الفصل الثامن عشر
وقال الشيخ ذات ليلة لخاصَّته مقالته لهم في العام الماضي، وآذنهم بأنَّه سيستعد للحج وبأن من شاء منهم أن يصحبه فليعد للسفر الطويل عدته، وتقدم إليهم أن يؤذِّنوا في الفقراء وأوساط الناس بأنَّ عليه نفقة من أراد منهم أن يحج بيت الله ولم يجد ما ينفق، ثم التفت إلى الحاج مسعود وقال ضاحكًا: أما أنت يا مسعود فقاعد هذا العام فقد أتممت حججك السبع. قال مسعود وقد ظهر على وجهه غضب شديد لم يلبث أن استحال إلى حنان رحيم انهلت له دموعه حتى بللت لحيته الكثة — قال مسعود: أغاضب أنت عَلَيَّ يا سيدنا؟ قال الشيخ وهو يغرق في الضحك: غفر الله لمسعود! غفر الله لمسعود! غفر الله لمسعود! قوم يضحكون، وقوم يبكون، إنما قصدت إلى دعابتك يا مسعود، ولو أردت الجد لما تحدثت إليك.
هنالك تهلل وجه مسعود ونهض مسرعًا فأكب على رأس الشيخ يقبله وهو يقول: لقد كنت نذرت لله ألا يحج شيخنا الكبير إلا صحبته، فلما انتقل إلى جوار الله جدَّدتُ النذر ألَّا تحج إلا صحبتك، لا يمنعني من ذلك إلا أن أبلغ أرذل العمر وتعجز قدماي عن حملي. فأعاد الشيخ مقالته: غفر الله لمسعود! ثم قال في صوت ملؤه الجد: فأما وقد نذرت هذا النذر فأنت صاحب حجنا منذ الآن، فدبِّر أمر سفرنا وإقامتنا، وأنفق على ذلك من مالنا فإنَّ فيه سعة. قال مسعود: ومن مالي فإن فيه سعة أيضًا. وقال بعض الحاضرين: أفلا نؤذن عليًّا بما آذننا به مولانا الشيخ؟ فسكت الشيخ حينًا ثُمَّ قال: لا تفعلوا؛ فإنَّ عليًّا لا يحج العام. وعرف علي ما كان من حديث الشيخ إلى أصحابه، ولكنه لم يتأهب للحج، ولم يزر الشيخ إلا لمامًا، ولم يخرج مع الناس لوداع القافلة، فلما كان الشيخ في بعض الطريق ذكروا له عليًّا وتَخَلُّفه عن الحج وتقصيره في الوداع، وتلا بعض أصحاب الشيخ قول الله عز وجل: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ. فلما سمع الشيخ هذه الآية ظهر الغضب في وجهه وقال: صدق الله العظيم، ثم أطرق ساعة، ثم رفع رأسه وقال في صوت تحطمه العبرة: لا تَتْلُ هذه الآية يا فلان، ولكن اتْلُ قوله تعالى: وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أما إن أخاكم لا يستطيع إلى الحج سبيلًا، وقد كنتم أحرياء أن تَبَرُّوه وترفقوا به وتصلوا خيرًا مما فعلتم، ثُمَّ أطرق إطراقة قصيرة وهو يتلو: وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا. ثم طال صمت الشيخ وصمت أصحابه، لا يقول الشيخ شيئًا، ولا يجرؤ أحد من أصحابه أن يقول بحضرته شيئًا، وصاحب المقالة مُسْتخذٍ قَد خفض رأسه حياء، والقوم قلقون لا يدرون كيف يستأنفون ما كان عليه أمرهم من غبطة ورضا، فلمَّا طال عليهم هذا الصمت المُخيف اجترأ مسعود فقال: سبحان الله! ثم اتجه إلى الشيخ وهو يقول في صوته المتهدج: ما إغراق مولانا في هذا الصمت المخيف؟ إنَّا كغيرنا من الناس نخطئ ونصيب، ولكننا نحسن أن نتوب إلى الله من خطايانا، فلا تعذبنا بهذا الإعراض، ومر بما تشاء. فرفع الشيخ رأسه وهو يقول: غفر الله لمسعود! أما فلان — يريد صاحب المقالة — فيغيب عني وجهه ثلاثة أيام، ثم يلقاني إذا صُليت الصبح، فعسى الله أن يُرضي عنه قلبي. هنالك تَنَحَّى صاحب المقالة مُستخذيًا لا ينظر إلى أحد، ولا يكاد ينظر إليه أحد، فلما انصرف قال الشيخ لأصحابه: لا تهجروا أخاكم، ولكن واسوه وأحسنوا النصح له، أمَّا أنت يا مسعود، فإذا عدنا من حجنا، فازفف إلى خالد أهله، فإنَّ ذلك سيرفه على عليّ. قال مسعود: سمعًا وطاعة يا مولاي.
