مدرسة ملطيا
أول ما يُذكر في أي كتاب لتاريخ الفلسفة يُكتب للطلاب، هو أن الفلسفة قد بدأت بطاليس، الذي قال إن كل شيء مصنوع من ماء. وإن ذلك ليثبِّط المبتدئ الذي يجاهد — وربما كان جهاده هنا جهادًا على غير كثير من العسر — يجاهد نفسه كي يحس إزاء الفلسفة بكل ما يتوقعه منهاج الدراسة من احترام إزاءها، ومع ذلك فأمامنا مبرر قوي يحملنا على احترام طاليس، ولو أنه احترام موجه إليه باعتباره رجلًا من رجال العلم أكثر منه فيلسوفًا بالمعنى الحديث لهذه الكلمة.
أما عن تحديد التاريخ الذي عاش فيه طاليس، فأقوى ما لدينا من شاهد هو أنه — كما أسلفنا — اشتهر بتنبئه بكسوفٍ يقول لنا عنه الفلكيون إنه لا بُدَّ أن يكون قد وقع سنة ٥٨٥ قبل الميلاد؛ وهنالك أدلة أخرى تتفق كلها — على ما فيها من قصور — على تحديد ما يقرب من هذا التاريخ تاريخًا لسائر ما أداه من أعمال؛ والتنبؤ بالكسوف لا ينهض دليلًا على نبوغٍ خارق بالنسبة إلى طاليس؛ ذلك لأن ملطيا كانت مرتبطةً بليديا، وكانت هناك علاقات ثقافة بين ليديا وبابل، وكان الفلكيون البابليون قد استكشفوا من قبلُ أن الكسوف يحدث في دورةٍ منتظمة على مسافةٍ يقرب طولها من تسع عشرة عامًا بين كسوفٍ وآخر، وكان في مستطاعهم أن ينبِّئوا بخسوف القمر على كثيرٍ جدًّا من الدقة، أمَّا في كسوف الشمس فقد كان يقف في سبيل نجاحهم كون الكسوف يكون مرئيًّا في مكانٍ وغير مرئي في مكانٍ آخر، وعلى ذلك فكل ما استطاعوا أن ينبِّئوا به في هذا الصدد هو أنه في التاريخ الفلاني يحسن بالناس أن ينظروا إلى السماء لعلهم مشاهدون كسوفًا. ومن الجائز أن ذلك هو كل ما عرفه طاليس؛ فلا هو ولا هم كانوا يعلمون لماذا يقع الكسوف في هذه الدورة المتتابعة. ويقال إن طاليس قد ارتحل إلى مصر، وأنه جاء إلى اليونان من مصر يعلم الهندسة؛ وقد كان ما عرفه المصريون عن الهندسة لا يكاد يجاوز بعض القواعد العملية؛ فليس لدينا ما يبرر أن طاليس قد ألم بالبراهين القياسية التي استكشفها اليونان فيما بعد، وربما عرف كيف يقيس بُعد سفينة في البحر من مشاهداتٍ يحصل عليها من نقطتين على اليابس، وكيف يحسب ارتفاع هرم من طول ظله، لكنه قد يُعزى إلى نظرياتٍ أخرى كثيرة في علم الهندسة، والأرجح أنها منسوبة خطأً إليه.
وكان طاليس أحد «الحكماء السبعة» في اليونان، كل منهم اشتهر بحكمةٍ قالها، وتجري الرواية بأن حكمته التي قالها هي «أفضل الأشياء هو الماء».
وتُروى عنه أساطير كثيرة، لكني لا أظننا نعلم عنه أكثر من الحقائق القليلة التي ذكرتها، على أن بعض تلك الأساطير له متعته؛ فمنها أسطورة رواها أرسطو في كتابه «السياسة» (١٢٥٩) إذ قال: «قد ليم على فَقره؛ لأن لائميه قد فرضوا أن فقره دليل على أن الفلسفة لا خير فيها؛ وتقول الرواية إنه استعان بمهارته في علم النجوم أن يتنبأ في فصل الشتاء بأن محصول الزيتون في العام المقبل سيكون موفورًا؛ ولمَّا كان ماله قليلًا، فقد دفع «عربونًا» يبيح له حق استعمال معاصر الزيتون كلها في كيوس وملطيا، التي استأجرها بأجرٍ قليل؛ إذ لم يكن إلى جانبه من يضاربه؛ فلما جاء أوان المحصول، وطلبت المعاصر بكثرة دفعةً واحدة وبغتة، أجَّرها بما شاء من أجر، وكسب مبلغًا من المال؛ وبهذا برهن للعالم أن الفلاسفة في مستطاعهم أن يصبحوا أغنياء في غير عناءٍ إذا أرادوا، لولا أن طموحهم يتجه اتجاهًا آخر.»
