا نصف تحرر — كما سنرى — من ميل أفلاطون نحو تجسيد المُثل؛ فقد كان ﻟ «الصور» عنده ما كان ﻟ «المُثل» عند أفلاطون، من وجودٍ ميتافيزيقي قائم بذاته، وهو الذي يعتمد عليه وجود الأشياء الجزئية كلها. ولئن أخذ أرسطو أخذًا دقيقًا بمبدأ تكون الأفكار من الخبرة الإنسانية، إلا أنه من الحق كذلك أن هذه الأفكار — خصوصًا عندما تكون أبعد ما تكون عن الخبرة وعن الإدراك الحسي المباشر — تتحول في النهاية من كونها نتاجًا منطقيًّا للفكر الإنساني، إلى كونها صورة يتمثل فيها العالم اللاحسي بطريقةٍ مباشرة؛ وبهذا يكون الحدس العقلي هو وسيلة إدراكها.»
ولست أدري كيف كان يمكن لأرسطو أن يجد جوابًا يرد به على هذا النقد، الجواب الوحيد الذي يمكنني أن أتصوره هو جواب يذهب إلى استحالة أن يشترك شيئان في «صورة» واحدة بعينها؛ فإذا صنع إنسانٌ كُرتَين من النحاس، فلكلٍّ منهما كريتها الخاصة بها، فهي كرية جوهرية جزئية، وهي مثل ما يتمثل فيه المعنى الكلي «كرية»، لكن الكرية الجزئية لكلٍّ من الكرتين ليست هي المعنى الكلي بذاته. ولست أرى أن لغة الفقرات التي اقتبستها تؤيد هذا التفسير تأييدًا ظاهرًا؛ وإذَن فمن المواضع المعرَّضة للنقد أن الكرية الجزئية ستكون — بناءً على رأي أرسطو — مما يستحيل معرفته، مع أن صميم المذهب الميتافيزيقي عنده هو أنه كلما زادت الصورة وقلَّت المادة في الأشياء، ازدادت هذه الأشياء قابليةً لأن تُعرف. وهذا رأي لا يتسق مع بقية آرائه، إلا إذا أمكن للصورة أن تتجسد في أشياء جزئية كثيرة. ولو كان ليذهب إلى أن هنالك عددًا من الصور التي هي أمثلة للكرية، بمقدار ما هنالك من أشياء على شكل الكرة، لتحتَّم عليه أن يُدخل تغيراتٍ جوهرية في فلسفته، مثل ذلك رأيه القائل إن الصورة هي نفسها ماهيَّتها، سيصبح غير متفق مع الحل الذي افترضناه الآن وسيلةً للفرار من هذا الإشكال.
إن مذهب الصورة والمادة عند أرسطو مرتبطٌ بتفرقته بين ما هو موجود بالقوة وما هو موجود بالفعل؛ فالمادة الخالصة يتصورها استعدادًا بالقوة لتقبُّل الصورة، فكل تغير هو من قبيل ما يمكن أن نُسميه «تطورًا»؛ بمعنى أن الشيء الذي يطرأ عليه التغير يصبح بعد التغير أكثر في صورته مما كان قبل تغيره، والشيء إذا زادت صورته يعتبر أكثر في وجوده «الفعلي»؛ فالله صورةٌ خالصة ووجود فعلي خالص، وإذَن فيستحيل أن يطرأ عليه تغير، وتستطيع أن ترى من ذلك أن هذا المذهب متفائل ويعترف بوجود غاية منشودة، فالكون وكل ما فيه يتطور تجاه شيء، وهو في تطوره لا يني مترقيًا إلى درجةٍ أعلى من درجته السالفة.
