الفصل الثالث عشر
صلى إبراهيم بأصحابه العشاء وسمع معهم القرآن وأقام لهم حلقة الذكر. فلما هم الناس أن يتفرقوا استبقى أصفياء أبيه، حتى إذا خلا لهم المجلس قال لهم في صوته الهادئ: تعلمون أن الشيخ رحمه الله كان قد أزمع الحج من عامه هذا، وكان عليه حريصًا يريد أن يتم الحجة السابعة، ولكن الله آثره برحمته قبل أن يبلغه هذه الأمنية. وقد استخرت الله ورأيت أن أتم له ما لم يتح له، فأنا مستعد للحج إذا كان الغد، وواهب ثواب هذه الحجة إن أثابني الله عليها للشيخ. فمن أراد منكم أن يحج معنا فليتجهز من غده، ومن كان ذا عيلة فإن علينا نفقته؛ فقد ترك الشيخ لنا خيرًا كثيرًا. ثم أطرق إطراقة ورفع رأسه وقال: وتحدثوا بذلك إلى من شئتم من أصحابكم والذين يلونكم؛ فإني لا أكره أن يكثر الحج على اسم الشيخ، وأن أعين على أداء هذه الفريضة من عجز عن أدائها. فماذا ترون؟ قالوا كلهم: إنما رأيت رشدًا، وقد خار الله لك فيما ألهمك، وكلنا متجهز للحج من غده، وكلنا واهب ثوابه للشيخ إن أثابه الله.
وكان أسرعهم إلى الجواب مسعودًا؛ فقد حج مع الشيخ ست مرات، وكان مزمعًا أن يحج معه السابعة، فلما توفي الشيخ فترت همته عن النفير. وها هو ذا يسمع ابن الشيخ يستأنف حديث الحج، فلا تسل عما ملأ قلبه من رضا وما شاع في نفسه من حبور. ولكن الدموع كانت تترجم دائمًا عن سروره وحبوره، كما كانت تترجم دائمًا عن خشيته لله وخوفه منه، وكما كانت تترجم دائمًا عن تأثر قلبه حين كان يسمع صوتًا حسنًا يتلو القرآن أو يغني في الحلقة بشعر ابن الفارض. فأما خطوب الدهر وأحداث الدنيا وهذه المصائب التي تُلم بالناس فتفزعهم وتروعهم فقد كان يلقاها بقلب جلد ونفس ثابتة وعين شديدة البخل بالدمع. ولم يكن يبكي لأمر من أمور الدنيا إلا أن يُرزأ في ولد أو صديق، فتزرف عيناه دموعًا غزارًا وقتًا قصيرًا، كأنهما السحابة، لا تكاد تجود ببعض مائها حتى تُقلع، وإذا هو يتوب إلى الله ويستغفره، ويلوم نفسه لأنها بكت على أمر من أمور الدنيا، وليس في أمور الدنيا ما يستحق البكاء. على أن عبرته لم تكد ترقأ منذ توفي الشيخ؛ وأكبر الظن أنه لم يكن يرى في وفاة الشيخ خطبًا من خطوب الدنيا، وإنما كان يرى فيه خطبًا عظيمًا من خطوب الدين؛ فقد كان الشيخ رحمه الله مثلًا رائعًا للتقوى والورع، وداعيًا صادقًا إلى الله ورسوله، لا يكاد يدعو حتى تهرع إليه القلوب وتُذعن له النفوس، ولا ينصرف المستمعون له إلا وقد زاد مؤمنهم إيمانًا، وأقلع جاحدهم عن جحوده، وهمَّ مقصِّرهم في ذات الدين أن يستدرك ما فات إن استطاع، وأن يستأنف حياة فيها رشاد وخير.
