الأخلاق عند أرسطو
توجد في مجموعات مؤلفات أرسطو ثلاث رسائل في الأخلاق، لكن الرأي يُجمِع اليوم على أن رسالتين منها كانتا من تأليف أتباعه، وتبقى الثالثة وهي «الأخلاق إلى نيقوماخوس» لا يتطرق الشك إلى معظم أجزائها من حيث صحة نسبها إلى مؤلفها، لكنك ترى حتى في هذا الكتاب جزءًا (هو الكتب الثلاثة منه — أي الفصول الثلاثة — الخامس والسادس والسابع)، يقول عنه كثيرون إنه أضيف إليه إضافة من مؤلفات هؤلاء الأتباع، لكني مع ذلك سأغضُّ الطرف عن هذه النقطة المختلف في أمرها، وسأنظر إلى الكتاب باعتباره كلًّا واحدة، وباعتباره من تأليف أرسطو نفسه.
تُمثِّل آراء أرسطو في الأخلاق — بصفةٍ عامة — الآراء التي كانت شائعة بين المتعلمين وذوي الخبرة من أهل عصره؛ فليست هي بالآراء المثقَلة بالجانب الديني التصوفي، كما كانت الحال في آراء أفلاطون، ولا هي بالآراء التي تفسح المجال لنظرياتٍ انقلابية، كالتي تصادفها في «الجمهورية» فيما يتعلق بالملكية وبالأسرة، فأولئك الذين لا يقعون في منزلةٍ أدنى، ولا في مكانةٍ أعلى من المتوسط السوي للمواطنين المتصفين بالتهذيب وحسن السلوك، سيجدون في كتاب «الأخلاق» سجلًّا متسقًا للمبادئ التي ينبغي أن يهتدي بها سلوكهم — فيما يعتقدون — أما أولئك الذين ينشدون مستوًى أعلى من ذلك، فسيخيب رجاؤهم؛ إذ الكتاب يناشد أوساط العمر من الرجال ذوي المكانة المحترمة، حتى لقد اتخذته هذه الطبقة من الناس — وبخاصة منذ القرن السابع عشر — وسيلة تطفئ بها حماسات الشباب وفوراتهم، غير أن الأرجح أن يقع هذا الكتاب موقع الاشمئزاز من رجل له من عمق الشعور نصيب مهما يكن نصيبًا ضئيلًا.
ينبئنا أرسطو أن الخير هو السعادة التي هي عبارة عن فاعلية النفس، ويقول أرسطو إن أفلاطون قد أصاب في تقسيم النفس قسمين، قسم عاقل، وآخر لا عاقل، ولقد عاد أرسطو فقسم الجزء اللاعاقل جزأين؛ جزء نباتي (يوجد حتى في النبات) وجزء شهواني (يوجد في كافة الحيوان). ويجوز لهذا الجزء الشهواني أن يكون عاقلًا إلى حدٍّ ما، وذلك حين تكون ألوان المتع التي يسعى إليها من النوع الذي يوافق عليه العقل، فذلك أمرٌ حيوي بالنسبة إلى الفضيلة؛ لأن العقل وحده — عند أرسطو — هو الذي يتصف بالتأمل الخالص، ولا ينتهي بالإنسان — إذا لم يعاونه الجانب الشهواني — إلى أي ضربٍ من ضروب الفاعلية العملية.
وللفضيلة نوعان؛ فضائل عقلية وأخرى خلقية، يقابلان جانبَي النفس. أما الفضائل العقلية فتنشأ نتيجةً للتعلم، وأما الفضائل الخلقية فتتكون بحكم العادة. ومن واجبات المشرِّع أن يصلح من شأن مُواطنيه بتنشئتهم على عاداتٍ طيبة؛ فنحن نكتسب صفة العدل إذا ما فعلنا أفعالًا عادلة، وقُل مثل ذلك في سائر الفضائل، وإذا ما اضطُررنا اضطرارًا على اكتساب العادات الطيبة، فسيجيء يوم — في رأي أرسطو — يصبح فيه أداؤنا للأفعال الخيرة مصدرًا لمتعتنا، وذلك يذكرنا بما يقوله هاملت مخاطبًا أمه:
وننتقل الآن إلى المذهب المشهور الذي يدعو إلى الأخذ بالوسط الذهبي، فكل فضيلة هي وسط بين طرفين كلٌّ منهما رذيلة، وبرهان ذلك ظاهر من اختباره للفضائل المختلفة؛ فالشجاعة وسطٌ بين الجبن والتهور، والكرم وسطٌ بين الإسراف والتقتير، واعتداد الإنسان بنفسه وسطٌ بين الغرور والذلة، والبديهة الحاضرة وسطٌ بين الإسفاف والتزمت، والتواضع وسطٌ بين انزواء الخجل وانعدام الحياء، وهناك بعض الفضائل لا يجد مكانًا في هذا التقسيم، كما يبدو من ذلك مثلًا قول الصدق. نعم إن أرسطو يقول فيه إنه وسطٌ بين التفاخر والتواضع المصطنع (١١٠٨ ا)، لكن هذا لا ينطبق إلا على الصدق في تعبير المرء عن نفسه، ولست أرى كيف يمكن أن نجد للصدق بمعناه الواسع مكانًا في هذا التقسيم، فقد حدث مرةً أن اصطنع عمدة مذهب أرسطو، فلما انتهت فترة توليه هذا المنصب، ألقى خطابًا يقول فيه إنه حاول أن يلتزم في سيره السراط القائم بين الحزبية والحياد، ويظهر أن الرأي القائل بأن الصدق وسطٌ يكاد لا يقل عن هذا الكلام سخفًا.