وثاني فلاسفة مدرسة ملطيا، هو أنكسمندر، الذي نراه أحق بالعناية جدًّا من طاليس، ولسنا ندري عن تاريخه علمًا يقينًا، لكن قيل عنه إنه بلغ من عمره الرابعة والستين في سنة ٥٤٦ قبل الميلاد، وهناك ما يبرِّر لنا أن نفرض بأن هذا التقدير قريب من الصواب؛ فمذهبه هو أن الأشياء كلها مستمدة من عنصر أول واحد، لكن هذا العنصر ليس هو الماء كما ظن طاليس، ولا هو أي عنصر آخر مما نعرف، بل إنه لا نهائي وخالد ولا حدود لزمانه، وهو «يحتوي على العوالم كلها»؛ ذلك لأنه ظن أن عالمنا هذا إن هو إلا عالم واحد من طائفةٍ كبيرة، وهذا العنصر الأولي يتحوَّل إلى العناصر المختلفة التي نألفها، ثم تتحوَّل هذه العناصر المألوفة أحدها إلى الآخر، وله في ذلك عبارة هامة تستوقف النظر:
«إن الأشياء تعود فترتد إلى العنصر الذي منه نشأت، كما جرى بذلك القضاء؛ لأنها تُعوِّض بعضها بعضًا، ويرضى بعضها، لِما وقع منها إجحاف، كما يقضي بذلك أمر الزمان.»
ففكرة العدالة، سواء في ذلك العدالة الكونية والعدالة الإنسانية، قد لعبت دورًا في الديانة والفلسفة اليونانيتين، وهي فكرة لا يسهل أبدًا على الإنسان الحديث فهمها، والحق أن لفظة «العدالة» عندنا لا تكاد تعبِّر عن المعنى المراد، لكنه يتعذَّر علينا أن نجد كلمةً أخرى تفضلها في ذلك. والظاهر أن الفكرة التي أراد أنكسمندر أن يعبِّر عنها هي هذه؛ لا بُدَّ أن يكون هناك نسبة معينة من النار ومن التراب ومن الماء في العالم، لكن كل عنصرٍ من هذه العناصر (وقد تخيَّلها آلهة) لا يني عن السعي في سبيل اتساع رقعة ملكه، غير أن ثمة نوعًا من الضرورة أو القانون الطبيعي لا ينفك يرد التوازن إلى حيث كان؛ فحيث كانت نار — مثلًا — ترى الآن رمادًا، والرماد من التراب — هذه الفكرة عن العدالة، والعدالة هنا معناها عدم مجاوزة الحدود المفروضة منذ الأزل، هي من أعمق العقائد اليونانية، وكانت الآلهة خاضعةً لحكم العدالة خضوع البشر له، ولم تكن هذه القوة العليا مشخصةً ولا كانت في رأيهم إلهًا أعلى.
وكان لأنكسمندر حجة يدلِّل بها على أن العنصر الأولي لا يمكن أن يكون ماءً ولا عنصرًا آخر غير الماء ممَّا نعرف؛ لأنه لو كان بين هذه العناصر عنصر أولي لاكتسح العناصر الأخرى؛ ويروي عنه أرسطو أنه قال: إن هذه العناصر المعروفة لنا يعارض بعضها بعضًا؛ فالهواء بارد والماء رطب والنار حارة، «وعلى ذلك فلو كان أحد هذه العناصر لا نهائيًّا، لزالت العناصر الباقية قبل اليوم»، وإذن فلا بُدَّ أن يكون العنصر الأولي محايدًا في هذا الصراع الكوني.
وكان ثمة حركة منذ الأزل، تمَّت في غضونها نشأة العوالم؛ ذلك أن هذه العوالم لم تُخلق كما تقول اليهودية والمسيحية، بل تطورت، وكذلك حدث تطوُّر في مملكة الحيوان، فنشأت الكائنات الحية من العنصر الرطب حين أخذت الشمس تبخِّره، والإنسان — كأي حيوانٍ آخر — هو سليل الأسماك، ولا بُدَّ أن يكون الإنسان قد هبط من صنوفٍ من الحيوان تختلف عنه؛ لأنه كان من المستحيل عليه — بسبب طفولته الطويلة — أن يحتفظ ببقائه في مراحل التطور لو كان عندئذٍ على صورته الراهنة.