إن فكرة الوجود بالقوة فكرةٌ جميلة بالنسبة إلى بعض المشكلات، على شرط أن نستخدمها على نحوٍ يمكننا من ترجمة عباراتنا التي ترد فيها هذه الكلمة إلى عباراتٍ أخرى تخلو منها؛ فعبارة «كتلة المرمر تمثال بالقوة» معناها أنه «من كتلة المرمر، ينتج تمثال بوساطة أفعال تؤدي إلى هذا الإنتاج». أما إذا استعملنا كلمة الوجود بالقوة على أنها معنًى نهائي لا يمكن التعبير عنه بعبارةٍ أخرى، عندئذٍ تصبح كلمةً تُخفي وراءها دائمًا خلطًا في التفكير، واستعمال أرسطو لها هو من سيئات فلسفته.
واللاهوت عند أرسطو موضوعٌ يثير الاهتمام، وهو شديد الصلة ببقية ميتافيزيقاه، بل إن لفظة «اللاهوت» هي أحد الأسماء التي يطلقها على الموضوع الذي نُسميه «ميتافيزيقا» (إذا لم يكن أرسطو هو الذي أطلق اسم ميتافيزيقا على الكتاب الذي يُعرَف بهذا الاسم)، يقول إن ثمة ثلاثة أنواع من الجوهر؛ فجواهر يدركها الحس وتتعرض للفناء، وجواهر يدركها الحس لكنها لا تتعرض للفناء، وثالثة لا هي تُدرَك بالحس ولا هي معرَّضة للفناء. أما الفئة الأولى فتشمل النبات والحيوان، وتشمل الثانية الأجرام السماوية (التي اعتقد أرسطو أنها غير قابلة للتغير ما عدا الحركة)، وأما الفئة الثالثة فتشمل النفس العاقلة في الإنسان، كما تشمل الله.
والحجة الأساسية التي يقيمها على وجود الله هي حجة «العلة الأولى»؛ إذ لا بُدَّ أن يكون ثَمة شيء يخلق الحركة بعد أن لم تكن، ثم لا بُدَّ لهذا الشيء أن يكون هو نفسه غير ذي حركة، ولا بُدَّ له كذلك أن يكون أزليًّا وأن يكون وجوده وجودًا بالفعل. ويقول أرسطو إن الموضوع الذي تتعلق به الرغبة، والموضوع الذي يتعلق به الفكر، من شأنهما أن يُسببا الحركة على هذا النحو دون أن يكونا متحركين، وكذلك الله، بسبب الحركة بكونه موضوعًا يتعلق به الحب، على حين ترى كل أسباب الحركة الأخرى إنما تسبَّبت الحركة بكونها هي نفسها متحركة (مثل كرة البلياردو). إن الله فكرٌ خالص؛ لأن الفكر هو خير ما يمكن أن يكون، «والحياة كذلك من صفات الله؛ لأن وجود الفكر وجودًا فعليًّا هو الحياة، والله هو هذا الوجود الفعلي نفسه، والوجود الفعلي لله، ذلك الوجود الذي لا يعتمد على علةٍ خارجة عنه، هو الحياة في خير درجاتها وفي صفتها الأزلية الأبدية، وعلى ذلك نقول إن الله كائنٌ حي أزلي خيِّر، فمن صفاته أنه حيٌّ قيوم، وأن حياته وقيامه متصلان أزليان، وذلك هو الله» (١٠٧٢ ب).
«يتضح إذَن مما أسلفناه أن ثَمة جوهرًا يتصف بالأزلية وبعدم قابليته للحركة، وهو مستقلٌّ عن الأشياء المدركة بالحس، وقد بيَّنا أن هذا الجوهر ليس له أبعاد، وأنه بغير أجزاء وغير قابل للانقسام … وكذلك بيَّنا أنه لا يتأثر بمؤثر ولا يتغير؛ لأن كل أنواع التغير ناشئة عن تغير المكان» (١٠٧٣ ا).