إن آراء أرسطو في المسائل الأخلاقية هي دائمًا الآراء التي كانت تقليدية في عصره، وهي تختلف في بعض النقط عن آرائنا اليوم، خصوصًا إذا ما مس الموضوع لونًا من ألوان الأرستقراطية، فرأينا اليوم هو أن الناس متساوون في حقوقهم الأخلاقية على الأقل، وأن العدالة تتضمن المساواة، أما أرسطو فيذهب إلى أن العدالة لا تقتضي المساواة، بل مراعاة النسب الصحيحة، وهذه لا تكون مساواة إلا بعض الحالات دون بعضها الآخر (١١٣١ ب).
فعدالة السيد أو الوالد تختلف عن عدالة المواطن؛ ذلك لأن الابن أو العبد ملك، ولا يمكن أن يظلم الإنسان ما يملك (١١٣٤ ب)، على أن ثَمة تعديلًا طفيفًا في هذا المذهب خاصًّا بالعبيد، فهل يجوز للرجل أن يكون صديقًا لعبده أو لا يجوز؟ «فليس بين الطرفين عنصر مشترك؛ لأن العبد آلة حية … فالعبد باعتباره عبدًا لا يكون صديقًا، لكنك تصادق العبد باعتباره إنسانًا؛ إذ قد يبدو أن شيئًا من العدالة قائمٌ بين أي إنسان وإنسان آخر، ما دام يمكن للطرفين معًا أن يشتركا في تشريعٍ قانوني واحد، أو أن يتفقا معًا على تعاقدٍ معين، ويترتب على ذلك إمكان قيام الصداقة معه باعتباره إنسانًا» (١١٦١ ب).
ففي مستطاع الوالد أن ينكر ابنه إذا كان شريرًا، لكن الابن لا يستطيع أن ينكر أباه؛ لأنه مدينٌ له بأكثر مما يستطيع رده له وخصوصًا دينه لأبيه بوجوده (١١٦٣ ب). ومن الصواب في العلاقات المتفاوتة، أن يحب الأدنى الأعلى أكثر مما يحب الأعلى الأدنى، ما دام الواجب أن يظفر كل إنسان بقسط من الحب يتناسب مع قيمته؛ فالزوجات والأبناء والأتباع يجب أن يحبوا أزواجهم ووالديهم وملوكهم أكثر مما يحب هؤلاء أولئك، وفي الزواج الموفق، يحكم الرجل وفق قيمته، وفي الأمور التي يجب أن يكون الحكم فيها للرجل، على أن يترك للزوجة ما يناسبها من شئون (١١٦٠ ب)، فلا ينبغي له أن يحكم في نطاق حكمها، وقل أكثر من ذلك بالنسبة لها، فلا يجوز أن تحكم في دائرة اختصاصه، كما يحدث أحيانًا حين تكون امرأة وارثة.
إن خير الأفراد — كما يتصوره أرسطو — مختلف جد الاختلاف عن القديس عند المسيحيين، فلا بُدَّ له أن يكون معتدًّا بنفسه إلى الحد الملائم، وألا يبخس من حسنات نفسه، يجب أن يزدري كل من يستحق الازدراء (١١٢٤ ب)، ومن الممتع حقًّا أن تقرأ وصف الرجل المعتد بنفسه، أو صاحب النفس الكبيرة؛ لأنه يبين الفرق بين الأخلاق الوثنية والأخلاق المسيحية، ويوضح المعنى الذي أباح لنيتشه بحق أن يعد المسيحية من أخلاق العبيد.
«إن صاحب النفس الكبيرة لا بُدَّ أن يكون خيِّرًا إلى أبعد درجات الخير ما دام جديرًا بأكثر مما يجدر بسواه من الناس؛ ذلك لأن من يكون أفضل من زميله، يستحق أكثر منه، وأفضل الناس حقيق بأوفر نصيب؛ وعلى ذلك فصاحب النفس الكبيرة حقًّا لا بُدَّ أن يكون خيِّرًا، والعظمة في كل فضيلة من الخصائص التي تميز صاحب النفس الكبيرة فيما أظن، فأبعد ما يكون ملاءمة لخلق الرجل صاحب النفس الكبيرة أن يفر من الخطر، مُطوحًا ذراعيه إلى جانبيه، كذلك لا يجمل به أن يسيء إلى الآخرين؛ إذ ما غاياته من فعل ما يشينه هذا الذي لا يعد شيء في عينيه عظيمًا؟ … وإذن فكبر النفس قد تكون الإكليل الذي يتوج سائر الفضائل؛ لأنه يزيدها عظمة، وهو لا يوجد بغيرها، وعلى ذلك فمن العسير على إنسانٍ أن يكون صاحب نفس كبيرة حقًّا؛ لأن ذلك مستحيلٌ بغير سمو في الخلق وبغير طبيعة خيِّرة؛ وإذَن فأهم ما يهتم له ذو النفس الكبيرة هو أسباب الرفعة وأسباب الخسة، وإذا ما صادفته دواعي الرفعة العظيمة التي يخلعها عليه أطيب الناس، فلا يقابلها إلا بغبطةٍ معتدلة؛ لأنه عندئذٍ يصدر عن عقيدة؛ لأنه إنما يصادف ما هو أهل له، أو حتى ما هو أقل مما هو جديرٌ به؛ إذ ليس هنالك بين أسباب التكريم ما يستحق الفضيلة الكاملة، ومع ذلك فلا أقل من أن يقبل منهم هذا الذي يقدمونه له من أسباب التكريم، ما داموا لا يملكون ما هو أفضل من ذلك ليخلعوه عليه، على أنه سيزدري أتم ازدراء كلَّ تكريمٍ يجيئه من غمار الناس ولأسبابٍ تافهة؛ لأن ذلك ليس ما هو حقيق به، بل ذلك حطٌّ من شأنه؛ لأنه في حالته ليس من العدل في شيء … إن القوة والثروة مطلوبان لأنهما وسيلتان للشرف، فالذي ينظر حتى إلى الشرف نظرته إلى الشيء القليل، فلا بُدَّ أن تكون هذه نظرته كذلك إلى القوة والثروة؛ ومن ثَم ظن الناس بذوي النفوس الكبيرة أنهم يزدرون كل شيء … إن صاحب النفس الكبيرة لا يغامر في مخاطراتٍ تافهة … بل تراه يواجه الأخطار الكبيرة. وإذا كان في مواطن الخطر، فهو لا يضنُّ بحياته، عالمًا أن ثَمت ظروفًا تكون فيها الحياة غير جديرة بالعيش، وهو رجل يخلع على الناس المنافع، لكنه يرى من العار عليه أن يتقبل المنافع من الناس؛ لأن الحالة الأولى علامة تدل على التفوق، والحالة الثانية تنم عن منزلةٍ أحط، وهو إذا ما تلقى من غيره نفعًا، التزم برد ما هو أنفع منه؛ وبهذا يرد دينه لصاحب الحسنة الأولى من جهة، ثم يضعه موضع المدين من جهةٍ أخرى … إن من علامات صاحب النفس الكبيرة ألا يطلب شيئًا، بل يسارع إلى المعونة، وأن يكون موقرًا من أولئك الذين يتمتعون بمنزلةٍ عالية، على ألا يتعالى إزاء أبناء الطبقة الوسطى؛ إذ إنه من العسير ومن السمو أن تضع نفسك في مكانةٍ أعلى من الطبقة الأولى، لكنه من اليسير أن تفعل ذلك إزاء الطبقة الثانية، وتسامي الإنسان بنفسه على الطبقة الأولى ليس من دلائل التربية السيئة، أما التسامي بين الطبقة الدنيا فسوقية تشبه السوقية التي تكون حين يُظهر القوي قوته أمام الضعيف … كذلك ينبغي لصاحب النفس الكبيرة أن يكون صريحًا في كراهيته وفي حبه؛ لأن إخفاء المرء لمشاعره، أعني أن يكون أقل اهتمامًا بالحقيقة منه بما يقوله الناس، من صفات الجبان … وهو لا يكثر الكلام لأنه شامخ بأنفه في ازدراء، وهو لا ينحرف عن قول الصدق، إلا إذا تكلم مع السوقة ساخرًا … كلا ولا تراه يمعن في إكبار شيء، في نظره عظيم … ولا هو ثرثار؛ لأنه لا يتكلم عن نفسه أو غيره؛ لأنه … لا يهتم أبدًا بمدح الناس له، أو بذمهم لسواه … وهو رجل يؤثِر أن تكون في حيازته أشياء جميلة غير نافعة، على أن تكون في حيازته أشياء تنفع وتفيد … أضف إلى ذلك أن الخطوة البطيئة أليق بذي النفس الكبيرة، وكذلك الصوت العميق ونطق الكلمات نطقًا متزنًا … ذلك — إذَن — هو صاحب النفس الكبيرة، وإن من يقصر دون مستواه، فهو ذليل من حيث لا ينبغي له أن يكون، ومن يجاوز ذلك المستوى فهو مغرور» (٢١٣٣ ب ١١٢٥).
وإن الإنسان لتأخذه رجفةٌ إذا ما صور لنفسه كيف إذَن يكون الرجل المغرور؟!
وقل ما شئت في صاحب النفس الكبيرة، لكن شيئًا واحدًا لا يشك فيه، وهو استحالة أن يكون من هذا الطراز عدد كبر في مجتمعٍ ما، ولست بذلك أعني أنه من المتعذر أن يكون هنالك كثيرون من فضلاء الرجال، على أساس أن الفضيلة صعبة المنال، وإنما أعني أن فضائل الرجل ذي النفس الكبيرة، تعتمد إلى حدٍّ كبير على كون مكانته الاجتماعية عالية علوًّا نادرًا، إن أرسطو يعد الأخلاق نوعًا من السياسة، وليس عجيبًا — بعد حمده للكبرياء — أن نراه يعد الملكية خير أنواع الحكومة، وتتلوها حكومة الأرستقراطية، فالملوك وأبناء الطبقة الأرستقراطية يمكن أن يكونوا «ذوي نفوس كبيرة»، أما المواطنون العاديون فيضعون أنفسهم مواضع السخرية، لو حاولوا أن يعيشوا على هذا الطراز.
