السياسة عند أرسطو
السياسة عند أرسطو ممتعة وهامَّة معًا؛ فهي ممتعة لأنها تبين ما قد كان سائدًا من نزاعات الرأي بين المثقفين من اليونان في عهده، وهي هامَّة لأنها مصدر كثير من المبادئ التي ظلت فعَّالة الأثر حتى نهاية القرون الوسطى، ولست أحسب أن بها شيئًا كثيرًا مما يمكن أن يكون ذا نفع عملي لسياسي من ساسة زماننا، لكنه يحتوي على شيءٍ كثير مما عساه أن يلقي ضوءًا على الخصومات الحزبية في أجزاء العالم الهلِّيني المختلفة، دون أن يذكر ما يدل على درايةٍ كبيرة منه بأساليب الحكم في الدول اللاهلينية. نعم إن ثمة إشارات إلى مصر وبابل وفارس وقرطاجنة، لكنها إشارات ليس فيها كبير اكتراث، إلا فيما يختص منها بقرطاجنة، وهو لا يذكر الإسكندر أبدًا، ولا يشير أقل إشارة تدل على إدراكه للتحول التام الذي كان الإسكندر بصدد إنزاله بالعالم، فكل البحث منصرف إلى دُوَيلات المدن، دون أن يبين شيئًا من بعد النظر، بحيث يتوقع لذلك النوع من الدولة بفوات زمانه؛ فقد كانت اليونان معملًا تجري فيه التجارب السياسية، نظرًا لانقسامها مدائن مستقلًّا بعضها عن بعض، لكن شيئًا مما يتصل بتلك التجارب لم يكن له وجود قط، منذ عهد أرسطو حتى قيام المدن الإيطالية في العصور الوسطى؛ فالخبرة السياسية التي يجعلها أرسطو مرجعًا له أقرب اتصالًا من وجوهٍ كثيرة بالعالم الحديث نسبيًّا، منها بأي شيء مما كان قائمًا مدى خمسة عشر قرنًا بعد تأليفه كتابه في السياسة.
وفي الكتاب إشارات كثيرة عابرة، لكنها ممتعة، وربما جاز لنا أن نذكر بعضها قبل أن نخوض في استعراض النظريات السياسية؛ فهو ينبئنا بأن يوريبيد — حين كان مقيمًا في بلاط أرخلاوس، ملك مقدونيا — اتهمه رجلٌ يُسمى ديكامنيخوس بأنه ذو رائحة كريهة. ولكي يخفف الملك من غضبة يوريبيد لهذا الاتهام، أذِن له أن يضرب ديكامنيخوس بالسوط، وقد فعل، ولبث ديكامنيخوس أعوامًا يرقب، ثم اشترك في مؤامرةٍ موفقة لقتل الملك، إلا أن يوريبيد كان قد جاءه أجله قبل ذاك، وينبئنا كذلك أن حمل الأمهات لأجنَّتهم ينبغي أن يكون في الشتاء حين تكون الريح في الشمال، وأنه يجب أن تجتنب وقاحة اللفظ اجتنابًا تامًّا؛ لأن «بذيء الكلمات يؤدي إلى بذيء الفعال»، ولا يجوز أن يغض الطرف عن مشاهد الفجور إلا في المعابد، حيث يبيح القانون الفحش. ويجب ألا يتزوج الشباب في سن أصغر مما ينبغي لهم؛ لأنهم إن فعلوا جاء أبناؤهم ضعافًا وإناثًا، ومال الزوجات إلى الخلاعة، ووقف نمو الأزواج قبل أوانه، والسن الصحيحة للزواج هي السابعة والثلاثون للرجال والثامنة عشرة للنساء.
وينبئنا كيف أن طاليس — حين عيَّروه بفقره — اشترى كل معاصر الزيتون بالأقساط، فتمكن بهذا أن يفرض أجورًا كما شاء لاستعمالها، وإنما فعل ذلك ليدلل على أن الفلاسفة في وسعهم أن يكونوا أغنياء، وأنهم إذا ظلوا على فقرهم، فما ذاك إلا لأن لديهم ما يشغل تفكيرهم، مما هو أهم من الثراء، وعلى كل حال فهذه الملاحظات إنما ترد في السياق عابرة، وقد آن لنا أن نتناول بالحديث أمورًا أكبر خطرًا.
