العالم الهلينستي
نستطيع أن نقسم تاريخ العالم الناطق باليونانية في العصر القديم فترات ثلاثًا؛ ففترة قامت فيها الدول ذات المدينة الواحدة الحرة، وهو نظامٌ شهد ختامه على يدَي فليب والإسكندر؛ وفترة كانت فيها السيادة لمقدونيا، وقد أتى الرومان على آخر آثارها الباقية حين ضموا إليهم مصر بعد موت كليوبترا، وأخيرًا فترة الإمبراطورية الرومانية. وأولى هذه الفترات الثلاث تتميز بالحرية وعدم التزام النظام، وتتميز الثانية بالخضوع وعدم النظام، ثم تتميز الثالثة بالخضوع والنظام.
والفترة الثانية من هذه الفترات الثلاث هي التي تُعرَف باسم العصر الهلينستي، وما تم في ذلك العصر من بحوث في العلم والرياضة هو أفضل ما أنتجه اليونان في هذا الباب على الإطلاق، وأما في الفلسفة فقد شهدت تلك الفترة نشأة المدرستين الأبيقورية والرواقية، ونشأة الشك في صورة مذهب فلسفي واضح المعالم؛ وإذَن فقد كانت فترة لم تزل لها أهمية فلسفية، وإن تكن أقل أهمية من الفترة التي شهدت أفلاطون وأرسطو؛ فلم يجدَّ في الفلسفة اليونانية جديد حقًّا بعد القرن الثالث قبل الميلاد، إلى أن جاءت الأفلاطونية الحديثة في القرن الثالث بعد الميلاد، غير أن العالم الروماني خلال تلك الفترة كان يتأهب لانتصار المسيحية.
إن سيرة حياة الإسكندر القصيرة قد فاجأت العالم اليوناني بالتغير الشامل؛ ففي العشر السنين الواقعة بين ٣٣٤ و٣٢٤ق.م. فتح آسيا الصغرى وسوريا ومصر وبابل وفارس وسمرقند وباكتريا والبنجاب، واندكَّت قوائم الإمبراطورية الفارسية في ثلاث مواقع، وهي أعظم إمبراطورية شهدها العالم حتى ذلك الحين، وشاع بين اليونان الطُّلعة ما كان للبابليين من حكمةٍ قديمة وخرافات، كما شاعت فيهم كذلك الثنائية الزرادشتية وديانات الهند (ولو أن هذه كانت أقل شيوعًا بينهم) حين كانت البوذية عندئذٍ في طريقها إلى أن تحتل مكان السيادة بين تلك الديانات، وكان الإسكندر يقيم المدن اليونانية، يحاول أن يعيد فيهم النظم اليونانية بقدرٍ معلوم من الحكومة الذاتية، حيثما تغلغل في فتوحه، لا يُستثنى من ذلك حتى جبال أفغانستان وضفاف جاكسارتيز وفروع السند؛ ذلك أن الإسكندر قد اعتبر نفسه بادئ ذي بدء رسولًا يبشر بالروح الهلينية، على الرغم من أن جيشه كان مؤلفًا من أكثريةٍ مقدونية، وعلى الرغم من أن معظم اليونان الأوروبيين قد خضعوا له عن غير إرادة منهم، ومع ذلك فقد أخذ — كلما اتسعت رقعة فتوحه — يصطنع شيئًا فشيئًا سياسة توثيق صلات الود التي تُوحِّد بين اليوناني والبربري.
