الفصل الثاني عشر
لم تعرف المدينة قط عامًا كهذا العام، امتلأ فيه شهر الصوم بالخير والبركة وبالحب والتواصل، وبذكر الله والعكوف على طاعته، حتى لم يشكُ الفقير فقرًا، ولم يحس البائس ضرًّا، ولم يجد الغني غرورًا بثروته ولا فتنة بماله وجاهه. إنما شاع في المدينة شيء من الدعة والأمن والأمل والرخاء، فصام الناس مخلصين لله في صومهم، وقد اطمأنوا جميعًا إلى أنهم سيفطرون إذا وجبت الشمس كما لم يتعودوا أن يفطروا، وسيؤدون صلاتهم على أحسن ما تؤدى الصلاة، وسيسمعون القرآن كأحسن ما تكون تلاوته وترتيله، وسيعودون إلى بيوتهم فينامون نومًا هادئًا مطمئنًّا ليستقبلوا يومًا راضيًا سعيدًا.
وكان الشيخ مصدر هذا كله؛ فقد عاد من القاهرة في هذا العام كما تعود أن يعود من أسفاره، فاحتجب عن أصحابه ثلاثة أيام. ثم ظهر لهم في اليوم الرابع، فقال لهم وسمع منهم، ولكنه قال لهم أثناء السمر: قد أظلنا شهر الصوم. ثم التفت إلى خالد وقال ضاحكًا: وما أرى قاضيك إلا سيأمرنا بالصوم بعد غد. ثم أطرق ساعة ورفع رأسه وقال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يومًا. وما أرى أنه سيغم علينا غدًا، وما أرى أننا سنكمل شعبان ثلاثين يومًا. سنصوم بعد غد إذًا، فأذنوا في الناس، وليبلغ القريب منكم البعيد في المدينة أن من شاء أن يكرمني فهو ضيفي أثناء الصوم كله. فلما سمع جلساء الشيخ حديثه هذا وجموا له شيئًا كأنهم يعجبون لِما سمعوا، وينكرون هذه الدعوة العامة.
ولكن الشيخ قال في تؤدة وهدوء: إن الذين صحبوني منكم إلى القاهرة يعلمون أن يديَّ لم تمتلئا قط بالخير والنعمة كما امتلأتا في هذه الرحلة. والذين لم يصحبوني إلى القاهرة قد رأوا من غير شك هذه السفن الكثيرة الموقرة التي ألقت مراسيها على الشاطئ وأرسلت إلي ما كانت تحمل من أنواع الهدايا وضروب البر. ولست أدري ماذا أصاب الناس في هذا العام؛ فقد مرضوا كلهم بالكرم، وحرصوا كلهم على أن يعطونا مما أعطاهم الله، فاجتمع لنا من ذلك ما لا نستطيع أن نستنفده إلا أن يشاركنا الناس فيه، وإنما هو مال الله، فيجب أن يرد إلى الله. وهم بعضهم أن يتكلم، فابتدره الشيخ قائلًا: هون عليك! فإنا لم نكن ننتظر هذا الخير لنكفل لإبراهيم بعدنا حياة راضية، وإبراهيم بعد خليفتي فيكم، وأنتم أوصيائي عليه. هنالك ارتج مجلس الشيخ وضج الناس بالبكاء، والشيخ ينظر إليهم باسمًا ويتلو السورة الكريمة: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا. ثم يقول بعد إطراقة خفيفة: لقد رأيت رسول الله ﷺ في المنام، وقد قال الغزالي إن النبي لا يُرى في المنام. والله ما هكذا كان الأمل فيك يا غزالي! لقد رأيته بعيني رأسي هذا راكبًا بغلته. وسمعته يتلو هذه السورة في صوت ما سمعت قط صوتًا يشبهه حلاوة وعذوبة. فلما أفقت من نومي ذكرت أن الله عز وجل نعى إلى سيد الخلق نفسه حين أنزل عليه هذه السورة، فأوَّلتُ رؤياي هذه كما أوَّلَ سيد الخلق نزول السورة عليه. ثم سكت وأطرق، وسكت القوم مثله وأطرقوا كأن على رءوسهم الطير، ثم رفع رأسه قائلًا: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. صدق الله العظيم.
