الفصل الخامس عشر
وكان الحاج مسعود نادرة في عصره وبيئته. كان رجلًا أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع ذلك يحفظ القرآن كأحسن ما تكون التلاوة، لولا أن تلاوته هذه كانت تضطرب أحيانًا، وربما انقطعت بهذا البكاء الذي كان يغلبه كلما قرأ آية فيها نذير أو تبشير، وكان أبوه الحاج عمران أميًّا مثله، أو قل إنه كان أميًّا كأبيه الحاج عمران، وكانت الأمية مذهبًا لهذا الشيخ من شيوخ الريف المصري؛ فقد أبى أن يرسل ابنه إلى الكتاب؛ لأن أباه لم يرسله إلى الكتاب، وكان يقول: ينبغي أن ندع القراءة والكتابة والحساب لهؤلاء الأقباط الذي يُغنون عنا بها في كل ما نحتاج إليه. علينا أن نتجر ونُثمر المال إن كنا من أصحاب التجارة، وأن نزرع ونستثمر الأرض إن كنَّا من أصحاب الزرع، وأن ننهب ونملأ الأرض فسادًا إن لم نكن من أولئك ولا هؤلاء، فإن احتجنا إلى شيء من قراءة أو كتابة أو حساب فأهون هؤلاء الأقباط يكفينا مئونة ذلك.
وكان يشير إلى شيخ يكاد يماثله في السن ويقول: انظروا إلى هذا المعلم مرقص؛ لقد رأيته يكتب لأبي، وهو قد كتب لي حتى أخذ يضعف كما أضعف، ولكنه علم ابنه بطرس الكتابة والحساب ليقوم مقامه إن عجز عن العمل، كما علمت ابني مسعودًا التجارة في غلات الأرض ليقوم مقامي حين تقعدني السن عمَّا أسعى فيه الآن من البيع والشراء، وكان الناس ربما ذكروا له أنه مسلم غني، وأن من الحق عليه أن يُقرئ ابنه شيئًا من القرآن ويعلمه شيئًا من العلم؛ فإن ما يقضي بالجهل على الفقراء هو الأمية، فكان ذلك يُضحكه ويُحفظه في وقت واحد: كان يضحك لأنه رأى أباه يحفظ من القرآن ما يُجزئ عنه في صلاته، وقد حفظ هو من القرآن ما يُجزئ عنه في صلاته أيضًا، وعلمه ابنه فحفظه؛ وآية ذلك أنه يُصلي ويجهر بالقراءة حينًا ويخافت بها حينًا آخر، لا يأخذ عليه أحدٌ خطأً فيما يقرأ، وأنَّ ابنه يُصلي ويقرأ القرآن في صلاته، فلا يُخطئ فيما يقرأ منه، والله لم يأمر المسلمين بأن يحفظوا القرآن كله، ولا بأن يقرءوه كله، وإنِّما أمرهم أن يقرءوا ما تيسَّر منه؛ فأمَّا حفظه كله وقراءته كله، فيكفي أن ينهض بهما الذين تفقهوا في الدِّين؛ وكان يغتاظ حين يرى الزراية على الأمية والغض من الأميين، كان يرى في ذلك شيئًا من الإثم؛ لأنَّ النبي ﷺ كان أميًّا، ولأن العرب كانوا أميين، لم يُعابوا بذلك، ولم يغضَّ ذلك من قدرهم قليلًا ولا كثيرًا، ولم يكن يغني شيئًا أن يُقال للحاج عمران إنه ليس النبي، ولا شيئًا يشبه النبي من بعدُ، فإذا كانت أمية النبي آية له، فأميَّة الحاج عمران نقص فيه، وإنَّ العرب لم يُفاخروا قط بأميتهم، وإنما جاء النبي ليُخرجهم من هذه الأمية. لم يكن من المُفيد أن يُقال شيء من ذلك للحاج عمران؛ فإنَّه لم يكن يسمع له أو يلتفت إليه، وإنما استقرت هذه الآراء في نفسه لا تبرحها، وأقفل الأفق بينه وبين ما وراء هذه الآراء من المعاني والحقائق، فهو لا يتجاوزه ولا يعدوه، وكان ابنه مسعود يرى رأيه ويسير سيرته في كل شيء: جهلٌ بالقراءة والكتاب، ومفاخرة بهذا الجهل، وبراعة في التجارة وتزيدٌ في هذه البراعة، وانصراف عن الشر ما وسعه الانصراف عن الشر، وإيثار للخير والمعروف ما أطاق إيثار الخير والمعروف.
