الفصل الرابع عشر
وعاد علي وخالد بنفيسة وابنتيها من القاهرة بعد أن نظما ما كان قد ترك عبد الرحمن من اضطراب قليل، وأديَّا من ماله ما أعجله الموت عن أدائه من الدَّين. ونظرا فإذا هاتان المرأتان لم تَرِثا عن عبد الرحمن إلا داره الفخمة هذه، ودنانير يمكن أن تُحصى في غير مشقة ولا جهد، وقد تحدث علي في أن يبيع هذه الدار، فبكت نفيسة ولم تقل شيئًا، وقالت أمها: لو عاش عبد الرحمن ما بيعت الدار، فأعرض علي عن هذا الرأي. وتحدث من الغد عن تأجير الدار، فبكت نفيسة، وقالت أمها: وترضى أن يسكن هذه الدار غير عبد الرحمن؟! وأين تنزل وينزل خالد حين تأتيان إلى القاهرة؟! وأين ننزل نحن إن أتيحت لنا العودة إلى القاهرة؟! ثم التفتت إلى خالد وقالت: فستأذن لنا بأن نأتي إلى القاهرة لنزور قبر عبد الرحمن؟ قال عليٌّ: سنأتي إلى القاهرة جميعًا لنزور قبر عبد الرحمن. ثم أعرض عن تأجير الدار. وتهيَّأ القوم للسفر، وأُغلقت الدار. وجعلت أم نفيسة والعربة تمضي بها تلتفت وتُطيل النظر إلى دارها لا تقول شيئًا، حتى إذا انعطفت بها العربة في بعض الطريق، ولم تبق سبيل إلى رؤية الدار، اعتدلت المرأة في مجلسها، وقالت لخالد: فأين مفتاح الدار؟ فإني أحب ألا يفارقني. هنالك دفع إليها خالد مفتاحها وإنَّ شفتيه لتبتسمان وإنَّ قلبه ليتقطع حزنًا.
وقد أقرَّ علي هاتين المرأتين وهاتين الصبيتين في جناح من داره منعزل يوشك أن يكون دارًا مستقلة، وكان حريصًا أن يقرهن في هذه الناحية ليعشن بمعزل عن هذه الضوضاء التي تمتلئ بها داره، والتي تأتي من نسائه المختصمات دائمًا، ومن بنيه وبناته الذين لم يكونوا يعرفون السكون، وقال خالد لأبيه وهما يتحدثان في ذلك: إنه لرأي صائب، سيكنَّ مستقلات أو كالمستقلات، ولن ترى نفيسة السُّلَّم فليس في هذا الجناح سُلَّم، ولن تلقى جنية البيت هذه المجرمة التي تسكن حنايا السلم وتسعى بالفساد بين الأزواج. قال ذلك وهو يضحك ضحكًا حزينًا. قال علي: وستقيم معهن. قال خالد: أما هذه فلا؛ فإن نفيسة لا تصلح لي زوجًا ولا تقدر على عشرتي. ألم ترَ إليها تحتجب من دوني؟! إنها لا تكاد تعلم بمقدمي حتى تُلقي على رأسها ووجهها ما يسترهما، وإنها لا تتحدث إلي إلا همسًا ومن طَرْفِ لسانها، وإني لأوجه القول إليها فلا تملك أن تجيبني، وما أكثر ما تجيبني عنها أمها وابنتاها، وسأزورهن بين حين وحين، وسأنهض بما لهن عَلَيَّ من حق حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
وكذلك أقام هؤلاء النسوة في طرف من أطراف الدار، لا يكدن يسعين إلى أهلها، ولا يكاد أحد من أهلها يسعى إليهن، وكانت لأم خالد أمة سوداء قد أعتقها القانون، ولكنها ظلت وفية لمولاتها، فلما ماتت وفت لسيدها خالد ووفى لها خالد، فكانت تقوم على العناية به والإصلاح من أمره، ولم يكن خالد يألف من هذه الدار الواسعة وبين هذه الأسرة الضخمة إلا شخصين اثنين هما: أبوه — ولم يكن يلقاه إلا قليلًا — ومولاته نسيم، وكانت تتلقاه مصبحة بما يحتاج إليه، وتتلقاه ممسية بما يحتاج إليه، وتعكف على نفسها بين ذلك في الدار لا تحفل بأحد ولا يحفل بها أحد. فلمَّا حُمل هؤلاء النسوة من القاهرة وأُقررن في طرف من أطراف الدار، قال خالد لنسيم: إن كنت تحبينني، وإن كانت في نفسك بقية من الحب لمولاتك، فقومي على العناية بهؤلاء النسوة وامنحيهن من حبك وبرك مثل ما تمنحينني، ولا تشغلي نفسك بي فإني أحسن تدبير أمري. قالت نسيم وهي تضحك: تحسن تدبيرك أمرك — وكانت تنطق الحاء هاء — وأنت لا تحسن أن تجد ثيابك ولا أن تلبسها إلا أن تهيئها لك نسيم؛ تحسن تدبير أمرك! ومن يقدم إليك القهوة؟! ومن يقدم إليك غداءك وعشاءك؟! ثم ضحكت له بوجه كأنه وجه القرد، ولكنه على ذلك كان جميلًا في عين خالد، يُجمِّله ما كان يغمره من حب وحنان. ضحكت له وقالت: سأخدمهن كما أخدمك، فإني كنت أقضي يومي وليلي فارغة لا أعمل شيئًا، فقد أصبح لي عمل منذ الآن.
