الكلبيون والمتشككون
يختلف نوع العلاقة التي تربط الممتازين عقليًّا بمجتمعهم المعاصر اختلافًا كبيرًا من عصر إلى عصر؛ ففي بعض العصور السعيدة الحظ، كان هؤلاء الممتازون عقليًّا — على وجه الإجمال — في توافقٍ مع بيئتهم، لكنهم كانوا على ثقةٍ كبيرة بأن مقترَحاتهم ستصادف صدرًا رحبًا، ثم كانوا لا يمقتون العالم الذي وجدوا أنفسهم بين ظهرانَيه، حتى ولو بقي ذلك العالم بغير إصلاح. وفي عصورٍ أخرى، كان الممتازون عقليًا ثائرين على ما حولهم، يعتبرون أن الضرورة تتطلب بعض التغيرات فيما هو كائن، ويتوقعون أن تتم هذه التغيرات في المستقبل القريب، بفضل نشرهم الدعوة لها مضافًا إلى عوامل أخرى. وفي عصور من نوعٍ ثالث، كان هؤلاء الممتازون عقليًّا ييئسون من العالم، ويُحسون أنه على الرغم من أنهم هم أنفسهم يعلمون ماذا ينقص المجتمع من الحاجات، فليس ثَمة أمل في سد ذلك النقص، ومثل هذه الحالة النفسية سرعان ما تعمق في نفس صاحبها إلى درجةٍ أشد من درجات اليأس، بحيث يعد الحياة على الأرض شرًّا في أساسها، ولا يجد أملًا في الحياة الآخرة، أو في ضربٍ من ضروب التناسخ الصوفي.
وفي بعض العصور ترى هذه الوجهات من النظر جميعًا قد قامت جنبًا إلى جنب، اتخذها أفراد مختلفون من أبناء العصر الواحد، فانظر مثلًا إلى الشطر الأول من القرن التاسع عشر، تجد «جيته» مستريح النفس، و«بنثام» مصلحًا، و«شلي» ثائرًا، و«ليوباردي» متشائمًا، لكن معظم العصور كان يسودها نغمة واحدة تعمُّ كبار كُتابها أجمعين؛ فقد كان هؤلاء في إنجلترا مستريحي النفس في عهد اليصابات وفي القرن الثامن عشر، وفي فرنسا أصبحوا ثوريين فيما يقرب من عام ١٧٥٠م، وفي ألمانيا تراهم متحمسين للروح الوطنية منذ ١٨١٣م.
وفي الفترة التي سادت فيها الكنيسة، وهي تمتد من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر، كان ثَمة صراع بين ما يؤمن به الناس من الوجهة النظرية، وبين ما يُحسونه إحساسًا عمليًّا؛ فالدنيا — من الوجهة النظرية — وادٍ يسيل بالعَبرات، هي إعداد تكتنفه ألوان المحن، يستعد به الإنسان لعالمٍ آخر. أما من الوجهة العملية، فلم يسَع مؤلفي الكتب — وقد كانوا من رجال الكنيسة وحدهم تقريبًا — إلا أن يُحسوا الغبطة لما للكنيسة من قوة، ووجدوا الفرصة سانحة لنشاطٍ جم فيما اعتقدوا أنه نافعٌ لهم، وعلى ذلك فقد كانت لهم عقلية الطبقة الحاكمة، لا عقلية أناس شعروا كأنما هم منفيُّون في عالمٍ غريب عنهم، هذا جانب واحد من الثنائية العجيبة التي تسري خلال العصور الوسطى كلها، وسبب ذلك هو أن الكنيسة — على الرغم من أنها قائمة على أساس من العقائد الخاصة بعالمٍ آخر — كانت أهم مؤسسة تمسُّ دنيا الحياة اليومية.