وكان الحاج مسعود مشفقًا أشد الإشفاق أن يَقْصُر إبراهيم عن غاية أبيه؛ فقد كان يرى منه في حياة الشيخ فتورًا ونفورًا وإقلالًا من التردد على مجالس الشيخ وحلقات الذكر. وكان يحدث نفسه في كثير من التردد والخوف بأن إبراهيم قد أطال المقام في القاهرة، والاختلاف إلى الأزهر، والاتصال بشيوخه. ولم يكن مسعود ينفر من شيء نفوره من الأزهر وشيوخه؛ فقد سمع منهم وتحدث إليهم، ورأى فيهم ميلًا إلى التأويل وإقبالًا على التكلف، وربما رأى من بعضهم ازورارًا عن الشيخ؛ فكان هذا كله يسيء ظنه في الأزهر والأزهريين، ويملأ نفسه إشفاقًا على إبراهيم من لزومه لحلقات الدرس واستماعه لهؤلاء الشيوخ الأعلام. وقد اجترأ مرة على الشيخ فقال له في لهجته القروية التي لم تكن تخلو من عنف حلو: ألا تنبئني فيم ترسل ابنك إلى القاهرة ليطلب العلم في الأزهر وعلماء الأزهر يتكلفون الرحلة إليك ليأخذوا قليلًا من علمك، ومنهم هؤلاء الثلاثة الذين يلزمونك منذ أعوام لا يفارقونك، والذين تشتد عليهم في تأديبك لهم، وتأخذهم بالعنف أكثر مما تأخذهم بالرفق وهم راضون بذلك متهالكون عليه؟! فهلا أمسكت ابنك وعلمته مما علمك الله وأدبته كما تُؤدب هؤلاء النفر، وأعددته لخلافتك في أصحابك كما أعدك شيحنا لخلافته فينا؛ وهنا تحطم صوته وانهلت دموعه. فرحمه الشيخ وقال ضاحكًا: ما أنت وذاك يا مسعود؟ أتراني كنت ابنًا للشيخ؟ قال مسعود: لا. قال الشيخ: أترى أن قد كان لشيخنا أبناء؟ قال مسعود: نعم. قال الشيخ: ومع ذلك فقد صرف خلافته عن أبنائه وآثرني بها، فما يدريك أن ابني سيكون خليقتي فيكم؟ وهؤلاء الثلاثة الذين تتحدث عنهم لقد وعوا علم الأزهر كله، ثم جاءوا يطلبون ما عندي من العلم، فدع إبراهيم يحفظ من علم الأزهر مثل ما حفظوا، ولك علي أن أكون بتعليمه هنا حفيًّا، وأن أَعْنُفَ به في التأديب كما أعنف بهؤلاء النفر إن رأيت فيه صلاحًا لذلك الأمر وقدرة على النهوض به. فلما رأى مسعود أن إبراهيم لم يكد يتم الأسبوع الأول بعد وفاة أبيه حتى فكر في الحج ودعا إليه، ولم يفكر في الحج لنفسه، وإنما يفكر في الحج لأبيه، رضيت نفسه واطمأن قلبه وسالت دموعه على لحيته غزارًا. وابتسم الشيخ الشاب له كما كان يبتسم له أبوه من قبل، وقال: كفكف دمعك يا مسعود، ألا يُمكن أن تُنفق ساعة لا تذرف فيها دمعًا، ثم التفت إلى رجل من أصفيائه كان في آخر المجلس لم يُظهر نشاطًا شديدًا للحج، وإنما أجاب كما أجاب الناس، ولم يكن هذا الرجل إلا عليًّا، التفت إليه إبراهيم وقال: أما أنت يا علي فمتخلف عنا. قال عليٌّ: وكيف ذاك؟ أتأمرني بالتخلف؟ قال الشيخ الشاب: لا آمرك به، ولكن أنبئك بما سيكون من أمرك، ستهم كما يهم غيرك حتى نرى أنك مسافر معنا، ثم نفتقدك فلا نراك، ثم تعتذر إلينا إذا انقلبنا؛ لأنك قد شُغلت بمالك وأهلك. فإن استطعت أن تعتذر منذ الآن فافعل، ولا تكلف نفسك مشقة لا تغني، ثم تضاحك وقال: إنك حديث عهد بزواج. وكاد علي يغضب ولكن كيف يكون الغضب على الشيخ، إنما يغضب الشيوخ على مريديهم. وقد كظم علي شيئًا في نفسه وانصرف مترددًا لا يدري أيُقدم على الحج أم يحجم عنه.
ولم يكن الشيخ مخطئًا فيما قدَّر من أمر عليٍّ، فقد كان حديث عهد بالزواج، يتزوج للمرة الثامنة بعد أن طلق من نسائه من طلق. وكانت عرسه في هذه المرة فتاة لم تبلغ العشرين، وكان بها مفتونًا وبحبها متيمًا. فكأن الذي أغراه بهذا الزواج هو شيخه رحمه الله حين عبث به ذات ليلة، وقال لمسعود: إنه سيخطب إليك إحدى بناتك، فلا تزوجه إن فعل، وعليك بابنه خالد، فإن فيه بركة وخيرًا؛ هنالك ضحك علي ضحكًا سخيفًا وانصرف وفي نفسه شيء، ولكنه لم ينقطع عن التفكير في أن يتخذ لنفسه زوجًا شابة. ألم يكن قد طلَّق زينب، ولم يمسك في داره إلا خديجة ومحبوبة، وذكرى أم خالد؛ فله الحق في زوج رابعة. وقد بحث عن زوج رابعة، فما أسرع ما اهتدى إليها عند بعض عملائه من تجار المدينة، وكان رجلًا متواضعًا ضئيل التجارة. فلمَّا سعى إليه علي ذو المكانة والجاه خاطبًا ابنته «هناء»، رأى في ذلك شيئًا من الشرف وارتفاع القدر، فقبل خطبته راضيًا، وزوَّجه مغتبطًا، ولم يفكر في أنه يهدي هذه الفتاة التي لم تبلغ العشرين إلى شيخ قد ناهز الستين.