يبدأ الكتاب بالإشارة إلى أهمية الدولة؛ فهي أعلى أنواع الجماعات، وتهدف إلى أسمى غايات، والأسرة تأتي قبل الدولة في الترتيب الزمني، وهي قائمة على العلاقتين الرئيسيتين بين الرجل والمرأة من جهة، وبين السيد والعبد من جهةٍ أخرى، وكلتا العلاقتين أمرٌ طبيعي، وإذا اجتمع عددٌ من الأسرات تكوَّنت القرية، ومن جملة قُرًى تتكون الدولة، على شرط أن يجيء اجتماعها من سعة النطاق بما يتيح لها أن تكفي نفسها بنفسها. ولئن كانت الدولة تأتي في الزمن بعد الأسرة، إلا أنها سابقة لها في الفكر، بل هي سابقة لوجود الفرد نفسه بحكم طبيعة الأمور؛ «فما يكون عليه الشيء حين يتم نموه نُسميه بالأمر الطبيعي لذلك الشيء»، والجماعة البشرية إذا ما تم تطورها أصبحت دولة، والكل سابق في الفكر على الجزء، وأساس التفكير في هذا هو فكرة «الوحدة العضوية»؛ فهو يقول إن اليد لا تعود يدًا إذا ما فسد الجسد، ومعنى ذلك أن تعريف اليد يكون بالغاية منها — أعني يقبض الأشياء — وهي لا تستطيع تحقيق تلك الغاية إلا وهي متصلة بجسمٍ حي، وقل مثل ذلك في الفرد؛ فهو لا يستطيع أن يحقق الغاية من وجوده إلا وهو عضو في الدولة. ويقول أرسطو إن من أقام أسس الدولة كان أكثر الناس فعلًا للخير؛ لأن الإنسان بغير قانون هو شر صنوف الحيوان، والقانون معتمد في وجوده على الدولة. وليست الدولة مجرد جماعة تعين الأفراد على الاتصال، وتساعد على منع الجريمة، «بل الغاية من الدولة هي الحياة الطبقية … والدولة هي اتحادات أسرات وقرًى في حياةٍ كاملة تكفي نفسها بنفسها، وبذلك نقصد حياة سعيدة شريفة» (١٢٨٠ ب). «إن الجماعة السياسية يتم وجودها من أجل شريف الأفعال، لا لمجرد معيشة الأفراد جنبًا إلى جنب» (١٢٨١ ا).
ولما كانت الدولة تتألف من مجموعة أُسر، وجب أن يبدأ البحث في السياسة بالكلام في الأسرة، والجانب الأكبر من حديثه في هذا الموضوع متصلٌ بالرق؛ لأن العبيد كانوا في العصور القديمة يعدون دائمًا جزءًا من الأسرة، فالرق أمرٌ ضروري ونظام صحيح، على أن يكون العبد بطبيعته أدنى مرتبة من سيده؛ فمنذ الولادة يتسم بعض الناس بالخضوع ويتصف بعضهم الآخر بالسيادة، فالرجل الذي لا يكون بحكم طبيعته مِلكًا لنفسه، بل مِلكًا لغيره، يكون بطبيعته كذلك عبدًا، ولا ينبغي أن يكون العبيد من اليونان، بل من جنسٍ أقل منزلة، وأقل روحًا (١٢٥٥ أو ١٣٣٠ ا). إن الحيوان الأليف يحسن حالًا إذا ما ملك زمامَه الإنسان، وكذلك قل في أولئك الذين هم بحكم طبيعتهم أحط منزلة حين يسودهم من هم أعلى منهم، ولك أن تسأل: هل نقبل نظام استرقاق الأسرى في الحرب؟ إن قوةً كالتي تؤدي إلى النصر في الحرب، تتضمن — فيما يظهر — حيازة القوي لفضيلةٍ أعلى، لكن ليست هذه هي الحال دائمًا، على أن الحرب عادلة إذا ما أثيرت على جماعةٍ تأبى الاستسلام، مع أن الطبيعة قد أرادت لها أن تضع زمام حكمها في أيدي غيرها (١٢٣٦ ب)، ومعنى ذلك أن يكون صحيحًا في هذه الحالة أن نجعل من هذه الجماعة المهزومة عبيدًا، وفي ذلك على ما يظهر ما يكفي للدفاع عن أي فاتحٍ عرَفه التاريخ؛ لأنك لن تجد أمةً تسلم بأن الطبيعة قد أرادت لها أن يحكمها غيرها، والشاهد الوحيد على نوايا الطبيعة في هذا الصدد إنما يُستمد من نتائج الحرب، وعلى ذلك فالمنتصرون في كل حرب على صواب، والمهزومون على خطأ، أما إنه لدليلٌ غاية في الإقناع!