ولم تمض على عودة الشيخ وأصحابه من الحج أشهر حتى كانت امرأة خالد قد زُفَّت إلى زوجها، وحتى كان خالد قد اتَّخَذ له في المدينة دارًا مستقلة أقام فيها مع أهله ومن وكل مسعود بخدمة ابنته من الرجال والنساء، وقد أصبحت دار خالد دار الرغد والخير، لا تنقطع عنها هدايا مسعود على ابنته وصهره، وكان مسعود يلم بابنته بين حين وحين، فيوصيها بنفيسة وابنتيها خيرًا، ويلقي إليها في السر أن تبرَّ عليًّا وبنيه، فما أكثر ما كانت ترسل «مُنى» إلى دار علي بالطرف والهدايا على علمٍ من زوجها حينًا، وعلى غير علم منه في أكثر الأحيان، تُهدي مرة إلى هذه، ومرة إلى تلك من أزواج الشيخ، والشيخ يرى هذا فلا يهتم له أول الأمر، حتى إذا كثر ذلك من «مُنى» خلا إلى ابنه ذات يوم فقال له: يا بني، لا تُثقل على أهلك ولا على حميِّك؛ فإنَّ في بعض ما ترسلون إلي مَقنعًا. قال خالد: والله يا أبت ما تكلفت شيئًا وما علمت أنَّ امرأتي تكلفت شيئًا، وإن الخير لكثير، وإنَّ الرزق بيد الله يؤتيه من يشاء. ولكن عليًّا أعاد مثل هذا الحديث على مسعود، فغضب مسعود حتى اضطربت لحيته، ورقَّ مسعود حتى انهلت دموعه، ثم قال لصاحبه: أتريد أن أشكوك إلى الشيخ؟! هنالك اضطرب علي بعض الاضطراب وظهر على وجهه الخجل، وقال: وددت لو يستطيع الشيخ أن ينساني. قال مسعود: هيهات! ليس إلى ذلك سبيل، إنه ليذكرك في كل يوم، وإنه يستحيي أن يدعوك. قال علي: يستحيي أن يدعوني وأستحي أن أزوره! وهو يذكرني في كل يوم وأنا أذكره في كل ساعة! ما كنت أحسب أن الدهر يفعل بالناس مثل ما فعل به وبي. قال مسعود: لم يفعل بكما الدهر شيئًا، وإنما أنت أسأت إلى الشيخ وأسأت إلى نفسك، إنك لا تحسن احتمال المحنة ولا الثبات للخطب، إنَّ مال الله غادٍ ورائح، يصبح الإنسان غنيًّا ويمسى فقيرًا، وإنَّ الرجل الكريم هو الذي يحسن احتمال الفقر كما يحسن احتمال الغنى، وقد عرفت كيف تحتمل الغنى فكنت خيِّرًا جوادًا، تُواسي الضعيف، وتُطعم الجائع، وتكسو العاري، وتُعين على نوائب الدهر، ولكنك لم تحسن احتمال الفقر، فاستحييت وليس في الفقر حياء، واستخذيت وليس في الفقر استخذاء، إنك حين تستخفي بفقرك وتتكلف ما تتكلف من الجهد لا تزيد على أن تلوم الله؛ لأنه هو الذي يُغني ويُفقر، والله لا يُلام ولا يُسألُ عمَّا يفعل؛ وإنما نحن الذين يُلامون ويُسألون عما يفعلون. أتريد أن تسمع لي وتقبل نصيحتي؟ قال علي وهو ينتحب: وما ذاك؟ قال الحاج مسعود: نصلي العصر معًا ثم نسعى إلى الشيخ؛ فإنك إن استأنفت لقاءه والأُنس إلى مجلسه لم تعد إلى مثل ما أنت فيه الآن. ولم يقبل الليل حتى كان علي في مجلس الشيخ كدأبه قبل أن تلم به المحنة، وكدأبه في مجلس الشيخ الكبير.
على أنَّ العام لم ينته حتى ألمَّ الموت بدار عليٍّ، فانتزع منها امرأة كانت أشوق ما تكون إليه وأزهد ما تكون في الحياة، ردَّ أم نفيسة إلى زوجها عبد الرحمن في الدار الآخرة، وكان هذا الموت آية لعليٍّ أثبتت له أنَّ فقره ومحنته لم يُغَيِّرا من مكانته في المدينة شيئا؛ فقد هرع أهل المدينة كلهم إلى دار علي يُواسونه ويشيعون جنازته، ويتقدمهم الشيخ، وكان الأسبوع الأول لوفاة هذه المرأة الصالحة أسبوعًا حافلًا في دار عليٍّ، قُرئ فيه القرآن كأحسن ما يُقرأ في أكثر الدور ثراءً وغنى، وأقام الشيخ فيه بنفسه حلقة الذكر مرات. وقال علي لنفسه غير مرة: صدق الحاج مسعود! إنَّ الرجل الكريم هو الذي يحسن احتمال الفقر، كما يحسن احتمال الغنى، ولكن عليًّا منذ ذلك الوقت قطع على نفسه عهدًا ليستأنفن حياة أخرى فيها جد كثير، وزُهد في اللذات، وانصراف عن متاع الدنيا، وقناعة بما قسم الله له من الرزق.