فلما كان الغد امتلأت المدينة وما يليها من القرى والضياع بأن الناس جميعًا ضيف الشيخ أثناء شهر الصوم. واستجاب الناس جميعًا لدعوة الشيخ. فأما أغنياؤهم فكانوا يبتغون البركة والكرامة ويؤثرون رضا الشيخ، وأما فقراؤهم وذوو الحاجة منهم فكانوا يؤثرون البركة والكرامة ويؤثرون إرضاء حاجاتهم أيضًا. ويقول بعضهم لبعض: إن بركة الشيخ لشاملة، سنصوم هذا العام دون أن نشقى بالعمل أثناء الصوم، ودون أن ننتظر معونة تأتي أو لا تأتي من القادرين.
وكان الشيخ وخاصته يتتبعون أصحاب الأسر من أوساط الناس وفقرائهم فيكرمونهم في بيوتهم لا تنقطع عنهم مئونة الشيخ، تأتيهم مصبحين وممسين. ولولا أن الباشا كان من أتباع الشيخ ومريديه والمؤمنين له المطمئنين إليه لشكَّ في هذا الكرم، ولأشفق من عواقبه على السلطان. ولكن الباشا نفسه كان من أسرع الناس استجابة لدعوة الشيخ وأكثرهم ترددًا على مائدته. ولم يهمل أن يدعو الشيخ إلى قصره مرتين، ولم يهمل الشيخ أن يستجيب لهذه الدعوة كما تعود أن يفعل، وأن يستكثر من الأصحاب والأتباع، ويقول للباشا: فأما وقد دعوتني فسأرزؤك في مالك رزءًا عظيمًا. ولم يكن الشيخ يهمل أن يزور الأغنياء من أهل المدينة، ويستجيب لهم إذا دعوه، فيفطر على موائدهم ويصلي عندهم العشاء والتراويح، ويسمع لقرائهم. وكان الشيخ قد دعا قراء المدينة جميعًا ليقرءوا في داره وفي دور أصحابه، حتى لم يدع منهم قارئًا حسن الصوت إلا ضمن له تلاوة القرآن أثناء شهر الصوم، وحتى احتاج إلى أن يدعو قراء من المدن القريبة يقرءون عنده. ولم يدع أثناء هذا الشهر أحدًا من أصحابه إلا اختصه بشيء من حديث.
وفي ذات ليلة كان يتحدث بين سورتين من سور القرآن، والخدم يطوفون بقهوة البن والقرفة على جلسائه، وإذا هو يقطع حديثه فجاة وينظر إلى اثنين من أصحابه كانا يتحدثان، أحدهما علي أبو خالد، والآخر رجل من أصفياء الشيخ ومن أغنياء الريف القريب يقال له الحاج مسعود. نظر إليهما نظرة نافذة قطعت حديثهما وردَّتهما إلى الصمت، وقال لهما: فيم تتحدثان؟ فهمَّ علي أن يجيب، ولكن الشيخ لم يمكنه من الجواب، وإنما قال: استمع لي يا مسعود! احذر صديقك عليًّا هذا، إنه يدور حولك لتزوجه إحدى بناتك؛ فلا تفعل فإنه مزواج مطلاق، ولكن عليك بابنه خالد؛ فإن فيه البركة وعنده الخير، وما أرى إلا أنه سيصهر إليك وسيخطب صغرى بناتك. إني ما زلت أذكرها، إنها لخيرة مباركة، فإن فعل فلا ترده خائبًا، وإن لم يتح لي أن أزوجهما فسيزوجهما ابني إبراهيم. فأما علي فبهت وضحك ضحكًا سخيفًا. وأما الحاج مسعود فنهض من فوره وسعى إلى الشيخ فقبل يده وبللها بدموعه، وكان رجلًا رقيق القلب بَكَّاء، وقال في صوت تقطعه العبرة: بل يبقيك الله ويطيل عمرك يا سيدنا وتزوج سائر بناتي كما زوجتَ من تزوجتْ منهن. قال الشيخ وهو يضحك: يا غلام! قهوة سوداء للحاج مسعود، فما يرقئ عبرته هذه إلا القهوة السوداء. اجلس يا مسعود، بارك الله عليك وبارك لك في بناتك وفي ذريتك، ثم استأنف حديثه من حيث قطعه وجلساؤه يرون ويسمعون ويعجبون ويقول بعضهم لبعض: لقد نالها الحاج مسعود! من يعدل الحاج مسعود! ليتني مسعود!