ثم يأتي بعد ذلك بحثٌ في التجارة، قد كان له أثر عميق في الإفتاء في العصور الوسطى، فلكل شيء طريقتان للاستعمال؛ إحداهما صحيحة، والأخرى لا تجوز؛ فالحذاء — مثلًا — يمكن أن يُلبس، وهو الاستعمال الصحيح، ويمكن أن يُستخدم في التبادل وهو الاستعمال الخاطئ، ويلزم عن هذا أنَّ صانع الأحذية مشوب بصفةٍ تحط من قدره؛ لأنه مضطرٌّ أن يتخذ الأحذية وسيلةً يبادل بها سلعًا أخرى لكي يعيش، ويُنبئنا أرسطو أن التجارة بالتجزئة ليست جزءًا طبيعيًّا من فن كسب المال (١٢٥٧ ا)، والوسيلة الطبيعية لكسب المال هي إدارة البيت والأرض إدارةً ماهرة، على أن هنالك حدًّا تقف عنده الثروة التي تُجمع عن هذا الطريق، أما الثروة التي تجمع عن طريق التجارة فمتصلة بالمال، لكن الثروة ليست هي كسب النقود، وعلى ذلك فمن الصواب أن نمقت الثروة المكسوبة عن طريق التجارة؛ لأنها ثروة غير طبيعية. «وأشد الأنواع استحقاقًا للكراهية هو الربا؛ لأنه يكسب المال من المال نفسه، لا من مصدره الطبيعي؛ ذلك لأن المال إنما قُصد به إلى التبادل، ولم يُقصد به أن يزيد بالربا … فليس أبعد عن طبائع الأمور طريقًا لكسب الثروة من هذا الطريق» (١٢٥٨).
و«الربا» معناه كل إقراض للمال بالربح، ولم يقتصر معناه — كما هي الحال اليوم — على الإقراض بربحٍ مُفرِط؛ فمنذ عصور اليونان إلى يومنا هذا، لبثت الإنسانية (أو على الأقل الجزء الذي سبق غيره في التقدم الاقتصادي) لبثت منقسمة إلى دائن ومَدِين، وما برحت طائفة المداينين ساخطة على الإقراض بالربح، وما زالت طائفة الدائنين راضية. وفي معظم الحالات، يكون أصحاب الأراضي الزراعية مدينين، على حين يكون المشتغلون بالتجارة دائنين. وقد جاءت آراء الفلاسفة — إذا استثنينا منهم نفرًا قليلًا — مطابقة لما يتفق مع صالح فئتهم من الوجهة المالية، أما الفلاسفة اليونان، فقد كانوا إما مُلاكًا للأرض، أو مستخدَمين عند من يملكونها؛ ولذا فقد سخطوا على الإقراض بالربح. وأما فلاسفة العصر الوسيط، فكانوا من رجال الكنيسة، وكان مِلك الكنيسة أغلبه أرض زراعية؛ ولذا فلم يجدوا ما يدعوهم إلى مراجعة أرسطو في رأيه، وتأيدت مقاومتهم للربا بروح العداء للجنس السامي؛ لأن معظم رءوس الأموال النقدية كانت في أيدي اليهود. ولئن كان رجال الدين والأشراف الإقطاعيون يتنازعون فيما بينهم أحيانًا، بل قد يكون تنازعهم هذا على درجةٍ شديدة من العنف، إلا أنهم كانوا يربحون بالتحالف معًا على اليهودي الخبيث الذي أعانهم حين اعترضهم قحط في المحصول، حتى اجتازوا بفضل ما أقرضهم إياه من مال، فرأى أنه لذلك حقيق ببعض الجزاء على ما اقتصد.
ثم تغير الموقف بقيام حركة الإصلاح الديني؛ لأن كثيرين من أشد الطائفة البروتستنتية حماسةً لمذهبهم كانوا يشتغلون بالتجارة، فكان إقراض المال بالربح أمرًا جوهريًّا بالنسبة لهم؛ لذلك بدأ «كلفن»، ثم تبعه آخرون من زعماء البروتستنتية، بتحليل فوائد القروض المالية، حتى اضطُرَّت الكنيسة الكاثوليكية آخر الأمر أن تقفو أثرهم في هذا، حين رأت الموانع القديمة لم تعد صالحة لظروف العالم الحديث. لقد أخذ الفلاسفة الذين كانوا يستمدون دخْلهم من أرباح الجامعات على قروضها المالية، يُحبذون أرباح القروض، منذ اليوم الذي لم يعودوا فيه من رجال الدين؛ وبالتالي لم يعودوا على صلة بملكية الأرض الزراعية. إنك لا بُدَّ واجد في كل مرحلة من مراحل التاريخ ثروةً طائلة من الحجة النظرية، يقيمها أصحابها تأييدًا للرأي الذي يتفق مع صالحهم الاقتصادي.