وهذا القول يدعو إلى ذكر مشكلة أخلاقية سياسية في آنٍ معًا، وهي: هل نرضى من الوجهة الخلقية عن مجتمعٍ يسير وفق دستور من شأنه أن يخص الأقلية بأحسن الأشياء، ويطالب الأكثرية بالقناعة بما هو دون ذلك؟ يقول أفلاطون وأرسطو نعم، ويوافقهما نيتشه. وأما الرواقيون والمسيحيون والديمقراطيون فيقولون لا. على أنهم يختلفون اختلافًا واسعًا في قولهم لا؛ فالرواقيون والمسيحيون الأولون يعدون الفضيلة هي الخير الأسمى، وأن الأحوال الخارجية لا يمكن أن تحول بين إنسان وبين أن يكون فاضلًا؛ وإذَن فلا حاجة بنا إلى البحث عن نظامٍ اجتماعي عادل، ما دام الظلم الاجتماعي لا يمس إلا الجوانب التي لا أهمية لها، لكن الديمقراطيين — على نقيض ذلك — يذهبون عادةً (على الأقل فيما يمس شئون السياسة) إلى أن الخير الأعلى هو القوة والملكية؛ وعلى ذلك فالديمقراطي لا يمكن أن يرضى بنظامٍ اجتماعي فيه ظلم في هذه الأمور.
ووجهة النظر الرواقية المسيحية تتطلب تصورًا للفضيلة يختلف جدًّا عن فكرة الفضيلة عند أرسطو؛ لأن الفضيلة من وجهة نظر أولئك ممكنة للعبد وللسيد على السواء؛ ولذا ترى الأخلاق المسيحية لا توافق على الكبرياء التي يظنها أرسطو فضيلة، وهي تثني على المسكنة التي يرى أرسطو أنها رذيلة، هذا إلى أن الفضائل العقلية التي يضعها أفلاطون وأرسطو فوق سائر الفضائل جميعًا، تمحوها الأخلاق المسيحية من قائمة الفضائل محوًا تامًّا، حتى يستطيع الفقير والمسكين أن يكون لهما من الفضيلة ما لأي إنسانٍ آخر، وتطبيقًا لذلك توجَّه البابا جريجوري الكبير باللوم الجاد إلى أحد الأساقفة لأنه كان يعلم النحو.
إن النظرة الأرسطية القائلة بأن أسمى الفضائل هي من نصيب الأقلية، مرتبطة منطقيًّا مع تبعية الأخلاق للسياسة؛ فلو كانت الغاية هي المجتمع الجيد لا الفرد الجيد فمن الجائز أن يكون ذلك المجتمع الجيد مما يقبل خضوع فريق من الناس لفريق؛ ففي الجوقة الموسيقية يكون الكمان الكبير أهم من المزمار، على الرغم من ضرورة الكمان والمزمار معًا لكي تبلغ القطعة الموسيقية في جملتها حد الكمال، ومن المستحيل أن تنظم الجوقة الموسيقية على أساس إعطاء كل فرد خير ما يمكن أن يعطاه باعتباره فردًا معزولًا عن بقية الأفراد، وقُل نفس الشيء في حكومة دولة من الدول الحديثة الكبرى، مهما بلغ شأنها من الديمقراطية؛ فالديمقراطية الحديثة — على خلاف الديمقراطيات القديمة — تخلع قوةً عظيمة على فئةٍ مختارة من الأفراد، هم رؤساء الجمهوريات أو رؤساء الوزارات، ولا بُدَّ أن تتوقع منهم ألوانًا من الامتياز لا تتوقع مثله في المواطن العادي؛ فحين لا يكون الناس في تفكيرهم متأثرين بالدين أو بالخصومات السياسية، فالأرجح أن تراهم يقولون إن رئيس الجمهورية الجيد أحق بالتكريم من البناء الجيد. ورئيس الجمهورية في الدولة الديمقراطية لا يطالَب بأن يكون مشابهًا كل الشبه لصاحب النفس الكبيرة كما ورد عند أرسطو، ومع ذلك فهو مُطالَب بأن يكون على شيء من المباينة لمتوسط الفرد العادي من المواطنين، وأن تكون له ضروب من الامتياز متصلة بمنصبه، ويجوز ألا تعد هذه الضروب من الامتياز في صفاته، من الصفات «الخُلقيَّة»، ولكن مرجع ذلك هو أننا نستعمل كلمة «خُلُقي» بمعنًى أضيق من المعنى الذي استعملها به أرسطو.
ومع ذلك فكثيرون من الفلاسفة المحدَثين لم يَقبلوا هذه الوجهة من النظر إلى الأخلاق؛ فمن رأيهم أننا ينبغي أولًا أن نعرف الخير ثم بعد ذلك نقول إن أفعالنا يجب أن تكون بحيث نعمل على تحقيق ما هو خير، فهذه الوجهة من النظر أقرب إلى أرسطو الذي يذهب إلى أن السعادة هي الخير، نعم إن السعادة الكبرى لا تتحقق إلا للفيلسوف، لكن هذا — في رأي أرسطو — لا يصح أن يكون اعتراضًا على النظرية.