وإنما دفعه إلى فعله ذاك عدة دوافع؛ فمن جهة كان بديهيًّا أن جيوشه التي لم تبلغ حدًّا كبيرًا من الضخامة لم تكن لتستطيع أن تظل مسيطرة على مثل هذه الإمبراطورية الفسيحة بالقوة سيطرةً دائمة، بل كان لا بُدَّ لها في نهاية الأمر أن تعتمد على مرضاة الشعوب المفتوحة، ومن جهةٍ أخرى، لم يكن الشرق قد ألف أي ضرب من ضروب الحكم ما عدا حكومة الملك المقدس، وهو نوع من الحكم شعرَ الإسكندر أنه معَدٌّ بطبيعته خير إعداد لاصطناعه، أما هل آمن الإسكندر فعلًا بأنه إله، أو أنه اتخذ لنفسه مظاهر الألوهية لأغراضٍ سياسية، فذلك موضوع نتركه لعلماء النفس أن يقولوا فيه كلمتهم، ما دامت شواهد التاريخ لا تحسم في ذلك برأيٍ قاطع، ومهما يكن من أمر فلا شك في أنه اغتبط بما أبدت له مصر من مصانعةٍ حين أطلقت عليه خليفة الفراعنة، وما أبدته له فارس من مصانعة أيضًا حين لقَّبته بالملك العظيم، أما ضباطه المقدونيون — أو «الرفقاء» كما كانوا يُسمَّون — فقد وقفوا إزاءه موقف الأشراف في بلاد الغرب من ملكهم الدستوري؛ فأبوا أن يلقوا بأنفسهم أرضًا أمامه، وكانوا يتقدمون له بالنصح وبالنقد، حتى لو كان في ذلك خطر على حياتهم، واستطاعوا في لحظةٍ حرجة أن يتحكموا في تصرفاته، وذلك حين أرغموه أن يعود إلى أرض الوطن، وكان حينئذٍ قد بلغ السند، بدلًا من اعتزامه مواصلة السير بُغيةَ فتح الكنج. وأما المشارقة فقد كانوا ألْيَن عريكةً له من هؤلاء الضباط، ما دام يحترم لهم عقائدهم الدينية. ولم يكن احترام عقائدهم الدينية بالأمر العسير على الإسكندر؛ فكل ما يفعله في هذا السبيل هو أن يقول إن «أمون» أو «بل» هو نفسه «زيوس»، وأن يعلن نفسه ابنًا لله. ويلاحظ علماء النفس أن الإسكندر قد كان يمقت فليب، بل ربما كان على علم بمؤامرة اغتياله؛ إذ كان يود لو آمن فعلًا بأن أمه «أوليمبياس» — مثلها مثل سيدة من سيدات الأساطير اليونانية — قد عشقها إله عشقًا كان هو ثمرته؛ فسيرة حياة الإسكندر بلغت من الغرابة المعجزة حدًّا بحيث حُق له أن يظن أنه لا يفسر ذلك النجاحَ الهائل الذي لقيه، إلا أن يكون سليل أصل فيه عناصر الإعجاز.
لقد أخطأ اليونان خطأً فاحشًا حين أحسوا شعور السيادة على الشعوب البربرية، ولا شك في أن أرسطو قد عبَّر عن فكرتهم العامة في ذلك، حين قال إن أجناس الشمال مليئة بشعلة الحياة، وأجناس الجنوب متحضرة، واليونان وحدهم الذين يجمعون الطرفين؛ فشعلة الحياة تملؤهم، وهم في الوقت نفسه متحضرون، وأفلاطون وأرسطو كلاهما قد ذهبا إلى أنه من الخطأ أن يُتخذ من اليونان عبيد، لكن ذلك عندهما جائز بالنسبة للشعوب البربرية. وحاول الإسكندر — الذي لم يكن يونانيًّا خالصًا — أن يحطم هذا الشعور عند اليونان بالسيادة، فتزوج هو نفسه من أميرتين من الشعوب المتبربرة، وأرغم زعماء المقدونيين الذين معه أن يتزوجوا نساءً من أشراف فارس، ولا بُدَّ بالبداهة أن يكون المستعمرون من الذكور في المدن اليونانية الكثيرة التي أنشأها أكثر من المستعمرات الإناث؛ وإذَن فلا بُدَّ أن يكون رجاله المستعمرون هؤلاء قد نسجوا على منواله في الزواج من نساء الإقليم الذي يحدث لهم أن يكونوا فيه. وكانت نتيجة هذه السياسة أن تبين جليًّا لعقلاء الناس فكرةَ أن الجنس البشري وحدة لا تتجزأ، وأنه لم يعد الولاء القديم للدولة ذات المدينة الواحدة، ولا الولاء (بدرجةٍ أقل) للجنس اليوناني، بصالح للعصر الجديد. وتبدأ هذه النظرة الدولية في الفلسفة عند الرواقيين، لكنها تبدأ قبل ذلك في الحياة العملية؛ إذ تبدأ من الإسكندر، وكان من نتائجها تفاعل بين اليوناني والبربري؛ فتعلم البرابرة كثيرًا من علم اليونان، وتعلم اليونان كثيرًا من خرافة البرابرة. وهكذا أصبحت الحضارة اليونانية أقل يونانية في خصائصها حين انتشرت في مساحةٍ أوسع.