ولكن الله أتاح لمسعود ما لم يتح للحاج عمران، فوصل أسبابه بأسباب الشيخ حين ارتحل الشيخ لأداء حجته الأولى، فكان مسعود ممن سافروا مع الشيخ وأدوا معه الفريضة، وقد ألقى الله في نفسه حب الشيخ، فكان يلزمه أثناء السفر ويتطوع لخدمته، يضايق بذلك خاصة الشيخ وأصفياءه، ولكن الشيخ كان يرضى ذلك منه ويشكره له، ويسأل عنه إذا غاب، ويستدنيه إذا حضر، فإذا عادت القافلة إلى وطنها كان الحاج مسعود من خاصة الشيخ والممتازين بين ذوي مودته، ومنذ ذلك الوقت لم يُفارق الحاج مسعود شيخه في سفر ولا في إقامة، ولم يتخلف عن مجلس من مجالسه، ولم يتعمد التخلف عن الصلاة التي كان يقيمها الشيخ، إنما كان يُكره على ذلك إكراهًا في بعض الأحيان، فيؤدي الصلاة كما يستطيع وفي نفسه شيء من حزن؛ لأنه لم يؤدِّها مع الشيخ، وكان الله قد منحه ذاكرةً قوية رائعةً، فلم يكن يسمع شيئًا إلا حفظه، ولم يكن يتحدث إليه بشيء إلا وعاه، وهو من أجل ذلك قد حفظ القرآن كله لكثرة ما كان يستمع لتلاوة القرآن، وحفظ كثيرًا من الحديث لكثرة ما كان يستمع إلى الشيخ وهو يروي الحديث، وحفظ كل ما كان الشيخ يبتهل به إلى ربه من دعاء، بل حفظ أكثر من ذلك: حفظ أطرافًا من علوم الدين ومن الفقه والتصوف والكلام خاصة، لكثرة ما سمع الشيخ يتحدث في هذه الألوان من العلم إلى الذين كانوا يفِدُون عليه ويقيمون عنده من علماء القاهرة، وعرف الشيخ منه ذلك فأكبره، وازداد عنه رضًا وبه ثقة وإليه اطمئنانًا، ولكنه قال له ذات يوم: إنك تحفظ ما تسمع من القرآن والحديث، وإنِّي أخشى عليك أن تُعيد ما تحفظ فُتخطئ فيه، فالخير ألا تطمئن إلى حفظك حتى تُعيد ما حفظت على الذين يَعُون القرآن ويحسنون العلم؛ ذلك أحرى أن يعصمك من خطأ قد تضطر إليه، ولكنِّي لا آمن عليك عواقبه، هنالك لجأ الحاج مسعود إلى شيخ من حفاظ القرآن، فتلا عليه كتاب الله كله مرة ومرة، حتى استيقن أنه حافظ مجود، ثم لم يكن يسمع من الشيخ حديثًا يرويه عن النبي حتى ينتظر بالشيخ ساعة يخلو فيها إليه، فإذا أمكنته الفرصة قال للشيخ وعلى ثغره ابتسامة تُشرق عن مثل اللؤلؤ، وفي عينيه دموع تترقرق ولا تكاد تنهلُّ: ألست قد حدثتنا بكذا وكذا عن رسول الله ﷺ؟ فإذا قال الشيخ: بلى. قال الحاج مسعود: أواثقٌ أنت بأني قد وعيت عنك؟ فإذا قال الشيخ: نعم. قال الحاج مسعود: أفأستطيع أن أتحدث به إلى الناس؟ فإذا قال الشيخ: نعم. قال الحاج مسعود: ومع ذلك فلن أفعل إلا مضطرًّا؛ فما أنا بالمعلم، وما ينبغي إلي أن أكونه، وإنما أنا المتعلم، والمتعلم دائمًا.