يمكن تقسيم النظريات الأخلاقية فِئتَين، حسب اعتبارها للفضيلة غاية أو وسيلة؛ فأرسطو — على وجه الجملة — يأخذ بالرأي القائل إن الفضائل وسائل لغايةٍ هي السعادة؛ «وإذَن فالغاية هي ما نتمناه، وأما الوسائل فهي ما نوازن بينه ونتخير منه؛ ولذا فالأفعال المتصلة بالوسائل لا بُدَّ أن تجيء نتيجة للاختيار، وأن تكون إرادية، وممارستنا للفضائل هي مما يتصل بالوسائل» (١١١٣ ب). لكن هناك معنًى آخَر للفضيلة يَسلكها في زمرة الغايات المقصودة من الفعل؛ «فالخير الإنساني فاعلية للروح تجري وَفْق الفضيلة كما تكون في الحياة الكاملة» (١٠٩٨ ا). وأظنه يريد أن يقول إن الفضائل العقلية غايات، وأما الفضائل العملية فوسائل فقط. ويذهب الأخلاقيون المسيحيون إلى أنه بينما تكون نتائج الأفعال الفاضلة خيِّرة بصفةٍ عامة، فليست هي على درجةٍ واحدة من الخير مع الأفعال الخيرة نفسها، التي لا بُدَّ من تقويمها في حد ذاتها، لا على أساس نتائجها، ومن ناحيةٍ أخرى يعتبر الفريق الذي يجعل اللذة هي الخير أن الفضائل ليست سوى وسائل، وكل تعريفٍ آخر للخير — إذا استثنيت تعريفًا واحدًا، وهو الذي يعرف الخير بالفضيلة — سينتهي إلى نفس النتيجة، وهي أن الفضائل وسائل لما هو خير، وما هو خير يختلف عن الفضائل نفسها، وأرسطو في هذا الموضوع — كما أسلفنا القول — يوافق إلى حدٍّ كبير، وإن لم يكن إلى كل حد، أولئك الذين يجعلون مهمة الأخلاق الأولى هي تحديد الخير، ويذهبون إلى أن تعريف الفضيلة هو أنها الفعل الذي يعمل على إنتاجِ ما هو خير.
وتُثير العلاقة بين الأخلاق والسياسة مشكلةً أخلاقية أخرى على جانبٍ كبير من الأهمية؛ فإذا فرضنا جدلًا أن الخير الذي يجب أن يتجه إليه الفعل هو خير الجماعة كلها، أو هو خير الإنسانية كلها في نهاية الأمر، فهل يكون هذا الخير الاجتماعي حاصلَ جمعِ ما يصيبه الأفراد من خير؟ أو يكون شيئًا في جوهره خاصًّا بالمجموعة، لا بأفرادها، ونستطيع أن نوضح المشكلة بمثلٍ نضربه من الجسم الإنساني؛ فاللذائذ مرتبطة إلى حدٍّ كبير بأجزاء الجسم المختلفة، لكننا نعتبرها لذائذ الجسم في مجموعته؛ فقد نستمتع برائحةٍ لذيذة، لكننا نعلم أن الأنف وحده لا يمكنه أن يستمتع بها. ويعتقد بعض أصحاب الرأي أن المجتمع الذي تشتد الصلة العضوية بين أفراده، يكون له — قياسًا على جسم الإنسان — فضائل تنتمي إلى المجموعة لا إلى أي فرد على حدة. ولو كان هؤلاء ميتافيزيقيين، فقد يذهبون — كما ذهب هيجل — إلى أن أية صفة من صفات الخير إنما تصف الكون كله، لكنهم يضيفون إلى ذلك قولهم إننا لو عزونا الخير للدولة، كنا أقل خطأً مما لو عزوناه إلى فردٍ من الأفراد. ويمكن التعبير عن هذا الرأي منطقيًّا كما يلي: نستطيع أن نعزو إلى الدولة محمولاتٍ مختلفةً مما لا نستطيع أن نعزوه لأعضائها فُرادى، فنقول إنها كثيرة السكان، وإنها واسعة الرقعة، وإنها قوية وهكذا، ووجهة النظر التي نناقشها تضع المحمولات الأخلاقية في هذه الفئة من المحمولات. ونقول إن هذه المحمولات الأخلاقية لا تحمل على الأفراد إلا على سبيل التبعية؛ فالرجل الواحد قد يتبع دولةً كثيرة السكان، أو دولة خيِّرة، لكن ليس معنى ذلك أن نقول عنه بناءً على ذلك إنه رجلٌ كثير السكان، وليست هذه النظرة التي أخذ بها معظم الفلاسفة الألمان هي نفسها رأي أرسطو، إلا فيما يختص بفكرته عن العدالة؛ فقد تكون مُعبِّرة عن رأي أرسطو إلى حدٍّ ما.
وقد اختص جزءٌ كبير من كتاب «الأخلاق» بمناقشة الصداقة، بما في ذلك كل الروابط التي تستتبع حبًّا؛ فالصداقة الكاملة مستحيلة إلا بين الفضلاء كما يستحيل على الإنسان أن يصادق ناسًا كثيرين، فلا ينبغي للإنسان أن يصادق من هو في مكانةٍ أعلى مكانته، إلا إذا كان كذلك أعلى منه فضيلة، فهذه عندئذٍ تبرر ما يُبديه نحوه من احترام. ولقد أسلفنا القول إنه حيث تكون العلاقة بين فردين غير متساويين، كالعلاقة بين الرجل وزوجته، أو الوالد وولده، وجب أن يحب الأقل الأكبر أكثر مما يحب الأكبر الأقل، فمن المستحيل أن تكون صديقًا لله؛ لأنه لا يمكن أن يتجه نحونا بحبه. ثم يناقش أرسطو إمكان أن يكون الرجل صديقًا لنفسه، وينتهي إلى أن ذلك ممكن إذا كان الرجل فاضلًا، وهو يؤكد أن الأشرار من الرجال يكرهون أنفسهم غالبًا، فواجب الرجل الفاضل أن يحب نفسه، على أن يكون حبًّا ساميًا (١١٦٩ ا). إن الأصدقاء مصدر السلوى إذا ما ألمَّت بالإنسان كارثة، على أنه لا يجوز له أن يُشقيَهم باستدرار عطفهم عليه، كما تفعل النساء وكما يفعل من يشبهون النساء من الرجال (١١٧١ ب). وليست تقتصر الرغبة في الأصدقاء على الحالات التي يرزأ فيها الإنسان بالكوارث؛ فالسعيد أيضًا يريد الأصدقاء ليُشاطروه سعادته؛ «فلن تجد إنسانًا يختار لنفسه العالم كله إذا اشترط عليه أن يكون فيه وحيدًا؛ ذلك لأن الإنسان مخلوقٌ سياسي، وتُحتِّم عليه فطرته أن يعيش مع آخرين» (١١٦٩ ب). إن كل ما يقوله أرسطو عن الصداقة معقول، لكنه لا يقول هنا حكمة واحدة مما يعلو على مستوى الآراء التي تمليها الفطرة السليمة في إدراك الأمور.