كانت الحضارة اليونانية في صميمها متعلقة بحياة المدينة، نعم كان كثيرٌ من اليونان يشتغلون بالزراعة طبعًا، لكن هؤلاء لم يسهموا إلا قليلًا في خصائص الثقافة الهلينية المميزة لها؛ فمنذ مدرسة ملطية وصاعدًا، كان اليونان البارزون في العلم والفلسفة والأدب، ممن يتصلون بالمدن التِّجارية الغنية، التي كثيرًا ما كان يحيط بها شعوب بربرية، ولم يكن اليونان هم أول من بدءوا في هذا الضرب من الحضارة، بل بدأه الفينيقيون، فاعتمدت صور وصيدا وقرطاجنة على العبيد في أداء العمل البدني في حدود بلادهم، كما اعتمدت على الجند المرتزقة في تسيير حروبهم، إنها لم تكن تعتمد — كما تفعل العواصم الكبرى اليوم — على سكان كثيرين يعيشون في الريف، ويكونون من نفس السلالة، ولهم نفس الحقوق السياسية، التي لسكان المدن، ولعل أقرب مثل نسوقه من الدنيا الحديثة لنصور به الحالة في العصر القديم، هو ما كان قائمًا في الشرق الأقصى إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ وذلك أن سنغافورة وهونج كونج وشنغهاي وغيرها من مواني الصين التي شملتها المعاهدة، كانت كلها جزرًا أوروبية صغيرة، كوَّن فيها الرجال البيض طبقةً تِجارية أرستقراطية تعيش على المجهود البدني الذي يبذله أبناء البلاد. أما في أمريكا الشمالية — شمال خط «ماسون-دكسن» — فلم يكن مثل هذا العمل البدني ميسورًا عند غير البيض، فاضطر هؤلاء أن يشتغلوا بالزراعة؛ ولهذا السبب تمكنت قبضة الرجل الأبيض من أمريكا الشمالية، في حين أن قبضته على الشرق الأقصى قد أصابها بالفعل كثيرٌ من الضعف، وقد تزول زوالًا تامًّا في غير عسر، ومع ذلك فثقافة الرجل الأبيض — خصوصًا ثقافته الصناعية — ستظل قائمة هناك بعد زواله، ونستطيع من هذا التشبيه أن نتصور موقف اليونان في الأجزاء الشرقية من إمبراطورية الإسكندر.
كان أثر الإسكندر على خيال الناس في آسيا قويًّا وطويل الأمد، وفيما يلي فاتحة «الجزء الأول من سِفر المقَّابين» الذي كُتِب بعد موته بقرونٍ طويلة، وهي فاتحة تصف سيرة الإسكندر:
فلما مات الإسكندر، بُذلت جهود للمحافظة على وحدة إمبراطوريته، لكن أحد ابنَيه كان لا يزال رضيعًا، والآخر لم يكن قد وُلد بعد، وكان لكلٍّ من هذين الولدين مؤيدون، لكن الحرب الأهلية التي ترتبت على هذا الاختلاف بين المؤيدين انتهت بإبعادهما معًا، وأخيرًا تقسمت إمبراطوريتَه أسراتُ ثلاثةِ رجال من قُواده، وكان التقسيم على وجه التقريب هو أن ظفرت أسرة منها بالشطر الأوروبي من ملكه، وظفرت أخرى بالشطر الأفريقي، وظفرت الثالثة بالشطر الآسيوي، وآل الجزء الأوروبي في النهاية إلى سلالة أنتيجونوس، وجعل بطليموس الذي آلت إليه مصر الإسكندرية عاصمة ملكه، أما سليوكوس الذي انتزع آسيا بعد حروبٍ كثيرة، فقد كان في شغلٍ من حملاته الحربية بحيث لم يجعل لنفسه عاصمة ثابتة، غير أن أنطاكية أضحت في الأعوام التالية هي المدينة الرئيسة لأسرته المالكة.
فقد كان عليهم ملك في القرن الثاني قبل الميلاد (وهو القرن الذي أعقبه انحلالهم انحلالًا سريعًا) هو الملك «مناندر» الذي كان ملكه فسيحًا في الهند، ولا يزال بين أيدينا محاورتان دارتا بينه وبين حكيمٍ بوزي، مكتوبتان باللغة البالية، ولبعضهما ترجمة صينية، ويظن «الدكتور تاون» أن أولى هاتين المحاورتين مستمدة من أصلٍ يوناني، لكن الثانية التي تنتهي باعتزال مناندر عرشه واعتناقه البوذية، لا شك في أنها لم تستمد من أصلٍ يوناني.