كان أنكسمندر مليئًا بحب الاستطلاع العلمي، ويقال إنه أول إنسان رسم مصورًا جغرافيًّا، وكان رأيه أن الأرض أسطوانية الشكل، وأما رأيه في حجم الأرض فمختلَف عليه؛ فتارةً يقال إنه اعتقد أن الأرض والشمس متساويان، وتارةً يقال بل إنه رأى أن الشمس تكبر الأرض حجمًا بسبع وعشرين مرة، وطورًا يقال بثمانٍ وعشرين مرة، وفي كل موضعٍ نرى أنكسمندر فيه أصيل الرأي، تراه علميًّا في اتجاهه ومستندًا إلى أحكام العقل.
وثالث الثالوث من فلاسفة ملطية، هو أناكسمانس الذي يثير اهتمامنا بقدر ما يثيره أنكسمندر، لكنه مع ذلك يتقدَّم بضع خطوات هامة، ونحن أبعد ما نكون عن اليقين في تحديد تاريخه، إلا أننا لا نشك في أنه أعقب أنكسمندر، كما أننا لا نشك في أنه ازدهر قبل سنة ٤٩٤ قبل الميلاد؛ لأن الفُرس قد خرَّبوا مدينة ملطية في تلك السنة، حين أرادوا أن يُخمدوا الثورة الأيونية.
وعنده أن العنصر الرئيس هو الهواء؛ فالروح هواء، والنار هواء مخلخل، وإذا ما تكثَّف الهواء، انقلب بادئ الأمر ماءً، ثم إذا مضيت في تكثيفه، انقلب ترابًا، وبعدئذٍ يكون صخورًا؛ ولهذه النظرية حسنة هي أنها تجعل الفوارق كلها بين العناصر المختلفة، اختلافًا في الكمية، يعتمد كل الاعتماد على درجة التكثف.
ومن رأيه أن الأرض تشبه المنضدة المستديرة، وأن الهواء يحيط بكل شيء، فكما أن روح الإنسان — لكونها هواءً — تُمسك جسده، فكذلك ترى النفس والهواء يحيطان بالعالم كله، فقد يظهر أن العالم يتنفس.
كانت منزلة أناكسمانس عند القدماء أعلى من منزلة أنكسمندر، مع أن العالم الحديث يكاد يُجمع على عكس ذلك، وقد كان لأناكسمانس أثر هام في فيثاغورس، كما كان قوي التأثير في جانبٍ كبير من التفكير الفلسفي الذي ظهر بعد ذلك، فعلى الرغم من أن الفيثاغوريين قد اهتدَوا إلى أن الأرض كروية الشكل، فقد اعتنق الذَّرِّيون مذهب أناكسمانس في أن الأرض على شكل القرص المستدير.
إن مدرسة ملطية لا تكتسب خطرها ممَّا أنتجته، بل ممَّا حاولته، وهي مدينة بوجودها لاتصال العقل اليوناني ببابل ومصر، وكانت ملطية مدينةً تجارية غنية، عمل اتصال أهلها بغيرهم من أبناء الأمم الكثيرة، على تلطيف التعصب البدائي والخرافات، وكانت أيونيا من الوجهة الثقافية لأهم أجزاء العالم الهليني كله، ولبثت كذلك حتى خضعت ﻟ «دارا» في مستهل القرن الخامس، وأوشكت ألَّا تمسَّها الحركة الدينية المرتبطة بديونيسوس وأورفيوس، فكانت ديانتها أولمبية، لكن يظهر أنها لم تنظر إلى الدين نظرةً بالغة الجد، ولنا أن نعتبر تأملات طاليس وأنكسمندر وأناكسمانس فروضًا علمية، وهي تأملات قد برَّأت نفسها — إلا في مواضع نادرة — من إقحام الرغبات البشرية والأفكار الخلقية عند تفسير الكون؛ فالأسئلة التي أثارها هؤلاء بتأملاتهم كانت أسئلةً جديرة بالبحث، وجاءت حيويتهم مصدر وحي للباحثين من بعدهم.
والمرحلة التالية من مراحل الفلسفة اليونانية؛ أعني المرحلة المرتبطة بالمدن اليونانية في جنوبي إيطاليا، أكثر اصطباغًا بالدين، وبالمذهب الأورفي على وجه التخصيص — وهي مرحلة أهم، وأدعى للإعجاب بما أنتجت، من مرحلة ملطية، لكنها أقل من هذه في روحها العلمية.