الرياضة والفلك عند اليونان الأولين
سأتناول الرياضة بالحديث في هذا الفصل، لا باعتبارها موضوعًا قائمًا بذاته، بل سأتناولها في علاقتها بالفلسفة اليونانية، وهي علاقة جِدُّ وثيقة، خصوصًا بالنسبة لأفلاطون؛ فلقد تجلَّت قدرة اليونان في الرياضة والفلك بأظهر مما تجلَّت به في أي موضوع آخر؛ فلئن أمكن للأذواق المختلفة أن تتفاوت ارتفاعًا وانخفاضًا في تقديرها لما أداه اليونان في الفن والأدب والفلسفة، فما أدَّوه في الهندسة ليس محلًّا للشك من حيث قيمته عند إنسان. نعم إنهم قد استمدوا شيئًا في ذلك من مصر، واستمدوا أقل منه من بابل، غير أن ما استمدوه من هذين المصدرين — في الرياضة — كان في معظمه قواعد ساذجة، وما استمدوه منهما في الفلك كان مُدوَّنات بمشاهداتٍ امتدت على فترات من الزمن طويلة الآماد، ويكاد يكون فن البرهان الرياضي نباتًا يونانيًّا خالصًا.
إنه لتُروى لنا قصص كثيرة ممتعة — والأرجح أنها لا تصور واقعًا تاريخيًّا — تُبيِّن كيف كانت بعض المشكلات العملية حافزًا على الأبحاث الرياضية، وأسبق هذه القصص في الزمن وأكثرها بساطةً يُعزى إلى طاليس؛ وذلك أن الملك قد طلَب إليه أثناء مُقامه في مصر أن يحسب له ارتفاع الهرم، فانتظر طاليس حتى جاءت الساعة التي كان ظله فيها مساويًا لطوله، وعندئذٍ قاس ظل الهرم الذي كان بالطبع مساويًا لارتفاعه. ويقال إن قوانين المنظور قد دُرست أول ما دُرست على يدَي عالم الهندسة «أجاثاركوس» لكي يرسم الرسوم المسرحية لتمثيليات أسخيلوس، وكذلك حُلَّت مسألة حساب المسافة التي تبعدها السفينة عن الشاطئ حلًّا صحيحًا في عصرٍ باكر، ويُنسَب حلها إلى طاليس، ومن أعظم المشكلات التي شغلت علماء الهندسة من اليونان مسألة تضعيف المكعب. ويقال إن أول ظهور هذه المشكلة كان بناءً على طلب الكهنة في أحد المعابد؛ إذ طلبت إليهم الراعية الناطقة بلسان إله ذلك المعبد أن يصنعوا للإله تمثالًا يساوي التمثال الموجود مرتين؛ فأول ما خطر ببالهم أن يُضعِّفوا كل أبعاد التمثال، لكنهم تبيَّنوا أن ذلك يؤدي بهم إلى تمثالٍ يساوي في حجمه حجم التمثال القائم ثماني مرات، وفي ذلك نفقات أكثر مما يأمر به الإله، فأرسلوا رسولًا إلى أفلاطون يسأله إن كان في أكاديميته أحد في مستطاعه أن يحل لهم هذه المسألة، فتناولها علماء الهندسة بالدرس، ولبثوا في درسهم إياها قرونًا، حتى لقد أنتجت دراستهم هذه نتائج كثيرة غاية في القيمة، لكنها جاءت عرَضًا أثناء قيامهم بالبحث، على أن المسألة بالطبع إن هي إلا حساب الجذر التكعيبي للعدد ٢.
ودرس ثيودورس المعاصر لسقراط الأعداد الصماء فيما عدا الجذر التربيعي للعدد ٢، درسها في حالاتٍ معينة، ثم درَسها بصفةٍ عامة تياتيتوس الذي كان معاصرًا تقريبًا لأفلاطون؛ إذ كان يتقدمه في السن بعض الشيء، وكتب ديمقريطس رسالةً في الأعداد الصماء، لكننا لا نعرف إلا قليلًا جدًّا عما تحويه تلك الرسالة، واهتم أفلاطون بهذا الموضوع اهتمامًا شديدًا، ويذكر ما أداه في الموضوع ثيودورس وتياتيتوس من مجهودٍ يذكر ذلك في محاورته المسماة باسم هذا الأخير، وهو يقول في «النواميس» (٨١٩–٨٢٠) إن الجهل الشائع بهذا الموضوع عارٌ يشين، ويشير إلى أنه هو نفسه لم يبدأ معرفة شيء عنه إلا في وقتٍ متأخر من حياته، ولا شك أن قد كان للموضوع أثرٌ خطير في الفلسفة الفيثاغورية.