ولو نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر الثقافة الهلينستية، وجدنا ألمع نجاح في القرن الثالث قبل الميلاد، قد اجتمع لمدينة الإسكندرية، فلم تتعرض مصر للحروب بمثل ما تعرضت لها الأجزاء الأوروبية والآسيوية من ملك المقدونيين، وكانت الإسكندرية في موقفٍ غاية في الامتياز بالنسبة للتجارة، وكان البطالسة يرعون الحركة العلمية، واستقدموا لعاصمتهم عددًا كبيرًا من خيرة رجال العصر، حتى لقد أصبحت الرياضة — ولبثت كذلك حتى سقوط روما — علمًا إسكندريًّا إلى حدٍّ كبير. نعم قد كان أرشميدس من صقلية، وكان ينتمي إلى الجزء الوحيد من أجزاء العالم الذي ظلت فيه الدولة ذات المدينة الواحدة المعروفة لدى اليونان محتفظة باستقلالها، لكنه هو كذلك كان قد درس في الإسكندرية، وكان «إراتوستنيز» هو الأمين الأول لمكتبة الإسكندرية المشهورة. وهكذا استطاع علماء الرياضة والطبيعة المتصلون بالإسكندرية قليلًا أو كثيرًا، إبان القرن الثالث قبل المسيح، أن يُظهروا من الكفاءة ما أظهره أي رجل من اليونان خلال القرون السالفة لعهدهم، وأنتجوا في علومهم نتائج لها من الأهمية ما للنتائج التي وصل إليها العلماء اليونان، لكنهم لم يكونوا — كما كان أسلافهم — رجالًا اتخذوا مجال العلوم كلها مجالًا لكلٍّ منهم، وجعلوا ينشرون فلسفاتٍ تشمل الكون كله، بل كانوا متخصصين بمعنى التخصص في العصر الحديث؛ فإقليدس وأرسطرخس وأرشميدس وأبولونيوس قد كفاهم أن يكونوا رياضيين، ولم يطمحوا في مجال الفلسفة إلى منزلة الابتكار الأصيل.
وكان التخصص من سمات العصر في كل فروع المعرفة، لا في عالم البحث العلمي وحده، بعد أن كانت الحال غير ذلك في المدن اليونانية الحاكمة لنفسها بنفسها إبان القرنين الخامس والرابع؛ ذلك أن الرجل في ذلك العهد كان يفرض فيه أنه قادرٌ على كل شيء، فهو مستعدٌّ أن يكون — حسب اختلاف الحالات الناشئة — جنديًّا وسياسيًّا ومُشرِّعًا وفيلسوفًا؛ فعلى الرغم من أن سقراط كان يكره السياسة، إلا أنه لم يستطِع أن يجتنب اشتباكه في المنازعات السياسية، وكان في شبابه جنديًّا، كما كان باحثًا في العلم الطبيعي (على الرغم من إنكاره ذلك في «الدفاع»). وحيثما وجد بروتاجوراس فراغًا بعد تعليمه مبادئ الشك للشبان الأرستقراطيين الذين يبحثون لأنفسهم عن آخر ما وصل إليه الفكر، كان يشغل ذلك الفراغ بسنه قانونًا ﻟ «ثوريي». وكذلك كانت لأفلاطون محاولات في السياسة، ولو أنها محاولات مُنيت بالفشل. وفي الأوقات التي لم يكن فيها زينوفون مشتغلًا بالكتابة عن سقراط، ولا مشتغلًا بالظهور بمظهر السيد من سادة الريف، كان يملأ فراغه باشتغاله قائدًا من قادة الجيش، وحاوَل علماء الرياضة من الفيثاغوريين أن يظفروا لأنفسهم بحكومة المدن، وكان الواجب محتومًا على كل فردٍ أن يكون من المحلفين، وأن يؤدي غير ذلك من الواجبات العامة الأخرى، لكن هذا كله تغيَّر في القرن الثالث. نعم لبثت الحياة السياسية قائمة في الدول القديمة ذوات المدينة الواحدة، إلا أنها سياسة باتت إقليمية لا أهمية لها؛ إذ كانت اليونان عندئذٍ قد خضعت لسيادة الجيوش المقدونية، وكانت المنازعات الخطيرة في سبيل القوة قائمة بين الجنود المقدونيين أنفسهم. ولم تكن تلك المنازعات قائمة على مبادئ نظرية، بل كان كل اهتمامها توزيع البلاد بين المغامرين المتنافسين؛ فإذا ما عرض لهؤلاء الجنود الذين لم يصيبوا من العلم إلا مقدارًا قليلًا — على تفاوتهم في هذا المقدار الضئيل — إذا ما عرضت لهؤلاء أمور تمسُّ إدارة الحكم أو الموضوعات الفنية، استخدموا فيها إخصائيين من يونان، مثال ذلك ما تم في مصر من عملٍ رائع في مسألة الري والصرف، لقد كان منهم الجنود، والإداريون، والأطباء، والرياضيون، والفلاسفة، لكن لم يكن منهم فرد واحد جمَع في شخصه كل هذه الأشياء دفعةً واحدة.