وكان الحاج مسعود قد ورث عن أبيه تجارة واسعة ضخمة في غلَّات الأرض، فلم تكن أرض الإقليم تُنبت حبة إلا صارت من الحقل إلى الحاج مسعود، ثُمَّ تفرقت بعد ذلك من مخازن الحاج مسعود إلى من صيَّرها الله له رزقًا من أهل المدينة أو من أهل الإقليم، بل من أهل الأقاليم البعيدة. ولم يكن أحدٌ يمرُّ بمخازن الحاج مسعود في ساعة من النهار إلا رأى أمامها جماعات لا تكاد تُحصى من الحُمُر والإبل، هذه يُوضع عنها ما تحمل قد أقبلت به من المتاجر والحقول، وهذه تُوقر بالأحمال لتنقلها إلى المتاجر والدور ولتنقلها إلى السفن بوجه خاص، فقد كان للحاج مسعود ما يشبه أن يكون أسطولًا نهريًّا، وكانت سفنه المملوكة له والتي كان يستأجرها من غيره ما تزالُ مصعدة في النيل نحو الصعيد أو هابطة فيه نحو القاهرة، وكان الحاج مسعود مصدر رزق لخلق كثير من أهل المدينة والقرى المجاورة، فما أكثر الذين كانوا يعملون عنده بأيديهم كيلًا ووزنًا وتعبئة وسعيًا بالتجارة هنا وهناك، وما أكثر الذين كانوا يأجرونه من حُمُر وإبل لينقلوا عنه وينقلوا إليه، وكان الناس لا يرون قطارًا من الإبل يحدو به حاد، أو قافلة من الحُمُر يسوقها سائق وهو يتغنى بهذا اللفظ القروي الظريف «يا دواب يا دواب» إلا قالوا: هذه إبل الحاج مسعود أو هذه حُمُر الحاج مسعود.
وكان الحاج مسعود يسكن داره في طرف من أطراف المدينة يُوشك أن يكون قرية من قُرَاها، بل توشك الدار نفسها أن تكون قرية صغيرة من القُرَى، وكانت هذه الدار قد نمت نموًّا مطردًا، ورثها الحاج مسعود عن أبيه الحاج عمران واسعة فسيحة الأرجاء، لا تكاد ترتفع في السماء إلا قليلًا، وورث من حولها أرضًا منبسطة لا يكاد الطرف يبلغ مداها، فلمَّا رزق ابنته الأولى فاطمة خطر له أن يبني عن يمين داره الموروثة دارًا جديدة صغيرة لهذه الصبية التي لم تتم العام الأول من حياتها، وقال لامرأته وهو يضحك: إن مدَّ الله لهذه الصبية في العمر فستتزوج، وما أحب أن تنتقل إلى زوجها فتصبح غريبة عنده، وإنما أحب أن ينتقل الزوج إليها، وأن تستقبله في هذه الدار التي تملكها، فلا تحس أنها تبع له أو ثقل على أسرته. ثم رزق ابنته الثانية حفيظة، فاتخذ لها دارًا إلى جانب دار فاطمة، وقال لامرأته مثل ذلك القول، وقال للناس مثل ذلك القول، ثم رُزق بعد ذلك خديجة ومُنى، فاتخذ لهما دارَين عن شمال داره، كما اتَّخذ لأختيهما دارين عن يمينها.
