الفصل السادس عشر
قالت زُبيدة لزوجها سليم: لقد سمعتك تتحدث إلى خالد أمس بأنَّ أكثر أهل النار من النساء. قال سليم وهو يتكلف الغضب: فقد كنت تتسمعين علينا إذًا؟ قالت زبيدة: لا والله ما تسمعت عليكما، ولا احتجت إلى أن أتسمع إليكما؛ فقد كان حديثكما عاليًا مرتفعًا، يسمعه من في الدار، ويسمعه من يمر بها في الطريق. كان خالد فخورًا مغتبطًا لأنه سمع هذا الحديث من شيخه فأقبل فرحًا به يعيده عليك، وقبَّلته أنت راضيًا مسرورًا كأن لك عند النساء ثأرًا، ثم مضيت تفسره وتعلله وتزيد فيه.
قال سليم وهو مغرق في الضحك: وماذا فهمتِ من هذا كله؟
قالت زبيدة: فهمت أنَّ النساء كافرات للنعمة، جاحدات للجميل، مضيعات للمعروف، تحسنون إليهنَّ فيفرحن، ثم يسرع إليهن النسيان! فهنَّ لا يذكرن لكم خيرًا ولا يعرفن لكم جميلًا، وهنَّ مع ذلك ذاكرات للشر حافظات للسيئة، لا يكاد زوج المرأة منهنَّ يؤذيها بالهيِّن أو العظيم من الأمر حتى تنسى حبه لها وبرَّه لها وما قدم إليها من معروف، وتأخذه بسيئات لا تُحصى؛ فإثمهن الأعظم وجريمتهن الكبرى هي هذا العقوق، وأي إثم أعظم من العقوق وكفران النعمة؟ وهنَّ من أجل ذلك يصرن إلى النار فيؤلفن من أهلها الكثرة الساحقة.
قال سليم وهو لا يكاد يفيق من ضحكه: وهل تُنكرين ذلك أو ترتابين فيه؟ قالت زبيدة: لا أنكر شيئًا ولا أرتاب في شيء، وإني لتائبة إلى الله من كل ذنب، طالبةٌ عفوه عن كل خطيئة، باذلةٌ ما أملك من الجهد لأبلغ رضاه ورضاك أنت، فإنَّ رضا الزوج من رضا الله، وأنا مع ذلك مشفقة ألَّا أنجو من النار. قال سليم: اجتهدي، فعسي أن يعصمك الله منها، وأن يجعلك من أهل الجنة. قالت زبيدة وقد أخذت تضحك: فأمَّا أنتم معشر الرجال، فأقلكم في النار وأكثركم في الجنة؛ لأنَّ الطاعة فيكم فاشية، والمعصية فيكم نادرة، ولأنكم لا تؤذون أحدًا ولا تتقدمون إلى أحد بما يكره، وإنما أنتم خيرٌ خالص لا يمازجه الشر، وعسل خالص لا يشوبه العلقم؛ فأما أن تسوموا نساءكم سوء العذاب وأن ترهقوهن من أمرهن عسرًا، فإنما ذلك تأديب لهن، تستوفون ما لكم من حق الطاعة، وتتقربون بتأديبهن إلى الله، وأما أن تمسكوا نساءكم على ما يكرهن من الألم والبؤس، وأن تعلقوا على رءوسهن هذا السيف القاطع سيف الطلاق، وأن تصوبوا إلى صدورهن هذا السنان الذي ينفذ إلى أعماق القلوب، سنان التزوج بضرة تُدخلونها على الزوج في دارها وتنغصون بها حياتها، وتُذيقونها ألم الغيرة وشقاء الحسد، وتورطونها في الغدر والكيد والنفاق، فليس عليكم من هذا كله بأس، إنما تستمتعون بما أتاح الله لكم من رُخصة وبما أتاح لكم من حق، فإن ضاقت المرأة بشيء من ذلك أو أنكرته أو ثارت له، فهي كافرة للنعمة، جاحدة للجميل، عاصية لله؛ وهي من أجل ذلك صائرة إلى النار مع أمثالها اللاتي يؤلفن الكثرة الساحقة من أهلها.
قال سليم وقد أخذ يثوب إلى شيء من الجد والهدوء: ما رأيت كاليوم جدلًا ولا شغبًا؛ من أين لك هذا العلم كله؟ ومن أين لك هذه الفصاحة كلها؟! وما هذا الشيطان الذي استقر في قلبك وأجرى لسانك بهذا المنكر من القول؟!
قالت زبيدة وكأنها لم تسمع لزوجها: وأمَّا أن يخون الرجل منكم زوجه أو أزواجه، فيعدو على غير حقه، ويأثم في غير حاجة إلى الإثم، فخطيئة عسى الله أن يغفرها لكم ما دمتم تُصلُّون وتصومون وتستغفرون؛ والاستغفار يمحو الذنوب، ويعصم أصحابه من النار، ألا ترون أنكم تسرفون على أنفسكم وعلى الناس حين لا تكتفون بتدبير أمور دنياكم على ما تحبون، وإذا أنتم تدَبِّرون أمور الآخرة على ما تشتهون أيضًا؟! وهمَّ سليم أن يتكلم وقد أخذه شيء من العنف، ولكن زبيدة مضت في حديثها وقالت في ابتسامة ساخرة مغرية معًا: حدثني عن نفيسة، أمن أهل الجنة هي أم من أهل النار؟
ولم يكد سليم يسمع هذا السؤال حتى سكت غضبه وانكسرت حدته وظل واجمًا لا يكاد يجيب، فلم يكن يُقَدِّر أنَّ هذا الحوار الذي استأنفته امرأته يريد أن ينتهي إلى نفيسة. وما شأن نفيسة وهذا الحديث الذي كان يُفاوض فيه أخاه وصديقه أمس؟ قالت زبيدة: إنَّ نفيسة لم تختر لنفسها صورتها البشعة ومنظرها القبيح، ولم تَدْعُ خالدًا ليكون لها زوجًا، بل لم تعرفه إلا حين أُدْخِلَ عليها أو أُدْخِلَتْ عليه، ثمَّ هي لم تمنح إحدى ابنتيها جمالًا رائعًا، ولم تمنح الأخرى قبحًا مخيفًا، ثم هي لم تُؤذِ زوجها في نفسه ولا في بيته، ولَمْ تُخالِف عن أمره، ولم تُسمعه ما يكره من القول، ولم تُكَلِّفه ما لا يطيق من الأمر، ثم هي لم تَدْعُ المرض إلى نفسها، كما أنها لم تَدْعُ القبح إلى وجهها، فهل تستطيع أن تنبئني فيم كان إقبال خالد عليها، وفيم كان إعراضه عنها، وفيم كان تعذيبه لها، ثم فيم كان هذا الطلاق، وفيم كانت هذه الخطبة؟ هُنالك دُهِش سليم لعلم زبيدة بأمر الطلاق وبأمر الخطبة، فقال لامرأته مترفقًا: ومن أنبأك بأن خالدًا طلق امرأته؟ أو من أنبأك بأنَّه همَّ أن يتزوج امرأة أخرى؟ قالت زبيدة: أنبأني بذلك من أنبأني، ولكنه حق لا شك فيه، وإنَّ خالدًا لأعقل وأرفق بنفيسة من أن يهجرها هجرًا غير جميل كما يفعل الآن، فيُقرُّها في طرف من أطراف الدار ويقيم على خدمتها وخدمة ابنتيها وأمها مولاته نسيم، ثمَّ لا يزور هؤلاء النسوة إلا زيارات متقطعة، هو أعقل وأرفق بنفيسة من أن يأتي هذا كله من الأمر دون أن يُنبئها بأنَّ الصلة بينها وبينه مقطوعة، وبأنَّ الحبل بينها وبينه مبتوت.
قال سليم: فإنك تعلمين أن نفيسة لا تصلح له زوجًا، ولا تقدر على عشرة الرجال، فما ذنب خالد إن اعترف بالحق الواقع؛ وهل ترين له أن يعيش مع مجنونة أو أن يفرض على نفسه حياة الرهبان؟ قالت: لا أدري! ولكن جنون نفيسة لم يأتِها من قِبَلِ نفسها، وإنَّما جاءها من هذا الزواج الذي لم تُرِده، ومن هذه الظروف التي لم تخلقها، ورحم الله أم خالد إذ قالت لزوجها: إنه إن أتمَّ هذا الزواج فلن يزيد على أن يغرس في داره شجرة البؤس، لقد غُرِست شجرة البؤس فنمت وآتت ثمرها بشعًا خبيثًا، امرأة تُرزأ في زوجها وابنتها معًا، ثمَّ ترى ابنتها وقد اصطلح عليها المرض وهَجْر الزوج والحرمان، فأنت تعلم أن نفيسة ليست مُيَسَّرًا عليها في الرزق، ولست ألوم أحدًا، ولكنها فقدت ثروة أبيها، وتفرقت ثروة علي في أسرته الضخمة، وخالد لا يرزقها إلا كما يستطيع، ثم لم يكفها هذا كله، فقد رزقها هذا الزواج السعيد صبيتين كان من حقهما أن تنشئا في النعمة، فهما تنشئان في البُؤس بين أمٍّ مريضةٍ وجدة محزونة ومولاة سوداء تقوم من أمرهما بما تستطيع القيام به، وأبٍ ينفق الأيام، وقد يُنفق الأسبوع، دون أن يراهما، كل هذا لا يكفي، فلا بد من أن يتزوج خالد، ومن أن يتَّخِذَ لأمهما ضرة، ومن أن يكون له من هذه الضرَّة بنون وبنات يشاركونهما في حب أبيهما وبِرِّه، ومن يدري، لعلهم يصرفون أباهما عنهما كل الصرف، حدثني عن نفيسة أمن أهل الجنة هي أم من أهل النار؟ وحدثني عن أمها أمن أهل الجنة هي أم من أهل النار؟ ولا تنسَ أنَّ نفيسة لا تحسن الصلاة، فهي لا تُؤَدِّي الصلوات الخمس كما يُؤَدِّيها خالد، بل هي لم تعد تحسن شيئًا، فقد ثاب إليها حظ من رشد ولكنه ضئيل جدًّا لا يكاد يكفي إلا لتفهم عمن يحدثها وتفهم من تتحدث إليه في أيسر الأمور، إنَّك لم ترها منذ عادت إلينا، وفيم تراها وقد طلقها خالد، فلم يبق بينك وبينها سبب؟ أما قبل أن يطلقها وقبل أن يلم بها هذا المرض، فقد كنتَ تحب حديثها وتأنس إلى لقائها وترغب في زيارتها، كانت زوج خيِّك، أمَّا الآن فليست منك في شيء، ولو قد رأيتها لرأيت شرًّا عظيمًا، أتذكر كيف كانت تتحدث فتُحسن الحديث في لغتها تلك القاهرية، وكيف كانت تُداعِب فتحسن المداعبة في ظُرفها ذاك الذي لا نحسنه نحن في الأقاليم؛ لقد ذَهَبَ هذا كلُّه، وأصبحت حياة نفيسة وَجْدًا كلها، وأصبح صمتها مُتَّصِلًا مخيفًا، وأصبح صوتها خافتًا لا يكاد يُسمع، وأصبح حديثها غامضًا متقطعًا لا يكاد يستوي ولا يبين، لقد أصبحت عاجزة حتى عن أيسر الأشياء؛ إنها لا تكاد تعرف من العدد إلا العشرة: فهي لا تُحسن أن تقول العشرين والثلاثين والأربعين، وإنَّما تقول عشرتين وثلاث عشرات وأربع عشرات، ولست أدري كيف تقول إذا جاوزت المائة! لقد انتهى بها البُؤس إلى هذا كله، وتصور بُؤس أمها حين تراها على هذا النحو، وحين تضطرب بين فقد زوجها ومرض ابنتها؛ فأما الصبيتان فلا تدركان من هذا شيئًا، ولكن لهما حظًّا من قسوة الطفولة، فهما تعبثان بأمِّهما وتضحكان من ذُهُولها وما اضطرت إليه من البله، ولا تَحْفَلَان بجدتهما، ولا تكادان تحفلان بنسيم؛ لأنهما لا تفهمان عنها أكثر ما تقول؛ حدِّثني عن هؤلاء النسوة أمن أهل الجنة هنَّ أم من أهل النار؟
ثم حدِّثني عن خالد وأبيه وعن نفسك، إنكم تصلون وتصومون وتسعون إلى الشيخ وتشهدون حلقة الذكر وتقرءون القرآن وتظنون — وأرجو — أن تكونوا من أهل الجنة، ولكنكم ترون هذا البُؤس المؤلم، وهذا الشقاء المهلك، فلا تَمَدُّونَ إلى البائسين يدًا، ولا تنالونهم بمعروف، ولا تكرهون أن تُضِيفوا إليه بُؤْسًا جديدًا وشقاء طريفًا. قالت ذلك ثم لم تستطع أن تمضي في الحديث؛ لأن صوتها انحطم في حلقها، ولأن دموعها انهلت على وجهها غزارًا، وكان زوجها يسمع لها في صمت متصل يقطعه بين حين وحين بهذه الكلمات: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما رأى زوجه تمضي في البكاء ولم يستطع أن يَثْبُتُ لها لهذا الحزن، ترك امرأته وخرج من الدار، لا يريد وجهًا بعينه، وإنما يفرُّ من منظر لا يستطيع له ثباتًا، ثم عاد إلى أهله بعد ساعة، فرأى امرأته قد أصلحت من شأنها وانصرفت إلى أمر بيتها تُدَبِّرُهُ وتقوم عليه، وهمَّ سليم أن يتحدث إلى امرأته حديثًا غير الذي كانا فيه، ولكنها لم تستجب له، وإنِّما استأنفت حديثها من حيث قطعته أو من حيث قطعه عليها البكاء، قالت: أمَّا أنا فلا أحسن صلاة ولا صومًا ولا عبادة، ولكنَّ الله يرى ما آتى من الأمر سرًّا أو علانية، وهو يراني عند نفيسة في كل يوم مُصبحةً حينًا وممسية حينًا آخر، أواسيها بالقول دائمًا، وأواسيها بالدموع أحيانًا، وماذا أملك غير القول والبكاء. ثم ابتسمت لزوجها ابتسامة حزينة وقالت له: إنَّ لي إليك حاجتين تستطيع أن تجيبني إليهما، وما أشك أنك ستظفر على ذلك بثواب الله. قال سليم: وما ذاك؟ قالت زبيدة: فأمَّا أولاهما فأن تُؤخِّر زواج خالد إلى أبعد أمد ممكن، فلعلَّ الله أن يرد إلى نفيسة صحتها، فتحتمل هذه المصيبة خيرًا مما تحتملها الآن. قال سليم: فإنَّ خالدًا لن يتزوج قبل أن يحول الحول على موت حميِّه، وما زال بيننا وبين ذلك شهور. قالت زبيدة: أخشى أن تكون محنة نفيسة في صحتها أطول من ذلك.
قال سليم: وما حاجتك الثانية؟ قالت زبيدة: أن تبر بنفيسة وتشعرها دائمًا بأننا لم نكن عابثين حين خطبنا ابنتها جلنار لابننا سالم. قال سليم: وهي تشك في ذلك؟ قالت: لا أدري ولكن هذا الحديث يرضيها فيما أعتقد، ولعلَّه أن يفتح لقلبها البائس فُرجة من أمل. قال سليم: فسنزورها معًا إذا كان الغد.
قالت زبيدة: وحاجة ثالثة ليس بينها وبين نفيسة صلة. قال سليم: ما ذاك أيضًا؟ وهمت زبيدة أن تُجيب، ولكن العَبْرَة حبست صوتها، فانصرفت من الحجرة مسرعة، وتبعها زوجها مسرعًا حتى أدركها فضمها إليه وجعل يقبَّل رأسها وسألها: ما حاجتك؟ وماذا تريدين؟ أفصحي ولك عهد الله أن أجيبك إلى ما تبتغينه إن كان ذلك في طاقتي. قالت: لا تدخل علي ضرة، فإن هممت بذلك، فطلقني واردُدْني إلى أهلي الفقراء، ولا تُمسكني على كُرهٍ منِّي، وإن مرضت عندك فلا تهجرني مهما يطل مرضي، وما أظنه يطول. هنالك أغرق سليم في الضحك، وضمَّ امرأته إليه مخلصًا لها عطوفًا عليها، وهو يقول: إنكن لناقصات عقل ودين.