لقد وجَّه أرسطو النقد إلى «مدينة أفلاطون المثلى» على أسسٍ كثيرة مختلفة؛ فأولًا أثار عنها نقطةً غاية في الإبداع، وهي أنه أفاض على الدولة وحدةً أكثر مما ينبغي، حتى لقد كاد أن يحولها إلى فردٍ واحد، ثم يتلو ذلك نقدٌ آخر ضد ما اقترحه أفلاطون من هدم الأسرة، وهو نقدٌ يرد إلى خاطر كل قارئ؛ فقد ظن أفلاطون أنه بإطلاق اسم «ابن» على كل من كانوا في سن تجعل البنوة ممكنة بالنسبة إليهم، فذلك يعطي الرجل إزاء جميع هؤلاء الأبناء تلك العاطفة التي يحملها الرجال الآن حيال أبنائهم الحقيقيين، وقل هذا نفسه في اسم «والد». ويذهب أرسطو إلى نقيض ذلك فيقول إن ما هو مشترك بين أكبر عدد من الناس، يَلقى أقل عناية، وإن «الأبناء» لو تركوا مشاعًا ﻟ «آباء» كثيرين، فسيكون إهمالهم مشاعًا أيضًا بين الجميع؛ فخيرٌ للإنسان أن يكون ابن عم في الحقيقة من أن يكون «ابنًا» بالمعنى الذي أراده أفلاطون، وكذلك تجعل خطة أفلاطون الحب خداعًا. ثم يذكر أرسطو حجةً أخرى عجيبة، وهي أنه ما دام الامتناع عن الزنا فضيلة، فمما يدعو إلى الأسف أن يقوم نظامٌ اجتماعي يمحو هذه الفضيلة وما يقابلها من رذيلة (١٢٦٣ ب)، ثم يسأل أرسطو قائلًا: إذا كانت النساء مشاعًا فمن ذا يدبر البيت؟ لقد كتبت مقالًا مرةً أطلقتُ عليه عنوان «فن العمارة والنظام الاجتماعي»، أشرت فيه إلى أن أولئك الذين يمزجون الشيوعية بهدم الأسرة، هم أيضًا يؤيدون قيام بيوت مشاع يسكن الواحدَ منها عددٌ كبير من الناس، ويكون لها مطابخ مشتركة، ومطاعم مشتركة، وأمكنة مشتركة لتربية الأطفال، ولنا أن نقول عن هذا النظام إنه أديرة بغير عزوبة. وهو نظام لا محيص عنه لتنفيذ خطط أفلاطون، وليس هو بأشد استحالة من كثيرٍ من الأشياء التي يوصي بها غير ذلك.
إن أرسطو لا يؤمن بالمساواة، كما رأينا فيما يتصل بالرق، ومع ذلك، فلو سلمنا بخضوع العبيد والنساء، فلا يزال أمامنا إشكال، وهو: هل يكون جميع المواطنين سواءً من الوجهة السياسية؟ يقول أرسطو: إن بعض الناس يظن أن هذا أمرٌ مرغوب فيه، على أساس أن الثورات كلها تدور حول تنظيم الملكية، لكنه يرفض هذه الحجة، ذاهبًا إلى أن أبشع الجرائم يرجع إلى الترف لا إلى العوز، فلست ترى رجلًا يستبد لنفسه بالحكم ليتقي الشعور بالبرد.
إن الحكومة خيرٌ حين ترمي إلى خير المجموعة ككلٍّ واحد، وهي شرٌّ إذا ما عُنيت بأمر نفسها، وهناك من أنواع الحكومات الجيدة ثلاثة: الملكية، والأرستقراطية، والدستورية، كما أن هنالك أنواعًا ثلاثة من الحكومات السيئة: حكومة الطاغية، والأولجاركية، والديمقراطية. وبين هذه الأنواع صور كثيرة هي مزيج من أكثر من نوعٍ واحد. ويُلاحَظ أن أساس التفرقة بين الحكومات الجيدة والحكومات السيئة، هو الصفات الأخلاقية التي يتحلى بها القائمون على السلطان، لا نوع الدستور القائم في كل حالة، على أن ذلك صحيح إلى حدٍّ ما فقط؛ فالأرستقراطية هي حكم رجال تحلَّوا بالفضيلة، والأولجاركية حكم الأغنياء. ولا يعتبر أرسطو أن الفضيلة والغنى مترادفتان ترادفًا رقيقًا؛ فعقيدته، بناءً على نظرية الوسط المذهبي، هي أن الرجل الكفء المعتدل، يرجح جدًّا أن يكون متصفًا كذلك بالفضيلة: «إن الإنسان لا يكتسب الفضيلة أو يحافظ عليها بمساعدة العوامل المواتية الخارجية، إنما تُكتسب هذه الطيبات الخارجية ويحافَظ عليها عن طريق الفضيلة، والسعادة — سواء كان قوامها اللذة أو الفضيلة أو كليهما — أكثر تحقيقًا لأولئك الذين بلغوا من ثقافة عقولهم وشخصياتهم أسمى الدرجات، والذين لا ينالون من طيبات العيش إلا نصيبًا معتدلًا، أقول إن السعادة عند أولئك أكثر تحققًا منها عند الذين يملكون طيبات العيش إلى درجةٍ لا نفع منها، مع إصابتهم بنقص في الصفات السامية» (١٣٢٣ ا، ب)، وعلى ذلك فهنالك فرق بين حكم الخبرة (وهي الحكومة الأرستقراطية) وبين حكم الأغنى (وهي الحكومة الأولجاركية)؛ لأن الخبرة يرجح ألا يكون لها من الثروة إلا مقدار معتدل، وكذلك هنالك فرق بين الديمقراطية والدستورية — بالإضافة إلى الفرق الأخلاقي الذي تتصف به الهيئة الحاكمة — لأن ما يُسميه أرسطو بالحكومة الدستورية، فيه بعض عناصر الأولجاركية (١٢٩٣ ب)، أما الملكية والحكومة الطاغية فليس بينهما إلا الفرق الأخلاقي.