وليس لله (عند أرسطو) تلك الصفات التي يتصف بها الله عند المسيحيين؛ إذ إنه مما ينقص من كماله أن يفكر في شيء إلا ما هو كامل، أعني نفسه: «لا بد أن يكون التفكير الإلهي منصبًّا على نفسه (ما دام هو أكمل الأشياء)، وتفكيره هو تفكير في التفكير» (١٠٧٤ ب). ونحن مضطرون أن نستنتج من هذا أن الله لا يعرف وجود دنيانا هذه الأرضية، فأرسطو — مثل اسبينوزا — يعتقد أنه بينما يتحتم على الناس أن يحبوا الله، فمن المستحيل على الله أن يحب الناس.
إن الله لا يمكن تعريفه بقولنا إنه «المحرك الذي لا يتحرك»، بل إننا — على خلاف ذلك — نرى مقدماته الفلكية منتهيةً بنا إلى نتيجةٍ هي أن ثَمة سبعة وأربعين أو خمسة وخمسين محركًا لا يتحرك (١٠٧٤ ا). ولا يوضح أرسطو العلاقة بين هذه المجموعة من المحركات التي لا تتحرك وبين الله؛ فالتفسير الطبيعي لعبارته هو أن هنالك سبعة وأربعين أو خمسة وخمسين إلهًا؛ لأن أرسطو — بعد ذكره لإحدى الفقرات السالفة — يمضي فيقول: «لا ينبغي لنا أن نتجاهل هذه المشكلة، وهي: هل نفرض وجود جوهر واحد من هذا القبيل، أو نفرض أكثر من جوهرٍ واحد؟» ومن ثَم تراه يأخذ في البحث الذي ينتهي به إلى القول بوجود سبعة وأربعين أو خمسة وخمسين محركًا لا يتحرك.
إنَّ تصور محرك لا يتحرك شاقٌّ عسير؛ فالعقل الحديث يتصور أن سبب التغير لا بُدَّ أن يكون تغيرًا سابقًا، وأنه لو حدث أنه قد كان الكون ساكنًا سكونًا تامًّا، لم يكن له بد من أن يظل ساكنًا إلى الأبد؛ فلِكي نفهم ما يقصد إليه أرسطو لا مندوحة لنا عن ذكر ما يقوله عن العلل؛ فهو يقول إن ثمة أربعة أنواع من العلل، سمَّاها على التوالي: العلة المادية، والعلة الصورية، والعلة الفاعلة، والعلة الغائية. فلنضرب مرةً أخرى مثل الرجل الذي يصنع تمثالًا، فالعلة المادية للتمثال هي المرمر، والعلة الصورية هي جوهر التمثال الذي يراد إخراجه، والعلة الفاعلة هي اتصال الأزميل بالمرمر، والعلة الغائية هي الهدف الذي يجعله النحات نصب عينيه. أما الاصطلاح الحديث، فيُفسِّر كلمة «علة» بأنها العلة الفاعلة وحدها، وأما المحرك الذي لا يتحرك فيمكن اعتباره علة غائية؛ إذ يهيئ غايةً يقصد إليها من التغير الذي هو في جوهره تطوُّر يَنشد التشبه بالله.