وكذلك يُبدي أرسطو إدراكه السليم في مناقشته ﻟ «اللذة» التي كان أفلاطون قد نظر إليها نظرةً فيها شيء من التزهد؛ فاللذة كلمة يستعملها أرسطو بمعنًى يختلف عن معنى السعادة، ولو أنه لا يمكن أن تتم سعادة بغير لذة. ويقول إن ثمة ثلاثة آراء في اللذة: (١) أنها لا تكون خيرًا أبدًا. (٢) وأن بعض اللذة خيرٌ لكن معظمها شر. (٣) وأن اللذة خير، لكنها ليست أفضل أنواع الخير. وهو يرفض الرأي الأول على أساس أن الألم شرٌّ لا شك فيه، وإذَن فلا بُدَّ أن تكون اللذة خيرًا، وهو يقول بحق إنه من فارغ الكلام أن نقول عن إنسان إنه سعيد وهو معذَّب؛ فلا بُدَّ للسعادة من بعض العوامل الخارجية التي تحمل معها حظًّا. وكذلك يرفض أرسطو الرأي القائل إن كل اللذائذ جسدية؛ ففي كل شيء جانبٌ سماوي؛ وبالتالي يكون في كل شيء بعضُ القابلية لأن يكون مصدر لذة أسمى، وأفاضل الرجال يستمتعون باللذة إلا إذا كانت حظوظهم سيئة، والله متمتع دائمًا بلذةٍ واحدة بسيطة (١١٥٢–١١٥٤).
ويناقش الكتاب في جزءٍ آخر منه موضوع اللذة مناقشةً ليست تخلو من التناقض مع وجهة النظر التي بسطناها في الفقرة السالفة، فها هنا تراه يثبت أن هنالك من اللذائذ ما هو شر، على أنها ليست لذائذ عند فضلاء الناس (١١٧٣ ب)، وأن اللذائذ ربما اختلفت في نوعها (نفس الموضع)، وأن اللذائذ تكون خيرًا أو شرًّا حسب ارتباطها بألوان النشاط الخيِّرة أو الشرِّيرة (١١٧٥ ب)، ومن الأشياء ما يقوم بأعلى مما تقوم به اللذة، فلن تجد إنسانًا يرضيه أن يسلخ عمره كله بعقل طفل، حتى ولو كان من اللذيذ أن يكون كذاك، ولكل حيوانٍ لذته الخاصة به، واللذة التي توافق طبيعة الإنسان مرتبطة بالعقل.
وينتهي بنا هذا الكلام إلى المذهب الوحيد في الكتاب، الذي لا يقف عند حد الإدراك الفطري السليم، وذلك أن السعادة كائنة في الفاعلية التي نمارسها في فعل الفضيلة، والسعادة الكاملة كائنة في أفضل ضروب هذه الفاعلية، ألا وهي الفاعلية التأملية؛ فالتأمل أجدى من الحرب ومن السياسة ومن أي نوعٍ آخر من أنواع السِّيَر العملية؛ لأن التأمل يتيح لنا فراغًا، والفراغ شرط لازم للسعادة، أما الفضيلة العملية فلا تعود علينا إلا بنوعٍ ثانوي من السعادة، والسعادة القصوى هي في استخدام العقل؛ لأن العقل — أكثر من أي شيء آخر — هو الإنسان، ولا يستطيع الإنسان أن يكون متأملًا خالصًا، لكنه بمقدارِ ما يكون متأملًا فهو يشاطر في الحياة الإلهية؛ «ففاعلية الله — التي تفوق كل صنوف الفاعلية في نعيمها — لا بُدَّ أن تكون فاعلية تأملية»، وأقرب الناس شبهًا بالله في فاعليته هو الفيلسوف؛ ولذا فهو أسعد الناس وأفضلهم.
«إن من يستخدم عقله ويُثقفه، يكون — فيما أرى — في أفضل حالاته العقلية، وأقرب ما يكون منزلةً عند الآلهة؛ لأنه إذا كانت الآلهة تُعنى بشئون البشر إطلاقًا — كما هو الرأي عنهم — فمن المعقول أن يغتبطوا لما هو أفضل وما هو أقرب شبهًا بهم (أعني العقل)، وأن يكافئوا أولئك الذين يمتازون من سواهم بشدة حبهم وتقديرهم للعقل؛ لأنهم يُعنَون بالشيء الذي هو عزيز لدى الآلهة؛ ولأنهم أيضًا يفعلون الفعل الصواب الشريف، وواضحٌ أن كل هذه الصفات تصف الفيلسوف أكثر مما تصف سواه، وإذَن فهو أعز الناس لدى الآلهة، ومن يكون كذلك، يكون على الأرجح أسعد الناس؛ فلهذا يكون الفيلسوف أسعد من أي إنسانٍ سواه» (١١٨٩ ا).