هذا الإعداد النفسي للعالم الآخر، الذي تتصف به المسيحية، يبدأ منذ العصر الهلينستي، وهو مرتبط بزوال الدولة ذات المدينة الواحدة؛ فلئن جاز للفلاسفة اليونان حتى عهد أرسطو، أن يتذمروا من هذا أو من ذاك، إلا أنهم على وجه الجملة لم يكونوا يائسين من العالم، ولا هم أحسوا بعجزهم في دنيا السياسة. نعم إنهم قد ينتمون أحيانًا إلى حزبٍ منهزم، لكنهم في هذه الحالة لم يعدوا هزيمتهم إلا نتيجة لتقلبات الصراع في الحياة، لا نتيجة لقضاءٍ محتوم على أصحاب الحكمة أن يكونوا بغير حول ولا قوة. وحتى أولئك الذين هاجموا عالم الظواهر، والتمسوا سبيلًا للفرار في التصوف، مثل فيثاغورس، ومثل أفلاطون في بعض حالاته النفسية، قد كان لهم خطط عملية حاولوا بها أن يقلبوا الطبقات الحاكمة إلى جماعات من القديسين والحكماء؛ فلما انتقلت القوة السياسية إلى أيدي المقدونيين، كان طبيعيًّا أن يتنحَّى الفلاسفة اليونان عن السياسة، وأن يزدادوا إمعانًا في تكريس أنفسهم لبحث مشكلة حياة الفرد كيف يجب أن تكون التماسًا للخلاص، إنهم لم يعودوا يسألون: كيف يمكن للناس أن يخلقوا دولةً فاضلة؟ وإنما جعلوا يسألون: كيف يمكن للناس أن يكونوا ذوي فضيلة في عالم الرذيلة، أو سعداء في عالمٍ من الشقاء؟ نعم إن هذا التحول لم يكن سوى تحول في درجة الاهتمام، لا في نوع الاهتمام؛ فقد ألقى مثل هذه الأسئلة قبل ذلك، والرواقيون المتأخرون قد عادوا من جديدٍ فشغلوا أنفسهم حينًا من الدهر بشئون السياسة — سياسة روما لا سياسة اليونان — لكنه تحول — مع ذلك — حقيقي، فلو استثنينا الفترة الرومانية في حياة الرواقية إلى حدٍّ ما، وجدنا نظرة أولئك الذين كانوا جادين في فكرهم وشعورهم، قد أخذت تزداد في ذاتيتها وفوديتها، حتى جاءت المسيحية آخر الأمر فأخرجت إنجيلًا للخلاص الفردي، كان مصدر إلهام يحرك الحماسة في نفوس المبشرين، وأساسًا بُنيت عليه الكنيسة، وإلى أن تم هذا لم يكن الفيلسوف يجد أمامه مؤسسة منظمة يستطيع أن ينضم إليها بكل قلبه؛ ولذلك لم يكن ثَمة مخرج يكفيه لينفس عن طريقه ما يشعر به من حبٍّ للنفوذ حبًّا مشروعًا؛ ولهذا السبب كان فلاسفة العصر الهلينستي أضيق نطاقًا في صفاتهم البشرية، ممن عاشوا في العصر الذي كانت فيه الدولة ذات المدينة الواحدة ما تزال قائمة، توحي في نفوس الناس بالولاء لها، إن الفلاسفة في العصر الهلينستي لم يزالوا يفكرون؛ لأنهم لا يسعهم سوى أن يفكروا، لكن هيهات لهم أن يظنوا بأن تفكيرهم سيؤتي ثمرته في دنيا الحياة العملية.
وقامت في نحو العصر الذي ظهر فيه الإسكندر أربع مدارس للفلسفة، أشهرها اثنتان هما الرواقيون والأبيقوريون، سنجعلها موضوع الحديث في فصولٍ تالية، وسنتناول في هذا الفصل الكلبيين والمتشككين.