وأرسطو دقيقٌ في تمييزه الأولجاركية من الديمقراطية تمييزًا يقوم على الحالة الاقتصادية التي تكون عليها الهيئة الحاكمة؛ فالحكومة أولجاركية إذا ما حكم الأغنياء بغير نظر إلى صالح الفقير، وهي ديمقواطية إذا ما استولت على زمام السلطان أيدي المعوزين الذين لا يأبهون لصالح الأغنياء.
والملكية خيرٌ من الأرستقراطية، والأرستقراطية خيرٌ من الدستورية، غير أن الأفضل إذا أصابه الفساد انقلب إلى الأسوأ؛ ولذا فحكومة الطاغية أسوأ من الحكومة الأولجاركية، والأولجاركية أسوأ من الديمقواطية؛ وبهذا ينتهي أرسطو إلى دفاع فيه تحفظ عن الديمقراطية؛ ذلك لأن معظم الحكومات الفعلية سيئة، وإذَن تكون الديمقراطيات هي خير الحكومات القائمة فعلًا.
كانت الفكرة عن الديمقراطية عند اليونان أكبر تطرقًا في جوانب كثيرة، منها عندنا اليوم، فمثلًا يقول أرسطو إن انتخاب القضاة صفةٌ أولجاركية، أما الطريقة الديمقراطية فهي أن تعينهم بالاقتراع، وفي الديمقراطيات المتطرفة تجيء الجمعيات التي تقرر قرارها في كل مشكلة على حدة فوق القانون؛ إذ كانت تلك الجمعيات هي التي تقرر قرارها في كل مشكلة على حدة، وكانت المحكمة عند الأثينيين تتألف من عددٍ كبير من المواطنين، ينتخبون بالاقتراع، ولا يعنيهم في عملهم محلفون؛ ولذلك فقد كانوا بطبيعة الحال أسهل تأثرًا بالبلاغة الخطابية وبالعاطفة الحزبية؛ فإذا ما نقد الديمقراطيةَ ناقدٌ، فلا بُدَّ أن نذكر أن المقصود هو شيء من هذا القبيل.
ويسوق أرسطو نقاشًا طويلًا لأسباب الثورة؛ فقد كانت الثورات في اليونان كثيرة الحدوث، كثرتها في أمريكا اللاتينية فيما مضى؛ ولذا كان لأرسطو في أمرها خبرة واسعة تمكنه من التفكير في أسباب الثورة ماذا عسى أن تكون، والسبب الرئيسي هو النزاع بين الأولجاركيين والديمقراطيين. وهو يقول إن الديمقراطية تنشأ من العقيدة بأنه إذا تساوى الناس في حرياتهم، وجب أن يتساوَوا في شتى النواحي. كما تنشأ الأولجاركية من الحقيقة الواقعة، وهي أن من يفوق غيره في بعض الوجوه، يطالب لنفسه بأكثر مما ينبغي له أن يطالب من حقوق. ولكلٍّ من الديمقراطية والأولجاركية نوعٌ من العدالة، لكنه ليس خير الأنواع؛ «ولذا فحيثما كان القسط الذي يناله أيٌّ من هذين الحزبين في الحكومة، غير متفق مع معتقداته التي دخل الحم وهو معتنق لها، فإنه يأخذ في تحريك عوامل الثورة» (١٣٠١ ا)، والحكومات الديمقراطية أقل تعرضًا للثورات من الحكومات الأولجاركية؛ لأن الأولجاركيين قد ينشب الخلاف فيما بينهم، والظاهر أن هؤلاء الأولجاركيين كانوا قومًا أشداء الأبدان، فيقال إنهم أخذوا على أنفسهم يمينًا في بعض المدن على النحو الآتي:
«سأكون عدوًّا للشعب، وسأدبر له كل ما أستطيع تدبيره من الأذى.» إن الحركات الرجعية في عهدنا الحاضر ليست بمثل هذه الصراحة.
ومنعُ قيام الثورة يتطلب ثلاثة أشياء؛ هي بث الدعاية الحكومية في تربية النشء، واحترام القانون حتى في الأشياء الصغيرة، والعدالة في القانون والإدارة؛ أعني «المساواة بما تقتضيه النسبة الصحيحة، ولكل فرد أن يتمتع بنصيبه» (١٣٠٧ ا، ١٣٠٧ ب، ١٣١٠ ا). ويظهر أن أرسطو لم يتبين قطُّ صعوبة «المساواة بما تقتضيه النسبة الصحيحة»، فلو كانت هذه هي العدالة الحقة، وجب أن تكون النسبة نسبة في الفضيلة، لكن الفضيلة يتعذر قياسها، وهي موضع اختلاف في الرأي بين الأحزاب؛ ولذا ففي السياسة العملية، ترى الفضيلة أميل إلى أن يكون الدخل مقياسها، والتفرقة بين الأرستقراطية والأولجاركية التي يحاول أرسطو أن يبينها، مستحيلة إلا إذا كان هنالك طائفة من الأشراف الذين رسخت مكانتهم الاجتماعية بحكم الوراثة، بل حتى في هذه الحالة، لا تلبث أن تقوم طبقة كبيرة من الأغنياء الذين لا ينتمون إلى طبقة الأشراف، فيَتحتَّم إشراكهم في الحكم خشية قيامهم بالثورة. ولا تستطيع الأرستقراطية الوراثية أن تظل محتفظة بالحكم مدةً طويلة، إلا إذا كانت الأرض الزراعية هي المصدر الوحيد للثروة تقريبًا، فكل الفوارق الاجتماعية إنْ هي في نهاية التحليل إلا تفاوت في الدخل، وهذا جزء من الدفاع عن الديمقراطية؛ إذ إن محاولتك أن توجد «عدالة نسبية» قائمة على أي أساسٍ غير الثروة، هي محاولة لا بُدَّ منتهية إلى الفشل. والمدافعون عن الأولجاركية يزعمون أن الدخل متناسب مع الفضيلة، فقال صاحب الدعوة الروحانية إنه لم يرَ قطُّ رجلًا تقيًّا يسأل الناس خبزه، ويظن أرسطو أن فضلاء الرجال يكسبون ما يقرب من دخله هو، وهو دخل لا هو بالمفرِط في الكثرة ولا بالمفرِط في القلة، لكن هذه الآراء لا تقوم على سندٍ معقول؛ لأن أي نوع من أنواع «العدالة» غير المساواة المطلَقة سيعمل من الوجهة الفعلية، على محاباةِ صفةٍ ما غير الفضيلة، وسيكون بالتالي موضع نقد وهجوم.
وفي الكتاب قسمٌ ممتع عن الطغيان؛ فالطاغية يَنشُد الغنى، على حين يَنشُد الملِك الشرف؛ والطاغية يحرسه جنودٌ مرتزقة، على حين يحرس الملكَ حراسٌ من أبناء الوطن؛ والأغلب في الطغاة أن يكونوا مهرِّجين شعبيين، بمعنى أن يكسبوا لأنفسهم النفوذ بأن يَعِدوا طبقات الشعب الحماية من ظلم الأعيان، وترى أرسطو يقول في نغمةٍ مكيافيلية ساخرة: ماذا ينبغي للطاغية أن يفعل ليظل محتفظًا بقوته؟ فلا بُدَّ له أن يحول دون ارتفاع أي شخص يمتاز في أي ناحية من النواحي، ولكن وسيلته في ذلك الإعدام أو الاغتيال إذ ألزمته الأحوال، ويجب أن يمنع اجتماع الناس على طعام أو في ندوة، وأن يمنع كل نظامٍ تعليمي مما قد يؤدي بالمتعلم إلى تكوين عاطفة مُعادية إزاء الحكومة، ولا يجوز أن تقوم جماعات أدبية ولا مناقشات أدبية، ولا مندوحة له عن الحيلولة دون أن يعرف الناس بعضهم بعضًا معرفة وثيقة، ثم لا بُدَّ له أن يُرغمهم على العيش قريبًا من أبواب داره عيشًا مكشوفًا، ويجب أن يستخدم الجواسيس، مثل الشرطة السرية النسائية التي كانت تستخدمها سرقصة، وأن يبذر بذور الشقاق بين الناس، ويعمل على إنزال الفقر بهم، وأن يجعلهم دائمًا في شغلٍ من الأعمال العظيمة كما فعل ملك مصر حين ابتنى الأهرام، ولا بُدَّ كذلك أن يزيد من قوة النساء والعبيد، ليجعل منهم أنصارًا ينقلون له الأخبار، وأن يشن الحروب، ليجد شعبه مشغلة تشغله، ويشعر دائمًا بحاجته إلى زعيم (١٣١٣ ا، ب).
وإن المرء ليحزنه أن يرى هذه الفقرة السالفة — من بين أجزاء الكتاب كله — هي أصدق عبارة فيه على العصر الحاضر. ويختتم أرسطو هذا الموضوع بقوله إنه لا يجد من ألوان الشر ما يجاوز مستطاع الطاغية، على أن هنالك — في رأيه — طريقة أخرى للاحتفاظ بالطغيان، وهي الاعتدال والتظاهر بالدين، وليس هناك ما يدل دلالةً قاطعة على أي هاتين الطريقتين أنجح سبيلًا.
ويسوق حِجاجًا طويلًا ليبرهن به على أن الغزو الخارجي ليس غاية الدولة، مبينًا أن كثيرًا من الناس قد أخذوا بنزعة الاستعمار، على أن لهذه القاعدة استثناءً واحدًا، وهو غزوة قوم ممن «جعلتهم الطبيعة عبيدًا»، فذلك حقٌّ وعدل، وهو يبرر — في رأي أرسطو — شن الحروب على الأمم الهمجية، لكنه لا يبرر محاربة قوم من الإغريق؛ لأنه ليس بين الإغريق «عبيد طبيعيون»، على أن الحرب بصفةٍ عامة وسيلةٌ لا غاية، وقد تتمتع بالسعادة مدينة معزولة بحكم موقعها، حيث يستحيل عليها الغزو، وليس يلزم عن عزلة الدول أن تظل خاملة بغير نشاط، فالله والكون نشيطان بما فيهما من فاعلية، مع أن الغزو الخارجي مستحيلٌ عليهما، وعلى ذلك فالسعادة التي ينبغي للدولة أن تَنشدها، ليست هي الحرب نفسها — وإن يكن يجوز أن تكون الحرب وسيلة لها — بل هي مناشط السلام.
ويؤدي هذا القول إلى طرح سؤال، هو: كم يكون حجم الدولة؟ وهنا يقول أرسطو: إن المدن الكبيرة يستحيل أن تُحكَم حكمًا جيدًا؛ لأن الحشد الكبير من الناس لا يمكن أن يسوده نظام، وإنما يجب أن تكبر الدولة إلى الحد الذي يمكنها من كفاية نفسها بنفسها، على ألا تكبر بحيث يستحيل أن تقوم عليها حكومة دستورية، بل لا بُدَّ أن تكون من الصغر بما يتيح للأفراد أن يعرفوا بعضهم بعضًا، وإلا حادوا عن جادَّة الصواب إذا ما قام انتخابٌ أو طُرحت قضية أمام القضاء، ورقعة الدولة لا ينبغي أن تزيد عما يمكن للإنسان أن يراه ببصره إذا وقف على نشزٍ من الأرض، ومن التناقض الظاهر أن يقول أرسطو إن المدينة يجب أن تكفي نفسها بنفسها (١٣٢٦ ب)، وإنها يجب أن تقوم فها تجارة صادرة وواردة (١٣٢٨ أ)، ولا يجوز لمن يعملون لكسب قوتهم أن يُحسبوا في عداد المواطنين؛ «فالمواطنون لا يحيَون حياة أرباب الآلات والحِرف؛ لأن مثل هذه الحياة تحط من شرف الإنسان، ولا تتفق مع الفضيلة»، كلا ولا يجوز للمواطنين كذلك أن يشتغلوا بالزراعة؛ لأنهم في حاجة إلى فراغ، نعم للمواطنين أن يملكوا الأرض الزراعية، أما فلاحة الأرض فتُترك لعبيد من جنسٍ آخر (١٣٣٠ أ)، وهو يقول إن الأجناس الشمالية ممتلئة روحًا، وإن الأجناس الجنوبية متصفة بالذكاء؛ ولهذا وجب أن يكون العبيد من الأجناس الجنوبية؛ لأن من تناقض القول أن تجعل العبد شخصًا مُلئ روحًا، وليس غير الإغريق قوم اجتمع فيهم الذكاء وحيوية الروح؛ ولذا يسهل حكمهم عن جماعة من الهمج، وإذا اتحدوا كان في مقدورهم أن يحكموا العالم (١٣٢٧ ب). وإن القارئ ليتوقع في هذا الموضع من الكتاب أن ترد إشارة للإسكندر، لكنه غير مذكور.
وينتهي الكتاب — الذي يبدو، في صورته التي نراه عليها، ناقصًا لم يتم تأليفه — ببحث في التعليم؛ فالتعليم — بالطبع — لا يكون إلا للأطفال الذين سيصبحون مواطنين. نعم إن العبيد يتعلمون فنونًا نافعة، كطهو الطعام، لكن أمثال هذه الفنون ليست جزءًا من التعليم المقصود، ولا بُدَّ للمواطن أن يُشكَّل بحيث يلائم نوع الحكومة التي يعيش في ظلها؛ ولهذا وجب أن تكون في التعليم فروق تختلف بها مدينة عن مدينة، حسب حكومة المدينة، أديمقراطية هي أم أولجاركية، على أن أرسطو في مناقشته لموضوع التعليم، يفترض أن كل المواطنين سيشاركون في القوة السياسية، ويجب أن يتعلم الأطفال ما ينفعهم، على ألا يكون ذلك مما يهوي بهم إلى درجة الابتذال، مثال ذلك أنهم لا يجوز أن يتعلموا المهارة في أي فن، بحيث ينتهي بهم الأمر إلى تشويه في الجسد، أو بحيث يجعلهم يكسبون المال عن طريق ذلك الفن، ولا بُدَّ لهم أن يمارسوا الألعاب الرياضية في اعتدال، لا إلى الحد الذي يجعلهم محترفين في ذلك، فالصبيان الذين يُدرَّبون للألعاب الأولمبية يفقدون من صحتهم بسبب هذا التدريب، كما تدل على ذلك الحقيقة الواقعة، وهي أن من يظفر بالسبق صبيًّا، يكاد يستحيل أن يظفر بالسبق رجلًا، ويجب أن يتعلم الأطفال الرسم، ليقدروا جمال التكوين في الجسم البشري، كما يجب أن يتعلموا من التصوير والنحت ما يعبر عن أفكارٍ خلقية، ولهم كذلك أن يتعلموا الغناء والعزف على الآلات الموسيقية بما يكفيهم للاستمتاع بالموسيقى استمتاع الخبير الناقد، لا بما يكفيهم ليكونوا عازفين ماهرين؛ لأن الرجل الحر لا يعزف أو يغني إلا إذا كان مخمورًا، وطبعًا لا بُدَّ للأطفال أن يتعلموا القراءة والكتابة، على الرغم من أن هذين الفنين يُعَدان من الفنون النافعة؛ إذ الغاية من التعليم هي «الفضيلة» لا النفع، أما ماذا يعني أرسطو بكلمة «فضيلة»، فقد فصَّله لنا في كتاب «الأخلاق» الذي كثيرًا ما يشير إليه في هذا الكتاب.
ويختلف أرسطو أشد الاختلاف في مزاعمه الرئيسية التي جاءت في كتابه «السياسة»، عن أي كاتبٍ حديث، فغاية الدولة في رأيه هي أن تُخرج سادة مثقفين — رجالًا تجتمع فيهم العقلية الأرستقراطية وحب العلم والفن. ولقد شهدت أثينا هذا الجمع بين الجانبين على أكمل صورة له، أيام بركليز، ولم تشهده في الشعب بصفةٍ عامة، بل في طبقة الموسِرين، ثم أخذ ينهار في أواخر عهد بركليز، حيث أعلن غمار الشعب الذي لا ثقافة له عداءه لأصدقاء بركليز الذين اضطرتهم الظروف أن يدافعوا عن الأغنياء وامتيازاتهم، بالغدر والاغتيال والطغيان غير المشروع، وغير ذلك من الطرق التي لا تتفق وخلق السادة في شيءٍ كثير، ثم خفت حدة الموجة التعصبية التي قامت بها الديمقراطية، خفت بعد موت سقراط، ولبثت أثينا كما كانت مركزًا للثقافة القديمة، أما القوة السياسية فانتقلت منها إلى سواها، وظلت القوة السياسية والثقافة خلال الجزء المتأخر من العصر القديم منفصلتين في الأعم الأغلب؛ فالقوة في أيدي الجنود الجفاة، والثقافة يختص بها رجال من الإغريق لم يكن لهم حول ولا طول، وكثيرًا ما كانوا من العبيد، ولئن صدَق هذا الكلام بعض الصدق فقط بالنسبة لروما في أمجد عهودها، إلا أنه صادقٌ كل الصدق قبل شيشرون، وبعد مرقص أورليوس، وأصبح «السادة» بعد غزوة القبائل المتبربرة، هم برابرة الشمال، وأما أصحاب الثقافة فهم من رجال الدين الذين ينتمون إلى الأجزاء الجنوبية، ويتصفون بالحس المرهف. ودامت هذه الحال — مع تغيراتٍ طفيفة — حتى أيام النهضة الأوروبية، وعندئذٍ بدأ الجمهور من غير رجال الدين يثقفون أنفسهم، ومنذ عصر النهضة فصاعدًا، أخذت تزداد الفكرة اليونانية عن الحكومة، بأن يكون قوامها السادة المثقفين، أخذت تزداد هذه الفكرة شيئًا فشيئًا، حتى بلغت أوجها في القرن الثامن عشر.
واتفقت عدة عوامل مختلفة على وضع حد لهذه الحال؛ أولها الديمقراطية كما تمثلت في الثورة الفرنسية وما أعقبها من ذيول، ووجد السادة المثقفون أنفسهم عندئذٍ — كما وجدوا أنفسهم بعد زوال عهد بركليز — مضطرين إلى الدفاع عن امتيازاتهم ضد غمار الشعب، واندفعوا في هذا الدفاع عن أنفسهم حتى لم يعودوا فيه لا سادة ولا مثقفين. وثاني تلك العوامل نشأة الحياة الصناعية، بما يصاحبها من طرائق علمية تختلف اختلافًا كبيرًا عن الثقافة التقليدية. وثالث هذه العوامل هو تعميم التعليم بين أفراد الشعب تعميمًا أكسبهم معرفة القراءة والكتابة دون أن يكسبهم ثقافة، وقد أتاح هذا فرصة أمام نوعٍ جديد من المهرجين السياسيين، بحيث يمارس نمطًا جديدًا من الدعاية، كما نرى في الحكومات الدكتاتورية.
وإذَن فقد مضى عهد السيد المثقف وانقضى بخيره وشره على السواء.