ولم تكد نفيسة تراها حتى اطمأنت إليها، ووثقت بها الصبيتان وأحبتهما هي أشد الحب، فما أكثر ما تمنت أن يكون لها ولد تُعنى به، فقد أرسل الله إليها ابنتين تُعنى بهما.
ثم يعود الشيخ من حجه بعد أشهر، ويهرع أهل المدينة وأهل الإقليم إلى لقائه مقبلًا، وإلى زيارته وتحيته بعد أن استقرت به الدار. ويسعى علي إليه فيمن يسعى، فيلقاه الشيخ أحسن لقاء، ويدفع إليه سبحة ضخمة الحبات وهو يقول له: لقد ذكرتك في مكة واستغفرت لك، وسألت الله لك عفوًا وعافية في المسجد الشريف، وأنا أُهدي إليك هذه السبحة على شرط ألا تفارقك عن إرادة منك، وعلى شرط أن تُدير ذكر الله عليها مرة في كل يوم وتهب ثواب هذا الذكر لوالدي رحمه الله. فيكبُّ عليٌّ على يد الشيخ لثمًا وتقبيلًا، ويأخذ السبحة فيقبلها مرة ومرة، وأصحاب الشيخ ينظرون إليه ويقول بعضهم لبعض همسًا: لو قال الشيخ هذه المقالة للحاج مسعود لأجهش بالبكاء، ولكن انظروا إلى علي ما أقسى قلبه! إن وجهه ليبسم كأن الشيخ يداعبه.
ويقبل خالد لزيارة الشيخ فيمن أقبل، فيلقاه الشيخ لقاء حسنًا ويمنحه يده ليقبلها، ثم يقول له: إذا فرغنا من هذه الزيارات فالقني فإن لي معك حديثًا. ويسعى خالد إلى الشيخ بعد أيام، فإذا رآه الشيخ أدناه واستبقاه، حتى إذا خلا إليه قال له: ألم أعلم أن أبي كان قد خطب لك بنت الحاج مسعود؟ قال خالد: بلى. قال الشيخ: فأين أنت من هذه الخطبة؟ قال خالد في شيء من استحياء: فإن الحول لم يحل على موت عبد الرحمن. قال الشيخ: وصلتك رحمٌ يا بني وبارك الله عليك! ولكن لنقرأ الفاتحة فأمَّا الزواج وزفاف أهلك إليك فاضرب لهما ما شئت من موعد، و«مُنَى» ما زالت بعد صبية. ثم صفق بيديه، فلما أقبل الخادم قال له الشيخ: ادع لي الحاج مسعودًا. وأقبل الحاج مسعود، فاستدناه الشيخ حتى أجلسه على يمينه على كره منه، فقد كان الحاج مسعود يحرص دائمًا على أن يقوم بين يدي شيخه الكبير ثم بين يدي شيخه الصغير، لا يجلس إلا مأمورًا، فلما استدناه الشيخ وأجلسه عن يمينه استعظم ذلك وأخذت دموعه تسيل. قال الشيخ: أما ترحمنا من دموعك هذه آخر الدهر! كفكفها ولو ساعة، ابسط يدك فقد أَنَى لنا أن ننفذ وصية الشيخ. ثم بَسَطَ الحاج مسعود يده وبَسَطَ الشيخ يده فتصافحا، وقرأ الفاتحة الثلاثة وإن الحاج مسعودًا لينتحب بقراءته انتحابًا.