ونظر ذات يوم فإذا أبْنِيَتُهُ قد كادت تستغرق ما كان يملك من الأرض في طرف المدينة، وإذا هي توشك أن تستقل عن المدينة استقلالًا، وإذا هي بناء ضخم ينبسط أمامه فناء عريض قد قامت فيه بعض الأشجار متفرقة، وامتد له عن يمين وشمال جناحان طويلان على شيء من ضخامة، فلما رأى هذا كله أعجبه واتَّخذَ من حوله سُورًا، وإذا داره أشبه شيء بالحصن ذي الأسوار المرتفعة في السماء تُفتح أبوابها مع الصبح ليخرج منها الناس والإبل والماشية، ثم تغلق إذا تقدم الليل على من لجأ إليها وما ألجئ إليها من الناس والماشية فلا غرابة في أن يفكر علي أبو خالد في أن يصهر إلى الحاج مسعود كما قدَّر الشيخ الكبير، فقد كان شرف هذا الرجل ومكانه من الشيخ وتجارته الواسعة وثروته العريضة ودوره هذه المنبثة من وراء السور كأنها الحصن، وهذا الخير الكثير الذي يغدو منها مع مطلع الفجر ويروح إليها عند مغرب الشمس.
كان هذا كله مُغريًا لعليٍّ بالإصهار إلى الحاج مسعود، فكيف وقد سمع علي أنَّ صُغرى بناته جميلة رائعة الجمال لم تبلغ الرابعة عشرة من عمرها بعد؛ وليس من البعيد أن يكون علي قد وجد في ضميره الخفي على شيخه بعض الموجدة حين صرف عنه مسعودًا وحذَّره من الإصهار إليه، ولكن هذا ظنٌّ نستغفر الله منه، فإن بعض الظن إثم، إنما الشيء الذي لا شك فيه هو أن شيئًا من فتور قد سرى في اجتهاد عليٍّ كما تسري النار الخفية الضئيلة في المقادير الضخمة الهائلة من الهشيم، وظن آخر نستغفر الله منه؛ لأن بعض الظن إثم، وهو أن شيئًا من الفتور الخفيِّ جدًّا، قد أخذ يسري في حب علي لابنه خالد وفي عطفه عليه، ولو أمكن أن يحسد الآباء أبناءهم لجاز أن تكون شرارة ضئيلة جدًّا من الحسد قد وقعت في قلب علي حين سمع الشيخ يُرَغِّب الحاج مسعودًا في صهر خالد هذا الفتى الذي اتخذ له زوجًا فأضاعت عقلها جنية البيت، والذي لم يكد يكسب حياته إلا منذ وقت قصير، والشيطان خبيث بغيض يندسُّ إلى القلوب الطاهرة وإلى النفوس الزكية، فيُلقي فيها شيئًا من فساد، إلا أن يعصم الله هذه النفوس وتلك القلوب من نزغات الشيطان، ولعله قد عصم منها نفس عليٍّ الزكية وقلبه الطاهر الذي مُلئ علمًا ودينًا؛ ولكن الشيطان وقح لا يعرف الحياء، مُلِحٌّ لا يكره أن يثقل على الناس بما يوسوس في صدورهم من الشر الذي يُغري بالإثم ويورط في سوء الظن، يلتمس لذلك حيلًا لا تُحصى، يوسوس بذلك مباشرة في صدور الناس أحيانًا، ويُجري به ألسنة الأعداء والحُسَّاد والجُهَّال من الأصدقاء أحيانًا أخرى، وهو قد فعل ذلك مع عليٍّ، لم يجترئ أن يواجه حبه للشيخ وثقته به، وعطفه على خالد وأمله فيه، فدَسَّ من أصحابه من قال له مازحًا بعد تلك الليلة التي عبث الشيخ فيها به: لقد قسا عليك الشيخ أمس، وصرف عنك خيرًا كثيرًا. ومع ذلك فمن يدري؛ لعلَّ الشيخ إنما صرف عنك شرًّا كبيرًا، فإن للأولياء أمثاله أسرارًا لا يفهمها أمثالنا، ومع ذلك فإني أرجو ألا يكون نصيب هذه الصبية إن زفت إلى خالد كنصيب تلك المرأة البائسة التي لم تكد تقيم معه أعوامًا حتى مسَّها لطف الله. ولم يكد علي يسمع هذا الكلام حتى ثار وفار، وهمَّ أن يبطش بصاحبه لولا بقية من حلم؛ فقد استباح هذا الرجل لنفسه أن يجرؤ على الشيخ، ومن دون الجراءة على الشيخ أهوال، واستباح هذا الرجل لنفسه أن يُعَرِّض بخالد، ولولا أنَّ الله عز وجل قال: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ لما رجع هذا الرجل إلى أهله موفورًا، ولكن لا أقل من أن تنقطع الصلة بين علي وبين هذا الرجل الذي اتَّخذه الشيطان مطية إلى الفساد، وقد كان ذلك، فأعرض علي عن صاحبه بعد أن زجره زجرًا عنيفًا، وأقسم: لا يكون بينه وبينه سبب منذ اليوم.