على أن «هناء» لم تلبث أن استأثرت بعقل الشيخ وقلبه، وتحكَّمت فيه تحكمًا لم يعرفه قط من إحدى نسائه، وكادت تَصرفه عما فرض على نفسه من العدل بين أزواجه لولا أنَّه أخذ نفسه بالعنف واشترى رضا «هناء» عن هذا العدل بكثير من الهدايا والمنح، فأحفظ ذلك زوجيه الأخريين، وجعل منزله جحيمًا، ولكنه احتمل هذا الجحيم، وكان خليقًا أن يحتمل أضعافه في سبيل «هناء».
ويجب أن نعترف بأن «هناء» على سحرها وطغيانها لم تستطع أن تغير من سيرة علي مع ذكرى أم خالد قليلًا ولا كثيرًا. ولولا ما كان من موت عبد الرحمن وسفر علي إلى القاهرة مع ابنه خالد، ثم ما كان من موت الشيخ فجأة لتحدث علي إلى الشيخ بهذا الزواج، أو لتندر الشيخ على علي في شأن هذا الزواج. وهذا الشيخ الشاب يعبث بعليٍّ على هذا النحو، فيُثير في نفسه شيئًا يريد أن يكون غضبًا، ولكنه يستحي أن يسمي نفسه بهذا الاسم، فلنسمه نحن فتورًا. وكان فتورًا ثقيلًا حقًّا؛ فقد أصبح علي وقد صمَّم على ألا يتجهز للحج، فهو مشغول بأهله حقًّا. ألم يتزوج منذ أسابيع؛ فما تركه لامرأته أشهرًا! وإلام يصير الأمر بين أزواجه إذا تركهن؟ وهو مشغول بماله، فتجارته متأخرة كما رأيت. وقد صدق الشيخ حين قال له: لا تنتظر أن يترك لك عبد الرحمن مالًا. فلم يترك عبد الرحمن مالًا، وإنما ترك أربع نسمات قد نُقلن إلى المدينة ليعشن في كنف علي وابنه خالد. وسيحتجن إلى نفقة من غير شك، وستزداد أعباؤه ثقلًا، فلا بد من أن يعمل، ويعنى بتجارته لينهض بهذه الأعباء. وليس من شك في أن خالدًا يعينه على بعض أمره منذ أصبح موظفًا. ولكن أين تقع معونة خالد من هذه البطون التي لا تمتلئ والأفواه التي لا تشبع، ومن هذه الدار التي كان يشبِّهها علي بجرة لا قعر لها، فلا سبيل إلى أن تمتلئ؛ وأمسى علي من يومه ذاك، فصلى مع الشيخ، وشهد معه حلقة الذكر.
فلما تفرق الناس أقبل على الشيخ مستخذيًا وهو يقول: لقد أنبأتني بالحق أمس يا سيدنا. قال الشيخ: ألم أقل لك إنك لن تستطيع أن تنفر معنا؟! فأصلح من أمرك وانصح لأهلك ومالك، وأقم على طاعة الله وابتغاء مرضاته، وفكر في أنك لم تؤد فريضة الحج بعد، وفي أنَّ من الحق عليك أن تؤديها. وإني لأرجو إن أتاح لي الله حياة أن أحج لنفسي من قابل، فاجتهد في أن تصحبني في هذه الحجة. وخرج عليٌّ راضيًا كل الرضا؛ فقد قبل الشيخ عذره من غير مشقَّة، وفتح له بابًا واسعًا من أبواب الأمل؛ فليصلحنَّ من أمره، وليحسننَّ تدبير ماله، وليحجنَّ مع الشيخ في العام المقبل، بينه وبين ذلك عام كامل تهدأ فيه ثورة الحب هذه التي كادت تُفسد قلبه، وكادت تجعله عبدًا لهذه الفتاة التي تسمى «هناء». إنها لهناء كاسمها، إن وجهها لجميل مشرق، وإن لها لقوامًا معتدلًا. وإنها لتُحسن العناية به والحنو عليه، وإنها لتلقاه بابتسام حلو شابٍّ لم يعهده عند غيرها من النساء، وإن صوتها ليقع من قلبه موقعًا عذبًا كأنه قطرات الندى. ويروح على «هناء»، فإذا دخل وجدها ساهرة تنتظره، ولكنه لا يلتفت إليها ولا يُلقي إليها حديثًا، وإنما يستقبل القبلة فيركع ركعتيه، ويتمتم بدعائه القصير، ويأوي إلى فراشه وهو يتلو آية الكرسي، ثم يبتسم لزوجه ويقول: لقد كدنا يا هناء أن نفترق أشهرًا، ولكن الشيخ أذن لي في أن أؤجل الحج عامًا.