ومن أهم النتائج التي ترتَّبت على استكشاف الأعداد الصماء ابتكار يودوكسوس (حوالَي ٤٧٠–حوالي ٣٥٥ق.م.) للنظرية الهندسية في التناسب، فلم يكن للتناسب قبله إلا النظرية الحسابية، وبناءً على هذه النظرية تكون النسبة بين ا، ب مساويةً للنسبة بين ج، د؛ إذا كان تكرار د عددًا من المرات يساوي تكرار ج عدد ب من المرات، وهذا التعريف — إذا غضضنا النظر عن وجود نظرية حسابية خاصة بالأعداد الصماء — لا ينطبق إلا على الأعداد غير الصماء، فجاء يودوكسوس وتقدم بتعريفٍ جديد لا يخضع لهذا التحليل، وصاغه على نحوٍ يوحي بأساليب التحليل الحديثة، ولقد طوَّر إقليدس هذه النظرية، التي نلمس فيها جمالًا منطقيًّا رائعًا.
وقد تؤدي طريقة إفناء الفرق أحيانًا إلى نتيجةٍ مضبوطة، كما حدث في تربيع القطاع التكافُئي على يدَي أرشميدس، وأحيانًا أخرى لا تؤدي هذه الطريقة إلا إلى تقريباتٍ تزداد قربًا في كل مرة، كما يحدث في تربيع الدائرة، ومسألة تربيع الدائرة هي نفسها مسألة تحديد النسبة بين محيط الدائرة وقطرها، وهو ما نُسميه بالنسبة التقريبية ط، وقد استخدم أرشميدس في حسابه العدد التقريبي ٢٢ / ٧، فبرسمه مضلعًا ذا ٩٦ ضلعًا داخل الدائرة، ومضلعًا بنفس عدد الأضلاع خارج الدائرة، برهن على أن ط أقل من ١٠ / ٧١ ٣ وأكبر من ١٠ / ٧١ ٣. وتستطيع أن تستخدم الطريقة في زيادة التقريب إلى أي حدٍّ شئت، وذلك هو كل ما تستطيعه أية طريقة في هذه المشكلة، وترجع طريقة استخدام مضلع داخل الدائرة وآخر خارجها، لحساب النسبة التقريبية، إلى أنتيفون الذي كان معاصرًا لسقراط.
عاش إقليدس — الذي كان كتابه ما يزال حين كنت صبيًّا هو الكتاب المدرسي الوحيد المعترَف به في الهندسة لدراسة التلاميذ الصغار — عاش في الإسكندرية نحو سنة ٣٠٠ق.م. أي بعد موت الإسكندر وأرسطو بأعوامٍ قلائل، ولم يكن هو المبتكر لمعظم ما جاء في كتابه «المبادئ». أما ترتيب القضايا، والبناء المنطقي، فيرجع إليه هو إلى حدٍّ كبير. وكلما ازداد الدارس للهندسة إمعانًا في دراسته، ازداد إعجابًا بما بذله إقليدس من مجهود؛ فطريقة معالجته للخطوط المتوازية على أساس بديهية المتوازيات المعروفة لها حسنتان؛ أولاهما تطبق الاستدلال القياسي في صرامته، وثانيتهما عدم طمس مواضع التشكك في الفرض الأول الذي يبدأ منه الاستدلال، وهو يجتنب في نظرية التناسب التي يقفو فيها أثر يودوكسوس كل الصعاب المتصلة بمسألة الأعداد الصماء، وذلك باستخدامه طرقًا شبيهة في أساسها بالطرق التي أدخلها فيرشتراس في المنهج التحليلي الذي عُرف به القرن التاسع عشر، ثم ينتقل إقليدس بعد ذلك إلى من الجبر الهندسي، فيعالج في الكتاب العاشر موضوع الأعداد الصماء، وبعدئذٍ يمضي إلى تناوله الهندسة الفراغية بالدراسة، منتهيًا بذلك إلى طريقة إنشاء الأجسام المنتظمة، التي جاء تياتيتوس بعدئذٍ وأكمل مواضع النقص فيها، وهي الطريقة التي اصطنعها أفلاطون في محاورة «طماوس».