ومن المحقَّق أنَّ عليًّا قد عُني بتجارته عناية شديدة، عناية لم تُغْنِ عنه شيئًا، ولكن على المرء أن يسعى إلى الخير جهده، وعُني ببنيه وبناته وبنسائه، وأحبَّ داره حبًّا شديدًا، وأي غرابة في ذلك، فالمؤمن حقًّا مكلف أن يصل الرحم، ويحسن القيام على أهله وداره وبنيه، والقيام على الأبناء وعلى ذوي القربى وأولي الأرحام واجب يُعاقب المُقصِّر فيه ويُثاب الناهض به، وهو بعد هذا صدقة يُضاعف الله جزاءه لمن يؤدُّونه على وجهه، ومن الجائز أن تكون عناية علي بتجارته، وقيامه على أهله وسعيه في إصلاح أمره، كل ذلك قد يضطره إلى قليل من التقصير في ذات الشيخ، وإلى التخلُّف القليل عن بعض مجالسه، ولكن الشيخ يعرف أمره كله حق المعرفة، وهو يعذر تقصيره ويعفو عن تخلُّفه، ومن الجائز أن يصرفه هذا كله عن بعض الرفق بابنه خالد، ولكن خالدًا رجل قد توسط العقد الثالث من عمره؛ فهو لا يحتاج إلى العناية والعطف كما يحتاج إليهما هؤلاء النسوة الضعاف، وهؤلاء الصبية الصغار، وربما كان الحق على خالد أن يُعنى بأبيه وإخوته أكثر مما يفعل إلى الآن، ولكنه شاب، وللشباب ضلاله المؤقت، وخالد مغرور بمنصبه الجديد، ولا شكَّ في أنه سيثوب إلى نفسه، وسيذكر أنَّ حِمل أبيه ثقيل، وأنه يستطيع أن يخفف بعض هذا الحمل، أليس يقبض أربعة جنيهات في آخر كل شهر؟! كل هذه خواطر لعل نفس علي قد تحدثت بها إلى علي حديثًا همسًا لا يكاد يسمع! ولكنها تحدثت به على كل حال، فهي خليقة أن تلام، والنفس أمارة بالسوء إلا من رحم ربي، وعليٌّ حريص كل الحرص على أن تناله رحمة الله؛ فهو يلوم نفسه لومًا عنيفًا، ويجتهد في العبادة اجتهادًا شديدًا، ويُنفق في غرفة أم خالد ليلة قائمة هائمة بذكر الله جاهرة بتلاوة القرآن، قد طُرد عنها الشيطان طردًا، ورُدَّ عنها النوم ردًّا، حتى إذا صلى علي الصبح وشرب القهوة نازعته نفسه إلى الراحة وشيء من النوم، فيتجهم لها ويغلظ عليها ويشتد في تأديبها، ويقسم لا يذوق النوم حتى يذهب إلى متجره ويعود إلى غدائه؛ فإذا صلى الظهر نام وطلب إلى هناء أن توقظه ليدرك صلاة العصر، قبل أن تفوته، فإذا صلى العصر سعى إلى شيخه فشهد معه صلاة العشاءين وحضر معه حلقة الذكر.
وفي ذات يوم ذهب خالد إلى متجر أبيه بعد صلاة العصر، فرآه جالسًا يدير ذكر الله على سبحته تلك؛ فسلم الفتى، ولكن عليًّا لم يرد عليه سلامه ولم يرفع إليه رأسه، وإنما ظل مطرقًا يُدير ذكره في أناة، يمد صوته بحروف المد أكثر مما تعود أن يفعل، ويساقط حبات المسبحة في بطء متكلف، حتى إذا أدار ذكر الله على سبحته من طرف إلى طرف استغفر الله فأطال استغفاره، وصلَّى على النبي فأكثر الصلاة عليه، ووهب ثواب هذا كله للشيخ رحمه الله، ثم أدخل سبحته في جيبه مستأنيًا، ثم مسح وجهه بيديه متشهدًا، ثم التفت إلى خالد وهو يقول: ألست بخير يا بني؟ إني لم أرك منذ أمس. قال الفتى: لقد أمضيت صدر الليل عند الشيخ، وغدوت إلى عملي وجه النهار، وجئت … فقاطعه علي رفيقًا به وهو يقول: جئت لتراني، ولتقص عَلَيَّ ما كان بينك وبين الشيخ والحاج مسعود في خلوتكم أمس؛ فقد أُنبئت بهذه الخلوة. قال خالد: نعم. قال علي: عفا الله عن الشيخ! فلو كان أبوه حيًّا لكنتُ رابع ثلاثتكم أمس، وعفا الله عنك يا بني! فلولا أنك حديث السن لما قرأت فاتحة الخطبة وأبوك غائب، ولكنك رأيت الشيخ يدعوك فلم تستطع له خلافًا، ولم تفكِّر إلا في أن تجيب إلى ما دعيت إليه. ولو كنتُ مكانك لانصرفت من عند الشيخ إلى أبي لأبشره بهذه الخطبة، ولكنك انصرفت بالبشرى إلى سليم؛ فقد علمت أنك طرقت بابه عليه حين تقدم الليل. قال الفتى مضطربًا متلعثمًا: فإني لم أجرؤ على إزعاجك وقد كاد الليل ينتصف، ولم أجرؤ على أن أباكرك بهذا النبأ قبل أن أغدو على عملي. فأما سليم … قال علي مقاطعًا: فليس بينك وبينه من الكلفة مثل ما بينك وبين أبيك! ثم تشهد علي واستغفر الله ونهض إلى ابنه فضمه إليه وقبَّل بين عينيه، وقال: قد سامحتك فليسامحك الله، ومتى استطاع الآباء أن يطيلوا الموجدة على أبنائهم، أما الأبناء فما أقدرهم على أن يمضوا في القسوة على آبائهم! اذهب يا بني فقد عفوت عنك. ثم بسط يده فتناولها خالد وقبلها صامتًا، وظلَّ في مكانه قائمًا واجمًا لا يقول شيئًا ولا يأتي حركة، فنظر إليه أبوه ثم اندفع في الضحك وهو يقول: ما قيامك أمامي كالصنم لا تقول شيئًا ولا تأتي حراكًا؟ أمغتبط أنت بهذه الخطبة؟ أضربت مع الحاج مسعود موعدًا للزواج؟ قال خالد: أما أنِّي مغتبط بهذه الخطبة فما أدري ماذا أقول لك، وإنما موقفي منها كموقفي من تلك الخطبة الأولى: أمر الشيخ الكبير فأطعت، ودعا الشيخ الصغير فأجبت، والله يختار لنا ويلهمنا التوفيق فيما نأتي وما ندع؛ وأما موعد الزواج فما ينبغي أن نحدده ولم يحل الحول على موت عبد الرحمن، وما كان ينبغي أن نتحدث فيه وأنت غائب؛ وبعد فإنا لم نحدث أمس أمرًا جديدًا، ولم نزد على أن ننفذ وصية من الشيخ الكبير كنتَ بها عالمًا. قال علي وقد أحس في نفسه شيئًا من الندم لغلظته على ابنه، وكثيرًا من الرضا عن طاعة ابنه له ووفائه لحميِّه القديم — قال عليٌّ: بارك الله عليك يا بني وألهمك التوفيق، وكتب لك الخير في كل خطوة تخطوها أو عمل تُقدم عليه، أقم معي حتى إذا دنا الغروب سعينا إلى الشيخ فشهدنا معه الصلاة.