على أن شهر الصوم لم ينتهِ دون أن يحمل إلى الشيخ وإلى أصحابه نبأ محزنًا؛ فقد جاءهم من القاهرة نعي عبد الرحمن قبل أن ينقضي الشهر بثلاثة أيام. فلما أقبل علي يحمل النبأ إلى الشيخ بكى واسترجع وقال: تبارك الله! لقد كنت أظن أني سأسبقه فقد سبقني. ثم سكت لحظة واستأنف حديثه فقال لعليٍّ وابنه خالد: فإنكما تذكران ما أعطيت عنكما من العهد. قالا: نعم. قال: فاذهبا إلى القاهرة فأديا الواجب، وضما إليكما نفيسة وابنتيها وأمها. ثم التفت إلى علي وقال له كالساخر منه الراثي له: ولا تنتظر مالًا يا عليُّ فقد أتينا على مال عبد الرحمن كله حين زرناه، وانصرف الآن فإن لي مع خالد حديثًا لا أحب أن تسمعه ولا أن ينبئك به. قال علي وهو ينتحب: فإنك ساخط علَيَّ يا سيدنا؟ قال الشيخ: أعوذ بالله من ذلك! وإنما أريد أن أتحدث إلى خالد حديثًا لا ينبغي أن يعلمه غيره، انصرف مصاحبًا. قال عليٌّ: سأنصرف طاعة لأمرك، ولكني لست راضيًا. قال الشيخ: سترضى. وخرج علي متثاقلًا كالخزيان. فلما خلا الشيخ إلى خالد، قال له: ستكون برًّا بنفيسة وأمها يا بني. قال خالد: فقد أعطيت على ذلك عهد الله يا سيدنا، وأنا أجدده. قال الشيخ: وأول البر بها أن تطلقها. فوجم خالد لهذا القول، ولكن الشيخ مضى يقول: إنها لا تصلح لك زوجًا، ولا تصلح زوجًا لأحد، وما ينبغي لها أن تحمل ولا أن تلد، فطلقها فتحسن إليها وإلى نفسك. إنك ستتزوج، وستتزوج من بنت مسعود، وستتزوجها بعد عام أو عامين، لأنها لم تبلغ طور الزواج بعد. فإذا تزوجتها فلا تفرض عليها ضرة، فإنها لن تحتمل الضرائر، ولا تمسك نفيسة في هذا الزواج العقيم، ولا تكلف نفسك عدلًا لا تطيقه وقلما يطيقه الناس. طلق نفيسة يا بنيَّ واضممها مع ذلك إلى أهلك، وسر معها سيرتك مع أختك، واستقبل حياتك مباركًا موفورًا. وترحم علَيَّ كلما أصابك خير، واستغفر لي كلما امتحنتك الأيام بما تكره فإني لم آلُكَ نُصْحًا. ثم مسح رأسه وقبل بين عينيه وقال: انصرف راشدًا، فسنصلي ونقيم الذكر، وسنذكركم في صلاتنا ودعائنا، وسنستنزل رحمة الله على عبد الرحمن.
وأتمت المدينة شهر الصوم كما بدأته سعيدة راضية، واستقبلت عيد الفطر هانئة ناعمة، ولكنها ارتجت وارتج معها الإقليم كله في اليوم الثالث من أيام العيد؛ فقد صلى الشيخ بأصحابه المغرب، حتى إذا أتم الركعة الثالثة وجلس للتشهد لم يَرُعِ الناس إلا أن رأوه يكب على وجهه قبل السلام، فيسرعون إليه فإذا هو قد صار إلى رضوان الله. ومنذ ذلك الوقت لم يشك أحد من أهل المدينة ولا من أهل الإقليم في أن الله قد آثر الشيخ بهذه الكرامة، فنقله إلى جواره أثناء الصلاة، وأقره في جنته بين الصديقين والشهداء.