إنه لا شك في أن كتاب «المبادئ» لإقليدس من أعظم ما كُتِب في العالم كله من كتب، وهو من أكمل الآثار التي يتجلى فيها الفكر اليوناني، ولو أنه بالطبع معيب بالعيوب التي يتسم بها الفكر اليوناني كله؛ فالمنهج قياسي خالص، وليس فيما يحتويه سبيل لتحقيق الفروض الأولى التي تبدأ منها عملية الاستدلال، فتلك البدايات المفروضة كان الفرض فيها أن تكون بديهية لا تحتمل شكًّا، حتى جاء القرن التاسع عشر بهندسته اللاإقليدية، فتبين أن تلك البديهيات المفروضة ربما تكون خطأً من بعض نواحيها، والمشاهدة وحدها هي التي تقرر إن كانت خطأً أو صوابًا.
وترى في إقليدس ذلك الاحتقار للمنفعة العملية الذي كان أفلاطون قد بثه في النفوس، فيُروى أن تلميذًا سأله بعد سماعه برهانًا هندسيًّا: ماذا عسى أن يجني الدارس من دراسة الهندسة؟ وعندئذٍ نادى إقليدس عبدًا، وقال له: «أعطِ لهذا الشاب قرشًا، ما دام يتطلب الكسب مما يدرسه.» ومع ذلك فهذا الاحتقار للممارسة العملية لآرائهم النظرية، كان له ما يبرره من وجهة نظر براجماتية؛ ففي عصر الإغريق، لم يدُر في خَلد إنسان أن للقطاعات المخروطية أي نفع، حتى جاء جاليليو أخيرًا في القرن السابع عشر ووجد أن القذائف تتحرك في أوتارٍ قطاعية، ووجد كبلر أن الكواكب تسير في أفلاك بيضية. وهكذا تبين بغتةً أن العمل الذي عمله اليونان مدفوعين بحبهم الخالص للتفكير النظري، يمكن أن يُتخذ مِفتاحًا لعالم الحروب وعلم الفلك.
وكان الرومان أكثر اشتغالًا بالأمور العلمية من أن يقدروا إقليدس حق قدره، وأول من ذكره منهم هو شيشرون، ولم يكن في زمنه — على الأرجح — ترجمة لاتينية لإقليدس، بل إننا لا نملك مدوَّنًا واحدًا لأية ترجمة لاتينية له قبل بيثيوس (حوالي ٤٨٠ بعد الميلاد). وكان العرب أكثر تقديرًا له؛ إذ أعطى الإمبراطور البيزنطي للخليقة نسخة حوالي ٧٦٠ ميلادية، فتُرجمت إلى العربية في عهد هارون الرشيد سنة ٨٠٠ ميلادية، وأول ترجمة لاتينية باقية لدينا هي التي ترجمها عن العربية «أدلارد» من بلدة «باث» سنة ١١٢٠ ميلادية، ومنذ ذلك التاريخ أخذت دراسة الهندسة تستعيد الحياة شيئًا فشيئًا في بلاد الغرب، ولو أنها لم تتقدم تقدمًا له خطره إلا في العهد المتأخر من أعوام النهضة.
وأنتقل الآن إلى علم الفلك الذي برع فيه اليونان براعتهم في الهندسة، وكان البابليون والمصريون قبل اليونان قد وضعوا أساس هذا العلم بمشاهداتهم التي امتد بها الأجل قرونًا عدة، فدُوِّنت الحركات الظاهرة للكواكب، ولو أنهم لم يكونوا يعلمون أن نجمة الصبح ونجمة الغروب هي نجمة واحدة بعينها، واهتدَوا إلى وجود دورة في الكسوف والخسوف، هذا مؤكَّد بالنسبة للبابليين، ومرجَّح بالنسبة للمصريين؛ ومن عِلمهم بتلك الدورة استطاعوا أن يتنبئوا بخسوف القمر تنبؤًا يمكن الركون إلى صحته إلى حدٍّ كبير، لكنهم لم يستطيعوا ذلك بالنسبة لكسوف الشمس؛ لأن الكسوف لم يكن دائمًا يُرى من نقطةٍ معينة، ونحن مدينون للبابليين بقسمة الزاوية القائمة تسعين درجة، وقسمة الدرجة ستين دقيقة، وكان بهم شغف بالعدد ستين، حتى لقد أقاموا على أساسه بناء أعدادهم، كما كان باليونان ميل إلى نسبة الحكمة التي يبديها الرواد من رجالهم، إلى رِحلاتهم في أرض مصر، غير أن ما وصل إليه العالم فعلًا من علم ما قبل اليونان، كان جِدَّ ضئيل، ومع ذلك فتنبؤ طاليس بالكسوف مثلٌ يساق لتأثره بأبناء البلاد الأخرى، وليس لدينا ما يبرر افتراضنا بأنه أضاف شيئًا على الإطلاق لما تعلمه من المصريين والبابليين، وإن هي إلا ضربة من الحظ الموفَّق أنْ ثبَت صدق الكسوف الذي تنبأ به.
والأرجح أن يكون فيثاغورس أول من فكر بأن الأرض كُريَّة، غير أن الأدلة التي ساقها على ذلك كانت (على ما نظن) أقرب إلى الأدلة الجمالية منها إلى البراهين العلمية، ومع ذلك فسرعان ما كُشف عن هذه البراهين العلمية، واهتدى أناكسجوراس إلى أن القمر يضيء بأشعة منعكسة، وقدم للناس النظرية الصحيحة في تعليل الكسوف والخسوف، ولكنه لم يزل على الظن الشائع بأن الأرض مسطحة، ثم استنتج الفيثاغوريون من شكل ظل الأرض في حالات الخسوف القمري استنتاجًا قاطعًا يؤيد كرية الأرض، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، واعتبروا الأرض كوكبًا بين سائر الكواكب، ويقال: إنهم علِموا من فيثاغورس نفسه بأن نجمة الصبح ونجمة الغروب هما في الواقع اسمان على نجم بعينه، وذهبوا إلى أن الكواكب كلها، بما فيها الأرض، تسير في أفلاكٍ مستديرة، لا حول الشمس، بل حول «النار المركزية»، وعرفوا أن القمر يواجه الأرض دائمًا بوجهٍ واحد لا يتغير، كما ظنوا أن الأرض تواجه «النار المركزية» بوجهٍ واحد لا يتغير كذلك. ولما كانت أقاليم البحر الأبيض المتوسط في رأيهم تقع في وجه الأرض البعيد من النار المركزية، كانت هذه النار المركزية غير مرئية أبدًا لهذه الأقاليم، وأطلقوا على النار المركزية اسم «بيت زيوس» أو «أم الآلهة»، وافترضوا أن الشمس إنما تضيء بضوءٍ منعكس من النار المركزية على بعدٍ يساوي بُعدَ أرضنا عن تلك النار، وأقاموا على ذلك دليلين؛ دليلًا علميًّا، ودليلًا آخر استمدوه من تصوفهم الرياضي. أما الدليل العلمي فقائم على الملاحظة الصادقة بأن خسوف القمر يحدث أحيانًا حين تكون الشمس والقمر كلاهما فوق الأفق؛ ذلك أنهم لم يكونوا يعلمون شيئًا عن انكسار الأشعة — وهو سبب هذه الظاهرة — فظنوا في مثل هذه الحالات أنه لا بُدَّ أن يكون الخسوف ناشئًا عن ظل جسم آخر غير الأرض، وأما الدليل الآخر فهو أن الشمس والقمر والكواكب الخمسة والأرض والأرض الثانية المقابلة لها والنار المركزية، يبلغ عددها عشرًا، والعدد عشرة هو العدد الصوفي عند الفيثاغوريين، وتُنسب هذه النظرية الفيثاغورية إلى فيلولاوس من أهل طيبة الذي عاش في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن هذه النظرية تشطح مع الخيال الجامح، وأنها إلى حدٍّ ما بعيدة عن النظرة العلمية كل البعد، إلا أنها مع ذلك غاية في الأهمية؛ لأنها تتضمن الشطر الأكبر من مجهود الخيال اللازم لتصور النظرية الكوبرنيقية؛ فتصورهم للأرض لا على أنها مركز للكون، بل على أنها كوكب من الكواكب، ولا على أنها ثابتة في مكانها أبدًا، بل على أنها تجوب أرجاء المكان، تصورهم للأرض على هذا النحو دليلٌ على تحررهم إلى حدٍّ يستوقف النظر، من نوع التفكير الذي يجعل للإنسان مركزًا لكل شيء؛ فإذا أنت رجْجتَ للناس فكرتهم الطبيعية عن الكون على هذا النحو، لم يعد جِدَّ عسيرٍ بعد ذلك أن يسيروا مهتدين بالأدلة العلمية، حتى ينتهوا إلى نظريةٍ أكثر دقة.
ثم أضيفت إلى هذه النظرية عدة مشاهدات أسهمت في تأييدها، فاستكشف «إينوبيديز» — الذي تأخر عن أناكسجوراس بقليل من الزمن — أنَّ سمت الشمس مائل، وسرعان ما اتضح أن الشمس لا بُدَّ لها أن تكون أكبر من الأرض بكثير، وهي حقيقة أيَّدت أولئك الذين أنكروا على الأرض أن تكون هي مركز الكون. وجاء أتباع الفيثاغورية بعد أفلاطون بقليل، وحذفوا ذكر النار المركزية والأرض الثانية المقابلة لأرضنا، ووجد «هرقليدس البونتي» (وتاريخه يمتد من حوالي ٣٨٨ إلى ٣١٥ق.م. وهو معاصر لأرسطو) أن الزهرة وعطارد تدوران حول الشمس، واعتنق الرأي بأن الأرض تدور حول محورها مرةً في كل أربع وعشرين ساعة، وكانت هذه النقطة الأخيرة خطوةً غاية في الأهمية لم يخطُها أحدٌ من قبل، وقد كان هرقليدس هذا من مدرسة أفلاطون، ولا بُدَّ أن قد كان رجلًا عظيمًا، لكن لم يقع من احترام الناس بما يتوقع له القارئ، فتراهم يصفونه بقولهم: المتأنق البدين.
وأول هذه الشواهد وأرجحها وزنًا، هو شاهد من أرشميدس الذي كان — كما أشرنا — معاصرًا لأرسطرخس، وإن يكن أصغر منه سنًّا؛ ففي خطاب له إلى جيلون، ملك سرقصة، كتب يقول: إن أرسطرخس قد أخرج «كتابًا يحتوي على بعض الفروض العلمية». ثم مضى يقول: «وفروضه تلك هي أن النجوم الثابتة والشمس لا تتحرك من مكانها، وأن الأرض تدور حول الشمس في فلكٍ دائري، وأن الشمس تقع في وسط الفلك.» وفي بلوتارك فقرة تقول إن «كلينتيز» قد «رأى أنه من واجب اليونان أن يوجهوا الاتهام إلى أرسطرخس من أهل ساموس لخروجه على قواعد الدين؛ وذلك لافتراضه أن مُسْتكَنَّ الكون (أي الأرض) متحرك، وهذا الفرض إنما نتج عن محاولته التمشي مع الواقع المشاهد، بأن جعل أجرام السماء تظل ساكنة، والأرض تدور في فلكٍ دائري مائل، وفي الوقت نفسه تدور حول محورها.» و«كلينتيز» هذا معاصر لأرسطرخس، مات حوالي سنة ٢٣٢ق.م. وفي فقرةٍ ثانية قال بلوتارك إن أرسطرخس لم يتقدم بهذا الرأي إلا على أنه مجرد فرض، حتى جاء خلَفُه «سليوكوس» فأيَّد القول على أنه رأيٌ حاسم (ازدهر شأن سليوكوس حوالي سنة ١٥٠ق.م.) وكذلك يثبت «إيتيوس» و«سكستوس إمبركوس» أن أرسطرخس قد تقدم بالفرض القائل إن الشمس تقع في مركز الكون، لكنهما لا يقولان إن أرسطرخس لم يتقدم بهذا الرأي إلا على أنه مجرد فرض. وحتى لو كان هذا هو شأنه، فليس بعيدًا فيما يظهر أنه إنما لجأ إلى ذلك — كما لجأ جاليليو بعده بألفَي عام — مدفوعًا بخوفه أن يسيء إلى عقائد الناس الدينية، وهو خوف تبيَّن من موقف «كلينتيز» (الذي أسلفنا الإشارة إليه) أنه لم يكن خوفًا على غير أساس صحيح.
وربما حدث لكوبرنيق أن يعرف شيئًا غير كثير عن نظرية أرسطرخس التي كاد يذهب بها النسيان، وشجعه أن يرى بين القدماء سندًا يؤيده في رأيه الجديد الذي أخذ به، وإذا استثنينا ذلك كانت هذه النظرية القديمة عديمة الأثر الملحوظ في علم الفلك في العصور التي تلت زمنها.
كان علم الفلك عند اليونان قائمًا على أساسٍ هندسي، لا على أساسٍ ديناميكي؛ فلقد ظن القدماء أن حركات الأجرام السماوية منتظمة ودائرية، أو مركبة من حركاتٍ دائرية، ولم تكن لديهم فكرة «القوة»؛ فهنالك في رأيهم أفلاك متحركة في جملتها، فتتحرك معها الأجرام السماوية المختلفة لأنها مثبَّتة فيها، ثم نشأت فكرةٌ جديدة في الموضوع أقل من السابقة اعتمادًا على الأساس الهندسي، وهي الفكرة التي جاءت مع نيوتن وقانون الجاذبية. ومما يستوقف النظر أننا الآن نعود إلى وجهة النظر الهندسية، بفضل «نظرية أينشتين العامة في النسبية التي نبذت فكرة القوة بمعناها المفهوم في نظرية نيوتن».
والمشكلة التي يواجهها العالم الفلكي هي هذه: إننا نرى حركات ظاهرة للأجرام السماوية في أفلاك السماء، ونريد بالفرض أن نضيف إحداثًا ثالثًا، هو إحداث العمق، بحيث نجعل وصفنا للظواهر في أبسط صورة ممكنة؛ فليس فضل الفرض الكوبرنيقي ما فيه من صدق، بل فضله هو البساطة؛ لأنه على أساس نسبية الحركة لا يكون هنالك موضع لصفة الصدق في الوصف؛ فاليونان في بحثهم عن فروض «يفسرون بها الظواهر» كانوا في الواقع — ولو أنهم لم يكونوا كذلك في نيتهم الباطنية — يعالجون المشكلة بالطريقة الصحيحة من الوجهة العلمية، فمقارنتهم بأسلافهم وبأخلافهم — حتى كوبرنيقي — من شأنها حتمًا أن تقنع كل باحث بما كان لهم من عبقريةٍ جديرة حقًّا بكل إعجاب.
وتكمل قائمة الطراز الأول من الرياضيين عند اليونان بذكر رجلين عظيمين جدًّا، هما أرشميدس وأبولونيوس، اللذان عاشا في القرن الثالث قبل الميلاد، أما أرشميدس فقد كان صديقًا — وربما كان قريبًا — لملك سرقصة، ولقيَ مصرعه حين حاصر الرومان المدينة سنة ٢١٢ق.م. وأما أبولونيوس فقد أقام بالإسكندرية منذ يفاعته. ولم يكن أرشميدس عالمًا رياضيًّا وكفى، بل كان كذلك عالمًا في الطبيعة وباحثًا في توازن السوائل، وأشهر ما يُعرَف به أبولونيوس هو أبحاثه في القطاعات المخروطية، ولن أقول عنهما أكثر من ذلك؛ لأنهما جاءا في زمنٍ بلَغ من تأخر العهد حدًّا لم يجعل لهما في الفلسفة تأثيرًا.
وبلغ العصر العظيم ختامه بعد هذين الرجلين، ولو أن مجهودًا قيِّمًا لم يزل يُبذل في الإسكندرية، فقد فقدَ اليونان تحت السيادة الرومانية الثقة بالنفس التي لا تكون إلا في ظل الحرية السياسية، وبفقدانهم للثقة بأنفسهم جعلوا يشعرون نحو أسلافهم بإجلالٍ شل فيهم قُواهم؛ فالجندي الروماني الذي قتل أرشميدس كان رمزًا لزوال التفكير المبتكر زوالًا أحدثته روما في أرجاء العالم الهليني جميعًا.