والكلمة التي معناها «كلبي» في الإنجليزية، هي أصل لكلمةٍ أخرى معناها «لاذع السخرية»، لكن تعاليم ديوجنيز لم تكُن قَط مشوبةً بأية سخرية لاذعة، بل كانت على نقيض ذلك؛ فقد كان شديد التحمس ﻟ «الفضيلة» التي قاس إليها طيبات الحياة، فوجد هذه الطيبات ليست بذات قيمة إطلاقًا بالقياس إليها، والتمس الفضيلة والتحرر الخلقي في تحرير نفسه من الرغبات: كن غير آبه للطيبات التي قد تأتيك بها الأيام، تجد نفسك قد تحررت من الخوف. وجاء الرواقيون — كما سنرى — وأخذوا عنه هذا الجانب من مذهبه، لكنهم لم يتبعوه في نبذ أساليب الحياة المتحضرة؛ ففي رأيه أن عقوبة برومثيوس كانت عادلة؛ لأنه جاء للإنسان بالفنون التي عادت عليه بما في حياته الحديثة من تعقيد وتصنع، وهو في هذا يشبه التاوستيين، وروسو، وتولستوي، غير أنه كان أكثر اتساقًا مع نفسه في رأيه هذا من هؤلاء جميعًا.
وعلى الرغم من أنه معاصر لأرسطو، إلا أن مذهبه ينتمي من حيث نغمته السائدة إلى العصر الهلينستي، فأرسطو هو آخر فيلسوف يوناني واجَه العالم بوجهٍ باسم، وجاء من بعده جميعًا، فكان لكلٍّ منهم فلسفة انسحابية في صورٍ شتى، فالعالم عندهم شر، وواجبنا أن نعرف كيف نستقل بذواتنا عنه، فالطيبات التي تأتي إلينا من خارج نفوسنا ليست مطردة؛ فهي منحة تسخو بها الأيام، وليست هي جزاء ما نبذله نحن من جهود، ولا يدوم لنا إلا الطيبات الذاتية؛ الفضيلة، أو القناعة عن طريق الانسحاب من مضطرَب الحياة؛ وإذن فهذه وحدها هي ما يكون له قيمة في نظر الرجل الحكيم؛ فلئن كان ديوجنيز بشخصه رجلًا مليئًا بالحيوية، فإن مذهبه — كسائر المذاهب التي ظهرت في العصر الهلينستي — لا يصلح إلا لمن أصابه الكلل، وحطمت خيبة أمله ما كان لديه من حرارةٍ طبيعية نحو الحياة، ومن المؤكَّد أنه لم يكن مذهبًا يشجع على تقدم الفنون أو العلوم أو فن السياسة أو أي وجهٍ آخر من أوجه النشاط، اللهم إلا روح الاحتجاج على ما يسود من ألوان الشرور.
وانتقل خير جوانب المذهب الكلبي إلى الرواقية، التي كانت فلسفة أكمل بناءً وأوفى شمولًا.
وأما التشكك، باعتباره مذهبًا تأخذ به مدارس الفلسفة، فقد كان أول مبشر به هو «فيرو» الذي كان من رجال جيش الإسكندر، وصاحبه في حملاته حتى وصل معه إلى الهند. والظاهر أن هذا الارتحال قد أشبع فيه الرغبة في السفر، فأنفق بقية حياته في مدينته الأصلية «إليس» حيث مات سنة ٢٧٥ق.م. ولم يكن في مذهبه جديد كثير، سوى ما تناول به الشكوك القديمة من تنسيق وصياغة؛ فالتشكك فيما تأتينا به الحواس من علم، قد أرَّق الفلاسفة اليونان منذ زمنٍ بعيد جدًّا، لا نستثني من هؤلاء إلا طائفة — مثل بارمنيدس وأفلاطون — أنكرت القيمة الإدراكية للحواس، واتخذت من إنكارها هذا فرصة تُبشِّر فيها بمذهبٍ عقلي جامد، وأما السوفسطائيون — خصوصًا بروتاجوراس وجورجياس — فقد انتهى بهم ازدواج معاني الإدراكات الحسية، وما فيها من تناقضٍ ظاهر، إلى نزعةٍ ذاتية لا تختلف عما ذهب إليه هيوم، والظاهر أن فيرو (ونقول «الظاهر» لأن فيرو كان من بالغ الحكمة بحيث لم يكتب كتبًا) قد أضاف التشكك الأخلاقي والمنطقي إلى التشكك الخاص بالحواس، فيقال إنه ذهب إلى أنه من المستحيل على الإنسان أن يجد أساسًا عقليًّا يُبرر به مسلكًا دون آخر، ومعنى ذلك من الوجهة العملية هو أن الإنسان من حقه أن يساير العادات في أي بلد يحدث له أن يقيم فيه؛ فالمشايع لهذا الرأي من أبناء عصرنا قد يذهب إلى الكنيسة أيام الآحاد، ويؤدي ما يؤديه الناس من ركوع، دون أن يكون لديه أي شيء من العقائد الدينية التي يُفرَض فيها أنها الباعثة على أمثال هذه الأفعال؛ فقد كان المتشككون القدامى يؤدون كل شعائر الوثنية، بل كانوا أحيانًا كهنة لها، وأكَّد لهم مذهبهم في التشكك أن هذا الضرب من السلوك يستحيل أن يقوم برهانٌ على بطلانه، وكذلك أكَّد لهم إدراكهم الفطري (الذي بقي حيًّا بعد زوال فلسفتهم) بأن ذلك السلوك ملائم للظروف.
وطبيعي أن يلقى مذهب الشك رواجًا عند كثير من العقول غير الفلسفية؛ فقد رأى الناس اختلاف الناس، وحدة ما قام بينهما من منازعات، فقرروا لأنفسهم أن كل هذه المدارس سواء في ادعائها العلم بما يستحيل العلم به، فكان الشك عزاء الكسلان لأنه مذهبٌ يبدي الجاهل في حكمة رجال العلم المشهورين بعلمهم. وقد يظهر مذهب الشك لمن يريدون بحكم أمزجتهم أن يكون لهم كتاب يوثق فيه ويرجع إليه، مذهبًا لا يقنع ولا يشبع، لكنه — كأي مذهبٍ آخر مما ظهر في العصر الهلينستي — يقدم للناس على أنه شفاءٌ لما يساور أنفسهم من قلق، فلماذا تحمل الهموم للمستقبل؟ إن المستقبل مشكوكٌ فيه كل الشك، فخيرٌ لك أن تستمتع بحاضرك «فما هو آتٍ لا يزال في عالم الغيب لا نعلمه»؛ ولهذه الأسباب كلها صادَف مذهب الشك نجاحًا شعبيًّا عظيمًا.
ويجدُر بنا أن نلاحظ هنا أن مذهب الشك باعتباره مذهبًا فلسفيًّا، ليس هو مجرد الشك، بل هو ما يمكن أن تسميه شكًّا يقيم نفسه على أسسٍ جامدة، فلئن قال رجل العلم: «أظن الأمر كذا وكذا، لكني لست على يقين.» وإن قال المفكر الطُّلَعة: «لست أدري ماذا عسى أن يكون الأمر، لكني آمل أن أهتدي إلى حقيقته.» فإن المتشكك الفلسفي يقول: «لا أحد يعلم، ولن يستطيع أحدٌ أن يعلم.» وهذا العنصر في المذهب، عنصر الجمود في العقيدة، هو الذي يجعل المذهب كله عُرضة لسهام النقد. نعم إن الشكاكين أنفسهم ينكرون أنهم حين يأخذون باستحالة العلم، يبنون إنكارهم على تعصبٍ أعمى، غير أن إنكارهم هذا لا يقنع أحدًا إقناعًا كافيًا.
ومع ذلك فقد تقدم «تيمون» تلميذ «فيرو» ببعض الحجج العقلية التي كان الرد عليها غاية في العسر، من وجهة نظر المنطق اليوناني، فالمنطق الوحيد الذي قبله اليونان هو المنطق القياسي، وكل استنباطٍ قياسي لا بُدَّ له أن يبدأ — كما بدأ إقليدس في هندسته — من مبادئ عامة تعد واضحة بذاتها، وجاء «تيمون» فأنكر إمكان إثبات مثل هذه المبادئ، وعلى ذلك، فلا بُدَّ لكل شيءٍ أن يستند في برهانه على شيءٍ آخر، وبهذا يصبح كل حجاج إما دائريًّا، أو سلسلة لا نهاية لها، لا يجد طرفها الأعلى شيئًا يتدلى منه، وفي كلتا الحالتين يستحيل إقامة البرهان على شيء، ونستطيع أن نرى كيف تضرب هذه الحجة في جذور الفلسفة الأرسطية فتجتثها، وهي الفلسفة التي سادت العصور الوسطى.
فمن بعض الوجوه، ترى أن مذهب «تيمون» شديد الشبه بمذهب هيوم، فهو يذهب إلى أن الشيء الذي لم يقع أبدًا في مشاهدة الإنسان — كالذرات مثلًا — لا يمكن استدلالها استدلالًا صحيحًا، أما إذا شوهدت ظاهرتان مقترنةً إحداهما بالأخرى دائمًا، أمكن استدلال إحداهما من الأخرى.
وقد أقام «تيمون» في أثينا طوال الأعوام الأخيرة من حياته الطويلة، ومات بها ٢٣٥ق.م. فانتهت بموته مدرسة «فيرو» كمدرسة، أما تعاليمه — بعد أن دخلها بعض التعديل — فقد احتضنتها الأكاديمية التي كانت تمثل النزعة الأفلاطونية، وهو أمرٌ قد يبدو غريبًا من الأكاديمية.
وكان «أرقيسلاوس» — معاصر «تيمون»، الذي مات شيخًا كهلًا نحو سنة ٢٤٠ق.م. — هو الذي أحدث هذه الفورة الفلسفية التي تدعو إلى العجب، فما أخذه معظم الناس عن أفلاطون، هو الإيمان بوجود عالم عقلي فوق حدود الحس، وبتفوق الروح الخالدة على الجسد الفاني، غير أن أفلاطون متعدد النواحي، ويمكن اعتباره من بعض وجوهه مبشرًا بتعاليم الشك، فسقراط كما صوَّره أفلاطون يزعم أنه لا يعلم شيئًا؛ فإذا كنا بطبيعة الحال نفهم هذا الزعم من سقراط على أنه سخرية، إلا أنه يمكن فهمه بمعناه الحرفي على أساس أن سقراط لم يكن فيه هازلًا، هذا إلى أن كثيرًا من المحاورات لا ينتهي إلى نتيجةٍ إيجابية، وهدف تلك المحاورات هو أن تترك القارئ في حالة من الشك، وقد لا يكون لبعض المحاورات — مثل النصف الثاني من محاورة بارمنيدس — أية غاية مقصودة فيما يبدو، اللهم إلا أن تبين أن لكل مشكلةٍ جانبين، ويمكن الدفاع عن أيهما بمثل القوة التي ندافع بها عن الجانب الآخر، ويمكن اعتبار الجدل الأفلاطوني غاية في ذاته لا وسيلة؛ فإذا نحن نظرنا إليه من هذه الناحية، فقد أصبح أداةً من أقوى الأدوات التي يمكن للشكاك أن يؤيد بها وجهة نظره. والظاهر أن قد كانت هذه هي الطريقة التي اتبعها «أرقيسلاوس» في شرح أستاذه الذي لم يزل يعترف بتبعيَّته له. نعم إنه قد بتر رأس أفلاطون، لكن الجذع الذي أبقى عليه منه لبث أفلاطونيًّا صحيحًا على كل حال.
إن الطريقة التي كان يعلم بها «أرقيسلاوس» كان يمكن أن يكون فيها ما يشجع على الإقبال عليها؛ إذ استطاع الشاب الذي يدرس عليه أن ينجو من أثرها في شل قدرته، إنه لم يتخذ لنفسه رأيًا معينًا في شيء، لكنه تصدَّى لدحض كل رأيٍ يتقدم به تلميذ من تلاميذه، وكان هو نفسه أحيانًا يقدم قضيتين متناقضتين في فرصتين متعاقبتين ليبين كيف يستطيع أن يؤيد بالحجة المقنعة كلًّا من النقيضين؛ فالتلميذ الذي كان فيه من الحيوية ما يدفعه إلى الخروج على أستاذه، كان يمكنه أن يتعلم من أستاذه مهارة الجدل مع اجتناب المغالطات. والواقع أن أحدًا من هؤلاء التلاميذ لم يتعلم شيئًا قط — فيما يظهر — اللهم إلا هذه المهارة، وعدم الاحتفال للحقيقة في ذاتها، ولقد بلغ تأثير «أرقيسلاوس» من القوة بحيث لبثت الأكاديمية على مذهبه التشككي مدى ما يقرب من مائتَي عام.
وحدثت حادثةٌ ممتعة في غضون هذه الفترة التي ساد فيها مذهب الشك؛ فقد كان «كارنيدس» وهو خلف قدير لأرقيسلاوس في رئاسة الأكاديمية، أحد الفلاسفة الثلاثة الذين أرسلتهم أثينا في وفدٍ دبلوماسي إلى روما سنة ١٥٦ق.م. ولم يرَ ما يبرر أن يكون وقاره المستمد من كونه سفيرًا لأمته مانعًا يحول دون انتهاز الفرصة الحقيقية التي سنحت له؛ ومن ثَم أعلن عن سلسلة محاضرات يلقيها في روما، فأقبل الشبان الذين كانوا عندئذٍ شديدي الرغبة في النسج على منوال الأوضاع اليونانية، واكتساب الثقافة اليونانية، أقبلوا عليه إقبالًا شديدًا فبسط في محاضرته الأولى آراء أرسطو وأفلاطون في العدالة، وكان في محاضرته تلك يبني ولا يهدم، غير أنه أخذ في المحاضرة الثانية يفند كل ما قاله في المحاضرة الأولى، لا بغية أن يقيم نتائج مضادة للنتائج التي هدمها، بل ليكتفي ببيان أن أية نتيجة لا تستعصي على الهدم؛ فقد جاء على لسان سقراط، كما أجراه أفلاطون، إيقاع الظلم شرٌّ أعظم على الظالم منه على من يقع عليه الظلم. فجاء «كارنيدس» في محاضرته الثانية، وتناول هذا الرأي بالسخرية؛ فالدول الكبرى — فيما قال — قد أصبحت دولًا كبيرة باعتداءاتها الظالمة على جيرانها الأضعف منها، ويستحيل نكران هذه الحقيقة في روما؛ وإذا كنت في سفينةٍ غارقة، استطعت أن تنجو بنفسك على حساب من هو أضعف منك، وإذا لم تفعل ذلك فأنت مأفون؛ فمن رأيه أن القاعدة التي تقول «إنقاذ النساء والأطفال أولًا» ليست بالمبدأ الذي يؤدي إلى بقاء الإنسان حيًّا، ماذا أنت صانعٌ لو أنك هاربٌ أمام جيشٍ منتصر، ولا جواد لك، لكنك رأيت زميلًا جريحًا راكبًا جوادًا؟ لو كنت عاقلًا، لأنزلت هذا الزميل من على جواده، وأخذته منه، مهما كان حكم العدالة في ذلك؛ فلئن كان هذا القول لا يعمل كثيرًا على بناء الفضيلة، يثير فينا الدهشة من رجلٍ يزعم أنه من أتباع أفلاطون، إلا أنه — فيما يظهر — قد صادف إعجابًا لدى الشباب الروماني ذي العقلية الحديثة.
لكن هنالك رجلًا واحدًا لم يصادف هذا القول عنده قبولًا حسنًا، وهو «كاتو» الكبير، الذي كان يمثل في شخصه التشريع الخلقي الصارم الجامد الضيق القاسي، الذي أعان روما في انتصارها على قرطاجنة؛ فمنذ شبابه حتى شيخوخته، عاش عيشًا بسيطًا، يستيقظ مبكرًا، ويمارس العمل اليدوي العنيف، لا يأكل إلا الطعام الغليظ، ولم يلبس قط ثوبًا زاد ثمنه على ما يساوي أربعين قرشًا، وكان تجاه الدولة أمينًا إلى آخر حدود الأمانة، يجتنب كل أسباب الرشوة والسلب، وطالَب سائر الرومان بكل الفضائل التي مارسها بنفسه، وقرر أنَّ خير ما يستطيع الرجل الشريف أن يفعله هو أن يتهم صاحب الشر ويتعقبه، ولم يدَّخر وُسعًا في فرض الآداب الرومانية القديمة بكل ما فيها من قسوة.
ولما كان صاحب السلطان، حد من الترف والولائم، ولم يكفِه من زوجته أن ترضع أطفالها فحسب، بل جعلها ترضع أطفال عبيده أيضًا، عسى أن يحبوا أطفاله ما داموا قد رضعوا لبانًا واحدًا، وإذا ما تجاوز عبيده السن التي تمكنهم من العمل، باعهم دون أن يشعر في ذلك بلذعٍ من الضمير، وأصر على أن يكون عبيده إما عاملين أو نائمين، وكان يشجع عبيده على الاعتراك بعضهم مع بعض؛ لأنه «لم يكن يحتمل أن يراهم أصدقاء». وإذا ما اقترف عبدٌ إثمًا كبيرًا، نادى سائر عبيده وحملهم على اتهامه والحكم عليه بالموت، وعندئذٍ يقوم هو بتنفيذ الحكم على مرأًى من الآخرين.
كان التباين بين «كاتو» و«كارنيدس» على أتمه، فأولهما قاسٍ بسبب عقيدة خلقية جاوزت الحد في صرامتها والتزامها للتقاليد، والآخر مستهتر بسبب عقيدة خلقية جاوزت الحد في التساهل، وفي تأثرها بالانحلال الاجتماعي الذي شمل العالم الهلينستي.
وفي رأي «كاتو» أن الأثينيين سلالة أقل شأنًا من الرومان؛ لأنهم بغير ضابطٍ من القانون، ولا اعتبار عنده لما يقوله المثقفون بسفسطاتهم السطحية عن شباب الرومان، ما دام هؤلاء الشبان ملتزمين حدود التزمُّت ومعتنقين لمبادئ الاستعمار، ومتَّصفين بالقسوة وبلادة الذهن، ومع ذلك فقد أخفق فيما أراد؛ لأن الرومان فيما بعد، في حين احتفظوا لأنفسهم بكثيرٍ من رذائله، أضافوا إليها رذائل كارنيدس كذلك.
وآلت رئاسة الأكاديمية بعد كارنيدس (حوالَي١٨٠ إلى حوالَي ١١٠ق.م.) إلى رجلٍ من أهل قرطاجنة، اسمه الحقيقي «هاسدروبال»، لكنه في صلته باليونان، آثر أن يطلق على نفسه اسم «كليتوماخوس»، ولم يكن كليتوماخوس يشبه كارنيدس في الاكتفاء بإلقاء المحاضرات، فكتب ما يزيد على أربعمائة كتاب، بعضها مكتوب بلغة الفينيقيين، ويظهر أنه متفقٌ في مبادئه مع مبادئ كارنيدس، وهي مبادئ نافعة من بعض وجوهها، فهذان المتشككان قد أخذا نفسيهما بمناهضة العقيدة في التعزيم، والسحر والتنجيم، وهي أشياء كانت تزداد انتشارًا شيئًا فشيئًا، وكذلك قاما بتنمية مذهب إنشائي فيما يختص بدرجات الاحتمال؛ فعلى الرغم من أننا يستحيل أن نجد ما يبرر لنا الشعور باليقين التام، إلا أن بعض الأشياء أقرب احتمالًا في الصدق من سواها، ولا بُدَّ للاحتمال أن يكون وسيلة هدايتنا في حياتنا العملية؛ إذ إنه من المعقول أن يتصرف الإنسان على أساس الفرض الذي يراه أرجح الفروض الممكنة من حيث احتمال الصدق، وهي وجهة نظر يوافق عليها معظم الفلاسفة المحدثين، ولسوء الحظ قد ضاعت الكتب التي عرض فيها هذا المذهب، ومن العسير أن نعيد بناءه من الإشارات المقتضَبة التي بقيت لنا.
ولم تعد الأكاديمية شكاكة المذهب بعد «كليتوماخوس»، وأصبح مذهبها منذ عهد «أنطاكيوس» (الذي مات سنة ٦٩ق.م.) لا يكاد يختلف في شيء عن مذهب الرواقيين، ولبث كذلك عدة قرون.
وتبدأ هذه الرسالة ببيان أن الشكاكين في سلوكهم متمسكون بالتقاليد الراسخة: «إننا نحن الشكاكون، نصطنع أساليب الناس في حياتنا العملية، دون أن يكون لنا أي رأي فيها، فترانا نتحدث عن الآلهة بأنها موجودة ونعبدها، ونقول إن زمام الأمر بيدها، لكننا إذ نقول ذلك لا نعبر عن عقيدة لدينا، ونجتنب اندفاع المتعصبين لمبادئهم تعصبًا أعمى.»
ثم يقول بعد ذلك إن الناس يختلفون في طبيعة الله، فمثلًا يظنه بعضهم أنه من جسد، ويظنه آخرون أن لا جسد له، لكننا ما دمنا لم نصادفه في خبرتنا، فلسنا نعلم شيئًا عن صفاته، إن وجود الله ليس واضحًا بذاته؛ ولذا فهو بحاجة إلى برهان، ويورد بعد ذلك كلامًا مهوشًا بعض الشيء، ليبين استحالة مثل هذا البرهان، وينتقل بعدئذٍ إلى مشكلة الشر، ثم يختم الرسالة بهذه العبارة:
«إن هؤلاء الذين يؤكدون إيجابًا بأن الله موجود، لا يسعهم اجتناب الخروج على مبادئ الدين؛ لأنهم إذا قالوا إن الله في يده زمام كل شيء، فهم بذلك يجعلونه خالق الشرور، وإذا قالوا — من جهةٍ أخرى — إنه لا يملك إلا زمام بعض الأشياء دون بعضها الآخر، أو إنه لا يملك زمام شيء على الإطلاق، فهم مضطرون إما أن يجعلوا الله منطويًا على حقد، وإما أن يجعلوه عاجزًا، وواضحٌ أن ذلك خروج على مبادئ الدين.»
إنه على الرغم من أن مذهب الشك قد لبث قائمًا يغري باعتناقه طائفة من الأفراد المثقفين، حتى امتد الزمن إلى بعض القرن الثالث بعد الميلاد، إلا أنه كان قد أصبح منافيًا لنزعة العصر، الذي كان يزداد اهتمامًا بالعقيدة الدينية ذات المبادئ الجامدة، وبتعاليم مبدأ الخلاص. لقد كان في مذهب الشك من القوة ما يكفي لجعل الطائفة المثقفة ناقمة على ديانات الدولة، لكن ذلك المذهب لم يكن فيه جانب إيجابي — حتى في نطاقه العقلي الخالص — مما يمكن أن يحل محل تلك الديانات. إن مبدأ الشك في أمور اللاهوت، قد أخذ منذ عصر النهضة فصاعدًا، يستمد قوةً — عند معظم مؤيديه — من الإيمان الشديد بالعلم، أما في الزمن القديم، فلم يكن العلم يقف إلى جانب الشك مؤيدًا، وانصرف العالم القديم عن رجال الشك دون أن يجيبوا على ما أثاروه من مشكلاتٍ مؤيدة بالحجة، غير أن أرباب الأولمب قد زال عنهم ما يحميهم من قوة العقيدة، فانفتح الطريق لما سيأتي بعد ذلك من غزوة الديانات الشرقية التي ظلت تنافس مجاهدة في سبيل الحصول على قلوب من يميلون إلى العقيدة في الخرافة، حتى كُتِب النصر للمسيحية.