كان العصر عصرًا يتيح لمن عنده مال ولم يكن راغبًا في قوة الجاه، أن يستمتع بحياته إلى درجةٍ بعيدة — على افتراض أنه قد لبث بمنجاة من جيوش المغيرين، كذلك كان في وسع رجال العلم الذين احتضنهم أميرٌ من الأمراء، أن يتمتعوا بقدرٍ كبير من حياة الترف، على شرط أن يكونوا بارعين في الرياء، ولا يمانعوا في أن يكونوا موضوعًا للنكات الملكية الغاشمة، غير أن الأمن لم يعرف إلى ذلك العصر سبيلًا؛ فقد تحدُث داخل القصر الملكي ثورة تطيح بالأمير الذي يعيش في كنفه ذلك الحكيم المرائي، أو قد يغير المغيرون على المسكن الأنيق للرجل الغني فينزلون به الخراب، أو قد يفيق الإنسان فإذا مدينته قد سُلبت سلبًا في تيار الحروب المتصل؛ فلا عجب أن نرى الناس في مثل هذه الأحوال قد ركنوا إلى عبادة «الحظ»؛ إذ لم يكن في مجرى الأمور الإنسانية ما يدل على السير بمقتضى العقل، فمن ألحَّت عليه الرغبة في أن يجد نظامًا عقليًّا، انطوى على نفسه، واعتزم — كما اعتزم الشيطان في قصيدة «ملتن» أن يجعل:
فإذا استثنيت مغامرات الباحثين عن صالح أنفسهم، وجدت أنه لم يعد هناك حافز يحفز الناس على الاهتمام بالشئون العامة؛ فبعد الفترة اللامعة التي سطعت فيها غزوات الإسكندر، أخذ العالم الهلينستي يغوص في حالةٍ من الفوضى، لافتقاره إلى حاكمٍ مستبد له من القوة ما يمكنه من أن يصون لذلك العام سياسة مستقرة البناء، أو إلى مبدأ له من قوة التأثير ما يخلق به تماسكًا اجتماعيًّا بين الناس؛ فقد برهن الذكاء اليوناني على عجزه التام حين واجهته المشكلات السياسية الجديدة؛ إذ كان الرومان بغير شك ذوي بلادة ذهنية وقسوة وحشية بالقياس إلى اليونان، إلا أنهم قد خلقوا النظام على أقل تقدير، وإن كانت الفوضى القديمة التي سارت أيام الحرية مقبولة، فما ذاك إلا لأن كل فرد من أبناء المدينة قد أخذ بنصيب منها. أما الفوضى المقدونية الجديدة التي فرضها الحكام العاجزون فرضًا على الشعب، فقد كانت ممقوتةً أشد المقت؛ إذ كانت أشد مقتًا عند الناس مما تلاها من خضوع لروما.
ولا بُدَّ أن قد أتيح للعمال الأحرار الذين وجدوا أجورهم غير كافية لتغطية الضرورات نفسها، أن يظفروا لأنفسهم بأعمال في الجيش كجندٍ مرتزقة، ذلك أن كانوا بعدُ في شبابهم وقوتهم. نعم، إن حياة الجندي من المرتزقة قد كانت بغير شك مليئةً بالصعاب والأخطار، لكنها كانت إلى جانب ذلك مليئة بمنافذ الأمل؛ فقد يقع لهؤلاء الجنود أن ينهبوا مدينةً شرقيةً غنية، وقد تسنح لهم فرصة عصيان يعود عليهم بربح؛ إذ لا بُدَّ أن قد كان من الخطر الداهم لقائد جيش أن يحاول تسريح جيشه، ثم لا بُدَّ أن كان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الحروب في اتصالٍ يكاد لا ينقطع.