لقد أسلفت القول بأن أرسطو بحكم مزاجه لم يكن عميق الإيمان الديني، لكن هذا القول صحيح من بعض النواحي فقط، فيجوز لنا أن نفسر أحد جوانب الديانة عنده تفسيرًا فيه بعض التصرف على النحو الآتي:
الله موجود وجودًا أزليًّا أبديًّا باعتباره فكرًا خالصًا وسعادة، وتحقيقًا كاملًا للنفس، دون أن يكون أمامه من الغايات غاية لم تتحقق. وعلى نقيض ذلك العالم المحسوس؛ فهو عالمٌ ناقص، لكنه عالم فيه حياة، وفيه رغبات، وفيه فكر من نوعٍ لا يتصف بالكمال، وفيه طموح، والكائنات الحية كلها شاعرة بالله شعورًا يتفاوت في الأفراد زيادة وقلة، وهي كلها تندفع إلى العمل بدافع من إعجابها بالله وحبها له، وعلى ذلك يكون الله هو العلة الغائية لكل ضروب النشاط. إن التغير معناه خلع الصورة على المادة، لكن حينما يكون الأمر متعلقًا بأشياء محسوسة، فإن طبقةً من المادة تظل أبدًا باقية. وأما الكائن الذي يتألف من صورةٍ تخلو من المادة فهو الله وحده، والعالم لا ينفك متطورًا نحو الزيادة من درجة الصورة، فيزداد ازديادًا مطردًا في تشبهه بالله، على أن هذه السيرة يستحيل أن تبلغ تمامها؛ لأن زوال المادة زوالًا تامًّا ضربٌ من المحال، وتلك عقيدة دينية في التقدم والتطور؛ لأن ما يتصف به الله من كمالٍ ساكن، لا يحرك العالم إلا بفضل الحب الذي تشعر به الكائنات الفانية إزاءه؛ فلئن كان أفلاطون رياضيًّا، فقد كان أرسطو بيلجيًّا، وفي هذا الاختلاف بينهما تعليل لما بين عقيدتَيهما الدينية من فروق.
على أن هذه النظرة لن تكون إلا نظرة إلى ديانة أرسطو من وجهٍ واحد فقط؛ فقد كان لديه كذلك ما كان لليونان جميعًا من حبٍّ للكمال الساكن، وإيثار للتأمل على الفعل، ومذهبه في النفس يوضح هذا الجانب من فلسفته.
كان من بين المسائل الشائكة عند شراح أرسطو مسألة الخلود؛ هل أخذ به أرسطو في أي صورة من صوره، أو لم يأخذ به إطلاقًا؟ فرأى ابن رشد أنه لم يأخذ بالخلود، وكان له أتباع في الأقطار المسيحية، وسُمي المتطرفون من هؤلاء الأتباع بالأبيقوريين، وقد وجدهم دانتي في الجحيم. وحقيقة الأمر هي أن مذهب أرسطو متعدد العناصر، وقد يؤدي إلى أخطاء في فهمه إن لم يكن المتفهم على حذر؛ ففي كتابه عن النفس يعتبر النفس موثوقة إلى الجسد، ويتهكم على مذهب الفيثاغوريين في تناسخ الأرواح (٤٠٧ ب)؛ فالظاهر أن النفس تفنى بفناء الجسد، «فيتبع ذلك تبعية لا شك فيها أن النفس لا تنفصل عن الجسد (١٤١٣)، لكنه يسرع بعد ذلك فيضيف: «أو على الأقل فإن أجزاء معينة منها لا تنفصل عن الجسد.» إن الجسد والنفس مرتبطان ارتباطًا بالمادة والصورة: «لا بد أن تكون النفس جوهرًا بمعنى أن صورة الجسم المادي تكون فيها الحياة بالقوة، لكن الجوهر وجود بالفعل، وعلى ذلك تكون النفس هي فعلية الجسد كما أسلفنا القول» (١٤٢ ا). إن النفس «جوهر بالمعنى الذي يقابل في الشيء ماهيته المشكِّلة له، ومعنى ذلك أنها «الماهية الجوهرية» للجسم المتصف بالخصائص التي أسلفناها الآن» (أعني أن تكون فيه الحياة) (٤١٢ ب). والنفس هي أولى درجات الوجود بالفعل للجسم الطبيعي الذي تكون فيه الحياة بالقوة، والجسم على النحو الذي وصفناه يكون جسمًا فيه وحدة عضوية (٤١٢ ا)، وليس بكلامٍ ذي معنًى أن تسأل هل النفس والجسم شيء واحد، فذلك كسؤالك هل الشمع والشكل الذي يتخذه حين يُختم شيء واحد (٤١٢ ب). والقوة النفسية الوحيدة التي للنبات هي أن يغذي نفسه بنفسه (٤١٣ ا)، والنفس هي العلة الغائية للجسم (٤١٤ ا).
ويفرق أرسطو في هذا الكتاب بين «النفس» و«العقل»، جاعلًا العقل أعلى من النفس وأقل منها اتصالًا بالجسم. وبعد أن يتحدث عن العلاقة بين النفس والجسم يقول: «أما العقل فحالته تختلف عن ذلك، فالظاهر أنه جوهرٌ قائم بذاته غُرس في النفس، وأنه غير قابل للفناء» (٤٠٨ ب). إننا لا نملك حتى الآن شاهدًا على وجود العقل أو على قوة التفكير، والظاهر أنه نوعٌ من النفس مختلف اختلافًا شديدًا، يختلف عنها اختلاف الخالد الأبدي عن الزائل الفاني؛ فالعقل وحده هو القادر على الوجود المستقل عن سائر القوى النفسية جميعًا، فواضحٌ مما قلناه أن كل أجزاء النفس الأخرى غير قادرة على الوجود بذاتها — على الرغم من ورود بعض العبارات التي تدل على خلاف ذلك (٤١٣ ب). إن العقل هو الجزء منا الذي يفهم الرياضة والفلسفة، وموضوعاته التي يتعلق بها لا تخضع لحدود الزمن، وعلى ذلك فهو نفسه يعتبر غير خاضع لحدود الزمن، والنفس هي ما يحرك الجسم وما يدرك الأشياء المحسة، وخواصها المميزة لها هي أنها تغذي نفسها بنفسها، وتحس وتشعر وتحرك الجسم (٤١٣ ب)، أما العقل فوظيفته أعلى من ذلك، وهي التفكير، الذي لا علاقة بينه وبين الجسم أو الحواس؛ ومن ثَم أمكن للعقل أن يكون خالدًا، وإن لم يكن ذلك بالنسبة إلى بقية أجزاء النفس.
لكي نفهم مذهب أرسطو في النفس ينبغي أن نذكر أن النفس هي «صورة» الجسد، وأن الشكل المكاني ضربٌ من ضروب «الصورة»، فما الجانب المشترك بين النفس والشكل؟ أظن أن الجانب المشترك بينهما هو إفاضة الوحدة على مقدارٍ معين من المادة، فالجزء من كتلة المرمر الذي سيصبح فيما بعد تمثالًا، لم يتم انفصاله عن بقية المرمر، إنه لم يصبح بعد «شيئًا» وليس له بعدُ وحدة توحد أجزاءه، أما إذا ما فرغ النحات من صنع التمثال، أصبحت له وحدة يستمدها من الشكل الذي تتخذه قطعة المرمر، ويتبين من ذلك أن الصفة الرئيسية للنفس، التي بفضلها تكون النفس «صورة» للجسم، هي أنها تجعل الجسم كلًّا عضويًّا، له غايات يقصد إليها باعتباره وحدة؛ إذ العضو الواحد من أعضاء الجسم تكون له غايات خارجة عن حدود نفسه، فالعين وحدها — وهي منفصلة عن الجسد — لا تبصر، وهكذا يمكنك أن تقول أشياء كثيرة عن حيوان أو عن نبات، بحيث يصلح الحيوان أو النبات باعتباره وحدة، أو يكون موضوعًا للحكم الذي تقوله عنه، على حين لا يصلح لذلك أي جزء من أجزائه، وهذا هو المعنى المقصود حين نقول إن الوحدة العضوية، أو الصورة، تخلع على الشيء جوهريته، فما يخلع الجوهرية على نبات أو حيوان، يسميه أرسطو ﺑ «النفس»، أما «العقل» فيختلف عن النفس؛ إذ هو أقل ارتباطًا بالجسد، ويجوز أن يكون العقل جزءًا من النفس، لكن ما يتصف بالعقل عدد قليل من الأحياء (٤١٥ ا)، ويستحيل أن يكون العقل باعتباره تأملًا، سببًا في الحركة؛ لأنه لا يفكر قط فيما هو عملي، ولا يقول أبدًا ماذا ينبغي أن يجتنب، وماذا ينبغي أن يعمل (٤٣٢ ب).
وفي كتاب «الأخلاق النيقوماخية» مذهبٌ شبيه بهذا، ولو أنه يغير تغييرًا طفيفًا في مصطلحاته؛ ففي النفس عنصر واحد عاقل، وآخر لا عاقل، وأما العنصر اللاعاقل فمزدوج الجوانب؛ فله جانب نباتي، وهو عنصر تراه في كل كائنٍ حي، حتى النبات، وجانبٌ شهواني يوجد في كل صنوف الحيوان (١١٠٢ ب). وتنحصر حياة النفس العاقلة في التأمل، والتأمل هو سعادة الإنسان الكاملة، ولو أن ذلك مما يستحيل إدراكه كاملًا؛ فمثل هذه الحياة أعلى من أن يظفر بها الإنسان؛ لأنها حياة لا يعيشها الإنسان باعتباره إنسانًا، بل يحياها باعتبار ما فيه من عنصرٍ قدسي، وبمقدار ما يسمو هذا الجانب القدسي في الإنسان على طبيعته المركبة، تسمو فاعليته على فاعلية الجانب الآخر التي تكون نوعًا ثانيًا من الفضائل (هو النوع العملي)؛ فلو كان العقل قدسيًّا، إذَن فبالقياس إلى الإنسان تكون الحياة التي تهتدي بالعقل قدسية بالنسبة للحياة البشرية، لكنه لا يجوز لنا أن نستمع إلى أولئك الذين ينصحوننا أن نفكر في الحاجات البشرية ما دمنا بشرًا، وأن نفكر فيما هو فانٍ ما دمنا كائنات فانية، بل لا بُدَّ لنا — ما استطعنا سبيلًا — أن نجعل من أنفسنا كائنات خالدة، وألَّا ندَّخر من وسعنا شيئًا في أن نعيش وفق ما يمليه علينا أفضل جانب فينا؛ لأن هذا الجانب حتى وإن كان صغيرًا في حجمه، إلا أنه يفوق كل ما عداه في القوة وفي القيمة بدرجةٍ كبيرة» (١١٧٧ ب).
فالذي يظهر من هذه الفقرات هو أن الفردية — تلك التي تميز إنسانًا من إنسان — مرتبطة بالجسم وبالنفس اللاعاقلة، بينما النفس العاقلة — أو العقل — قدسي وغير شخصي؛ فإنسان يحب المحار وآخر يحب الأناناس، فيتميز أحدهما عن الآخر بهذا، أما حين يفكران في جدول الضرب — على شريطة أن يفكرا تفكيرًا صحيحًا — فلا اختلاف بينهما في ذلك، فإن كان الجانب اللاعاقل يفرق بيننا، فإن الجانب العاقل يوحدنا؛ وعلى ذلك لا يكون خلود العقل أو التعقل خلودًا شخصيًّا لأفراد الناس منفصلين، بل مشاطرة في خلود الله، فالظاهر أن أرسطو لم يؤمن بالخلود الشخصي، بالمعنى الذي دعا إليه أفلاطون، ثم دعت إليه المسيحية بعد ذلك، وكل ما آمن به هو أن الناس بمقدار ما هم عاقلون يشاطرون في الجانب القدسي الخالد، وفي مقدور الإنسان أن يزيد الجانب القدسي من طبيعته، وإن فعل ذلك كان فعله هذا أسمى ما يؤديه من فضائل، لكنه إذا نجح في ذلك نجاحًا كاملًا، كان معنى ذلك زوال وجوده باعتباره شخصًا فردًا قائمًا بذاته، ويجوز ألا يكون هذا هو التفسير الوحيد لعبارة أرسطو في هذا الموضوع، لكني أراه أقرب تفسير إلى النظرة الطبيعية فيما يقول.