والحق أن هذه العبارة هي من كتاب «الأخلاق» بمثابة الختام الجميل؛ فالفقرات القليلة التي ترد بعدها خاصة بالانتقال إلى السياسة، فلنقرر الآن ما نراه نحن من حسنات كتاب «الأخلاق» وسيئاته؛ فالأخلاق — على خلاف كثير من الموضوعات الأخرى التي عالجها الفلاسفة اليونان — لم تتقدم إلى الأمام تقدمًا واضحًا، وأقصد بالتقدم هنا الكشف عن حقائق مؤكدة الصدق، فليس في الأخلاق شيء معلوم لنا بالمعنى العلمي لهذه الكلمة، وعلى ذلك فليس ثمة ما يبرر أبدًا أن نجعل رسالة قديمة في موضوع الأخلاق أقل منزلة من أية رسالة حديثة في هذا الموضوع. إن أرسطو حين يتحدث عن الفلك، نستطيع قطعًا أن نقول إنه مخطئ، لكنه إذا ما تحدث عن الأخلاق، فليس في وسعنا أن نقول بنفس الدرجة من اليقين إن كان قد أخطأ أو أصاب. على أن هناك ثلاثة أسئلة — بصفةٍ عامة — يمكن أن نسألها عن الأخلاق عند أرسطو أو عند أي فيلسوفٍ آخر: (١) أهي متسقة الأجزاء بحيث لا ينقض بعضها بعضًا؟ (٢) أهي متسقة مع سائر آراء الفيلسوف؟ (٣) هل تحل لنا المشكلات الأخلاقية حلًّا نُحسُّ أنه متفقٌ مع مشاعرنا الأخلاقية؟ فإذا كان الجواب بالنفي على السؤال الأول أو على السؤال الثاني، فقد أخطأ الفيلسوف الذي نناقش مذهبه خطأً عقليًّا. أما إذا كان الجواب بالنفي على السؤال الثالث، فليس لنا الحق في أن نقول إنه قد أخطأ، وكل ما يسعنا أن نقوله هو أننا لا نميل إلى مذهبه.
- (١)
الكتاب على وجه الجملة خالٍ من التناقض، إذا استثنينا بعض النقط القليلة التي لا أهمية لها؛ فالمذهب القائل بأن الخير هو السعادة، وبأن السعادة قوامها الفاعلية الموفقة، قد أحسن عرض تفصيلاته ونتائجه، وأما مذهبه في أن كل فضيلة وسط بين طرفين، فعلى الرغم من أنه عرض عرضًا غاية في الجودة إلا أنه أقل نجاحًا من المذهب السابق؛ لأنه لا ينطبق على التأمل العقلي، الذي يقول عنه أرسطو نفسه بأنه أفضل ضروب الفاعلية، ومع ذلك فيمكنه أن يقول إن نظرية الوسط لم يقصد بها إلا الفضائل العملية، لا فضائل العقل. وكذلك — إذا انتقلنا إلى نقطةٍ أخرى — موضع المشرع من الأخلاق، قد يكون على شيء من عدم الوضوح، فواجبه أن يهيئ للأطفال وللشباب أسباب اكتساب عادة أداء الأفعال الطيبة، وهذه في النهاية ستؤدي بهم إلى استمتاعهم بلذة الفضيلة، وإلى التصرف تصرفًا فاضلًا بغير حاجة منهم إلى إلزام القانون، وواضحٌ أن المشرع ربما كان سببًا أيضًا في أن يكتسب الأطفال والشبان عادات «سيئة». وإذا كان يضاف عليه أن يجتنب ذلك، فلا بُدَّ أن يكون متحليًا بكل الحكمة التي يتصف بها وليُّ الأمر عند أفلاطون. وأما إذا لم يجتنبه، فحُجته بأن الحياة الفاضلة حياة لذيذة تسقط من أساسها. وعلى كل حال فهذه مشكلة تمس السياسة أكثر مما تمس الأخلاق.
- (٢)
الأخلاق عند أرسطو متوافقة من جميع نواحيها مع مذهبه في الميتافيزيقا، بل إن آراءه الميتافيزيقية نفسها تعبيرٌ عن نظرةٍ أخلاقية متفائلة؛ فهو مؤمن بالأهمية العلمية للأسباب الغائية، وهذا يتضمن الإيمان بأن الغاية تتحكم في طريق سير الكون، ومن رأيه أن مراحل التغير — في أساسها — تحدث على نحوٍ يزيد من التركيب العضوي؛ أي يزيد من «الصورة». ووراء هذا الرأي اعتقاد بأن الأفعال الفاضلة هي التي تعمل على مساعدة السير في الاتجاه. نعم إن شطرًا كبيرًا من أخلاقه العملية ليس فلسفي الصبغة بدرجةٍ ظاهرة، بل هو مجرد تسجيل لمشاهداته للشئون البشرية، إلا أن هذا الجزء من مذهبه على الرغم من أنه يمكن فصله عن الميتافيزيقا وقيامه بذاته، فهو لا يشتمل على شيءٍ يناقض ما جاء في تلك الميتافيزيقا.
- (٣)
إذا ما أردنا أن نوازن ميول أرسطو الخُلقية بميولنا، وجدنا — أولًا — وقد سلفت الإشارة إلى ذلك، أنه يقبل عدم المساواة، وهذا يتنافر مع كثير من عواطف المحدثين؛ فهو لا يكتفي بألا يعارض الرق، وبألا يعارض سيادة الأزواج والآباء على الزوجات والأبناء، لكنه يذهب إلى أن أفضل جوانب الحياة مخصَّص أساسًا للأقلية الممتازة، وهم ذوو النفوس الكبيرة والفلاسفة، وقد تكون النتيجة اللازمة لذلك أن معظم الناس لا يزيدون على مجرد وسائل، غايتها إنتاج طائفة قليلة من الحكام ومن الحكماء. لقد كان الرأي عند «كانْت» هو أن كل كائنٍ بشري غاية في ذاته، ولنا أن نأخذ الرأي على أنه يُعبر عن وجهة النظر التي جاءت بها المسيحية، غير أن رأي كانْت فيه صعوبة منطقية؛ إذ هو لا يمهد سبيلًا نصل بها إلى قرارٍ نحسم به الخلاف إذا ما تعارضت مصلحة شخص مع مصلحة شخص آخر؛ فلو كان كلٌّ منهما غاية في ذاته، فكيف نستطيع أن نصل إلى مبدأ يقرر لنا من منهما ينبغي أن يتنازل لزميله؛ فمثل هذا الرأي أقرب إلى الصواب في تطبيقه على المجتمع، منه في تطبيقه على الفرد؛ إذ سيكون عندئذٍ هو مبدأ «العدالة» بأوسع ما لهذه الكلمة من معانٍ، ويفسر بنثام وأصحاب المذهب المنفعي في الأخلاق «العدالة» بأنها «المساواة»؛ فإذا تعارَض صالح فرد مع صالح فردٍ آخر، فالطريق للصواب بينهما هو ذلك الذي ينتج أكبر كمية من السعادة، بغضِّ النظر عن الفردين المتعارضين، أيهما ستكون له هذه السعادة الكبرى، أو كيف يقتسمانها؟ فإذا أعطينا منها قسطًا أوفر لمن هو أفضل دون من هو أسوأ؛ فذلك لأنه — في نهاية الأمر — ستزداد السعادة العامة بمكافأتنا للفضيلة ومعاقبتنا للرذيلة، لا لأن ثمة مذهبًا أخلاقيًّا فاصلًا في الأمر، مؤداه أن الخير يستحق من الجزاء أكثر من الشر، و«العدالة» — بناءً على هذا المذهب — تنحصر في النظر إلى كمية السعادة المتضمنة ليس غير، بغير مراعاة لفردٍ معين أو لطبقةٍ معينة دون فردٍ آخر أو طبقة أخرى. وقد كان الفلاسفة اليونان — ومنهم في ذلك أفلاطون وأرسطو — ينظرون إلى العدالة نظرةً تختلف عن هذه، وهي نظرة ما زالت إلى اليوم سائدة، وذلك أنهم ذهبوا مذهبًا أساسه في الأصل مستمدٌّ من الدين، وهو أن كل شيء أو شخص له نطاقه الذي يلائمه، ومجاوزة ذلك النطاق «ليس من العدل»؛ فبعض الناس يتحرك في نطاقٍ أوسع من بعضهم الآخر، لما يمتازون به دون هؤلاء، من صفات في أشخاصهم واستعدادهم، وليس من الظلم أن يتمتع أولئك الممتازون بقسطٍ أوفر من السعادة، هذا رأيٌ يسلم به أرسطو بغير جدال، دون أن يظهر في كتاباته أثرٌ يدل على أصوله من الديانة البدائية، التي تظهر واضحةً عند الفلاسفة الأولين.
وتكاد لا تجد كلمة واحدة عند أرسطو عما قد يُسمى بحب الغير أو حب الإنسانية؛ فليست آلام الإنسانية بمثيرة له من الوجهة العاطفية بمقدار ما هو مدرك لوجودها، فهو يحكم عليها — من الوجهة العقلية — بأنها شر، لكن ليس هناك أبدًا ما يدل على أن وجودها يسبب له شقاءً إلا حين يحدث أن يكون المعذَّبون من أصدقائه.
وبصفةٍ عامة، يتصف كتاب «الأخلاق» بقلة الجانب العاطفي فيه، وهو شيء لا تراه عند الفلاسفة السابقين له؛ ففي تأملات أرسطو عن الشئون البشرية شيءٌ من التأنق والطمأنينة لم يكن له مبرر، وينسى أن يذكر شيئًا عما يميل بالناس إلى الشعور القوي باهتمام بعضهم بصالح بعض، حتى كلامه عن الصداقة فيه شيء من الفتور؛ فهو لا يبدي أية علامة تدل على أنه قد عانى تجربةً من هاتيك التجارب التي يتعذر معها على الإنسان أن يحتفظ باتزان عقله. والظاهر أنه لم يكن يعلم شيئًا عن الجوانب الأعمق من الحياة الخلقية، فلك مثلًا أن تقول عنه إنه حذف كل ما يمس الخبرة الإنسانية مما يُعنى به الدين، فما يقوله لا يزيد على كونه كلامًا ينفع أولئك الذين يعيشون عيشًا رغدًا، ولا يمارسون حدة العاطفة نحو شيء، أما أولئك الذين قد ملأ عليهم الله أو الشيطان شعاب نفوسهم، أو أولئك الذين انتهى بهم سوء حظهم في شئون العيش إلى حالٍ من اليأس، فلا يقول لهم شيئًا؛ لهذه الأسباب — في رأيي — يكون كتاب «الأخلاق» قليل الأهمية الذاتية، على الرغم من شهرته.