وأطلق حكام آسيا على أنفسهم — بوجهٍ عام — اسم «أصدقاء هليني»، وربطوا أواصر الصداقة بينهم وبين المدن اليونانية القديمة، بمقدار ما سمحت بذلك السياسة والضرورات الحربية، ورغبت المدن، بل وطالبت بما جعلته حقًّا من حقوقها (كلما استطاعت إلى ذلك سبيلًا)، وهو أن تقوم فيها حكومة ذاتية ديمقراطية، وأن تزول عنها الجزية، وأن تتحرر من الحامية الملكية. وكانت هذه المدن جديرة بأن تُسترضى؛ لأنها كانت غنية، وكان في مقدورها أن تمد الجيش بالمرتزقة، وكان لكثيرٍ منها ثغورٌ هامة، لكنها إذا ما انحازت إلى الجانب الخطأ في حربٍ أهلية عرَّضت نفسها للغزو الصريح. وعلى وجه الإجمال كانت أسرة السليوكوسيين وغيرها من الأُسر المالكة التي نشأت تدريجًا، تُعامِل تلك المدن معاملةً سمحة، إذا استثنينا حالات قليلة.
وعلى الرغم من أن المدن الجديدة كانت تتمتع بقسطٍ من الحكومة الذاتية، إلا أنها لم تكن لها التقاليد التي كانت للمدن الأقدم منها، ولم يكن أبناؤها متجانسين في أصولهم، بل جاءوها من شتى نواحي اليونان، وكان معظمهم من المغامرين؛ فهم يشبهون أولئك الذين استقر بهم المُقام في جوهانزبرج، ولم يكونوا مهاجرين في سبيل الدين، كالمستعمرين من اليونان الأولين، أو كالرُّوَّاد الذين هاجروا إلى ولاية إنجلترا الجديدة، وترتَّب على ذلك أنه لم تستطِع مدينة واحدة من مدن الإسكندر أن تكون وحدة سياسية قوية، وكان ذلك في صالح حكومة الملك، لكنه كان ضعفًا إذا نظرنا إليه من وجهة انتشار الروح الهلينية.
ولقد آمنَت الكثرة الغالبة من خيرة الفلاسفة — كما سنرى — بالتنجيم. ولما كان التنجيم يزعم إمكان التنبؤ بالمستقبل، فقد اقتضى إيمان الفلاسفة به اعتقادهم في الضرورة أو القدر، وهو اعتقاد جاء مُعارِضًا للعقيدة الشائعة عندئذٍ في سيادة الحظ، ولا شك أن معظم الناس آمنوا بالقدر والحظ معًا، ولم يلاحظوا أبدًا ما في ذلك من تناقض.
وكان لا بُدَّ لهذه الفوضى الضاربة أن تنتهي إلى انحلالٍ خلقي، وألا تقتصر على إضعاف القدرة الفكرية، فإن العصور التي يسودها القلق أمدًا طويلًا قد لا تتعارض مع أسمى درجات القداسة في قلةٍ قليلة من الناس، إلا أنها تتنافى مع فضائل الحياة اليومية كما يعيشها المواطنون ذوو المكانة المحترمة في المجتمع؛ فقد يظهر أن لا فائدة من الادخار إذا كان من المحتمل أن يتبدد كل ادخارك غدًا، وأن لا فائدة من الأمانة إذا كان من تؤدي الأمانة من أجله لا يتردد في «النصب» عليك، وأن لا فائدة من التمسك القوي بالرأي إذا لم يكن لأي رأيٍ أهمية، ولا فرصة قد تسنح له (الرأي) فينتصر ويسود، وأن لا فائدة من الحجة تُقيمها تأييدًا للصدق في القول، حين يستحيل احتفاظك بالحياة أو بالمال إلا بالمراوغة الماكرة؛ فالرجل الذي لا يرى مصدرًا للفضيلة سوى الحكمة الدنيوية الخالصة، سينقلب في عالم كهذا مُغامرًا لو وجد في نفسه الشجاعة لذلك، فإن لم يجدها التمس مكانًا مغمورًا يساير فيه تيار الحوادث مُحصَّنًا بجبنه.
ويقول مناندر الذي ينتمي إلى هذا العصر: